الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الفصل الثالث

الإمامة

٥
٦

الباب التّاسع عشر

عقيدتنا في الإمامة

قال المصنّف «قدّس سره» :

نعتقد أنّ الإمامة أصل من أصول الدين لا يتمّ الإيمان إلّا بالاعتقاد بها ، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربّين مهما عظموا وكبروا ، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة.

وعلى الأقل إن الاعتقاد بفراغ ذمّة المكلّف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها إيجابا أو سلبا ، فإذا لم تكن أصلا من الأصول لا يجوز فيها التقليد لكونها أصلا ، فإنه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة أي من جهة أن فراغ ذمة المكلف من التكاليف المفروضة عليه قطعا من الله تعالى واجب عقلا! وليست كلها معلومة من طريقة قطعية فلا بدّ من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمّة باتباعه ، أما الإمام على طريقة الإمامية أو غيره على طريقة غيرهم.

كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله تعالى ، فلا بدّ أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين ، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم.

وعلى هذا ، فالإمامة استمرار للنبوة ، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضا نصب الإمام بعد الرسول.

٧

فلذلك نقول : إن الإمامة لا تكون إلّا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس ، فليس لهم إذا شاءوا أن ينصبوا أحدا نصبوه ، وإذا شاءوا أن يعيّنوا إماما لهم عيّنوه ، ومتى شاءوا أن يتركوا تعيينه تركوه ، ليصح لهم البقاء بلا إمام ، بل «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» على ما ثبت ذلك عن الرسول الأعظم بالحديث المستفيض.

وعليه لا يجوز أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى ، سواء أبي البشر أم لم يأبوا ، وسواء ناصروه أم لم ينصروه أطاعوه أم لم يطيعوه ، وسواء كان حاضرا أم غائبا عن أعين الناس ، إذ كما يصح أن يغيب النبي كغيبته في الغار والشعب صح أن يغيب الإمام ، ولا فرق في حكم العقل بين طول الغيبة وقصرها.

قال الله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (الرعد / ٧) ، وقال : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (فاطر / ٢٤).

* * *

تعرّض المصنف (قدّس سره) في هذا الباب إلى عدّة نقاط ، نبحث فيها تباعا هي :

١ ـ ماهية الإمامة.

٢ ـ الإمامة من أصول الدين.

٣ ـ النص عليها من الله تعالى.

٤ ـ عدم خلوّ الزمان من إمام.

النقطة الأولى :

والبحث فيها من جهتين :

الأولى : لغويّة.

الثانية : اصطلاحية.

أما الجهة الأولى : الإمامة مصدر ، وهي الولاية العامة التي منها الإمارة والسلطنة. و «إمام» اسم

٨

مصدر ، وهو من يؤتمّ به أو يقتدى به ، على وزن إزار لما يؤتزر به ؛ وإمام كل شيء : قيّمه والمصلح له.

قال ابن منظور :

«الإمام» كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين قال تعالى: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) والجمع أئمة قال تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين ضعفاؤهم تبع لهم. انتهى كلامه. (١)

وقال الراغب الأصفهاني :

«الإمام» هو المؤتم به إنسانا كأن يقتدى بقوله أو فعله ، أو كتابا أو غير ذلك ، محقّا كان أو مبطلا ، وجمعه : أئمة قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (٢) وللفظ «إمام» معان أخرى منها :

بمعنى : «الطريق الواضح» أو «المثال» قال النابغة الذبيانى :

أبوه قبله وأبو أبيه

بنوا مجد الحياة على إمام

وبمعنى : الخيط الذي يمدّ على البناء فيبنى (٣) عليه ويسوّى عليه ساق البناء أو ليبنى مستقيما قال الشاعر :

وخلّقته حتى إذا تم واستوى

كمخة ساق أو كمتن إمام

أي كالخيط الممدود على البناء في الإملاس والاستواء.

ويأتي بمعنى : خشبة البناء يسوى عليها البناء.

