الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

المنقطع ، ولذلك لم يحمله علماء الأمصار على المنفصل إلّا عند تعذر المتصل ، حتى عدلوا للحمل على المتصل عن الظاهر وخالفوه ، ومن ثم قالوا فيه قوله : عندي مائة درهم إلّا ثوبا ، وله عليّ إبل إلّا شاة ؛ معناه إلّا قيمة ثوب أو قيمة شاة ، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير متصلا ، ولو كان في المنقطع ظاهرا لم يرتكبوا مخالفة الظاهر حذرا عنه. انتهى.

وأما ما ذكره من أنّ ظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسلّم لكنّ الحديث الصحيح خصّصها بعلي وفاطمة وابنيهما عليهم آلاف التحية والثناء بلا حاجة أحدنا إلى تكلّف التخصيص لمجرد الاحتمال (١).

وأما قوله : إنه لا يدلّ على خلافة الإمام علي عليه‌السلام فجهل صرف أو تجاهل وعناد محض لظهور الآية في أنّ مودّة الإمام علي عليه‌السلام واجبة ، حيث جعل الله تعالى أجر الرسالة بما يستحق به الثواب الدائم مودّة ذوي القربى ، وإنما يجب ذلك مع عصمتهم ، إذ مع وقوع الخطأ منهم يجب ترك مودّتهم لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) وغير الإمام علي عليه‌السلام ليس بمعصوم بالاتفاق ، فتعيّن أن يكون هو الإمام عليه‌السلام.

«على أنّ إقامة الشيعة للدليل على إمامة الإمام علي عليه‌السلام على أهل السنّة غير واجب بل تبرعي ، لاتفاق السنة معهم على إمامة علي بن أبي طالب عليه‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية الأمر أنّ الشيعة ينفون الواسطة وأهل السنّة يثبتونها ، والدليل على المثبت ـ يعني أهل السنة ـ دون النافي ـ يعني الشيعة ـ إلّا أن يرتكبوا خرق الإجماع بإنكار إمامته مطلقا ، فحينئذ يجب على الشيعة إقامة الدليل والله الهادي إلى سواء السبيل» (٢).

النقطة الثالثة : الحب وسبب المحبة :

المحبة هي ميل النفس إلى المحبوب ، وسببه المجانسة أو المماثلة أو المشاكلة وذلك أنهما إذا كانا مجانسين أو مماثلين أو مشاكلين اقتضيا حيّزا واحدا ورتبة واحدة وجهة واحدة فيقتضيان الاجتماع والاقتران وهو ميل كل واحد إلى

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ٣ ص ٢٢.

(٢) نفس المصدر ج ٣ / ٢٣.

١٦١

الآخر ، هذا وكل شيء يتقوى من جنسه ويتضعّف من ضده فيميل كل شيء إلى ما يقوّيه، وينفر عمّا يضعف ، إذ بالأول يحفظ وجوده ويستمدّ منه ، وبالثاني ينقص وجوده ويقارب الفساد والعدم ، ولذا يكون ميل الأضعف إلى الأقوى أكثر من ميل الأقوى إلى الأضعف ويشتد الميل باشتداد المشابهة ، ويضعف بضعفها ، فكلما يرق ما به التمايز ويقوى ما به الاشتراك يزداد الحب ، وكلما يعكس ينقص ، فميل المجانس إلى المجانس أقوى من ميل المماثل إلى المماثل ، وميل المماثل إلى المماثل أقوى من ميل المشاكل إلى المشاكل ، فإنّ الصورة في الشخص أغلظ منها في النوع ، وهي في النوع أغلظ منها في الجنس ، والجنسان أو النوعان أو الشخصان المتقاربان أقوى حبّا من المتباعدين والمتمايز بالصورة أقل حبّا من المتمايز بالمعنى ، لأنّ المعنى أرقّ وحكم الوحدة في المعاني أقوى من حكمها في الصورة ، والمتمايز بالحقيقة أكثر حبّا من المتمايز بالمعنى ، فإنّ الوحدة هنالك أغلب ، ألا ترى أنّ أولي الأفئدة أقل تنافرا من أولي الألباب ، وأولو الألباب أقل تنافرا من العلماء ، والعلماء أقل تنافرا من سائر المؤمنين ، والمؤمنون أقل تنافرا من سائر الناس ، وهكذا ينزل الأمر إلى الجمادات فهي أكثر الموجودات تنافرا وأقلها ميلا ، وإنما ذلك على حسب مراتب ظهور الوحدة وخفائها وغلبتها وضعفها ، فأشدّ الموجودات محبّة الخلق الأول صلوات الله عليهم ، فلا يوازي حبّ بعضهم بعضا حبّ أحد أحدا لكمال المجانسة التي فيهم وكمال غلبة الوحدة عليهم حتى أنهم خلقوا من نور واحد وطينة واحدة وروح (١) واحدة ، ذريّة بعضها من بعض ، وأشدّ الناس لهم حبّا بعدهم هم شيعتهم المتّبعون لهم فإنهم خلقوا من فاضل طينتهم وعجنوا بماء ولايتهم فمن تبعني فإنه مني ، فهم منهم صلوات الله عليهم ، سلمان منّا أهل البيت ، أنتم من آل محمّد ، وفي الدعاء اللهم إن شيعتنا منّا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا ، وفي الخبر في غاية المرام وأمالي الطوسي (٢) : شيعتنا جزء منّا خلقوا من فضل طينتنا يسوؤهم ما يسوؤنا ويسرّهم ما يسرّنا فإذا أرادنا أحد فليقصدهم فإنهم الذين يوصل منه إلينا.

وكلما يزداد شيعتهم شبها بهم ويقل التنافر والتمايز يشتدّ الحب بينهم ،

__________________

(١) المراد من روح واحدة : أنهم بالفضائل متساوون.

(٢) الأمالي : ج ١ / ٣٠٥ باب ١١.

