الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

علينا (١) من أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا والتسليم لأمرنا ، أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يخفى عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم ، فقال له حمران : جعلت فداك يا أبا جعفر أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله وما أصيبوا به من قبل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يا حمران إن الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه ثم أجراه فتقدم (٢) على رسول الله فى ذلك قام على والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، وبعلم صمت من صمت منّا ، ولو أنهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله دفع ذلك عنهم وألحّوا فيه في إزالة ملك الطواغيت إذا لأجابهم ودفع ذلك عنهم ثم كان انقضاء مدّة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد وما كان الذي أصابهم من ذلك يا حمران لذنب اقترفوه ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغها فلا تذهبنّ فيهم المذاهب بك (٣).

ملاحظة : ذيل الرواية ردّ على أمثال السيد فضل الله الذي ردّ في درس ألقاه أمام النساء في دمشق مقولة الولاية التكوينية مدّعيا أن الإمام الحسين عليه‌السلام لو كانت لديه الولاية التكوينية لكان عليه أن يسقي طفله الماء فجابهته إحدى الطالبات بالقول : أعتقد أن الله جلّ جلاله ليس لديه ولاية تكوينية لأنه ـ وحسب افتراضك ـ أولى من الإمام الحسين بذلك ، ومأساة الطفل الرضيع تتمّ على شهادة منه ، فما له لم يسق الرضيع حاجته من الماء؟!

هذه نبذة يسيرة من روايات أهل بيت العصمة عليهم‌السلام التي ناهزت المئات من الأحاديث الصحيحة والموثوقة والحسنة المجمعة على وجود ولاية تكوينية للمعصوم عليه‌السلام ، فمن لم يكتف بهذا المقدار من الروايات لا يمكننا أن نعتبره من المؤمنين بعقيدة أهل البيتعليهم‌السلام التي هي عقيدة القرآن والسنّة المطهّرة

__________________

(١) لعلّه في الأصل «على» فصحّف «علينا».

(٢) كذا ورد في نسخة بصائر الدرجات : ص ١٤٥ ح ٣ والأصح ما ورد في أصول الكافي : ج ١ ص ٢٦٢ هكذا : «فبتقدم علم إليهم من رسول الله قام علي ...».

(٣) وهناك العديد من النصوص الصحيحة والموثقة عرضها الصفّار في بصائر الدرجات فلاحظ.

١٤١

المروية بالأحاديث الصحيحة والموثوقة ، فمن ردّها ردّ على الله تعالى ، نعوذ بالله تعالى من هفوات اللسان وزلّات الأقلام.

وصدق الله العظيم حينما قال :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (الأنعام / ٢٦).

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (المائدة / ١٤).

(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) (البقرة / ٧٦).

وما أثاره السيد فضل الله في مجلة الثقافة الإسلامية عدد ٦٥ ص ٧١ ضمن عرضه لصورة النبي محمد في القرآن الكريم حيث نفى وجود ولاية تكوينية للأنبياء على نحو الفعلية وبشكل مطلق قال :

«... نستطيع أن نجد في النص القرآني الردّ على الفكرة التي تجعل للنبي الولاية على الكون بأن يغيّره ويبدّله ويتصرّف فيه من خلال القدرة العظيمة التي أودعها الله في شخصه مما يطلق عليه اسم «الولاية التكوينية» وأن هذه الفكرة لا تلتقي بالنصوص القرآنية» ، إلى أن يقول : «وعلى ضوء ذلك فلا مجال ـ في النص القرآني ـ لفكرة الولاية التكوينية للنبي أو للأنبياء كافة ، وإذا كان الله قد أعطى للأنبياء القيام بالمعاجز فإنها تتصل ـ بشكل مباشر ـ بحاجة النبوة إلى ذلك أمام التحدّيات الموجّهة إليهم».

وقال أيضا في إحدى محاضراته ما مضمونه :

أنه لو كان للإمام عليه‌السلام ولاية تكوينية فلما ذا لم يستخدمها في كربلاء (١)؟

وادّعى في إحدى محاضراته أن القول بالولاية التكوينية للأنبياء والأئمة يعني

__________________

(١) ذكر ذلك في درس القاه أمام النساء في دمشق في معرض ردّه للولاية التكوينية.

١٤٢

مشاركة الله تعالى في الولاية (١).

وبهذا يتلخص دليله بثلاث نقاط :

النقطة الأولى : كون الأنبياء مسددين بالمعجزة ـ الى هي ولاية طارئة ـ لدفع التحدي الموجّه إليهم من قبل أعداء الدين.

النقطة الثانية : لو كانت للمعصوم ولاية فلما ذا لم يستخدمها ويدفع عن نفسه الضرّ؟

النقطة الثالثة : ان القول بالولاية التكوينية يعني مشاركة الله تعالى في ملكه.

ونحن نستعين بالله تعالى في ردّ هذه الشبهات ليتضح الصبح الذي عينين.

أما جواب الشبهة الأولى :

١ ـ ما قاله في هذه الشبهة ما هو إلّا مجرد دعوى بلا دليل حيث لم يلق علينا بعض الشواهد القرآنية التي تثبت مدّعاه ، بل نراه قد ألقى الكلام على عواهنه مستنكرا وجود آيات على الولاية التكوينية في حين أنّ كل الفقهاء يستدلون على الولاية التكوينية بآيات الكتاب الكريم ـ والتي قد قدّمنا طرفا منها ـ وأحاديث النبي والعترة.