وإمام القبلة : تلقاؤها. والمحادي للإبل يقال له : إمام الإبل وإن كان وراءها لأنه الهادي لها.

كل هذه المعاني المتقدمة مصاديق للمفهوم العام لكلمة «إمام» ولا بدّ ـ عند إرادة أحد مصاديقها ـ من نصب قرينة للدلالة عليه ؛ لأنّ «الإمام» إن كان إماما في جهة ما فيقيّد بها ويقال له : إنه إمام الجماعة أو الجمعة أو العسكر وما شابه

__________________

(١) لسان العرب : ج ١٢ ص ٢٤.

(٢) المفردات : ص ٢٤.

(٣) المنجد ص ٤١ ولسان العرب : ج ١٢ ص ٢٥.

٩

ذلك ، وإلّا فيبقى الإطلاق منعقدا في الظهور والشمول ، وعلم به أنه إمام من جميع الجهات والحيثيات.

أوفق هذه التعاريف للمعنى الاصطلاحي ما ذكره صاحب المنجد من أنّ «الإمام» خيط يمدّ على البناء الخ .. وذلك لأنّ الإمام بمثابة خيط روحانى يمدّ على قوابل النفوس فيقوّم الأعمال الباطنية ، لأنّ الإمامة بحسب مشرب الإمامية ليست مختصة ومقتصرة على ظواهر الأعمال ، وإنما همها البواطن والقلوب ، وما ورد في قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وغيرهما ، فالظاهر أنّه مستعمل في معناه اللغوي.

وأما الجهة الثانية :

اختلف الفريقان شيعة وسنّة في تعريف الإمامة بحسب المفهوم الاصطلاحي فالسنّة قد فسروها بما يوافق معتقداتهم بالخلافة ، حيث ينظرون إليها أنها إمارة أو خلافة ظاهرية ، تقتصر على إدارة البلاد والعباد ظاهرا ، من هنا ورد عنهم تعريفان مشهور ان كلاهما يصبّان في خانة واحدة ، ويسيران نحو هدف واحد :

التعريف الأول :

لصاحب كتاب المواقف ، حيث قال : إنّ الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص ، نيابة عن النبي ؛ ووافقهم عليه من علمائنا المتقدمين العلّامة السّيوري في شرح الباب ، وكذا المحقق اللاهيجي بعده مستدلّا عليه : بأنّ الرئاسة في أمور الدين لا تتحقق إلّا بمعرفة الأمور الدينية (١).

لكن يرد على هذا التعريف :

١ ـ إنّ هذا التعريف ليس جامعا لمقامات الإمامة العظمى ، لأنه ليس إلّا تعريفا لبعض الشئون التشريعية للإمام أعني الزعامة الدينية والاجتماعية ، ولا يشمل سائر المقامات المعنوية للإمام عليه‌السلام التي منها ولايته التكوينية الثابتة له بضرورة العقل والنقل.

٢ ـ إنه غير مطّرد لانحصاره في الأمور الشرعية والاعتبارية المحضة ولأنّ معرفة هذه الأمور غير مختصة بالإمام عليه‌السلام بل تشمل كلّ من تفقّه بالدين ونال

__________________

(١) كوهر مراد : ص ٣٢٩ وبداية المعارف : ج ٢ ص ١٣.

١٠

مرتبة المجتهدين ، إن لم نقل بكفاية التقليد في جلّها.

٣ ـ إنه خال من اشتراط العصمة في الإمام عليه‌السلام إذ إن رئاسته في الأمور الدينية والدّنيوية غير مستلزم لمبدإ العصمة المعتبر عند الحافظ للشريعة وللقائم مقام النبي في تنفيذ الأحكام وبسط الحدود ودفع الشبهات وبيان الأحكام الواقعية.

