الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وهناك توجيهات عدة للعلة التي من أجلها لا يقتدى بابن الزنا بالمناصب الاجتماعية الدينية كإمامة الصلاة ومنصب القضاء وقبول الشهادة ونحوها ، وليست من باب العقوبة عليه لجريرة وإنما لمصالح منها :

أ ـ زجر الناس عن الأعمال المحرّمة وإبعادهم عنها بحيث إذا سمع أن ابن الزنا منبوذ من المناصب الدينية الهامة فلعله يرتدع عن عمله وقبيح فعله فيترك الزنا رحمة بالوليد.

ب ـ أن المكوّنات الخلقية الأولى للفرد لها تأثير على كيانه المعنوي كالنطفة التي خلق منها والحليب الذي شرب منه والأم التي حملته كل ذلك له تأثير معنوي على تكوين الفرد النفسي والروحي تماما كمن يأكل الحرام والشبهة فإن لهما تأثيرا عظيما على الروح والقلب فيسبّبان الظلمة والكدورة مما يؤديان إلى سلب الهداية الخاصة أو عدم التوفيق لها ، فكذا ابن الزنا ، فإنه نتيجة حتمية لما زرع الوالدان من القبح والسوء ، تماما كمن لم يوفق للهداية المعنوية نتيجة ما ارتكبه من حرام جرّه على نفسه ، ولا شيء أقبح من أن يظلم الإنسان نفسه.

وهناك تفسيرات أخرى كشحنا عنها صفحا روما للاختصار.

إذن فالمجتهد هو الفقيه الجامع لهذه الشرائط ، وإذا شك المكلّف في شرطية شرط ما في مجتهد ما وجب عليه الفحص ليحرز ذمته بتقليده له.

وكل من اجتمعت فيه هذه الشروط والصفات صار مصداقا لما ورد عن مولانا الحجة المنتظر صاحب الزمان روحي فداه قال :

«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (١).

والمجتهد العادل له ولاية على كل ما يمت إلى الشريعة بصلة ، إذ لا يحق لغيره الجاهل بأمور الشريعة أن يتصرف بأمور العباد الدينية والدنيوية ، فإن ذلك من مختصات العالم بالدين المأمون على الأموال والأنفس والأعراض.

وقد وقع الخلاف على ولاية الفقيه العامة على رأيين :

الأول : لمشهور الفقهاء القائلين بعدم الولاية العامة ، وإنما للفقيه ولاية خاصة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ١٠١ ح ٩.

٨١

على بعض الأمور التي تؤتى حسبة أو قربة إليه تعالى ، كالأوقاف العامة أو الخاصة التي ليس لها متول أو راع ، وحفظ الأيتام الذين لا راعي لهم الخ ...

الثاني : لبعض الفقهاء القائلين بعموم الولاية العامة للفقيه في عصر الغيبة. وتفصيل ذلك في المجامع الفقهية الاستدلالية.

* * *

٨٢

الفصل الأوّل

الإلهيات

وفيه أبواب

٨٣
٨٤

الباب الأوّل

عقيدتنا في الله تعالى

قال المصنف (قدس‌سره) :

نعتقد أن الله تعالى واحد أحد (١) ، ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل ولا يزال ، هو الأول والآخر ، عليم حكيم عادل حيّ قادر غني سميع بصير (٢).

ولا يوصف بما توصف به المخلوقات ، فليس هو بجسم ولا صورة ، وليس جوهرا ولا عرضا (٣) ، وليس له ثقل أو خفة ولا حركة أو سكون ، ومكان ولا زمان ، ولا يشار إليه ، كما لا ندّ (٤) له ، ولا شبه ولا ضدّ ، ولا صاحبة له ولا ولد ، ولا شريك ، ولم يكن له كفوا أحد. لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

ومن قال بالتشبيه في خلقه بأنّ صوّر له وجها ويدا وعينا أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا ، أو أنه يظهر إلى أهل الجنّة كالقمر أو نحو ذلك فإنه بمنزلة

__________________

(١) الفرق بين الواحد والأحد : أن الأحد يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجا ولا ذهنا ، ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد ، بخلاف الواحد ، فإنّ كل واحد له ثانيا وثالثا إما خارجا وإما ذهنا. فالواحد هو الذي لا شريك له ، وأحد لا مثيل له في صفاته ولا شبيه يناظره.

(٢) أي عالم بالمسموعات والمبصرات ومحيط بها إحاطة تامة لا يعجزه شيء.

(٣) الموجود الممكن إذا كان متميزا في مكان يشار إليه بالحسّ بأنه هنا أو هناك لذاته ، وما يتركب منه أو حالا فيه فهو العرض. نهج المسترشدين : ص ٢٥.

(٤) الندّ : النظير.

٨٥

الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزّه عن النقص ، بل كل ما ميزناه بأوهامنا في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا (على حدّ تعبير الإمام الباقر عليه‌السلام).

