الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

والدليل بل اكتفى بالاعتقاد واليقين الحاصلين من قول الغير ، وقيام السيرة على ذلك دليل على عدم وجوب تحصيل الاعتقاد بالنظر. فلزوم النظر والاجتهاد في أصول الاعتقادات على كل المكلفين متعسر بل متعذر ، نعم لا يبعد وجوبه على جماعة كفائيا.

بقي أمران :

الأول : عدد الأصول الاعتقادية.

الثاني : الفرق بين أصول الدين والمذهب.

أما الأمر الأول :

فالأصول الاعتقادية كثيرة أهمها وأعظمها خمسة تسمى بأصول الدين هي : التوحيد ـ العدل ـ النبوة ـ الإمامة ـ المعاد.

وعلى هذا التقسيم إجماع الشيعة الإمامية ، والخارج عنه شاذ لا يعبأ به.

وقد ارتأى أحدهم أنها ثلاثة عدا الإمامة والعدل حيث أدرج الإمامة تحت النبوة ، والعدل تحت التوحيد ، فتكون الأولى جزءا من النبوة والثانية جزءا من التوحيد.

لكن يرد عليه :

أولا : إن مقام الإمامة أعظم من مقام النبوة ، فكيف يجعل الأرفع جزءا من الأدون؟ ولا يتوهم أنّنا ندّعي أن مقام أئمتنا أرفع من مقام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إن مقاماتهم واحدة ، فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له منصبان خطيران :

مقام النبوة ومقام الإمامة. فمقام إمامته أعظم من مقام نبوته ، وقد فصّلنا ذلك في تعليقتنا على مراجعات شرف الدين فلاحظ.

ثانيا : إن هذا التقسيم غير قسيم إذ يمكننا أن نجعل الأصول أصلا واحدا بحيث نضغط الجميع تحت أصل التوحيد ، فيكون أصلا والبقية فروعا له ، وذلك واضح عند التأمل.

هذا وقد جعل المصنف الأصول أربعة حيث عدّ العدل من الصفات الفعلية لله عزوجل ، لكن الأصح ما ذكرناه لما تقدم ، ولأن العدل من المسائل التي انفردت به الإمامية ، أما الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري فقد جعلوا الجبر أحد الركائز الاعتقادية الهامة عندهم حيث نسبوا إليه تعالى ما لا يليق بشأنه جلّ جلاله

٦١

حيث قالوا أنه عزوجل يمكن أن يدخل العاصي الجنة والمطيع النار وغير ذلك من المعتقدات التي تدخل في صميم العدالة الربانية.

أما الأمر الثاني :

معنى «الدين» لغة : الطاعة لقوله تعالى : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) (النحل / ٥٣).

فالمعنى : له تعالى الانقياد والطاعة دائما.

وكذلك قوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) (التوبة / ٢٩).

وتأتي كلمة «الدين» بمعنى «الجزاء» ومنه قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وأخرى بمعنى «الحساب» ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (يوسف / ٤١) أي الحساب المستقيم. وبمعنى «الوضع الإلهي لأولي الألباب» وهذا يتناول الأصول والفروع(١).

وأما معناه اصطلاحا : فعبارة عن قانون ينظّم حياة الفرد والمجتمع لينال سعادة الدارين.

أمّا معنى الأصول : فهو مجموعة اعتقادات حقة محلها القلب بحيث يجب الإيمان والاعتقاد بها باطنا وهي المعبّر عنها بالأصول الاعتقادية.

معنى المذهب «لغة» : فعبارة : عن المعتقد الذي يذهب إليه ، وحكى اللحياني عن الكسائي : ما يدرى له أين مذهب ولا يدرى له ما مذهب أي لا يدرى أين أصله (٢).

ومعنى «المذهب» اصطلاحا : فعبارة : عن فرقة ما اتخذت لنفسها طريقا عقيديا بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والمذاهب المختلفة في زماننا هذا بين المسلمين كثيرة يبلغ تعدادها الثلاث وسبعين فرقة كما جاء ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنصارى افترقت على اثنين وسبعين ، واليهود على واحد وسبعين.

والعجب من بعض الإمامية كيف جعل الإمامة من أصول المذهب مدّعين أنها من مختصات الشيعة الإمامية المتفردين بها دون بقية فرق المسلمين. إلّا أن

__________________

(١) مجمع البحرين : ج ٦ ص ٢٥١.