٢ ـ إنّ الولاية التكوينية من لوازم النبوة والإمامة بل هي من لوازم وجودهم غير المنفك عنهم لأنها نوع تسديد يسبغه الباري عزوجل على النبي والإمام عليهما‌السلام ، فما معنى أن يكون للنبي والولي سلطة روحية دائمة ، ولا تكون له أية سلطة تكوينية على المادة يتصرّف فيها كيفما يشاء بمشيته تعالى لأن الإنسان ـ وكما يقول العرفاء الكاملون ـ إن العبد إذا تحقق بحقيقة الحق وتخلّق بأخلاق الروحانيين غلبت عليه صفات الأرواح المجرّدة وصار له سلطنة على العوالم المادية فكما أنه جلّ شأنه يوجد المادة من غير مدة ولا مواد فكذا وليّه ، فالروح المجرّدة تمرّ على الزمان ولا يمرّ الزمان عليها ، وتحكم على المادة ولا تحكم المادة عليها ، والمادة التي تعلّقت بها كأجسامها العنصرية الشريفة مقهورة لروحها المجرّدة.

٣ ـ إن أمكن وجود المؤهل الذاتي ـ والذي على ضوئه منح النبي أو الإمام

__________________

(١) ذكر ذلك في إحدى محاضراته المسجّلة.

١٤٣

الولاية التامة ـ في مرّة واحدة أمكن إيجاده في مرات وفي غير زمن التحدّي ، لأنّ الولاية شأن يمنح لأشخاص بناء على مواصفات ذاتية ، وما دام الأمر على هذا النحو ، فما المانع إن ظلّ المؤهل الذاتي ـ الذي منح الإنسان على ضوئه الولاية ـ موجودا في أن تظل هذه الولاية ، فضلا عن أن تتعاظم إن زادت قدرات هذا المؤهل؟ وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا العنى بحيث إن الإنسان يمكن أن يبلغ منزلة الولاية في حين يمكن أن تسلب منه كما هو الواضح في قضية عالم بني إسرائيل بلعم بن باعورا. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (الأعراف / ١٧٦).

٤ ـ وكما قلنا سابقا إنّ الولاية التكوينية في بعض مراحلها قد نالها الجن وبعض العباد ممن ليسوا بأنبياء ولا في مقام التحدّي الموجه إليهم ، فهل كان عفريت الجن نبيّا حتى سدّده الله تعالى بالقدرات الخارقة لقوانين الطبيعة عند ما قال لسليمان (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)) (النمل / ٤٠).

أليس من البخل أن يهب الله سبحانه ـ وحاشاه أن يكون هكذا ـ عفريتا من الجن قدرات هائلة ويعطيه القوة عليها في كل حال (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ولا يسرّيها إلى من هو أشرف منه وأفضل أعني النبي والإمام الداعيين إلى دينه الإنس والجن؟!

فلم يكن بلعم بن باعورا ولا الخضر على رأي من قال أنه لم يكن نبيا ـ الذي آتاه سبحانه من لدنه رحمة وعلما ـ وكذا ذو القرنين ومريم عليها‌السلام من الأنبياء ولا الأوصياء ومع هذا فقد أعطاهم الله سبحانه الولاية التي هي أثر من آثار الإطاعة والإخلاص.

٥ ـ إن ما ذكره القرآن الكريم في قصة إبراهيم الخليل عليه‌السلام لدليل على عكس ما يقول السيد فضل الله ، وذلك أن إبراهيم عليه‌السلام حينما طلب من الله تعالى إحياء الموتى ، لم يطلبها لقومه الذين تحدّوا دعوته ، (حيث لا يوجد لدينا ولو رواية واحدة تدلّ على ذلك) وإنما غاية طلبه ذلك ليزداد يقينا بالقدرة الإلهية.

٦ ـ إن الآيات الكريمة (١) التي تحدثت عن المقامات الروحية التي تحلّى بها

__________________

(١) آل عمران / ٤٩ والمائدة / ١١٠.

١٤٤

عيسى عليه‌السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص الخ ... لإشارة إلى ولايته الفعلية وإلّا لو لم تكن كذلك لما كان بإمكان عيسى عليه‌السلام أن يتحدث مع قومه بهذه الطريقة التي قد تتكرر في كل آن ، وفي كل مكان كان يحلّ فيه عيسى عليه‌السلام ، وليس عيسى عليه‌السلام بأفضل من الرسول (١).

وكذا آصف بن برخيا فلو لم تكن لديه المقدرة الفعلية على الفعل الذي أخبر عن إمكانية النوء به حتى من دون شفعه بالإذن الإلهي الذي استبطنه لما تعهّد بهذا العمل الذي لا يمكن تعقّله في الحساب المادي (٢).

مضافا إلى الضمائر في الأفعال التالية الواردة في الآيات :

(أُبْرِئُ) ـ (وَأَحْيَيْتَنَا) و (أَنَا آتِيكَ بِهِ) تشير إلى أن الفعل نسب إلى المباشر نفسه ، كما أنّ المراد من الإذن في الآية الإذن التكويني بمعنى القدرة لا الإذن التشريعي.

٧ ـ إنّ ظهور الإطلاق في الآيات والنصوص الدالّ على ثبوت الولاية يبقى منعقدا في الظهور ، ما لم يرد مقيّد قطعي له وهو مفقود في البين ؛ فتقييد الولاية في جانب دون آخر يعدّ تقييدا من دون دليل قطعي ، بل إنّ القرائن العقلية والنقلية تثبت كون الولاية فعلية ومطلقة.