وما أجلّه من تعبير حكيم! وما أبعده من مرمى علمي دقيق! وكذلك يلحق بالكافر من قال إنه يتراءى لخلقه يوم القيامة وإن نفى عنه التشبيه بالجسم ، فإن أمثال هؤلاء المدّعين جمدوا على ظواهر الألفاظ في القرآن الكريم أو الحديث ، وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم ، فلم يستطيعوا أن يتصرّفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.

* * *

تطرّق المصنّف (قدس‌سره) في هذا الباب من هذا الفصل إلى ثلاثة أمور :

الأول : إثبات أحديته تعالى بالصفات الثبوتية ونفي الصفات السلبية عنه تعالى.

الثاني : ردّ مقالة المجسّمة.

الثالث : استحالة رؤيته تعالى بالبصر.

ولم يتعرّض (عليه الرحمة) لإثبات وجوده بالأدلة المحكمة ، ونحن قبل بيان الأمور الثلاثة المتقدمة سنقيم الأدلة على وجود الباري عزوجل إذ لا يخلو ذلك من فائدة ، فهو عزّ اسمه وجلّ شأنه وأمره وإن كان ظاهرا بذاته مظهرا لغيره ، إذ عميت عين لا تراه رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لا تجعله عليها دليلا ، إلا أن هناك نفوسا لم تطهر من دنس المعاصي غابت حقيقته (جلّت عظمته) عن قلوبها ، فالتمسوا الأعذار عليه تعالى يبتغون حقيقة وجوده التي هي عين جوده الذي به ظهر الوجود ، وقدّست ذرّاته الربّ المعبود ، فهو الموجود في كل مكان ، والمعبود بكل لسان ، فلا يسبقه عدم ، ولا يلحقه ندم ، فهو أزليّ سرمدي لا يزول ، وقائم دائم لا يبور.

والدليل على وجوده تعالى يتم بطريقين :

الأول : الإدراك الفطري.

الثاني : الإدراك العقلي.

٨٦

الإدراك الفطري :

والمراد منه الشعور التوحيدي بالله تعالى المركوز في أعماق النفس البشرية ، أي أنّ الناس مفطورون على معرفته عزّ اسمه إلّا أنّ الحجب الظلمانيّة تمنع من توقّد هذه الشعلة الإيمانية بحسب درجة تلك الموانع ، وهذا الإدراك يتفاوت شدة وضعفا بحسب قوة السير وبطئه ، فكلّما ازدادت حركة الآدمي نحوه تعالى كلما قوي هذا الإدراك إلى أن يصل إلى مرحلة «إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرّب ولا نبي مرسل».

وقد أكّد القرآن الكريم على الإدراك الفطري في آيات عدّة منها : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ...) (الروم / ٣١).

ففطرة الله تعالى تعني أنه سبحانه أودع في كيان الإنسان غريزة معرفته تعالى والتوجه إليه ، لأنّ الإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مجبول بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه ، وتهتف له بما ينفعه وما يضره قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (سورة الشمس / ٨ ـ ٩). فخلقة الإنسان مبنية على الإيمان به تعالى بمقتضى الفطرة السليمة الموهوبة له من عنده سبحانه ، وسيظل بمعونة العقل الهادي إليه تعالى يبحث عن الخالق ويطلبه متلهفا إلى جنابه ، وسيظل سالكا لهذه المسيرة ما لم يعقه عائق أو يمنعه مانع ؛ وهذا ما أكّدته آية الميثاق بقوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (الأعراف / ١٧٣) ، وهذا الميثاق ليس تشريعيّا وإنما هو تكوين فطري منذ أن كان موجودا ذرّا صغيرا في رحم أمه إلى آخر مراحل حياته إلّا أنّ العوامل الخارجية تحجب هذا الإدراك كما قدّمنا ، لذا ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المستفيض ما معناه : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يأتي أبواه فيهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».

وعند ما تفسد الفطرة بانحرافها عمّا خلقت له يكثر حينئذ اعوجاج القوى الداخلية ومع اعوجاجها واختلالها فسوف يؤدي إلى إبطال القوة العقلية المدركة بحيث تتوقف عن عملها المقرّر لها فتنتج عملا غير مرضي.

٨٧

والانحراف عن أحكام الفطرة لا يعدّ إبطالا لحكمها بل استعمالا لها عمّا لا ينبغي ، نظير ما ربّما يتفق أن الرامي لا يصيب الهدف في رميته ، فعدم الإصابة لا يعني أن الآلة معطّلة ، كيف وهي موضوعة للرمي وإصابة الهدف إلّا أنّ الاستعمال يوقعها في الغلط ، وكذلك السكاكين والمناشير والمثاقب والأبر وأمثالها إذا عبئت في الماكينات تعبئة معوّجة تعمل عملها الذي فطرت عليه بعينه من قطع أو نشر أو ثقب لكن لا على الوجه المقصود.