٤ ـ على هذا التعريف ، لا تستعمل الرئاسة إلّا مع الفعلية ، فقبل استلام الرئاسة لا يكون الإمام إماما فعلا ، وهذا يوافق مذاق العامة الذين جعلوا الإمامة حاصلة من اختيار الأمة ، فقبل الاختيار لا يكون رئيسا بالفعل ، في حين أنه يشترط فى الإمام الرئيس أن يكون إماما سواء كان قبل التنصيب أم بعده ، لأنّ رئيس القوم هو متقدمهم لا من هو أهل للرئاسة ، وإن لم يكن رئيسا لهم بالفعل ، مع أن الرئاسة أعم من الحقة والباطلة.

وبعبارة أخرى : إنّ الرئاسة قد تكون مع الإمامة ، وقد لا تكون كما إذا لم يطع الإمام ، فليس من شرطها اتباع الناس ورئاسته عليهم في الدين والدنيا ، كما في عهد الثلاثة حيث كان أمير المؤمنين عليه‌السلام جليس داره وكذا بقية الأئمة عليهم‌السلام.

التعريف الثاني :

إنّ الإمامة خلافة عن الرسول في إقامة وحفظ الملة ، بحيث يجب اتباعه على الأمة كافة. والمراد بالخلافة هنا نيابة شخص ما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمور أمته من بعده.

نسب هذا التعريف إلى الفضل بن روزبهان الأشعري (١).

يرد عليه :

١ ـ ما أوردناه على التعريف الأول ، لأنّ هذين التعريفين ينظران إلى الإمامة على أنها خلافة ظاهرية مقتصرة على مقام الزعامة التشريعية والسياسية دون المقامات المعنوية الأخرى ، في حين أنّ هذه الخلافة الظاهرية لو تمت لأئمتنا عليهم‌السلام ولغيرهم بالشروط المعتبرة ـ وفرض المحال ليس محالا ـ لكانت أثرا من

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٤.

١١

آثار ولايتهم وإمامتهم ، لأنّ الإمامة عند الشيعة الإمامية هي سلطنة إلهية ، من آثارها ولايتهم التشريعية التي منها الإمارة والخلافة الظاهرية ، ففرق بين الخلافة والإمامة ، فالخلافة نوع حكومة اعتبارية ، هي إحدى مظاهر الإمامة وأثر من آثارها ، لأنّ مقام الإمامة يعدّ منصبا رفيعا فوق مقام النبوة التشريعية ، من هنا فرح إبراهيم الخليل عند ما حباه به الله تعالى بعد أن كان نبيا قال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

٢ ـ إنّ التعريف ينظر إلى الإمامة نظرة رئيس دولة حافظ للظاهر دون الباطن أي أنّ الخليفة يقيم ظواهر الدين ويحفظ الملة ، ومن المعلوم أن الذين اغتصبوا الخلافة من أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يعهد منهم أنهم حافظوا على ظواهر الشريعة ، ويشهد له ما ورد من الفظائع والمغالطات منهم ، فمن كان هكذا حاله وديدنه فكيف يمكن له أن يحفظ باطن الشريعة بحيث يوصل المكلفين إلى مدارج الكمال؟!

٣ ـ إن أريد من «الخلافة» بالتعريف المذكور من لم ينصّبه النبي فتكون حينئذ الخلافة مقتصرة على الظاهر ، فيرد عليها ما أوردناه في الرد الثاني.

وإن أريد منها من نصبه النبي واستخلفه على أمّته من بعده فلا يصدق حينئذ التعريف على بيعة الشيخين ، فضلا عن رئاسة النائب العام للإمام عليه‌السلام.

٤ ـ إنّ الإطلاق الوارد في التعريف يستلزم أن يستلزم الخلافة كل من رغب فيها ولو بالقهر والغلبة ، حتى ولو كان مستلمها فاسقا فتكون أشبه شيء بحكومة دكتاتورية في حين أنها إمرة إلهية تقيم الحق وتبسط العدل ، وتقتص للمظلوم من الظالم ، وتردّ الحقوق.

بهذا يتبين فساد هذين التعريفين ، لذا لا بدّ من بديل عنهما وهو التعريف الآتي.

التعريف الصحيح :

إنّ «الإمامة هي الولاية والسلطنة الإلهية على العباد».