٨ ـ إنّ أغلب ما ورد من المعاجز على أيدي الأئمة عليهم‌السلام ليست في مقام تثبيت إمامتهم أو ردّ التحدّيات الموجّهة إليهم ، لأنّ أغلبها قد حصل أمام أصحابهم المعتقدين بهم وبإمامتهم ، فكيف يدّعى إذن أنّ الله يعطي الأنبياء المعاجز لحاجة النبوة إلى ذلك أمام التحدّيات ، فلم يكن الأئمة عليهم‌السلام أنبياء ولم يعطوا المعاجز لتحدّي المنكرين لولايتهم وإمامتهم. هذا مضافا إلى دعوى أنه سبحانه لم يعط الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام أزيد من مقدار الحاجة في دورهم الموكول إليهم ، تحتاج إلى دليل وهو مفقود في البين.

أما جواب الشبهة الثانية :

١ ـ إنّ عدم استعمال المعصوم عليه‌السلام للولاية التكوينية ليدفع عن نفسه

__________________

(١) الولاية التكوينية : ص ١٤٢.

(٢) نفس المصدر : ص ١٤٤.

١٤٥

الضرّ ليس دليلا محضا على عدم وجودها فيه ، فلا ملازمة بين وجود الولاية واستخدامها في جلب الخير لنفسه ودفع الضرّ عنه ، وإلّا لو كان هناك ملازمة عقلية في ذلك لكان على الله تعالى أن يستخدم ولايته التكوينية على من اعتدى على ساحة قدسه وكبرياء جلاله.

٢ ـ إنّ دفع الضرّ عن النفس وجلب الخير إليها هما مفهومان اعتباريان قد يختلف أحدهما عن الآخر من شخص لآخر حسب الاعتبار والأهمية التي يوليها هذا الشخص أو ذاك لمصداق الضر والخير ، (فلربما كان البعض ممن يحسب أنّ كسب المال هو قمة الخير لا يوليه الآخر نفس هذه القيمة ، لأن المال لديه ليس بنفس القيمة الموجودة في نفس الأول ، بل قد نجد أنّ البعض قد يعدّ المال مصداقا من مصاديق الضر ، ولربما كان البعض ممن يحسب أنّ التعرّض إلى البلاء الفلاني هو قمة الضرّ ، فيما يعدّه البعض الآخر ليس بهذه الصورة من الضرّ أو قد يحسبه البعض من صور الخير كما في تعرّض الجبان إلى الموت ، وإقدام المجاهد عليه.

ومن هذا المنطلق نقول إن تشخيص ما نتصوره ضرّا قد يكون لدى غيرنا هو الخير بعينه ، ولهذا إن تصورنا في أنّ المعصوم لم يبحث عن الخير مسألة متوقفة وغير تامة ، لأننا لم ندرك كنة الخير الذي في إدراك المعصوم ، خصوصا وأنه لا يدخل في حساباته البعد الذاتي في شخصيته ، وإنما ينظر دائما وأبدا إلى مصالح العهد الرّباني الذي بين يديه ، وهو لم ينله إلّا بعد أن آلى على نفسه أن يتحمل الضرّ في سبيل مصلحة العقيدة والرسالة الربّانية ، وهذا ما توضحه الآية الكريمة (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة / ٢٥).

ومعلوم أن مصالح الشريعة لا تدرك بالضرورة من غير المعصوم ولهذا فإن كان المعصوم يعتبر خدمة الشريعة تفوق في الاعتبار أي ضرر شخصي يتوجه إليه ، فإنه سوف يتحمل هذا الضرر بكل رضا ، وما أروع النبي يوسف عليه‌السلام حينما يعبّر عن هذا المفهوم بقوله : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (يوسف / ٣٤) فهو يتحمل ضراء السجن وما يترتب عليه من أجل خدمة العقيدة والرسالة الموكلة إليه ، ولا يتحمل ذلك فحسب ، وإنما يذهب إلى حدّ حب هذا الضّر وطلبه.

١٤٦

ومن هذا القبيل ما ورد في قصة إبراهيم وذبح ابنه اسماعيل وتوطين نفسيهما على الصبر والبلاء ، وهذا يختلف عمّا عليه بعض الأولياء الذين لم يوطنوا أنفسهم على شدّة الضّر والبلاء المتوجّه إليهم كما في قصة يونس عليه‌السلام ، كما أنّ هناك أنبياء كسليمان قد نالوا شرف استخدام الولاية التكوينية لاعتبارات إلهية ، لذا ينبغي أن نعي حقيقة أن التفاضل المطروح بين الأولياء إنما هو في الصبر على البلايا ، ولهذا نجد منهم من آثر أمر تحمل العناء على أمر التصرف بشئون الولاية التكوينية مع قدرته عليه ، كما نجد ذلك في قصة نوحعليه‌السلام لذلك أثنى عليه ووصف بالمحسنين (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات / ٨٠ ـ ٨١) ووصف المحسنين إنما يمنح لمن يقوم بأداء الحق فلا يكتفي بالذي عليه بل يعمد إلى تنجيز ما هو أكثر منه ، وهذا ما يفيدنا أن النبي والأئمة عليهم‌السلام حينما قبلوا بمبدإ استقبال البلاء والضراء فبسبب رغبتهم في التفاضل والتمايز)(١).