إذن عند ما نجعل الإدراك الفطري القلبي دليلا على إثبات وجوده تعالى فإنّ ذلك يعني أنّ القلب يعلم بالشهود والحضور ربّه ، والدليل عليه هو رجاؤه بالقادر المطلق عند ما تنقطع عن العبد الأسباب الظاهرية والتعلقات المادية فإنّ قلبه يتوجه إلى من فطره على معرفته إلّا أن الشواغل والتعلقات تلك حجبت ذلك الشعور وقد أشار مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام إلى دليل الفطرة الذي يظهر عند الشدائد ، قال له رجل : يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال الإمام عليه‌السلام : يا عبد الله هل ركبت سفينة قطّ؟

قال : نعم.

قال عليه‌السلام : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجّيك ولا سباحة تغنيك؟

قال : نعم.

قال عليه‌السلام : فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟

قال : نعم.

قال عليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي وعلى الإغاثة حيث لا مغيث (١).

فهذا الميل إلى الحق المطلق راسخ في أعماق بواطن البشر حتى الكافرين لكنهم نسوا هذا الميل باتباعهم الهوى.

ثم إن هذا الإحساس بالخطر عند الشدائد ثم التوجه إليه سبحانه نتيجة ذلك

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ ص ٤١.

٨٨

ليس مقصورا على الرحلات البحرية أو الجوية ، بل إنه يتعدى إلى كل سبب ظاهري يدعو الإنسان للتوجه إليه تعالى كلّما انقطعت به تلك الأسباب والأنساب.

ومما يدلّ على ترسّخ النزوع الفطري للكمال المطلق إضافة إلى آية الميثاق وآية الفطرة المتقدّمتين ما ورد في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يس / ٦١).

وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية / ٢٢).

هذا العهد عهد الميثاق ، وهذه التذكرة التي أمر النبي بحملها للناس كافة دون اختصاص بجماعة معينين بل هي لكل الناس ، والتذكر فرع وجود معرفة مغروزة في أعماق البشر وإلّا فيكون الأمر به لغوا يتنزّه عنه الحكيم ، فالنبي مذكر بحدود رسالته وحدودها تشمل الإنسانية جمعاء قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (سبأ / ٢٩).

فيتضح من خلال تذكير النبي للناس أن لهم سابق معرفة بالأصول العامة للدين ، وما على الرسول إلا إحياؤها من جديد بعد الاندراس والنسيان نتيجة الاستغراق بمنع الحياة مما يسبّب البطر والطغيان والكبر لذا لا تجد غنيا إلّا ويصاب بإحداها إلّا المتقون. قال تعالى : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (الفرقان / ١٩).

وزبدة المخض : أن الانقطاع عن الأسباب الظاهرية هو أحد الطرق الموصلة إلى إحياء المعرفة الفطرية.

وهناك طريقان آخران متفرعان على المتقدم يوصلان إلى إحياء تلك الفطرة هما :

الأول : معرفة الدين واتباعه.

الثاني : معرفة النفس الإنسانية.

أما الأول : فإنّ الدين هو مجموعة أحكام ، الفائدة منها تنظيم حياة الفرد والجماعات والأخذ بأيديهم إلى سبل الصلاح والخير والفضيلة ، وذلك لوجود قوى ثلاث يتركب منها المخلوق الآدمي هي :

القوة الشهوية. القوة الغضبية. القوة العقلية.

٨٩

وهي قوى تتصارع فيما بينها ، أيها استحكمت بالأخرى أصبحت السيد المطاع والبقية خدم لها ، لذا لو استحكمت القوة العقلية الروحية على تينك القوتين يصبح صاحبها في مصافّ الروحانيين والملائكة العلويين وإلّا فهو في حضيض التسافل كالبهائم والأنعام.

ومعلوم بالوجدان أن القوة العقلية لا تروي ظمأ الإنسان المتعطش بفطرته إلى خالق الكون فلا بدّ له من معين يهديه السبيل ويوصله إلى الطريق ، فأرسل عزوجل رسله وسفراءه ليرشدهم إلى الجادة الوسطى فيسلكوا بهم سبل السداد والنجاح والتوفيق من هنا قال أمير الموحّدين علي بن أبي طالب عليه‌السلام :

«فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول» (١).

فالغاية إذن من إرسال الرسل وإنزال الكتب وبعث السفراء هي أن يوصلوهم أو يستخرجوا لهم ميثاق الفطرة بعد أن حجبتها أستار الذنوب ، فيثيروا فيهم دفائن العقول أي ما هو مخزون في كوامن نفوسهم من الخير والصلاح ، لأنّ الإنسان يميل بطبعه إلى الدين ، والدين يدعو للفطرة ، لذا أمر سبحانه التمسك بالدين : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة / ٦٤) ، لأنّ التمسك به يعني التمسك بشيء أصيل يلازم الإنسان منذ خلقته إلى يوم رمسه.