١٦٢

وكذلك حبّ الشيعة بعضهم لبعض ولمّا كان محمّد وآل محمّد عليهم‌السلام أول صادر عن المشية وكانوا أشبه الأشياء بالمشية التي هي صفة الله وسمته وكانوا هم أشدّ الخلق حبّا لله جلّ وعزّ حتى سمّي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحبيب ، وفي الدعاء لا حبيب إلّا هو وأهله ، وأشدّ المؤمنين شبها بهم أشدّهم شبها بمشية الله وصفته ، فهم أشدّ الخلق حبّا لله عزوجل (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) بل لمحمد وآل محمّد مقام أعلى من ذلك وهو مقام المعاني وكونهم صلوات الله عليهم معاني أسماء الله وصفاته وظواهرها أي الظاهر بها ، قال عليه‌السلام : «أما المعاني فنحن معانيه وظاهره فيكم اخترعنا من نور ذاته وفوّض إلينا أمور عباده» وبلغ بهم المجانسة مقام نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد إلّا بمعرفتنا ، ومقام لا فرق بينك وبينها إلّا أنهم عبادك وخلقك ، ومقام لنا مع الله حالات هو فيها نحن ونحن هو ، فهم في هذه المقامات راقون مرقى المحبة حجاب بين المحب والمحبوب فهتكوا الحجاب ورفع لهم النقاب ففنوا في جمال المحبوب حتى لم يبق لأنفسهم أثر معه فصارت محبتهم محبة لله وولايتهم ولاية الله وفي الزيارة : من والاكم فقد والى الله ومن أحبكم فقد أحبّ الله ومن أبغضكم فقد أبغض الله ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله ، وفي زيارة أخرى : من عرفهم فقد عرف الله ومن جهلهم فقد جهل الله وفي الخبر : بنا عرف الله ولولانا ما عرف الله وبنا عبد الله ولولانا ما عبد الله ، وذلك لكمال المجانسة والاتحاد مع صفة الله وظهوره (١) ، وأما الذات الأحدية القديمة فلا يجانسها شيء ولا يماثلها شيء ولا يشاكلها مخلوق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وفي الدعاء تنزّه عن مجانسة مخلوقاته ، وإنما التجانس في المتجانسين أينما كان في الصفة لا الذات ، وهم صفة الله جلّ جلاله فمحبتهم لله عزوجل ومحبة الله لهم فوق إدراك جميع الخلائق حتى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين والمؤمنين الممتحنين فليس حقّ المحبة إلّا محبة الله لهم ومحبتهم لله جلّ وعزّ.

وللمحبة أصل وفرع ، أما أصلها فهو المعرفة كما قال الإمام الصادق عليه‌السلام «الحب فرع المعرفة» فلا يمكن للإنسان أن يحب شيئا مجهولا ، وأما فرعها فإيثار

__________________

(١) نقصد من «ظهوره» تجلّي الصفات على القابليات ، لا تجلّي الذات فإنه مستحيل عقلا ، فتأمل.

١٦٣

المحبوب على ما سواه كما قال عليه‌السلام : «ودليل المحبة إيثار المحبوب على ما سواه». فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سأل شخصا : تحبني أكثر من أبيك أو تحب أباك أكثر مني ، فقال : أحبك أكثر من أبي فقال له النبي : تحبني أكثر من الله؟ قال : إنما أحبك لله. فاستحسنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

النقطة الرابعة : أقسام الحب :

إذا عرفت أنّ الحب هو ميل المحبّ إلى المحبوب وذلك لا يتحقق إلّا بالمجانسة أو المماثلة أو المشاكلة ، فاعلم أن الحب إذا على قسمين : حب عرضي ، وحب ذاتي.

فالحب العرضي فيما إذا كان المحبوب مشاكلا للحبيب في صفته العرضية يعني اتّصف المحبوب بصفة هي مشاكلة للحبيب أي لصفته الذاتية أو لصفته العرضية فيميل الحبيب إلى تلك الصفة بالذات أو بالعرض مثال ذلك : أن يكون من ذاتية زيد الكرم فيحصل في عمرو كرم بالعرض وهذا الكرم العرضي مشاكل لصفة زيد الذاتية ، فيميل زيد إليه بالذات ويحب عمرا بالعرض فما دام عمرو موصوفا به أحبه ، فإذا أزال عنه الكرم لم يحبه ، أو يكتسب زيد صفة عرضية ليست من سجيته كحسن الخلق مثلا ويجد عمرا ذا خلق حسن بالعرض فيحبه بالعرض ، فإذا زال حسن الخلق عنه أو عن محبوبه زال حبّه له ، فهذا هو الحبّ العرضيّ الذي لا يدوم وأما الحبّ الذاتي فهو ميل الحبيب بذاتيته إلى المحبوب المجانس بالذات ذاتا وصفة لاتحاد الحيّز والطبع فيحبّ ذات المحبوب وصفاته الذاتية بالطبع فهذا الحبّ يدوم بدوام الذاتين فإن اتّصف المحبوب بصفة مكروهة عرضيّة ببغض صفته ولا يبغضه إلّا بالعرض فهو محبوب الذات مبغوض الصفات. وعلى حذوه ما روي في آخر الأمالي للطوسي عن زيد النرسي قال : قلت لمولاي موسى بن جعفر عليه‌السلام : يا ابن بنت رسول الله أنّ هاهنا رجالا من مواليكم يشربون الخمور ويرتكبون الموبق من الذنب فيسوغ لنا أن نقول أنّهم فسّاق فجّار، فقال : لا يا زيد والله ما الفاسق الفاجر إلّا الناصب لنا حربا ولكن قولوا : مؤمن النفس خبيث الفعل طيّب الروح والله لن يخرج وليّنا من الدنيا إلّا والله ورسوله ونحن عنه راضون وذلك أن الله يحشره على ما فيه من الذنوب مبيضّا وجهه مستورة عورته آمنة روعته ، وأدنى ما يصفّى به ولينا أن يريه الله رؤيا مهولة في منامه أو يلقاه ظلم من دولة الظالمين أو يشدّد عند الموت فيكون ذلك