وأما جواب الشبهة الثالثة :

توضيح الشبهة : إن المستشكل ربط بين الولاية التكوينية وبين تفويض أمر الكون إليهم بعد خلقه.

يجاب عنه :

١ ـ لا مانع عقلا أو نقلا أن يشارك الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام الله تعالى في تدبير الخليقة ما دام الله تعالى أذن لهم في ذلك وما دامت إرادتهم وقدرتهم مستمدة من إرادة وقدرة الباري عزوجل ، بمعنى أن قدرتهم طولية وتبع لإذنه تعالى لا عرضية حتى يترتب على القائل بها عنوان الكفر والشرك. بل إنّ القول بوجود قدرة عرضية في مقابل القدرة الإلهية يعدّ خرقا لقانون القدرة الإلهية وهو من المستحيلات العقلية حيث لا توجد قدرة في مقابل قدرة الله المطلقة.

٢ ـ إن القرآن الكريم قد صرّح ضمن آياته المباركة أن بعض الأنبياء كعيسى وإبراهيم قد شاركا الله تعالى في مسألة الخلق ، لكن مشاركتهما له تعالى طولية وبأمره ، فالشرك المذموم هو الذي لم يأمر به الله سبحانه ، وإلّا لو حكمنا بقبح كل شرك لوجب علينا أن نحكم بقبح مشاركة الرسول والمؤمنين ـ الذين هم أولو الأمر عليهم‌السلام ـ لله تعالى في الولاية التشريعية التي ذكرها القرآن الكريم بقوله تعالى :

__________________

(١) الولاية التكوينية : ص ١٥١ ـ ١٥٢ بتصرّف في بعض ألفاظه.

١٤٧

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا). و (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

مضافا إلى أن الله تعالى أوكل أمر هذا النظام إلى ملائكته المدبرين بإذنه تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (٢) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٣) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٤) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٥) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١) (النازعات / ٢ ـ ٦) وإلى ملك الموت وباعث الحياة ، فكل هؤلاء قد أعطوا الولاية من قبل الله تعالى على خلقه مع سبق إرادته تعالى على إرادتهم.

إنّ شبهة المفوّضة القائمة على عزل قدرة الله عن قدرة العبد كما صوّره جماعة من الغلاة لا أحد من الشيعة الإمامية يقول بها لأنها تستلزم وجود ولاية عرضية في قبال ولاية الله ، لأنّ معنى هذا أنه سبحانه خلق الخلق ثم فوّض شئونهم إلى الأنبياء والأوصياء مما يستلزم تعطيل القدرة الإلهية ، والولاية التكوينية ليست من هذا القبيل حتى يقال بأن الولي مشارك لله في أمر التكوين من دون إذن الله تعالى وأمره.

فالتفويض في شأن الولاية التكوينية لا يستلزم الاستقلالية عن الإرادة الإلهية ، فما ذكره المنكر لها عليه أن يراجع حساباته العلمية ولا يفتري على أئمتنا عليهم‌السلام شططا فإنهم معشر لا يقاس بهم أحد على الإطلاق.

__________________

(١) فالنازعات هم الملائكة ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بشدة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المدى. والناشطات هم الملائكة الذين يخرجون الأرواح من الأجساد ، وهؤلاء مخصوصون بالمؤمنين يخرجون أرواحهم برفق وسهولة ، بخلاف النازعات حيث هم مخصوصون بالكفار يخرجون أرواحهم بشدة ؛ وأما السابحات فهم ملائكة موكلون بإيصال روح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار ، والسبح هو الإسراع في الحركة. والسابقات هم الملائكة الموكلون بالوحي إلى الأنبياء يسبقون الشياطين ، وقيل : إنها أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى رحمة الله. والمدبرات هم الملائكة المدبرون للأمور ، وقيل : إن المراد بها الملائكة الأربعة المدبّرون لأمور الدنيا : جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، فجبرائيل يدبر أمر الرياح والجنود والوحي ، وميكائيل يدبّر أمر القطر والنبات ، وعزرائيل موكل بقبض الأرواح ، وإسرافيل يتنزّل بالأمر عليهم وهو صاحب الصور.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن المدبرات هي ملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة.

١٤٨

إشكال :

إنّ إعطاء الولاية التكوينية لعيسى عليه‌السلام قد قيّدته الآية بإذن الله ، فلا دلالة حينئذ على الولاية المدّعاة والتي مفادها صلاحية تصرّف صاحبها بالكون باختياره من دون إذن الله تعالى.

والحل :

أولا : لم يدّع أحد من الإمامية أنّ صاحب الولاية التكوينية يمكن أن يفعل شيئا بغير إذنه تعالى بل ذلك ضرب من المستحيلات الذاتية.