وأما الثاني : ونبحث فيه ضمن نقاط هامة :

النقطة الأولى : في معنى النفس الإنسانية :

«النفس» لغة : بمعنى الروح ، فإذا قيل : خرجت نفس فلان ، يعني روحه. وتأتي بمعنى «حقيقة الشيء» تقول : قتل فلان نفسه أي أوقع الإهلاك بذاته كلّها وحقيقته.

ولها معان أخر : «كالدم» ، يقال : سالت نفسه أي دمه.

و «كالجسد» وعليه قول الشاعر :

نبّئت أن بني سحيم أدخلوا

أبياتهم تامور نفس المنذر(٢)

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الأولى في صفة خلق آدم عليه‌السلام.

(٢) مجمع البحرين : ج ٤ ص ١١٠.

٩٠

والتامور : الدم ، أي دم جسد المنذر.

و «كالغيب» : كما في قول النبي عيسى عليه‌السلام : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة / ١١٧).

أي تعلم غيبي يا رب لأنّ النفس الإنسانية مهما بلغت من الرقي والسمو لا يمكنها أن تعلم غيب الله تعالى إن لم يعلمها هو عزوجل.

وللنفس معان أخرى : كعين الشيء والعظمة والكبر والهمة والكنه والجوهر (١).

ولها لفظان مترادفان هما : العقل والروح.

فالروح ما به الحياة ، والعقل ما به التمييز والإدراك لذا يقال : إن المجنون أو الصبي يمتلكان روح الحياة ولا يمتلكان روح التمييز والإدراك ، ولهذا يقال : إن للإنسان نفسين :

إحداهما : نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل بها.

ثانيهما : نفس الحياة ، إذا زالت معها نفس النائم وهو عبارة عن الزفير والشهيق.

وهاتان النفسان أشير إليهما في قوله تعالى :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (الزمر / ٤٣) فيستفاد من الآية المباركة أمور ثلاث :

الأول : إن الإنسان عبارة عن روح وجسد ، والروح جوهر غير مادي مرتبط بالجسد يبعث فيه النور والحياة.

الثاني : ضعف العلاقة أو الرابطة بين الروح والجسد عند النوم أو الاحتضار.

الثالث : انقطاع هذه العلاقة انقطاعا تامّا عند الموت ، حيث يذهب بالروح إلى عالمها الخاص بها ، ويبقى الجسد العنصري الأول تحت التراب تتحلّل ذرّاته.

من خلال هذه الأمور الثلاثة نلاحظ بوضوح أن النفس والروح ليستا حقيقتين

__________________

(١) لسان العرب : ج ٦ ص ٢٣٥.

٩١

منفصلتين بل هما مرحلتان مختلفتان لحقيقة واحدة.

فالنفس هي شعاع الروح الممتد أو المنبعث من الروح عند النوم ، لأن النوم نوع من أنواع قبض الروح ، أو بعبارة : انفصال جزئي عن الجسد. وهذا الشعاع الممتد شعاع خافت يشعّ في ذلك الجسد ليبقي الحياة في الأعضاء الجسدية كدوران الدم وضربات القلب ونشاط الجهاز التنفسي وغيرها من الأعضاء الرئيسية ، فهذه لو تعطلت لمات الجسد ، وما يعطّل إنما هو جهاز الإدراك فإنه يغيب عن النائم لذا قيل : النوم أخو الموت.

وما فصّلناه آنفا أخذناه من أنوار بيت العصمة عليهم‌السلام حيث قال مولانا الباقرعليه‌السلام : «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء ، وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس ، فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ، وإن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح فهو قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى ...) الآية (١).

النقطة الثانية : الأدلة على إثبات النفس :

قلنا فيما تقدم أن النفس والروح ليستا حقيقتين منفصلتين بل هما صفتان لحقيقة واحدة ، لكن قد يختلف مورد استعمالهما بين الحين والآخر ، فقد تطلق كلمة «نفس» على حديث مرتبط بين الروح والجسد ، والتأثير المتبادل لكل منهما على الآخر ، وقد تطلق كلمة «روح» على كل حديث يتعلق بالصفات الروحية دون الجسمية.

ولا ضير في هذا الاستعمال وإن كانت (النفس والروح) بمعنى واحد لغة وهي المخلوق المجرّد عن المادة المرئية ، لذا قيل : إن الروح مشتقة من «الريح» ، فالروح مجانس للريح ، فهي متحركة مثل الريح لأجل هذا سمّيت روح الإنسان بهذا الاسم لمشابهتها الريح من حيث الحركة ، وعدم رؤيتها كالريح لا نراها ولكننا نشعر بآثارها.