١٦٤

كفّارة لذنبه فيخرج من الدنيا بغير ذنب. فالمؤمن العاصي مبغوض العمل لا الذّات ولا يجوز لمجانسه بالذات بعضه بوجه من الوجوه ؛ وممّا ذكرنا علم أنه لو أبغض أحد أحدا بالذات لا يمكن أن يكون كلاهما مؤمنين ، ولا بدّ وأن يكون أحدهما كافرا وأما البغض العرضيّ فيمكن أن يقع بينهما لصفة مكروهة منكرة اتّصف بها أحدهما فيكرهها المؤمنون بالذات. واعلم أنّ الإنسان يحبّ نفسه إذ ليس شيء أشبه بها منها وأشدّ تشاكلا وتماثلا وتجانسا بها منها وجبلت الأنفس على حبّ بقائها وبغض فنائها وعدمها فإنّ وجودها ليس من حيّز عدمها وعدمها ليس من حيّز وجودها وحيّزاهما واقعان على التناقض والمضادة الذاتيّة فالوجود ينفر عن العدم ويتألم من تصوّره لنفسه ويحبّ نفسه أي يميل إلى نفسه وأيّ ميل أشدّ من كونه هو هو ، فجبلت النفوس على حبّ وجود أنفسها وبغض عدمها وجميع ما يقويها من متعلقات وجودها وجميع ما يضعفها من مبادي عدمها فيحب متعلقات وجودها ويبغض مبادي عدمها فكلّ شيء يحسبه في الدنيا مقوّيا له أو يؤول إلى تقويته يحبّه وكل شيء يحسبه في الدنيا مضعفا له أو يؤول إلى إضعافه يكرهه ويبغضه وهذا أمر جبليّ فلأجل ذلك ترى الإنسان يحبّ نفسه ويحب المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب والأموال والأولاد والأخوان والأعوان ما يظنّ فيها تقوية أو آئلا إلى التقوية فإن حسبها مضرّة به أو آيلة إلى الضرر يشنؤها وينفر عنها البتّة وقد يحبّ شيئا لا لأجل تصوّر منفعة له فيه بل لأجل ما ذكرنا من الميل الطبعي والانجذاب القلبي كما ترى من نفسك أنك قد ترى أحدا لم تره أبدا ولم تعرفه فبمحض رؤيتك له تحبّه ومن هذا الباب حبّ الشّخص كل معتدل أو حسن أو مشاكل من الجمادات والنباتات والحيوانات والأناسي والأفعال والأخلاق والصّفات فإنها إذا كانت مشاكلة لذاتية الإنسان يحبّها بالطبع وإن لم يصل إليه منفعة منها ولم ينلها وليس ذلك إلّا مناسبة بينه وبينها فيمكن أنّ يحب الإنسان شيئا لا لأجل نفسه ولا لأجل منفعة عائدة إليه.

إذا عرفت ذلك : فاعلم أنّ الناس في محبة الله على قسمين :

قسم منهم : يحب الله جلّ جلاله لأنه المحسن المجمل المنعم المفضل ، وأنه خلقه وأمدّه وأحياه ورزقه وأحسن إليه ووهب له الأموال والأولاد وأعزّه وأكرمه وأغناه وأقناه وساق إليه المنافع ويسوق ، ودفع عنه المكاره ويدفع ، ويحفظه ويكلؤه عن طوارق الليل والنهار وشرّ الأشرار ويقيه عن الآفات ويمنع

١٦٥

عنه العاهات ولو لم يفعل ذلك لم يحبه على حذو ما قال الشاعر :

أحب أبا مروان من أجل تمره

ولو لم يكن تمر له ما أحبه

وقسم منهم : يحبه لأجل المجانسة الذاتية مع صفاته الحسنى وأسمائه النعمى وقدسه الأسنى وجلاله الأعلى ونوره الأبهى ، وإنما ذكرنا صفاته وكمالاته جلّ جلاله لأنّ المخلوق لا يجانس الذات الأحدية جلّت وعظمت وهو سبحانه تنزّه عن مجانسة مخلوقاته وتقدّس عن مماثلة مذروءاته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلما كان المخلوق المؤمن أثر مشيته سبحانه والأثر يشابه صفة مؤثره بل هو صفته التي عرف نفسه له به وجعل نفسه آية تعريفه وتعرّفه وصفته وظاهره له يجانس نفسه في المقام الأدنى والمعاني الدنيا صفاته سبحانه في المقام الأعلى والمعاني العليا إذ تحكي مادتها مادتها ، وصورتها صورتها كما يحكي نور الشمس صفة الشمس ، ونور القمر صفة القمر ، فالمؤمن نفسه أشدّ مجانسة لنور الله سبحانه من كل مجانس حتى قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه : اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، وفسّره مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام بالنور الذي خلق منه ، وقال مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته وأخذ ميثاقهم بالولاية ، فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، أبوه النور وأمه الرحمة فاتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله الذي خلق منه» (١).

وفي محاسن البرقي عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من نور عظمته وجلال كبريائه فمن طعن على المؤمن أو ردّ عليه فقد ردّ على الله في عرشه وليس هو من الله في ولاية وإنما هو شرك شيطان» (٢).

وعن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لو كشف الغطاء عن الناس فنظروا إلى ما وصل ما بين الله وبين المؤمن ، خضعت للمؤمن رقابهم وسهلت له أمورهم ولانت له طاعتهم ، ولو نظروا إلى مردود الأعمال من السماء لقالوا ما يقبل الله من أحد عملا (٣).

__________________

(١) محاسن البرقي : ج ٢ ص ١٣١ ح ١ باب ما خلقه الله تبارك وتعالى.

(٢) المحاسن نفس الباب والصفحة ح ٣.

(٣) نفس المصدر : ح ٤.

١٦٦

فالمؤمن أشدّ شيء مجانسة لنور الله وصفته فهو أشدّ حبّا لنور الله وصفته ، وهذا النور وهذه الصفة هما أول مخلوق لله عزوجل بنفسه جلّ قدس الذات عن الصفات وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجماع المسلمين وآله الميامين متحدون معه بنص الكتاب والسنة فالمؤمن مجانس لهم ، والمجانسة معهم هي المجانسة مع الله ففي الزيارة : «من والاكم فقد والى الله ومن أحبكم فقد أحبّ الله ومن أبغضكم فقد أبغض الله ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله» ، كما أنّ من عرفهم فقد عرف الله ، فالطائفة الأولى من المحبين يحبونهم لأجل ما ينتفعون من علومهم وكمالاتهم وسائر ما منهم وإليهم ، وأما الطائفة الثانية فهم يحبونهم بالطبع من غير ملاحظة شيء سوى ذواتهم وصفاتهم لأجلهم وأفعالهم لأجلهم وما ينتسب إليهم لأجلهم لأنّ طباعهم من طباعهم وطينتهم من طينتهم ونورهم من نورهم ، فقلوبهم تحنّ إليهم طبعا من غير ملاحظة انتفاع أنفسهم ، وهذه المحبة هي بعينها محبة الله فإنّ أحدا لا يقدر على محبة الذات ، فإنّ المحبة فرع المعرفة وهي ممتنعة بالنسبة إلى الذات ، وإنما الممكنة معرفة صفاته وهم صفاته وما يعبّر عنه ، فمحبتهم عين محبة الله ، والمؤمن مجانس معهم كما ذكرنا ويشهد له الأخبار ما يتجاوز حدّ الإحصاء منها ما رواه في المحاسن عن أبي حمزة الثمالي قال :

سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إنّ الله تبارك وتعالى خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم تلا هذه الآية : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٩) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (٢٠) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢١) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (١).

وزاد في الكافي : «وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٨) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (١٠) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢).