ثانيا : إنّ تقييد عيسى عليه‌السلام للإحياء وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيّبات بالمشيئة الإلهية ، ليصرف الذهن عن شبهة الغلوّ ، وأنه لا يصدر شيء منه بقدراته الذاتية وإنما باستعانة من القدير المطلق علّام الغيوب الذي لا يعزب عنه شيء في السماوات والأرض ، وله نظير في كتاب الله كما في قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (يونس / ١٠١) ، حيث دلّت الآية على أن الفعل ـ وهو الإيمان ـ مع كونه اختياريا ، فهو صادر عن العبد بإذن الله تعالى ، فكذلك الأفعال التي يقوم بها صاحب الولاية التكوينية ، فهي مع كونها صادرة عنه بكامل اختياره عليه‌السلام ، كلّها حادثة بإذن الله ، لأنّ الأمر لله لو شاء أن يؤمن أهل الأرض جميعا لآمنوا ، لكنه لم يشأ فلا مطمع في إيمان الجميع ، لأن الإيمان بالله عن اختيار ، والاهتداء إليه أمر من الأمور يحتاج في تحققه إلى سبب يخصّه ، ولا يؤثر هذا السبب ولا يتصرف في الكون بإيجاد مسببه إلا عن إذن من الله في ذلك.

أما النقطة الثانية : الأدلة على عصمة الأئمة والرجوع إليهم :

إنّ الأئمة عليهم‌السلام هم أولو الأمر الذين تكون إطاعتهم مطلقا مفروضة لأن وجوب الطاعة مطلقا يستلزم العصمة التي هي شرط الإمامة ولا معصوم غيرهم بالإجماع فتنحصر الإمامة بهم لا سيما مع وجوب طاعتهم على الأمة وذلك واضح بعد ما مرّ من كونهم قائمين مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع شئونه ومنها الولاية والحكومة على المسلمين ويشهد له مضافا إلى الروايات المتواترة قوله تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء / ٦٠) ولا تشمل الآية المباركة غيرهم من الولاة والخلفاء لاختصاص الإطاعة المطلقة بالله تعالى والمعصومين من الرسول والأئمة المكرّمين ، وإلّا لزم الأمر بالطاعة

١٤٩

على الفاسقين وهو قبيح فالآية حيث تدلّ على الطاعة المطلقة لله وللرسول وأولي الأمر بسياق واحد ، تدل على أنّ المراد من الموضوع (وهو أولو الأمر) هم أفراد معيّنون معصومون كما فسّرت الآية بهم في الروايات الكثيرة.

منها : ما ورد من أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هم خلفائي يا جابر ، وأئمة المسلمين من بعدي ، أوّلهم عليّ بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ، ستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم عليّ بن موسى ، ثم محمّد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ثم سميّي وكنيّي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن عليّ ، ذاك الذي يفتح الله ـ تعالى ذكره ـ على يديه مشارق الأرض ومغاربها ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ، قال جابر : فقلت له : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّاها سحاب يا جابر هذا من مكنون سرّ الله ومخزون علمه فاكتمه إلّا عن أهله (١).

ومنها : ما ورد في أمالي الشيخ (٢) (قدس‌سره) في أنّ أبا محمد الحسن بن عليّ عليه‌السلام خطب الناس بعد البيعة له بالأمر فقال : نحن حزب الله الغالبون وعترة رسوله الأقربون وأهل بيته الطيبون الطّاهرون ، وأحد الثقلين الذين خلّفهما رسول الله في أمّته ـ إلى أن قال ـ : فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله عزوجل مقرونة ، قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

ومنها : ما رواه في الكافي عن الحسين بن أبي العلاء قال : ذكرت إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام قولنا في الأوصياء وأنّ طاعتهم مفترضة ، قال : فقال عليه‌السلام : نعم ، هم الذين قال الله عزوجل : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم

__________________

(١) نور الثقلين : ج ١ / ٩٩ ع ح ٣٣١ نقلا عن إكمال الدين للصدوق.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي : ج ١ / ١٢١ ح ١.

١٥٠

الذين قال الله عزوجل : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

ومنها : ما رواه في الكافي أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إيّانا عنى خاصة ، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا».

وإلى غير ذلك من الروايات المرويّة في الأبواب المختلفة التي تدلّ على أنّ المراد من أولي الأمر هم الأئمة المعصومون عليهم‌السلام ، وعلى أنّ طاعتهم مفروضة ، وهو كما عرفت مطابق للاعتبار إذ السياق يفيد الإطاعة المطلقة ، وهي لا معنى لها إلّا في المعصومين ولعلّه لذلك قال في دلائل الصدق بعد نقل الآية المباركة : لا يمكن أن يشمل سائر الخلفاء سواء أراد بهم خصوص الأربعة أم الأعمّ منهم ومن معاوية ويزيد والوليد وأشباههم ، لدلالة الآية على عصمة أولي الأمر وهؤلاء ليسوا كذلك فيتعيّن أن يراد بأولي الأمر : عليّ وأبناؤه الأطهار ، لانتفاء العصمة عن غيرهم بالضرورة والإجماع.

ومن الأدلة الدالّة على عصمتهم قوله تعالى :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب / ٣٤).

وقد تواترت النصوص من الفريقين أن الآية المباركة نزلت بأهل الكساء الخمسة : محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فقد أخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسند معنعن عن أم سلمة قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة أو عصيدة (١) تحملها على طبق فوضعتها بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها : «ادعي زوجك وابنيك» قالت : فجاء علي والحسن والحسين رضي الله عنهم فدخلوا عليه ، فجلسوا يأكلون من تلك العصيدة ، وكان تحته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كسائر خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي فأنزل الله عزوجل الآية ، قالت أم سلمة : فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل الكساء فغطّاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال : «اللهمّ هؤلاء هم أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» قالت : فأدخلت رأسي فقلت وأنا معكم يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) البرمة : القدر ، لسان العرب : ج ١٢ ص ٤٤.