والروح كذلك فهي كائن مجرّد يعتبر من النوافذ المشرعة إلى عالم الغيب وخير طريق لإثبات وجود كائنات مجرّدة وغير مادية ، وبها يتميّز الإنسان عن

__________________

(١) مجمع البيان : سورة الزمر.

٩٢

غيره ، وترشح منه بواسطتها مختلف النشاطات المادية والعقلية ، وهي في بنائها العجيب تختلف عن بناء المادة ، ولها أصول تحكمها تختلف عن الأصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية ، فمن الروح يصدر العجائب ، لذا اهتمت الأمم بشأنها والاشتغال بمعرفة أطوارها للحصول على عجائب آثارها ، ويكفيك ما يرد عن أصحاب الرياضات النفسية لا سيما «اليوغيون» منهم كيف أنهم يسلكون طرقا شتّى في الوغول الشديد في تعذيب أنفسهم وحرمانها من الحظوظ الشهوانية والحيوانية لنيل ما يمكن أن يتجلّى لهم منها نتيجة رياضات معنوية معينة لا ينكرها إلّا مكابر.

ونظرا لأهميتها في الشرائع المقدّسة أرسلت من أجلها الرسل وأنزلت الكتب لأنها مورد الخطاب والتكليف وهي الأصل في ذلك لا الجسد الفاني ، لذا لم يناقش في أصالتها أحد من المليين ، في حين أنكر الماديون هذه الأصالة طبقا لإنكارهم الخالق العظيم مدّعين بأنها مادية ومن خواص لخلايا العصبية ، لذا قالوا : إن الأصالة للمادة لا غير ، وقد أقاموا على عدم أصالتها براهين هي في الواقع دعاوى واهية لا تمت إلى الحقيقة بصلة.

الدعاوى على أصالة المادية هي :

الدعوى الأولى :

إن الأبحاث العلمية رغم تطورها التقني والفني لم تبحث في خاصة ما من الخواص البدنية إلّا ووجدت علتها المادية ، ومع هذا لم تستهد إلى أثر روحي لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى بها على وجود روح مجرّدة.

والجواب :

الأول : إن عدم وجدانهم لأي أثر روحي غير قابل للانطباق على قوانين المادة لا ينتج انتفاء النفس المجرّدة التي أقيم البرهان على وجودها ؛ فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة ، إنما تقدر على تحصيل موضوعها المادي ، وإثبات ما هو من سنخها ، وكذا الخواص والأدوات المادية التي تستعملها لتتميم التجارب المادية ، إنما لها أن تحكم فيما تبحث فيه من أمور مادية ، أما ما وراء المادة والطبيعة وخارج متناول الحسّ فليس لها أن تحكم فيها نفيا أو إثباتا ؛ فمثلا : الصفات الإنسانية كالحب والكراهة والشجاعة والجبن ،

٩٣

والجود والكرم والبخل ، والعشق والحزن والعلم والجهل ، كلها حقائق ذات واقعية حتما ومع ذلك لا يمكن نفيها بحجة أنها غير محسوسة ولا مرئية ، أولسنا نؤمن جميعا بوجودها فينا جلها أو بعضها رغم أنها لا تخضع لطاولة التجربة ولا لسكين التشريح ولا نرى لها أثرا تحت المجهر؟!.

الثاني : إن مقتضى سيرهم العلمي التجريبي المتمخض عنه عدم العثور على أثر للروح لا يعني عدم وجودها ، وبعبارة فنيّة : «عدم الوجدان ليس دليلا على عدم الوجود» ، أي إنّ عدم عثورهم على الروح من خلال تجاربهم العلمية ليس دليلا على عدم وجود الروح غير المرئي بالآلات المادية.

الدعوى الثانية :

إن النفس أو الروح التي يقام البرهان على تجرّدها هي في الحقيقة مجموعة خواص طبيعية أو إدراكات عصبية ، أو مجموعة خلايا دماغية لها تأثير على البدن ، مدعين بذلك أن أيّ عطل يصيب الدماغ يسبّب تعطيل القوى البدنية المرتبطة به.

وبعبارة : أن هناك علاقة قريبة بين الظواهر الروحية والخلايا العقلية والدماغية.

والجواب :

الأول : لو سلّمنا أنّ روح الإنسان هي نفس أجهزته العصبية والدماغية لكان على الإنسان أن يتغيّر بتغيّر أجهزته العصبية والدماغية فيكون بهذا قد تغيّر عشرات المرّات خلال فترات حياته ، وبهذا يكون هذا الإنسان غير الإنسان السابق نتيجة التغيّر الحاصل في خلاياه وهذا ما لا يقبله الوجدان.