أخذ به ثلة من محققي الإمامية ، لا سيّما العرفاء منهم ، وهو يختلف عن التعريفين المتقدّمين بسعة وشمول مفهوم الإمامة ، بحيث يشمل الولايتين التكوينية والتشريعية التي منها الإمارة والخلافة الظاهرية ، فكل هذا من آثار سلطنة وولاية الأئمة على العباد ، لأنّ ارتقاء الإمام إلى المقامات الإلهية المعنوية يوجب أنّ

١٢

يكون زعيما سياسيا لإدارة المجتمع الإنساني ، لأنّ الإمام هو الإنسان الإلهي الكامل العالم بجميع ما يحتاج إليه الناس في تعيين مصالحهم ومضارهم ، وما فيه إسعادهم وإنعاشهم ، فلهذا التعريف حيثيتان :

الأولى : من حيث إنه مبلّغ الأحكام من الله بلا واسطة أحد.

والثانية : من حيث كونه قيّما على العباد.

وبعبارة : إنّ الإمام هو صاحب القوة الملكوتية في العوالم اللاهوتية والناسوتية المعبّر عنها بعالم الأمر ليكون قدوة للبشر في جانب الظاهر والباطن وليقود الأمة إلى كمال التكوين والتشريع ، فهو بوصوله إلى مقام الكشف واليقين صار له الهيمنة على عالم الأمر ، وصار باطن الأفعال مكشوفا له ، وصار بإمكانه ـ أي بسيطرته على الباطن ـ أن يهدي القلوب إلى المقاصد والغايات.

قال العلّامة الطباطبائي (قدس‌سره) :

«وبالجملة فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرّد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدى إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقال تعالى في مؤمن آل فرعون : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) وقال تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

فالإمام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر ، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا وباطنها» (١).

فمفهوم الإمامة أرفع من مفهوم النبوّة ، وإلّا لما شرّف بها إبراهيم عليه‌السلام إذ لا يشرّف المرء بالأدون ، ولا سيما النبي إبراهيم عليه‌السلام الذي كان نبيّا قبل نيله الإمامة ، فليس كل الأنبياء أئمة بل بعضهم بحسب سيرهم وقربهم من المبدأ الفيّاض ، فبين النبوة والإمامة عموم من وجه ، فربما تجتمع النبوة والإمامة عند

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

١٣

بعض أفراد النبيين كإبراهيم عليه‌السلام ونبيّنا محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تفترق حيث يكون شخص نبيا ولا يكون إماما ، كما أن أئمتنا عليهم‌السلام كانوا نائلين مقام الإمامة ولكنهم لم يكونوا أنبياء بالمعنى الاصطلاحي أعني الوحي التشريعي ، إذ لا نبي بعد محمد ، والمعنى واضح للمتأمل.

قد يقال :

إنّ المراد من «إماما» في قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) هو النبي أو الرسول أو الرئيس المطاع حسب ما ذكره المفسّرون الأشاعرة.

والجواب :

إنّ كلّ هذا غير صحيح لأنّ «النبيّ» من النبأ ، والنبأ لغة هو الخبر ، فالنبيّ هو الذي يخبره الله تعالى بالتشريعات في باطنه ، وهو يختلف في معناه عن «الإمام» ، كما أنّ «الرسول» هو المكلّف بوظيفة التبليغ ، ولا يستلزم ذلك أن يعتبره الناس قدوة فيتبعونه في الظاهر والباطن ، أو يسمعون كلامه فيعملون به ، ولذلك فإنّ معنى «الرسول» غير «الإمام». وأمّا «المطاع» فهو الإنسان الذي له من الاحترام والتقدير بحيث يطيعه الناس ، والإطاعة من لوازم النبوة والرسالة ومختلف عن معنى الإمامة.