وعن مولانا الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام قال :

إنّ الله تعالى خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم وأبدانهم وخلق قلوب

__________________

(١) المحاسن للبرقي (قدس‌سره) : ص ١٣٢ ح ٥.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ٣٩٠ ح ٤ ونفس المصدر : ج ٢ ص ٤ ح ٤.

١٦٧

المؤمنين من تلك الطينة وجعل خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك وخلق الكفار من طينة سجّين قلوبهم وأبدانهم وخلط بين الطينتين فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن ، ومن هاهنا يصيب المؤمن السيئة ومن هاهنا يصيب الكافر الحسنة [لكن لا على وجه الجبر] ، فقلوب المؤمنين تحنّن إلى ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحنّ إلى ما خلقوا منه (١). إلى غير ذلك من الأخبار وهي كثيرة لمن جاس خلال الديار.

وكل من لم يصل إلى درجة العرفان فإنّ حبه لا محالة عرضي لأنّ الفؤاد ما دام مشغولا بغير الحبيب كيف يتفرّغ له ، فالفؤاد السليم إذا حدث في الإنسان كان عارفا محبا مؤثرا للمحبوب على ما سواه فلا يحتاج إلى رياضة ومشقة وكلفة وتحصيل ، وإنما يحتاج للمعالجة في تحصيل الصفات الحقيقية بمجاهدة النفس الأمّارة لا غير ، ولمّا كان الحب كغيره من الصفات كالخوف والرجاء التي لا بدّ أن يتحلّى بها الإنسان من الصفات الكامنة في النفس الإنسانية بالقوة وليست موجودة بالفعل أراد الساسة الحقيقيون صلوات الله عليهم إصلاح القابلية ليظهر منها تلك الأرواح وتصير فيهم بالفعل ، كما أنّ الله عزوجل يصلح قابلية النطفة والعلقة والمضغة في الرحم في مدة مديدة حتى تتصور بصورة الإنسان فيتعلق بعد تمام صلاح القابلية روح الحيوان ثم روح الإنسان بعد تولده وجعل الإنسان صالحا لإصلاح القابلية ، وهيأ له أسباب التمكين والإصلاح وهو وجود الساسة صلوات الله عليهم وأمرهم ونهيهم ووعدهم ووعيدهم فمن سبق له من الله الحسنى أطاعهم بتكلّف وتجشم ومشقة ورياضة حتى تعتدل صورته ومادته بسبب الطاعة وهي في وسعهم ومكنتهم لمّا خلقهم الله خلقة صالحة للطاعة ، فإذا اعتدل أفاض الله عليهم روحا منه أولئك الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه يهديهم ربّهم إلى تلك الروح بإيمانهم فيخلق فيهم النفس الناطقة القدسية وهي مثال النفس الكلية الإلهية ، والعقل وهو مثال العقل الكلي والفؤاد وهو مثال نور الله الأكرم والتجلّي الأعظم ، فما لم تتمكن القابلية وتعتدل لا يظهر فيهم تلك المثل كما لا ينشأ الولد خلقا آخر حتى يتمكن البدن ويعتدل فلأجل ذلك أمرنا

__________________

(١) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢ ح ١.

وأورده في المحاسن بلفظ آخر ص ١٣٦ ح ٢٠.

١٦٨

بالرياضات والمجاهدات رجاء أن يحدث الله فينا تلك الأرواح ، وهذا من الفلسفة الإلهية العلوية ألم يقل أمير المؤمنين عليه‌السلام : «... إذا اعتدل طباعه صفا مزاجه ومن صفا مزاجه قوي أثر النفس فيه ، ومن قوي أثر النفس فيه سما إلى ما يرتقيه ، ومن سما إلى ما يرتقيه فقد تخلّق بالأخلاق النفسانية ، ومن تخلّق بالأخلاق النفسانية فقد صار موجودا بما هو إنسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان فقد دخل في الباب الملكي الصوري وليس له عن هذه الغاية مغير ...». وقال عليه‌السلام في حديث آخر :

«... خلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد».

وطريق تحصيل الحب النظر في إحسان الله إليه أولا فإنّ القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ثم التفكّر في أنواره وجماله وحسن خلقته وحكمته وحسن ما دعا إليه وحسن أوليائه وأنبيائه وكمالاته وكمالاتهم ، فإن القلوب مجبولة على حبّ الجميل والكامل.

والمعرفة والحب والتقرّب من عمل الفؤاد وكل ما سواه من المراتب إذا حصل مثل ذلك بالرياضة والمشقة والتطبع فليس بمعرفة حقيقة ولا حب ولا تقرّب ، وإنما هي صور ، كما أنّ الحمار إذا ذهب به إلى مكة فلم يقصد الحمار مكة ولم يحج وليس له ثواب الذهاب إلى مكة وإن كان صورة عمله الذهاب إلى مكة كذهاب الإنسان ، والثواب للراكب بالذات وإن نال الحمار نائل فهو بالعرض والتبع ، كذلك أرباب العقول فهم وإن تكلفوا المعرفة والحب والقربة وإيثار المحبوب والإعراض عمّا سواه وصرف جميع العمر في خدمته والتوكل عليه والرضا والتسليم له وكل ما هو شأن الفؤاد فإنما جميع ذلك نفخ في غير ضرام ولا أجر له ولا ثواب إلّا شيء قليل وليس ما حصل بمعرفة ولا حب ولا قربة ولا إيثار وإنما ذلك كتمثل البدن بمثال الخائف وليس بخائف ، ألا ترى أنّ من منع عينه الرقاد وقصر نظره على رجل وتعمد ترك الأكل والشرب حتّى نحل بدنه واصفرّ لونه ولم يحوّل عينه عنه ولزمه لزوم الظل لذي الظل ، وتنفس كل ساعة صعداء وترك الأهل والأولاد وجميع أهل الوداد عمدا وقصر نظره على ذلك الرجل أنه لا يكون محبّا ولا عاشقا له البتة ما لم يكن في نفسه حبّ غالب بالغ

١٦٩

شغاف قلبه ، فكذلك النفس أو العقل إذا تصورا بصورة الحب أو نطقا بصورة المعرفة وبألفاظها وآثرا ربّهما على كل من سواه واقعا ليسا بحبيبين ولا عارفين ولا مؤثرين له سبحانه البتة وإنما ذلك طباع الفؤاد وشأنه وسجيته إن كان موجودا في الرجل كانت هذه الأمور فيه بالحقيقة وإلّا فهي بالصفة من هذا القبيل قوله تعالى :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فالإسلام غير الإيمان ، وإلّا لو كانا واحدا لما فصل بينه وبين الإيمان ، وقد مدح قوما تحقق فيهم روح الإيمان فقال : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) وقال : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ).