وما توهموه مردود بحسب النظرية العلمية القائلة :

إن عدد خلايا الدماغ ثابتة وغير قابلة للزيادة والنقصان ، وهذا لا يعني أنّ الذرّات المكوّنة لهذه الخلايا لا تتغير ، ومثل هذه الخلايا مثل خلايا الجسم التي تأخذ الطعام وتطرد الذّرات القديمة بالتدريج خاضعة للتغيير.

الثاني : أيضا لو سلّمنا جدلا بأنّ الأجهزة العصبية هي الروح ، لكننا لا نسلّم كون هذه الأجهزة تعمل بنفسها من دون أن تديرها جهة أخرى لاستحالة بقاء المعلول من دون علة يرتبط بها والتي يعبّر عنها ب «العلة الاستمرارية» فلا بدّ لكل

٩٤

ممكن حادث من وجوب وجود علة تبقيه كما أوجبت إحداثه ؛ وهذه العلة (بكلا قسميها) شيء آخر غيره مغاير له ليس من جنسه وهي الروح فثبت المطلوب.

هذا غاية ما استدلّ به الماديون على كون الأصالة للمادة وأنه لا شيء وراءها. أما المليون الإلهيون فقالوا بأصالة الروح وأنها مستقلة بعملها وليست نتاج الإفرازات المادية والتحاليل الفيزيائية المتراكمة في الجسد بل هي كيان سويّ له قيمته وهناك براهين عديدة على وجوده.

وهي قسمان : عقلية وأخرى نقلية.

البراهين العقلية على أصالة الروح وتجرّدها :

البرهان الأول : وحدة الروح مع ثبوت التغيّرات الجسدية :

خلاصته : أن جسد الإنسان الواقع في دوامة التغيّرات والتحوّلات الفسيولوجية وغيرها ، الدائم التنقل من حالة لأخرى ، حيث يتصف مرة بالطفولة وتارة بالصبا وأخرى بالشباب ثم بالشيخوخة ، وفي كل حالة تتغير وتتبدل تركيبته الجسدية ، مع بقاء شيء واحد فيه لم يطرأ عليه تغيّر في كل مراحله الزمنية ، وهذا الشيء هو المشار إليه ب «أنا» غير واقع في التبدّل والأمر فيه ظاهر ، لأننا نعلم بالضرورة أننا الآن عين ما كنا بالأمس أو قبل عشرين سنة ، فلو كانت الروح موجودا ماديا للزم أن تكون عرضة للتغيرات ، شأنها شأن بقية الموجودات المادية التي تتغير وتتبدل باستمرار ، لأن الحركة والتغيّر من خصائص المادة ولوازمها ، وبما أنّ الجسد في تبدل مستمر كما هو الثابت في الموجودات المادية وخاصة الحيّة منها حيث هي في تبدّل دائم مع بقاء الوحدة الشخصية في داخله ترافقه في كل مراحل حياته المعبّر عنها ب «أنا» الأمس والحاضر والمستقبل ، فلو لم يكن هناك حقيقة باقية في كل مراحل التبدّل والتغيّر الجسدي للزم أن لا يكون الإنسان في شيخوخته مسئولا عمّا فعله في شبابه.

البرهان الثاني : الإنسان المعلّق :

مفاد البرهان : أن الإنسان قد يغفل عن بدنه في ظل شروط (١) معيّنة ولكنه لا

__________________

(١) من هذه الشروط : أن يكون في وضع معيّن كالاستلقاء على القفا مسترخيا أعضاءه ، مفرّجا بين يديه ورجليه لا يشغله شاغل وأن يكون في هواء طلق بحيث يكون كأنه معلّق في الفضاء ، من هنا جاءت تسمية البرهان ب (المعلّق).

٩٥

يغفل عن نفسه ، وتحت ظلّ هذه الشروط قد يشعر الإنسان بتجرّد روحه وأنها شيء غير جسده وإمضائه وما يحيط به.

«وبالجملة فمما لا ريب فيه أن الإنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا ونفسي ، وإذا لطف نظره وتعمّق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الأمور الجسمانية القابلة للتغير والانقسام والاقتران بالمكان والزمان ، ووجده غير هذا البدن المادي المحكوم بأحكام المادة بأعضائه وأجزائه فإنه ربما نسي أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه وهو لا ينسى نفسه ولا يغفل عنها ، دع عنك ما ربما تقوله : نسيت نفسي ، غفلت عن نفسي ، ذهلت عن نفسي ، فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة ، ألا ترى أنك تسند النسيان والغفلة والذهول حينئذ إلى نفسك وتحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر وغفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن ونحوه؟ ودع عنك ما ربما يتوهّم أن المغمى عليه يغفل عن ذاته ونفسه فإنّ الذي يجده هذا الإنسان بعد انقضاء حال الإغماء أنه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإغماء لا أنه يذكر أنه كان غير شاعر بها ، وبين المعنيين فرق ، وربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا يشبه الرؤيا التي نذكرها من حال المنام» (١).