وبهذا يتّضح : أنّ الإمام هو من له السلطنة والولاية بحيث تجب طاعته ومتابعته والنظر إليه ومشايعته في جميع آثاره من الحركة والسكون ، والنوم واليقظة ، والظاهر والباطن ، والقول والعمل ، والأخلاق والملكات. وهذا المعنى لكلمة «إمام» في الآية المباركة في غاية المناسبة أن يخاطب الله سبحانه إبراهيم عليه‌السلام فيقول له : بعد أن جعلتك نبيا ورسولا تتلقّى الوحي السمائي وتبلغه إلى الناس ، فقد جعلتك الآن قدوة يجب أنّ يتبعوا شئونها في جميع الجهات. وهذا المعنى المستفاد من الآية المباركة يختلف تماما عن المعاني المتقدّمة ، إذ لو وضعنا أيّا من تلك المعاني السابقة في مكان الإمام لم يصح المعنى ، فليس صحيحا أن نقول : إني جاعلك ـ بعد املاك مقام النبوة والرسالة ـ نبيا أو رسولا أو رئيسا مطاعا. فالإمام هاد بأمر ملكوتيّ يصاحبه لقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (الأنبياء / ٧٤) ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة / ٢٥). فهناك صفة تلازم كلمة «الأئمة»

١٤

وهي الهداية بأمر الله حيث يجب أن يصاحب الإمام عنوان ملازم له وهو الهداية التي هي بأمر الله تعالى لقوله سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس / ٨٣) ، ولقوله عزّ شأنه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر / ٥١). وعليه فالأئمة عليهم‌السلام يهدون بأمر الله ولهم تعامل مع ملكوت الموجودات فهم يهدون كلّ موجود إلى الله ويوصلونه بأمر الله إلى كمال الله ، فهو محيط بقلب الموجودات ، فيهديهم إلى الله تعالى من جهة السيطرة والإحاطة بقلوبهم بقدرة الملك العلّام ، فهو هاد لهم بالأمر الملكوتي الموجود والملازم له دائما ، وهذا في الحقيقة ونفس الأمر هو الولاية بحسب الباطن في أرواح وقلوب الموجودات ، نظير ولاية كلّ فرد من أفراد البشر عن طريق باطنه وقلبه بالنسبة إلى أعماله ، هذا هو معنى «الإمام».

وهناك فرق آخر بين الرسول والإمام مفاده : إن الرسول وظيفته بيان الهداية التشريعية ، والإمام وظيفته بيان الهداية التكوينيّة ؛ فالأولى تقتصر على البيان والإراءة فقط ، والثانية تقتصر على الإيصال. والأولى من وظائف النبوة والرسالة ، والثانية من وظائف الإمامة ، وليس معنى هذا أنّ الهداية التشريعيّة ليست من وظائف الإمامة ، لكن الغالب على الإمامة هو الإيصال إلى المطلوب ، ويستدلّ على بيان الوظيفة الأولى بعدة آيات منها : قوله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء / ١٦٦) ، وقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ...) (الرعد / ٨) ، وقوله عزّ من قائل : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء / ٤) ، وقوله عزّ اسمه : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية / ٢٢ ـ ٢٣) ، وقوله عزوجل : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (يس / ٧).

فوظيفة الأنبياء أن يبيّنوا للناس ويروهم الطريق ، وبعد ذلك (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف / ٣٠) فحيثيّة النبوّة والرسالة تتلخّص في إراءة الطريق وهي مساوقة لكلمة (تعالوا) التي تشبه في مفادها اللغويّ من يقف على مرتفع وينادي على الناس : هلمّوا إليّ ، وعندئذ الناس أحرار فمن أراد أن يصعد يصعد ، ومن لم يشأ لا يصعد. ولا تتمّ إراءة الطريق إلا عبر البشارة والإنذار ، ولكن الغالب على وظائف الأنبياء هو الإنذار وإن كان التبشير من صلب مهامهم ، والسرّ فيه يرجع إلى أنّ الناس لا يحرّكهم غالبا إلا الإنذار دون التبشير ، وكمثال عملي