فالدرجة الدنيا إذا اتّصفت بالصفة العليا بالمجاهدة تسمّى مسلمة إذا أسلمت وانقادت وليست بمؤمنة وإنما الإيمان طباع روح الإيمان لا غير فإن تابوا وأقاموا الصلاة فإخوانكم في الدين ومواليكم ، فافهم.

فإذا عرفت ذلك فعلى المرء أن يجاهد في إصلاح القابلية التي في مكنته حتى يمنحه الله ما في صنعه ، فلأجل ذلك لا ينتفع أغلب الناس بعلومهم وبمعارفهم وإظهارهم المحبة ، ولا يورث صورة علمهم ولا صورة معارفهم حبّا أبدا وإن هم فيها إلّا كالببغاء أو كالنقش في الحائط والصنم ، آه آه كم من صنم نحتناه وكم من صورة بلا معنى نقشناها ، فعفوك عفوك يا الله.

والأخبار في معنى الحب والبغض في الله تعالى كثيرة منها ما رواه البرقي (قدس‌سره) في المحاسن :

١ ـ عن حمّاد بن عيسى عن حريز بن عبد الله السجستاني عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحب والبغض ؛ أمن الإيمان هو؟ قال : وهل الإيمان إلّا الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (١).

٢ ـ عن أحمد بن أبي نصر عن صفوان الجمّال ، عن أبي عبيدة زياد الحذّاء

__________________

(١) محاسن البرقي : ص ٢٦٢ ح ٣٢٦ كتاب مصابيح الظّلم.

١٧٠

عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث له قال : يا زياد ويحك وهل الدين إلّا الحب ألا ترى إلى قول الله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أو لا ترى قول الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقال : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) فقال : الدين هو الحب والحب هو الدين (١).

٣ ـ عن ابن محبوب عن مالك بن عطية عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله ، وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله(٢).

٤ ـ عن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر الأحول صاحب الطّاق ، عن سلام بن مستنير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ومن أحبّ في الله ، وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله (٣).

٥ ـ وعن ابن محبوب عن علي بن رئاب ، عن أبي عبيدة الحذّاء عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله ، ومنع لله فهو ممن كمل إيمانه (٤).

٦ ـ عن العرزمي عن أبيه عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيرا فانظر إلى قلبك فإن كان يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصية الله ففيك خير والله يحبّك ، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصية الله ففيك شرّ والله يبغضك ، والمرء مع من أحبّ (٥).

٧ ـ عن علي بن حسّان الواسطي عمّن ذكره عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ثلاث من علامات المؤمن : علمه بالله ، ومن يحب ومن يبغض (٦). (أي علمه بمن يجب أن يحبه ويجب أن يبغضه).

__________________

(١) نفس المصدر : ص ٢٦٣ ح ٣٢٧.

(٢) نفس المصدر : ح ٣٢٨.

(٣) نفس المصدر : ح ٣٢٩.

(٤) نفس المصدر السابق : ح ٣٣٠.

(٥) نفس المصدر : ح ٣٣١.

(٦) نفس المصدر : ح ٣٣٢.

١٧١

٨ ـ عن محمّد بن عيسى اليقطيني عن أبي الحسن علي بن يحيى عن عمرو بن مدرك الطائي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : أي عرى الإيمان أوثق؟

فقالوا : الله ورسوله أعلم ، وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم الزكاة ، وقال بعضهم الصوم ، وقال بعضهم الحج والعمرة ، وقال بعضهم الجهاد ، فقال رسول الله : لكل ما قلتم فضل وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ، وتوالي أولياء الله والتبرّي من أعداء الله عزوجل (١).

٩ ـ عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي ، عن بشير الكناسي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : قد يكون حبّ في الله ورسوله ، وحبّ في الدنيا ، فما كان في الله وفي رسوله فثوابه على الله ، وما كان في الدنيا فليس بشيء (٢).

١٠ ـ عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن جدّه قال مرّ رجل في المسجد وأبو جعفر عليه‌السلام جالس ، وأبو عبد الله عليه‌السلام فقال له بعض جلسائه : والله إنّي لأحب هذا الرجل ، قال له أبو جعفر عليه‌السلام : ألا فأعلمه فإنه أبقى للمودّة وخير في الألفة (٣).

١١ ـ عن محمد بن علي عن الحسين بن علي بن يونس عن زكريا بن محمد عن صالح بن الحكم قال : سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقول : إنّي أودّك فكيف أعلم أنّه يودّني؟

قال : امتحن قلبك فإن كنت تودّه فإنه يودّك (٤).

١٢ ـ وعن مولانا الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في تفسيره ، إنّ رسول الله فسّر همزات الشياطين بأنّ همزاته فما يلقيه في قلوبكم من بغضنا أهل البيت ، قالوا يا رسول الله وكيف نبغضكم بعد ما عرفنا محلكم من الله ومنزلتكم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأن تبغضوا أولياءنا وتحبّوا أعداءنا ، فاستعيذوا بالله من محبة أعدائنا وعداوة أوليائنا فتعاذوا من بغضنا وعداوتنا ، فإنّ من أحبّ أعداءنا فقد عادانا ونحن منه

__________________

(١) نفس المصدر : ح ٣٣٥.

(٢) نفس المصدر : ح ٣٤٤.

(٣) نفس المصدر : ح ٣٤٧.

(٤) نفس المصدر ح : ٣٥٠.

١٧٢

براء والله عزوجل منه بريء (١).

وأما الأخبار الدالة على محبّة آل محمد عليهم‌السلام وشيعتهم الذين بمحبتهم يتحقق حبّ الله ولا حب لله أصلا إلا بحبّهم فكثيرة منها :

١ ـ ما رواه الصدوق في أماليه عن ابن عباس قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سرّه أن يجمع الله له الخير كله فليوال عليّا بعدي وليوال أولياءه وليعاد أعداءه (٢).

٢ ـ وفي تفسير العيّاشي عن أبي حمزة الثمالي قال :

قال أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا حمزة إنما يعبد الله من عرفه ، وأما من لم يعرف الله كأنما يعبد غيره هكذا ضالا : قلت أصلحك الله وما معرفة الله؟ قال : يصدّق الله ويصدّق محمّدا رسول الله في موالاة علي والائتمام به وبأئمة الهدى من بعده والبراءة إلى الله من عدّوهم ، وكذلك عرفان الله قال : قلت : أصلحك الله أي شيء إذا علمته أنا استكملت حقيقة الإيمان؟ قال : توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله وتكون مع الصادقين كما أمرك الله ، قال : قلت : ومن أولياء الله ومن أعداء لله؟ قال : أولياء الله محمّد رسول الله وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ثم انتهى الأمر إلينا ثم ابني جعفر وأومأ إلى جعفر هو جالس فمن والى هؤلاء فقد والى أولياء الله وكان مع الصادقين كما أمر الله ، قلت : ومن أعداء الله أصلحك الله ، قال الأوثان الأربعة : قال : قلت : ومن هم؟ قال : أبو الفصيل ورمع ونعثل ومعاوية ومن دان دينهم فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله (٣).