البرهان الثالث : تجرّد الصور العلمية :

لا شكّ أنا نتخيّل صورا لا وجود لها في الخارج كحجر من زئبق وجبل من ياقوت أو نتصور العنقاء وما شابه ذلك ، ونميّز بين هذه الصّور الخيالية وبين غيرها ، فهذه الصور أمور وجودية (محلها الخيال) وكيف لا يكون كذلك ، ونحن إذا تخيّلنا زيدا شاهدناه ، حكمنا أنّ بين الصورتين المحسوسة والمتخيلة فرقا البتة ، ولو لا أن تلك الصور الموجودة لم يكن الأمر كذلك ، ومحل هذه الصور يمتنع أن يكون شيئا جسمانيا أي من هذا العالم المادي ، فإنّ جملة بدننا بالنسبة إلى الصور المتخيّلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقدار الصغير ، وليس يمكن أن يقال إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا ، إن الهواء ليس من جملة أبداننا ولا أيضا آلة لنفوسنا في أفعالها ، وإلّا لتأملت نفوسنا بتفرّقها وتقطّعها ولكان شعورنا بتغيرات الهواء

__________________

(١) تفسير الميزان للطباطبائي (قدس‌سره) : ج ٦ ص ١٧٩.

٩٦

كشعورنا بتغيرات أبداننا ، فبان أن حمل هذه الصور أمر غير جسماني ، وذلك هو النفس الناطقة ، فثبت أن النفس الناطقة مجرّدة (١).

هذا البرهان للحكيم اليوناني أفلاطون.

وبعبارة أوضّح : إن كل واحد منّا يدرك صور الموجودات العظيمة ، ويتصوّرها بما لها من الحجم والمقدار ، فلو كانت حقيقة الإدراك ممحضة في انطباع الصور على المدارك العقلية وجب أن يكون هذا العالم الكبير بسمائه وأرضه وشمسه وقمره وجباله وبحاره ومدنه الخ ، قد تمركزت في صفحة الدماغ ومواضع الإدراك التي لا تزيد على عدّة سنتيمترات فكيف يسع دماغنا الصغير الحجم صور هذه الأشياء العظيمة والآفاق الرحبة وكيف توجد صور هذه الأشياء الكبيرة جدا في تلك المساحة الصغيرة التي يتألف منها الدماغ المدرك للأشياء ، ألا يدلّ هذا على أن هذه الصور العلمية مجرّدة عن المادة ، لها تجرّد برزخي أي أن لها طولا وعرضا وعمقا دون أن يكون لها جرم وثقل.

البرهان الرابع : استذكار الخواطر :

ما من امرئ إلّا ويواجه حوادث معيّنة في حياته ثم بعد ذلك ينساها وبعد فترة يتذكّر ما قد نسيه ؛ وعملية التذكر عبارة عن توجّه الذهن إلى الماضي واستحضار ما غاب عنه.

وعملية الاستذكار تعني أنّ الصور العلميّة مخزونة في صقع النفس بعينها لا يتطرق إليها الفناء والفساد ، وليست عملية الاستذكار سوى التفات الذهن إلى تلك الصور المخزونة في صقع النفس ، وليس كما يتوهم أن الصور العلميّة منطبعة في الدماغ وإلّا فإن الدماغ وما فيه يتبدّل ويتحلّل بمرور الزمن ومضي السنين ، فلو كانت حقيقة الصور العلمية هي نفس الآثار المادية المنطبعة في أعصاب الدماغ لما ان للتذكر معنى صحيح ، بعد ملاحظة ما يطرأ على الدماغ من التحلل والتغيّر في سلسلة الأعصاب وقيام غيرها مقامها بعد أعوام لا تتجاوز العشرة.

هذه أهم البراهين العقلية على تجرّد الروح الإنسانية ، وأنّ الأصالة للماهية لا للمادة.

__________________

(١) أسفار الحكمة لصدر المتألهين : ج ٤ ص ٤٧٩.

٩٧

البراهين النقلية على أصالة الروح وتجرّدها :

وهي قسمان :

الأول : آيات الكتاب العزيز.

الثاني : أحاديث النبي الكريم وعترته الميامين صلّى الله عليهم أجمعين.

أما القسم الأول :

تمهيد : لقد أثبت القرآن المجيد بآياته البيّنات أصالة الروح وأنّ لها تجرّدا تاما بعد انخلاعها عن البدن ، ولا يهمّنا التعرّض لمسألة هل هي في داخل البدن أم محاطة به ، بعد التسليم بوجود الروح الإنسانية.