١٥

على ذلك نستطيع من خلاله أن نلمس واقع ما قلت : هو أنّ الناس ينكبون على الواجبات دون المستحبّات ، وذلك لأنّ الواجبات مقرونة دائما بالعقوبة على الترك دون المستحبّات ، لذا نجد كثيرا من الناس ينصرفون عن المستحبات في الغالب لعدم اقترانها بالتهديد والعقاب ، فها قد مر الله سبحانه بصلاة الليل وبيّن تفاصيل كثيرة في ثوابها وأجرها ، ومع هذا فإنّ أغلب الناس لا يصلّونها ، بعكس بقية الصلوات الخمس حيث يواظب عليها أكثر المؤمنين خوفا من العقاب على الترك ، فالذي يحرّك الناس في الغالب هو الخوف من العقاب وليس الثواب ، وإلّا لو كان الأخير هو المحرّك لحرص الناس على أداء صلاة الليل وبقيّة المستحبّات التي شجّعت على اتيانها الشريعة المقدّسة ووعدت بالثواب الجزيل عليها. كذا يذكّر القرآن الكريم حملة الرسالة بعد الأنبياء بأنّ عليهم أن يذكّروا الآخرين بالحلال والحرام لا أن يفرضوه عليهم كقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة / ١٢٢) ، وهذا مسانخ لقوله تعالى معلّما نبيّه موسى ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (إبراهيم / ٦). فالآيتان تشيران إلى حيثية التذكير لا التبشير (لينذروا ، وذكّرهم) حيث اقتصرتا على الإنذار فحسب ، إذن الفرق بين هداية النبي وهداية الوليّ أنّ الأولى عامة والثانية خاصة ؛ ويعبّر عن الأولى بالهداية التشريعية ، وعن الثانية بالهداية التكوينية. فالأولى عامة للمكلفين لقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) (البقرة / ١٨٦) ، (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (آل عمران / ٤ ـ ٥) ؛ وهي قابلة للتخلّف فبإمكان الإنسان ـ بعد أن يحصل على نصيبه من هداية الرسل والأنبياء والأولياء ـ أو أن يعمل أو لا يعمل (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ولكنّ الثانية خاصة بأناس معيّنين فبعد أن يعملوا بالهداية العامة يفاض عليهم من بركات الهداية الخاصة فتوصلهم إلى الهدف وكأنّ الله تعالى أراد لمن عمل بمقتضى أوامره وزواجره أن يكافئه على هذا العمل ، فمن تقرّب إلى الله بشبر تقرّب الله إليه بذراع ، أمّا كيف يتقرّب إليه بذراع!؟ فهذا موكول إلى وظائف الإمامة.

١٦

وهذه الهداية لا يمكن ان تتخلّف عن المراد لأنها هداية تكوينية ، إذ إن من عمل بصدق لا بدّ بإذنه تعالى أن يفاض عليه شيء من عوالم الغيب بواسطة الإمامة ، لذا عبّر عنها بأنها توصل الى المطلوب.

إشكال :

قلتم أنّ الإمامة التي هي جزء من نظام التكوين والوجود توصل الإنسان إلى المطلوب ممّا يعني أنها قانون لا يتخلّف عن المراد ، فهي بهذا اللحاظ تستلزم الجبر الذي قامت الأدلة على بطلانه ، فكيف نوفق بين حرية الإنسان واختياره وبين القول أنّ الهداية التكوينية لا تتخلّف أبدا؟

والجواب :