٣ ـ وعن أمالي الصدوق بسنده عن هشام بن سالم عن مولانا الإمام الصادقعليه‌السلام قال : من جالس لنا عائبا أو مدح لنا قاليا أو واصل لنا قاطعا أو قطع لنا واصلا أو والى لنا عدوا أو عادى لنا وليّا فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم(٤).

__________________

(١) تفسير المنسوب للإمام العسكري ص ٥٨٤ ح ٣٤٧ ط قم ، وكذا في البحار ج ٢٧ / ٦٠ ح ٢٠.

(٢) أمالي الصدوق : ص ٣٨٢ ب ٧٢ ح ٧.

(٣) رواه مختصرا الكليني في أصول الكافي : ج ١ ص ١٨٠ ح ١ وكذا رواه كاملا في البحار ج ٢٧ / ٥٧ ح ١٦.

(٤) أمالي الصدوق : باب ١٣ ص ٥٥ ح ٧.

١٧٣

٤ ـ وعن الموفق بن أحمد الخوارزمي بإسناده المتصل عن شريك عن سليمان الأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا : سمعنا أبا أيوب الأنصاري قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعمّار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية وأنت مع الحق ، إذا رأيت عليّا سلك واديا وسلك الناس واديا غيره ، فاسلك مع على ودع الناس إنه لن يدلّك على ردىّ ولن يخرجك عن الهدى يا عمّار إنه من تقلّد سيفا أعان به عليّا على عدوّه ، قلّده الله يوم القيامة وشاحا من در ، ومن تقلّد سيفا أعان به عدوّ علي قلّده الله يوم القيامة وشاحا من نار. قال : قلت : حسبك (١).

إلى غير ذلك من الروايات الآمرة بموالاة آل محمّد وبوجوب حبّهم والتمسّك بهم ويكفي اللبيب حديث «يا علي لا يحبك منافق ولا يبغضك مؤمن» (٢) حيث تصافقت الروايات المتواترة على ذلك وقد أتعب العلّامة الأميني نفسه المباركة في جمعها من طرق العامة والخاصة من أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأميّ إليّ : أنّه لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق» (٣).

وورد في أحاديث تفوق حدّ الاستفاضة من أن بعض الصحابة العدول كانوا يقولون : ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ببغضهم عليّا (٤).

وهذا الحديث مما احتجّ به أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الشورى فقال : أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق ، غيري؟ قالوا : اللهمّ لا.

وتعقيبا على الخبر قال العلّامة الأميني (قدّس سره) بعد ذكر مصادره الكثيرة :

هذا ما عثرنا عليه من طرق هذا الحديث ولعلّ ما فاتنا منها أكثر ، ولعلّك بعد هذه كلها لا تستريب في أنه لو كان هناك حديث متواتر يقطع بصدوره عن مصدر

__________________

(١) معرفة الإمام للطهراني : ج ١ ص ٢٤٢.

(٢) لاحظ صحيح مسلم ج ١ / ٨٩ وسنن النسائي ج ٨ / ١١٦ وسنن الترمذي ج ٣ / ١٦٨.

(٣) الغدير : ج ٣ ص ١٨٣.

(٤) مروي عن مصادر العامة كجامع الترمذي : ج ٢ ص ٢٩٩ وحلية الأولياء : ج ٦ ص ٢٩٥ والفصول المهمة : ص ١٢٦ وأسنى المطالب للجزري : ص ٨ ومطالب السئول : ص ١٧ ونظم الدرر للزرندي والصواعق المحرقة : ص ٨٣ لاحظ أيضا الغدير : ج ٣ ص ١٨٢.

١٧٤

الرسالة فهو هذا الحديث أو أنه من أظهر مصاديقه ، كما أنك لا تستريب بعد ذلك كله أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بحكم هذا الحديث الصادر ميزان الإيمان ومقياس الهدى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه صفة مخصوصة به عليه‌السلام وهي لا تبارحها الإمامة المطلقة ، فإنّ من المقطوع به أنّ أحدا من المؤمنين لم يتحلّ بهذه المكرمة ، فليس حبّ أي أحد منهم شارة إيمان ولا بغضه سمة نفاق ، وإنما هو نقص في الأخلاق وإعواز في الكمال ما لم تكن البغضاء لإيمانه ، وأما إطلاق القول بذلك مشفوعا بتخصيصه أمير المؤمنين فليس إلّا ميزة الإمامة ولذلك قال رسول الله : لولاك يا علي ما عرف المؤمنون بعدي (١) ، وقال : والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلّا وهو خارج من الإيمان» (٢).

وظاهر النصوص أن بغض آل محمّد موجب للخروج عن الإيمان لاستلزامه لإنكار الضرورة الإسلامية ، لأنّ وجوب حبهم من ضروريات الإسلام ، وخروج مبغضهم عن الإيمان حتى ولو لم يلتفت إلى كون حبهم من الضروريات وأنكره وذلك من جهة أنّ البغض المذكور ملازم لعدم المعرفة بالأئمة عليهم‌السلام وقد مرّ في بحوث سابقة التصريح بأنّ عدم المعرفة بهم يوجب الموت على الجاهلية.

__________________

(١) مناقب ابن المغازلي : ص ٣٧ والرياض : ج ٢ ص ٢٠٢ وكنز العمال : ج ٦ ص ٤٠٢.

(٢) الغدير : ج ٣ ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

١٧٥

الباب الرّابع والعشرون

عقيدتنا في الأئمة (عليهم‌السلام)

قال المصنّف (قدّس الله سرّه) :

لا نعتقد في أئمتنا ما يعتقده الغلاة والحلوليون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم). بل عقيدتنا الخاصة أنهم بشر مثلنا ، لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وإنّما هم عباد مكرمون اختصّهم الله تعالى بكرامته وحباهم بولايته ، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفة وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به ، وبهذا استحقّوا أن يكونوا أئمة وهداة ومرجعا بعد النبيّ في كل ما يعود للناس من أحكام وحكم ، وما يرجع للدين من بيان وتشريع ، وما يختص بالقرآن من تفسير وتأويل.