والعصيدة : دقيق يلتّ بالسمن ويطبخ ـ لسان العرب : ج ٣ ص ٢٩١.

١٥١

«إنك إلى خير ، إنك إلى خير» مرتين.

وعن أحمد بن حنبل بإسناده إلى أنس بن مالك قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (١).

ولا يراد من إذهاب الرجس وإثبات التطهير سوى العصمة فإذا ثبتت عصمتهم عليهم‌السلام ثبتت إمامتهم وقيادتهم للمجتمع إذ الإمامة لا تنفك عن العصمة ، فمن كان معصوما فهو جدير بأن يكون خليفة يأخذ بيد البشرية إلى غايتها المنشودة ، فقياس غير المعصوم على المعصوم قياس مع الفارق وهو أن المعصوم يستحيل أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بعكس غيره فإنّ بعض تصرفاته تكون مشوبة بالخطإ أو السهو والنسيان ، فتقديم غير المعصوم عليه في إدارة المجتمع بعد وفاة النبي يعدّ تنكيسا لحكم العقل القاضي بقبح تقديم الجاهل على العالم ، وهذا ما نهت عنه شريعة السماء بقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر / ١٠).

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (٢٠) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (فاطر / ٢٠ ـ ٢١).

والأخبار على عصمتهم وطهارتهم كثيرة متواترة منها :

ما ورد عن مولانا الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال :

«الإمام المطهّر من الذنوب ، المبرأ من العيوب» (٢).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سرّه أن ينظر إلى القضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله عزوجل بيده ـ أي بقدرته ـ ويكون متمسكا به ، فليتولّ عليّا والأئمة من ولده فإنهم خيرة الله عزوجل وصفوته وهم المعصومون من كل ذنب وخطيئة (٣).

وأخبرت مولاتنا سيدة النساء فاطمة الزهراء روحي فداها عن رسول الله أنه قال : أخبرني جبرائيل عن كاتبي علي عليه‌السلام أنهما لم يكتبا على عليّ عليه‌السلام

__________________

(١) لاحظ تفسير ابن كثير : ج ٣ ص ٤١٣ ط. دار القلم وتعليقتنا على المراجعات : ص ١٠٩ ـ ١٢١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ١٢٤.

(٣) نفس المصدر : ج ٢٥ ص ١٩٣.

١٥٢

ذنبا مذ صحباه (١).

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

إنما الطاعة لله عزوجل ولرسوله ولولاة الأمر ، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصيته (٢).

إلى غير ذلك من الروايات الصحيحة والموثّقة.

ولو أردنا أن نستقصي الروايات الدالّة على فضلهم ومنزلتهم وعلوّ مقامهم لاستلزم ذلك كتابة مجلدات ، فمن أراد المزيد فليلاحظ كتاب بصائر الدرجات للصفار والكافي للكليني والبحار للمجلسي «قدّست أسرارهم».

تبقى مسألة تعرّض لها المصنّف المظفر (قدس‌سره) مفادها : أنه ليس من المهم في هذه العصور إثبات إمامة الأئمة عليهم‌السلام معلّلا ذلك أن هذا أمر مضى في ذمّة التاريخ وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن.

هذا الكلام فيه نظر ، لأنّ أمر ولاية الأئمة عليهم‌السلام ليس مما انقضى زمانه بعد لزوم اعتقادنا بولاية حبيب قلوبنا وشفيع ذنوبنا مولانا المفدّى الإمام المهدي روحي لتراب مقدمه الفداء ، فمن لم يعتقد بإمامة الإمام علي عليه‌السلام كيف يعتقد بإمامة المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، وكيف يتمكن من أن يأتي بما يجب عليه من معرفته بإمامته كما نصّت عليه الروايات الكثيرة الدالّة على أن «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٢٥ ص ١٩٣.

(٢) نفس المصدر : ص ٢٠٠.

١٥٣

الباب الثّالث والعشرون

عقيدتنا في حب آل البيت (عليهم‌السلام)

قال المصنّف قدس‌سره :

قال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى / ٢٣).

نعتقد أنه زيادة على وجوب التمسّك بآل البيت ، يجب على كلّ مسلم أن يدين بحبّهم ومودّتهم ، لأنه تعالى في هذه الآية المذكورة حصر المسئول عليه الناس في المودة في القربى.

وقد تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ حبهم علامة الإيمان ، وأنّ بغضهم علامة النّفاق ، وأنّ من أحبّهم أحبّ الله ورسوله ، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله.

بل حبّهم فرض من ضروريات الدّين الإسلامي التي لا تقبل الجدل والشكّ. وقد اتفق عليه جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وآرائهم ، عدا فئة قليلة اعتبروا من أعداء آل محمد ، فنبزوا باسم (النواصب) أي من نصبوا العداوة لآل بيت محمد.

وبهذا يعدّون من المنكرين لضرورة إسلامية ثابتة بالقطع. والمنكر للضرورة الإسلامية كوجوب الصلاة والزكاة يعد في حكم المنكر لأصل الرسالة ، بل هو على التحقيق منكر للرسالة ، وإن أقرّ في ظاهر الحال بالشهادتين ولأجل هذا كان بغض آل محمّد من علامات النّفاق وحبّهم من علامات الإيمان ، ولأجله أيضا كان بغضهم بغضا لله ولرسوله.