إنّ الهداية التكوينية لا تعطى لكلّ أحد بل هي هبة تعطى لمن أراد الهداية لنفسه ولمن أراد أن يصل إلى الهدف المنشود ، فهي بهذا المعنى لا تخطئ الهدف أبدا بل توصل إلى النتيجة المطلوبة التي تريد الوصول إليها ، فهي على عكس الهداية التشريعية التي تقتصر على إراءة الطريق ، فقد يسير الإنسان في الطريق ولكنه قد يخطئ الهدف ، مثاله أنت قد تريد أن تصل إلى الهدف «أ» وأنت حرّ تملك إرادة الفعل وعدمه ، وعندئذ تكون بين أمرين : إمّا أن يدلّك أحد على الطريق ، وهذه هي إراءة الطريق التي هي وظيفة الأنبياء (الهداية التشريعية) ، وإمّا أن لا يكتفي الطرف الآخر بإراءة الطريق وإنما يأخذ بيدك للوصول إلى الهدف ، ومن المؤكّد أنه عند ما يأخذ بيدك فذلك لا يسقط عنك اختيارك لأنّك أعطيت يدك له بملء إرادتك وأنت حرّ مختار في أن تنفلت وتسحب يدك ولا تسير معه إلى آخر الطريق.

النقطة الثانية :

لا خلاف بين الشيعة أنّ الإمامة من أصول الدين ، وهو أمر لا غبار عليه ولا يعبأ بالشواذ منهم ، وكذا لا خلاف فيما ذهب إليه العامة من أنها من الفروع ما عدا البيضاوي منهم حيث وافقنا على كونها من الأصول مع اعتقاده أنها زعامة اجتماعية وسياسية ، بل كفّر كل من لم يعتقد بأنها من الأصول (١).

وقد بالغوا في فرعيّة هذه المسألة ، حتى قالوا لا يجب البحث عنها ولا طلب

__________________

(١) كتاب المنهاج مبحث الأخبار.

١٧

الحق فيها ، بل يكفي فيها التقليد ، ولهذا لا يكفّر مخالفها أو منكرها ، بل لا يفسّق في ظاهر أقوالهم ، «وإنما التزموا ذلك لتحصل الغفلة عمّا اقترحوه من ثبوت الإمامة بالاختيار دون النص والاعتبار ، ولئلا يحصل الظفر بفساد ما انتحله خلفاؤهم من حقوق الأئمة الأعلام ، واختلقوه من الأحاديث التي أسندوها إلى النبي ، ثم ناقضوا ذلك وصرّحوا بأنّ حقوق النبوة من حماية بيضة الإسلام وحفظ الشرع ونصب الألوية والأعلام في جهاد الكفّار والبغاة والانتصاف للمظلوم وإنفاذ المعروف ، وإزالة المنكر وغير ذلك من توابع منصب النبوة ، كل ذلك ثابت للإمامة لأنها خلافة عنها ...» (١).

وفي هذه النقطة نبحث في جهات ثلاث :

الأولى : إنّ الإمامة من فروع الدين ، والنقض عليه.

الثانية : إنّ الإمامة من أصول المذهب ، والنقض عليه.

الثالثة : إنّ الإمامة من أصول الدين ، وأدلّة ذلك.

أما الجهة الأولى :

ذهبت العامة إلى أن الإمامة من فروع الدين المتعلق بأفعال المكلّفين ، ويشهد لما نقول كلمات أعلامهم في هذا المجال ، منها ما قاله :

ابن روزبهان الأشعري :

«اعلم أن مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليس من أصول الديانات والعقائد ، بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلقة بأفعال المكلّفين ، والإمامة عند الأشاعرة هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة ، يجب اتباعه على كافة الأمة ...» (٢).

وقال شارح المقاصد :

«لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق ، لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات وهي أمور كليّة يتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية ولا ينتظم الأمر إلّا بحصولها ،

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٠٦.

(٢) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٤ وإحقاق الحق : ج ٢ ص ٢٩٤.

١٨

فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كل أحد ، ولا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية ...».

إلى أن قال في المقصد الرابع من الإمامة :

ليست (أي الإمامة) من أصول الديانات والعقائد ، خلافا للشيعة ، بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين ، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأمة سمعا ، وإنما ذكرناه في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا ...» (١).

وقال الإيجي :

«وهي عندنا من الفروع ، وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسّيا بمن قبلنا» (٢).