قال إمامنا الصادق عليه‌السلام : «ما جاءكم عنّا مما يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردّوه إلينا ، وما جاءكم عنّا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردّوه إلينا» (١).

* * *

أكّد المصنّف (قدس‌سره) في هذا الباب على نفي الألوهية عن الأئمة عليهم‌السلام ، وصحيح كما قال المصنف أن الأئمة عليهم‌السلام بشر مثلنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا إلّا أنّ الله سبحانه اختصهم بخصائص وميزات امتازوا بها على سائر العالمين ، لذا قال مولى الثقلينعليه‌السلام :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٣٦٤ ح ١ باب غرائب أحوالهم.

١٧٦

إياكم والغلوّ فينا ، قولوا إنّا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم (١).

مضافا إلى أنه سبحانه أوجب عليهم تكاليف ليست واجبة على غيرهم ، فهم زيادة على التكاليف العامة المشتركة بينهم وبين سائر المكلفين ، هناك تكاليف أخرى ملقاة على عواتقهم عليهم‌السلام من باب كونهم قدوة للبشر وسعة ظروفهم وقابلياتهم ، كل ذلك استدعى أن يكونوا أوعية المشية الإلهية وخزّان علمه ومعادن حكمته.

والمصنّف (قدس‌سره) لم يحدّد بدقة مفهوم الغلوّ الذي ارتطم بفهمه كثير من الناس لا سيما بعض أهل العلم منهم ، فجعلوا التحدّث عن بعض الفضائل كعدم طمث الزهراءعليها‌السلام يعدّ نوعا من المغالاة بها (٢) وحالة مرضية يجب العلاج منها ؛ إلى ما هنالك من شبهات تثار هنا وهناك على فضائل ومعاجز الأئمة عليهم‌السلام.

«فالغلوّ» لغة : الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء ؛ وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا : جاوز حدّه ، وفي التنزيل : لا تغلو في دينكم ، وغلوت في الأمر غلوا وغلانية وغلانيا إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطت فيه (٣).

وفي الاصطلاح : هو مجاوزة الحدّ المعقول ، والغالي ـ عند الشيعة الإمامية ـ هو من جعل الإمام عليه‌السلام إلها أو حلّ الإله فيه حاشاه عزوجل كالنصيرية وبقية الفرق المبتدعة ، الذين يغالون في الأئمة كمن يجعل الإمام عليّا عليه‌السلام إلها.

لقد فقأ عين الحقّ من ادّعى (٤) أنّ من المغالاة الاعتقاد بأن الأئمة عليهم‌السلام لم يكونوا يحدثون بالأصغر أو الأكبر ، فقال : «تصل المغالاة عند البعض إلى الادّعاء بأنّ الأئمة عليهم‌السلام لم يكونوا يحدثون بمعنى الحدث الأكبر أو الأصغر أو التغوّط ، أبهذه الطريقة نثبت أن للأئمة عليهم‌السلام كرامات ، أم بالطرق التي لا تخرج الأئمة عن بشريّتهم وإنسانيتهم ...».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٧٠.

(٢) هذا ما افتراه بعضهم في كتابه «مأساة كتاب المأساة» ص ٩٩ حيث بمقالته الشنيعة قد طرح الروايات العديدة التي تفوق حدّ الاستفاضة بشأن عدم طمث الزهراء عليها‌السلام وروحي فداها ، وأنه نوع كرامة لها لأنّ الطمث قذر ونجس عرفا ولغة واصطلاحا ، وهما منفيان عنها لطهارتها بنصّ آية التطهير.

(٣) لاحظ لسان العرب : ج ١٥ ص ١٣٢.

(٤) نجيب نور الدين في كتاب مأساة المأساة.

١٧٧

والجواب :

ليس للغلوّ مفهوم محدّد يمكن من خلاله تعيين المصاديق المشتبهة ، لذا اضطربت كلمات القوم في تعريفه من الناحية الاصطلاحية ، فمن قائل أنّ من الغلوّ القول بكونهمعليهم‌السلام شركاء الله في الخلق أو الرزق أو يعلمون الغيب من غير وحي ، أو أنهم أنبياء ، أو تنتقل أرواحهم إلى بعضهم عن طريق التناسخ. ولكنّ القدر المتيقن هو أن من اعتقد بأنهم آلهة أو أنه تعالى حلّ أو اتّحد بهم كما قالت النصارى في عيسى بن مريم عليها‌السلام ، وهذا مما لا ريب فيه من أنه من أظهر مصاديق الغلوّ لدلالة الآيات عليه كقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) (النساء / ١٧٢) ؛ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (المائدة / ٧٨).

أمّا ما دون ذلك فيمكن صرفه عن ظاهره ـ لو سلّمنا بوجود روايات تذمّ القائلين به ـ فمسألة الخلق أو الرزق أو علم الغيب كلّ ذلك لا يمكن حصوله لهم من دون استعانة بالله تعالى ، فهم أعجز من أن يصدر منهم ذلك من دون إقدار الله تعالى لهم عليه ، فها هو عيسى عليه‌السلام خلق من الطين كهيئة الطير وأحيى الموتى وأخبر عن المغيّبات ؛ وأما نسبة النبوة إليهم فمردودة أيضا إذ إنّ المذموم من ذلك هو دعوى الوحي إليهم على جهة التأسيس بمعنى رفض كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر الأنبياء وهو ما يعبّر عنه بالوحي التشريعي. وأما مسألة القول بتناسخ أرواح بعضهم فلا تصحّ أيضا ، فالقول بالتناسخ يوجب الكفر لا من جهة أنه غلوّ بل من جهة إرادة قدم نفوسهم وذلك شيء آخر ، لأن التناسخ في نفسه وإن كان باطلا لا يوجب الكفر لكونه غلوّا ولا يكون باطلا لذلك ، وإنما كان باطلا موجبا للكفر لاعتقاد قائله بقدم النفوس ورفض المعاد الجسماني ، من هذا الباب كان باطلا والقول به كفرا.