ولا تموت بعد موت الجسد ، بل تذهب إلى العالم الذي كانت تسعى إليه في الحياة الدنيا ، إلى الجنّة أو إلى النار البرزخيّتين فلا تعطيل للروح كما ادّعى أهل التناسخ على تفصيل في ذلك ، وبهذا يعلم : أن الموت لا يعني فناء للإنسان بل الموت بوّابة من عالم ضيّق إلى آخر فسيح خالد ، فهو انتقال من دار إلى أخرى هي الغاية من الخلقة ، وهذا ما لا يسلّم به أصحاب النظريات المادية ، وقد سبقهم إلى ذلك بعض عرب الجاهلية حيث كانوا يعتقدون أن حقيقة الحياة أمر مادي ، وما الموت عندهم سوى فناء الإنسان بكل مشخّصاته المادية والصورية ، لذا أنكروا وجود حياة ثانية قال تعالى حكاية عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (الأنعام / ٣٠).

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية / ٢٥).

فإنكارهم لوجود حياة أخرى من لوازم عدم اعتقادهم بوجود إله عظيم ومدبّر حكيم ، فالدهر هو المهلك لهم ، والدهر هو الزمن ، وهو بدوره ماديّ وليس وراءه أيّ سلطة روحيّة ، فالاصالة للزمن أو المادة لا لشيء فوق المادة والزمن لذا قالوا : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ).

أما قوله تعالى : (نَمُوتُ وَنَحْيا) فليست إشارة إلى اعتقادهم بوجود حياة أخرى ، وإنما يراد منها :

أنّ الكفّار يغادرون الحياة ليحلّ محلّهم حديثو عهد بالحياة من المولودين جديدا ، فجماعة تموت وأخرى تولد من جديد لتعيش كما عاش سابقوها ثم يهلكها الدهر كما أهلك المتقدمين عليها.

٩٨

من الآيات التي تثبت الأصالة للروح :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران / ١٧٠ ـ ١٧١).

الآية المباركة واضحة الدلالة في وصف حال جماعة قتلوا في سبيله تعالى فإنّهم يرزقون ويستبشرون بمن لم يلحق بهم ممن هم على شاكلتهم في التقوى والصلاح والخير ، متمنين أن يقدموا عليهم ليروا النعيم الدائم.

وليس في الآية إشارة إلى أن غير الشهداء ليسوا أحياء وذلك لأنّ الآية في معرض المديح لمن استشهد في سبيله ، ولا تعرّض لها لغيرهم من باب : كأنّ الشهداء هم الأحياء حقيقة دون غيرهم لما في استشهادهم في سبيله من علوّ الدرجات والزلفى لديه تعالى.

فمدلول الآية الكريمة بقاء روح الإنسان بعد موت الجسد ونظيرها قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة / ١٥٥).

قال العلّامة الطباطبائي (قدس‌سره) :

«معنى الآية والله أعلم لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ولا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم ، ومقابلته مع الحياة ، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان بل أحياء ولكنّ حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به وفي الآية دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخيّة ...» (١).

هذه صفة الشهداء ، أما صفة المعذّبين فكما في قوله تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (غافر / ٤٦ ـ ٤٧) ، فحكم سبحانه على آل فرعون ومن عمل بنهجهم واتّصف بصفاتهم الدخول في نار جهنم يعرضون عليها صباحا ومساء قبل يوم القيامة ، بشهادة ذيل

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١ ص ٣٤٧ ط بيروت.

٩٩

الآية (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) فالعرض صباحا ومساء في النار البرزخية وهي موجودة في بعض بقاع الأرض في وادي برهوت اليمن. فلو كان الموت دليلا على اندثار الروح بعد موت الجسد لما كان هناك أيّ معنى لمسألة العرض على النار صباحا ومساء.

الآية الثانية :

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) (الأنعام / ٩٤).

تشير الآية المباركة إلى أن للظالمين أبدانا وأنفسنا ، وملائكة القبض ينزعون أرواحهم من أبدانهم قائلين لهم : أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت إن استطعتم وصدقتم فيما قلتم وادّعيتم.

ولو كان الإنسان جسدا بلا روح لما كان لأخذ النفس أيّ معنى ، إذ يكون الموت عبارة عن إخماد الحرارة الغريزية فقط وقد تقدم بطلان هذه الدعوى.

الآية الثالثة :

قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر / ٢٨ ـ ٣١).

هنا خاطب سبحانه النفس لا البدن ، فأمرها تعالى بالرجوع إلى ربّها فتدخل في عباده المكرمين والجنّة إذا ما تحلت بصفات الجمال والكمال ، وهؤلاء العباد المكرمون هم نبي الرحمة وعترته الطاهرة.

وهذا نظير قوله تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (البقرة / ١٥٧) فنحن صنايع الله عزوجل وإليه نعود ليجازينا على أعمالنا خيرها وشرها مما يدلّ على أن النفس لا تموت بل هي مستودعة فيه لأجل معين.

الآية الرابعة :

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (المؤمنون / ١٣ ـ ١٥).

١٠٠