وقال الآمدي :

«واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات ، ولا من الأمور اللابدّيات ، بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها والجهل بها بل لعمري إنّ المعرض عنها لأرجى من الواغل فيها ، فإنها قلّما تنفك عن التعصّب ، والأهواء ، وإثارة الفتن والشحناء ، والرجم بالغيب في حق الأئمة والسّلف بالإزراء ، وهذا مع كون الخائض فيها سالكا سبيل التحقيق ، فكيف إذا كان خارجا عن سواء الطريق ...» (٣).

فيظهر من كلماتهم أنّ وجوبها كفائي سمعي لا عقلي كما يعتقده الشيعة الاثنا عشرية ، والاسماعيلية المعتقدون بوجوبها عقلا وسمعا ، لكون الإمامة التي من آثارها الخلافة هي متممة لوظائف النبوة وإدامتها عدا الوحي ، فكل وظيفة من وظائف الرسول من هداية البشر وإرشادهم وسوقهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في الدارين وما شابه ذلك ثابتة للإمام أو الخليفة المنصوب من قبل الله سبحانه.

وبعبارة : فكما أنّ وجود الدين متوقف على النبي ، فكذا بقاؤه متوقف على الإمامة بلا ريب.

__________________

(١) شرح المقاصد : ج ٢ ص ٢٧١.

(٢) المواقف : ص ٣٩٥.

(٣) غاية المرام في علم الكلام : ص ٣٦٣ للآمدي.

١٩

وقد يستدل على كونها من الفروع :

أولا :

إنّ الإمامة رئاسة دنيوية ، لنظم أمر العباد ، فتكون واجبة وجوبا كفائيا تماما كبقية المهن والعلوم ، التي يجب تعلّمها وجوبا كفائيا لئلا يختل النظام.

والجواب :

١ ـ إنّ حقيقة الإمام بهذا الاستدلال ليس سوى رئيس دولة ، ينتخبه الشعب أو نوّاب الأمّة ، أو يتسلّط عليها بانقلاب عسكري ، فإن مثل هذا لا يشترط فيه سوى بعض المواصفات المعروفة ، ومن المعلوم أنّ الاعتقاد برئاسة رئيس جمهورية أو رئيس وزراء ليس من الأصول ولا من الفروع أيضا ، لا سيما وأنّ القوم يدّعون أن النبي مات ولم يوص ، فجعلها من الواجبات الكفائية فرع ثبوت صدور ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ إن الشيعة الإماميّة لا تسلّم بأن الإمامة رئاسة دينيّة ودنيوية فقط ، بل هي منصب إلهي عظيم ، يهدي النفوس إلى الكمال ، بل الرئاستان «الدينية والدنيوية» شأنان من شئون الإمامة ، لأنّ اتّصافها بالرئاستين يعني اختصاصها بالتشريعات الظاهرية دون سائر المقامات المعنوية الثابتة للإمام كما عرفت سابقا.

ثانيا :

إنّ الفرد الجامع لخصائص الإمامة ، لا يفترق عن النبي ، فتصبح الإمامة عندئذ ، مرادفة للنبوة ، مع أنّ أدلة الخاتمية قطعت طريق هذا الاحتمال.

والجواب :

لا يرى العقلاء أي إشكال في كون الإمامة مرادفة للنبوة ، ولا يعني هذا ، أنّ الإمام صار نبيّا مشرّعا ، إذ قد تجتمع النبوة مع الإمامة في شخص واحد وقد لا تجتمعان بحيث يكون الشخص إماما وليس بنبي.

فعدم افتراق النبوة عن الإمامة في كل الصفات الروحية والخصائص النفسية ـ سوى ما أخرجه الدليل ـ لا يعني عدم الحاجة إلى الإمام الحافظ للشريعة ولاستمرارية بقاء الدين ، لأنه كما أن الأنبياء قد أنيطت بهم مسئولية هداية الناس عن طريق الوحي من الله تعالى ، كذلك أنيط إلى أفراد معينين حفظ برامج الأنبياء وإيصاله إلى الناس ، وهذا الحافظ الذي يحتمل عبء هذه المسئولية يعتبر حاميا

٢٠