إذن لا يصدق الغلوّ على شيء من هذه المعاني المدّعاة فكيف بمن نسب إليهم أنهم لا يحدثون بالأكبر أو الأصغر لو سلّمنا بوجود نصوص تدل على ذلك وإن كان ظاهر بعض النصوص أنهم كانوا يدخلون الكنيف ويغتسلون من الجنابة ، لكن لا دلالة فيها على صدور الحدث بكلا قسميه ، إذ قد يكون دخولهم الكنيف لدفع شبهة الغلوّ عنهم ، وكذا اغتسالهم من الجنابة لكونهم مشرعين للأحكام فلا ملازمة بين الاغتسال وبين الحدث الأكبر الشائع بين الناس ، فجنابتهم تختلف عن جنابة غيرهم ، فلا ملازمة بين القول بطهارتهم من الأرجاس المادية وبين مفهوم

١٧٨

الغلو ، وإلّا حكمنا على أهل الجنّة الذين لا يبولون ولا يغوطون ـ وإنما تخرج الفضلات من مسامّ الجلود كرائحة المسك ـ بأنهم ليسوا بشرا أو أنهم خرجوا عن حدّ البشريّة. قد يقال : إن لأهل الجنّة أحكاما خاصة فلا يقاسوا بغيرهم من أهل الدنيا. والجواب : بما أن مسألة التغوط وغيرها ليست من الأحكام العقلية المحضة فيمكن حينئذ مشابهة أهل الجنّة بمن خلقت لأجلهم الجنّة ، فإذا ثبتت الكرامة للمفضول ، ثبتت للفاضل بطريق أولى ، فلا فصل بين الدنيا والآخرة بالنسبة للكرام من أهل الجنّة. هذا مضافا إلى أن الملازمة لو صحت لاستلزم خروج الحيوانات المأكولة اللحم عن حدّ البهيمية لكون أرواثهم وأبوالهم طاهرة ، فمنشأ النجاسة ونحوها إنّما هو من جهة النفس الظلمانية ، وليس في نفوسهم أي أثر للظلمة ، لذا ورد أنّ الأنبياء خلقوا من نور أجسامهم اللطيفة وأجسادهم الشريفة ، فلا معنى لطروء النجاسة أو الجنابة بالنسبة إلى العقول الصافية ، فكيف بما هو أعلى منها مرتبة ، فالأنوار اللطيفة في غاية اللطافة لا تعرضها الخباثة والكثافة ، لذا ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ألا إنّ مسجدي حرام على كل حائض من النساء وكلّ جنب من الرجال إلا على محمد وأهل بيته : علي وفاطمة والحسن والحسين (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحلّ هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلا لرسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، ألا قد بيّنت لكم الأسماء أن لا تضلّوا (٢).

لذا قال العلّامة الأميني «قدّس سره» : (إنّ سدّ الأبواب الشارعة في المسجد كان لتطهيره عن الأدناس الظاهرية والمعنوية ، فلا يمرّ به أحد جنبا ، ولا يجنب فيه أحد. وأما ترك بابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباب أمير المؤمنين عليه‌السلام فلطهارتهما عن كلّ رجس ودنس بنص آية التطهير ، حتى إنّ الجنابة لا تحدث فيهما من الخبث المعنوي ما تحدث في غيرهما ...).

وما ورد من أنّ مولاتنا الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام قد اغتسلت غسل الوفاة قبل وفاتها ممّا يدلّ على أنها كانت طاهرة كأبيها وبعلها وبنيها في حياتها وبعد مماتها ولم يحدث الموت فيها رجاسة ولا دناسة ، مع أننا نعلم أنه ممّا لا خلاف فيه من تنجس البدن بعد الموت وبعد خروج النفس منه.

قال الأربلي «قدّس سره» في «كشف الغمة» : (واتّفاقهما من طرق الشيعة

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٦٥ ، والاخبار بذلك فوق حدّ الاستفاضة ، راجع : فضائل الخمسة من الصحاح الستة للفيروزآبادي ج ٢ / ١٥٦ ط. دار الكتب الإسلامية.

(٢) الغدير للعلّامة الأميني ج ٣ ص ٢١١.

١٧٩

والسنة على نقله ـ أي خبر غسل الزهراء قبل وفاتها ـ مع كون الحكم على خلافه عجيب ، فإنّ الفقهاء من الطرفين لا يجيزون الدفن إلا بعد الغسل إلّا في مواضع ليس هذا منه ... ولعلّ هذا أمر يخصّها عليها‌السلام).

نعم إنها عليها‌السلام كأبيها في طهارتها لما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه لمّا سئل : هل اغتسل عليّ حين غسّل رسول الله؟! قال عليه‌السلام : النبي طاهر مطهّر ولكن اغتسل عليّعليه‌السلام وجرت به السنّة.

وقد أشارت الروايات إلى التي من أجلها يجب تغسيل الميت ، وهي خروج النطفة التي خلق منها ؛ ففي حديث عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن رجلا سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال : إذا خرجت الروح من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه ، كائنا ما كان : صغيرا أو كبيرا ، ذكرا أو أنثى ، فلذلك يغسل غسل الجنابة (١).

من هنا يعلم أن الزهراء عليها‌السلام عند ما اغتسلت قبل الوفاة لا لجنابة لأنّ الميت بحكم الجنب كما ورد عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام سأله رجل عن غسل الميت لأيّ علّة يغسل؟ ولأيّ علّة يغتسل الغاسل؟! قال : يغسل الميت لأنه جنب ولتلاقيه الملائكة وهو طاهر وكذلك الغاسل ليلاقيه المؤمنين (٢).

وكلّ هذا إشارة إلى أن النبي والعترة يختلفون بتكوينتهم البشرية عن غيرهم (بمعنى قوة أجسادهم وطهارتها وصفائها) فلا يمكننا أن نعرض عن أمثال هذه الأحاديث لمجرّد أن أفكارنا لم تصل إلى معرفة حقائقها ، وحيث إنها ليست من المستحيلات العقلية يجب علينا التسليم لها حيث ورد عنهم عليهم‌السلام أنّ حديثنا أهل البيت صعب مستصعب لا يتحمّله إلا بنيّ مرسل أو ملك مقرّب أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان ، فقد ورد أن فاطمة بنت أسد كبّر عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين تكبيرة وكبّر على حمزة سبعين مع أنّ التكبير على الميت خمس ، فدلّ هذا على أن لهؤلاء خصائص ومميزات لم تكن حاصلة لغيرهم فلا مجال للاستنكار وردّ فضائلهم بحجّة أن عقولنا لم تتحمّل هذا فيقذف المعتقد بها بالغلوّ والزندقة والكفر.

فالقول بانتفاء الحدث عنهم عليهم‌السلام ـ على القول به ـ لا يستلزم تكفير صاحبه وإدخاله في زمرة الغلاة ، وليس كلّما يستعظمه المرء يكون غلوّا ، وكلما

__________________

(١) كتاب وسائل الشيعة ج ٢ باب غسل الميت ح ٢ ط. دار إحياء التراث العربي ١٣٩١ ه‍.

(٢) نفس المصدر ح ٦.

١٨٠