ولا شكّ أنه تعالى لم يفرض حبهم ومودّتهم إلّا لأنهم أهل للحبّ

١٥٤

والوفاء ، من ناحية قربهم إليه سبحانه ، ومنزلتهم عنده ، وطهارتهم من الشرك والمعاصي ومن كل ما يبعد عن دار كرامته وساحة رضاه ، ولا يمكن أن نتصور أنه تعالى يفرض حبّ من يرتكب المعاصي أو لا يطيعه حقّ طاعته ، فإنّه ليس له قرابة مع أحد أو صداقة ، وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلّا عبيدا مخلوقين على حدّ سواء ، وإنّما أكرمهم عند الله أتقاهم. فمن أوجب حبّه على الناس كلهم لا بدّ أن يكون أتقاهم وأفضلهم جميعا ، وإلّا كان غيره أولى بذلك الحبّ ، أو كان الله يفضّل بعضا على بعض في وجوب الحبّ والولاية عبثا أو لهوا بلا جهة استحقاق وكرامة.

* * *

والبحث في هذا الباب ضمن نقاط :

النقطة الأولى :

تعتقد الشيعة الإمامية أنّ محبة آل البيت عليهم‌السلام واجبة بنص الكتاب وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مضافا إلى وجوب البراءة من أعدائهم ووجوب بغضهم ، ومن غرر الآيات الدّالة على وجوب محبة أهل البيت عليهم‌السلام قوله تعالى :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى / ٢٤).

وقد ذكر الفريقان النصوص المتواترة في أنّ الآية نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام فقد روى الشيخ الطبرسي (قدس‌سره) بإسناده عن عبد الله بن عباس قال : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام ، قالت الأنصار فيما بينها : نأتي رسول الله فنقول له : إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك ، فأتوه في ذلك فنزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقرأها عليهم وقال : «تودّون قرابتي من بعدي» فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله (١)

وروى القمي (قدّس سره) قال : حدّثني أبي ، عن ابن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول في قول الله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) «يعني في أهل بيته».

قال : جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنّا قد آوينا ونصرنا فخذ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٩.

١٥٥

طائفة من أموالنا فاستعن بها على ما نابك ، فأنزل الله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) يعني على النبوة (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يعني في أهل بيته.

ثم قال : ألا ترى أنّ الرجل يكون له صديق وفي نفس ذلك الرجل شيء عن أهل بيته ، فلا يسلم صدره فأراد الله أن لا يكون في نفس رسول الله شيء على أهل بيته ففرض عليهم المودّة في القربى ، فإن أخذوا أخذوا مفروضا ، وإن تركوا تركوا مفروضا.

قال : فانصرفوا من عنده وبعضهم يقول : عرضنا عليه أموالنا فقال : قاتلوا على أهل بيتي من بعدي.

وقالت طائفة : ما قال هذا رسول الله وجحدوه ، وقالوا كما حكى الله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

فقال الله : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ).

قال : لو افتريت (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) يعني يبطله (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) يعني بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالأئمة والقائم من آل محمّد (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ثم قال : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) ـ إلى قوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يعني الذين قالوا : القول ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال : (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) وقال أيضا : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

قال : أجر النبوّة أن لا تؤذوهم ولا تقطعوهم ، ولا تغصبوهم وتصلوهم ولا تنقضوا العهد فيهم ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

قال : جاءت الأنصار إلى رسول الله فقالوا : إنّا قد نصرنا وفعلنا فخذ من أموالنا ما شئت ، فأنزل الله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يعني في أهل بيته ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك : من حبس أجيرا أجره فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا وهو محبّة آل محمّد (١) ، الحديث.

وروى الزمخشري في تفسيره :

«أتت الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمال جمعوه ، وقالوا : يا رسول الله ، قد هدانا

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم القمي : ج ٢ ص ٢٧٥.

١٥٦

الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة ، فاستعن بهذا على ما ينوبك فنزلت الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ ...) وردّه (١).

ثم قال في موضع آخر :

إنّ الأنصار قالوا : فعلنا وفعلنا ، كأنهم افتخروا فقال عبّاس أو ابن عباس لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟ قالوا بلى يا رسول الله ، قال : ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟ قالوا : بلى يا رسول الله فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله ، فنزلت الآية (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات على حب آل محمّد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائبا إلا ومن مات على حبّ آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة» (٢). انتهى.

وقال البيضاوي :

روي أنها لما نزلت ـ أي الآية ـ قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودّتهم علينا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي وفاطمة وابناهما (٣).

ومثله رواه الزمخشري فلاحظ.

وقال فخر الدين الرازي :

__________________

(١) تفسير الكشّاف : ج ٤ ص ٢١٥ ط. دار الكتب العلمية.

(٢) تفسير الكشّاف للزمخشري : ج ٤ ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) تفسير البيضاوي : ج ٢ ص ٣٦٢ دار الكتب العلمية ، وتفسير الكشاف : ج ٤ ص ٢١٣.

١٥٧

روى صاحب الكشّاف أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما. قال الفخر : فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدلّ عليه وجوه:

الأول : قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحب فاطمة عليها‌السلام قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاطمة عليها‌السلام بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» وثبت بالنقل المتواتر عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يحب عليّا والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ولقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ولقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ولقوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

الثالث : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله : «اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد وارحم محمّدا وآل محمدا» وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب ، وقال الشافعي :

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمّد

فليشهد الثقلان أني رافضي(١)

النقطة الثانية : في معنى المودة في القربى :

وقع الاختلاف بين مفسري الشيعة وأكثر مفسري العامة في معنى المودّة في القربى على أقوال :

الأول :

ما يعتقده الشيعة الإمامية أنّ مودّة أهل البيت هي المودّة في الدين ، وهي

__________________

(١) تفسير الرازي : ج ٢٧ ص ١٦٦ وروى مثل هذا ابن كثير في تفسيره : ج ٤ ص ١٠١ ط.

دار القلم.

ومن أراد المزيد فليلاحظ إحقاق الحق : ج ٣ ص ٦ ـ ١٨.

١٥٨

أجر الرسالة المقصودة في القرآن الكريم ، والمودّة هي المحبة ، لكنّها ليست مجرّد محبة عادية كالتي بين الأصدقاء ، بل هي تتناسب مع أجر الرّسالة السمحاء ، إذ تتطلب الإيمان بإمامة المعصومين عليهم‌السلام والاعتقاد بهم ، فمحبتهم وسيلة لتقوية الرسالة ، وفي الحقيقة لم تكن المودّة هنا غير الدعوة الدينية من حيث بقائها ودوامها.

فمفاد الآية الشريفة لا يغاير مؤدى سائر الآيات النافية لسؤال الأجر ، وبذلك يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه من أنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة ، فإنّ أكثر طلّاب الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم ، وهذا الإيراد واضح البطلان بما ذكرنا.

وقد وردت بهذا المعنى روايات من طرق أهل السنّة وتكاثرت الأخبار من طرق الشيعة في تفسير الآية بمودّتهم وموالاتهم.

الثاني :

المقصود من المودّة هي التودّد إليه تعالى بالطاعة والتقرّب فالمعنى : لا أسألكم عليه أجرا إلّا أن تتوددوا إليه تعالى بالتقرّب إليهم.

وفيه : أنّ المخاطبين هم الأنصار والمهاجرون ، وكلهم يوادّون الله تعالى ، فلا يحتاج إلى التأكيد في حدّ أجر الرسالة ، مضافا إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطلب من الناس طاعة الخالق العزيز لا محبته المجرّدة لأنّ المشرك يحاول التقرّب إلى الله تعالى أيضا بحسب اعتقاده وان لم يقبل منه.

الثالث :

المقصود من «المودّة في القربى» عيال المسلمين وأقاربهم عامّة ، بمعنى أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب التقرّب إليهم ووصل رحمهم وهذا هو أجر الرسالة وفيه :

أنه لا يوجد أي ترابط بين الرسالة وأجرها ، لأنه ما هو الأثر الذي تتركه مودّة الأقارب على الرسالة الإسلامية؟

مضافا إلى أنّ أجر الرسالة من المسائل الخطيرة التي يجب أن تعود بالفائدة على الرسالة.

الرابع :

المقصود أنّ أجرى هذا أن تحفظوا قرابتي ، ولا تؤذوني لأني ارتبط برباط

١٥٩

القرابة مع أكثر قبائلكم لأنّ الرسول كان يرتبط بقبائل قريش نسبيا ، وبالقبائل الأخرى سببيا عن طريق الزواج وعن طريق أمه ببعض أهالي المدينة من قبيلة بني النجّار وعن طريق مرضعته بقبيلة بني سعد. وفيه :

إنّ المخاطب في هذه الآية هم المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين ممن آمن بالله ورسوله إلى يوم القيامة.

علاوة على هذا فإنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بالمدينة ولم يكن يتعرّض للأذى فيها لكي يحتاج إلى مثل هذه الوصية.

هذا وقد أشكل روزبهان الأشعري على مفاد الآية بكون الاستثناء فيها منقطعا فيصير المعنى : لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا لكن المودّة في القربى حاصلة بيني وبينكم ، فلهذا أسعى وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم. ثم قال : قال بعضهم : الاستثناء متصل ، والمعنى لا أسألكم عليه أجرا من الأجور إلّا مودّتكم في قرابتي ، وظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو خصصناه بمن ذكر لا يدلّ على خلافة علي عليه‌السلام بل يدل على وجوب مودّته ، ونحن نقول : إنّ مودّته واجبة على كل المسلمين ، والمودّة تكون مع الطاعة ، ولا كل مطاع يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى (١).

لكنه مردود وذلك :

١ ـ أن المنقطع عبارة عن إخراج ما لو لا إخراجه لتوهم دخوله في حكم المستثنى منه نظير الاستدراك ، ومن الواضح أن المستثنى الذي ذكره ابن روزبهان أجنبي عمّا قبله بكل وجه فلا يتوهّم دخوله في حكمه حتى يستثنى منه (٢).

٢ ـ لقد تقرّر عند المحققين من أهل العربية والأصول أنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل ، وأنه لا يحمل على المنقطع إلّا لتعذر المتصل ، بل ربّما عدلوا عن ظاهر اللفظ الذي هو المتبادر إلى الذهن مخالفين له لغرض الحمل على المتصل الذي هو الظاهر من الاستثناء كما صرّح به الشارح العضدي حيث قال :

واعلم أنّ الحقّ أنّ المتصل أظهر ، فلا يكون مشتركا بل حقيقة فيه ومجاز في

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ٣ ص ١٩ ـ ٢٠.

(٢) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٧٨.

١٦٠