(٢) لسان العرب : ج ١ ص ٣٩٤.

٦٢

هذا التفريق بين أصول الدين والمذهب لم نجد له وجها علميا سوى تخمينات خالية من البرهان ، لأنّ الدين عند الله الإسلام وهذا منحصر بمن كان مع الحق والحق معه يدور معه حيثما دار.

فنحن نعتقد أن الدين هو الخط العقيدي والتشريعي المتمثل بالعترة الطاهرة ، فدعوى وجود تفرقة بين المذهب والدين لا أساس لها ولا دليل ، فكون الإمامة من مختصات الشيعة الإمامية لا يعني ذلك على الإطلاق أنها من أصول المذهب ، لأن الآيات الدالة عليها يخرجها من إطار المذهبية إلى شمولية الإسلام وعمقه وتأصله في الأسس والثوابت الحقّة التي لا علاقة للمذهبية بها ، بل إن المذهبية شيء طارئ على واقع الإسلام وأسسه الفكرية.

* * *

٦٣

البحث الثاني

عقيدتنا في التقليد بالفروع

قال المصنف (قدس‌سره) :

أما فروع الدين ، وهي أحكام الشريعة المتعلقة بالأعمال ، فلا يجب فيها النظر والاجتهاد ، بل يجب فيها ـ إذا لم تكن من الضروريات في الدين الثابتة بالقطع كوجوب الصلاة والصوم والزكاة ـ أحد أمور ثلاثة :

إما أن يجتهد المكلّف وينظر في أدلة الأحكام إذا كان أهلا لذلك ، وإما أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط ، وإما أن يقلّد المجتهد الجامع للشرائط بأن يكون من يقلّده عاقلا عادلا (صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه).

فمن لم يكن مجتهدا ولا محتاطا ، ثم لم يقلّد المجتهد الجامع للشرائط ، فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه ، وإن صلى وصام وتعبّد طول عمره ، إلّا إذا وافق عمله رأي من يقلّده بعد ذلك ، وقد اتّفق له أن عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى.

* * *

أقول : عرفنا مما تقدّم معنى «التقليد» لغة وأنه بمعنى جعل القلادة على عنق البعير ، إذا جعل الغير ذا قلادة.

وقد يطلق التقليد على الأعمال مجازا كقلّده العمل فتقلده ، وقلّده الأمر أي ألزمه به.

فأطلق التقليد هنا مجازا على غير ما يوضع في العنق ، وليس ذلك إلّا لجهة

٦٤

اشتقاق التقليد من القلادة الموضوعة على العنق. والتقليد في فروع الدين يعني الانقياد عملا بالأحكام الشرعية امتثالا لأمر المولى عزّ ذكره ، سواء كانت هذه الأحكام عبادية يشترط فيها نية التقرّب إليه سبحانه ، أم معاملتية لا يعتبر فيها القصد المذكور بل يكفي فيها الامتثال العملي لا غير. وعلى كلا الجهتين فإنّ المكلّف في الحالتين لا بدّ له من اختيار أحد طرق ثلاث :

التقليد.

الاحتياط.

الاجتهاد.

قد يسأل البعض : لما ذا فوّضت الشريعة اختيار واحد من ثلاث دون أن توجب واحدا بعينه على الخصوص؟

جوابه :

أما تعيين الاجتهاد على كل الأفراد فإنه مستلزم للعسر والحرج ، إذ لا يمكن لكل فرد الاجتهاد ، فإنه ضرب من المستحيلات عادة ، إذ قد يؤدي إلى خلل في نظام المعاش ، لاستلزامه ترك الأعمال والأشغال وهذا مما لا تحمد عقباه.

إضافة إلى أنّ ديدن المتشرّعة منذ عهد الأئمة عليهم‌السلام إلى وقتنا الحاضر كان قائما على السؤال من الفقهاء والرواة لمعرفة أحكام دينهم من دون نكير منهم ، مما يفسّر لنا عدم لزوم تعيين الاجتهاد على المكلّفين فردا فردا ، نعم هو واجب كفائي ، إذا قام به بعض سقط التكليف عن الآخرين لقيام الأدلة على ذلك منها قوله تعالى :

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة / ١٢٢) ، ودلالتها على ذلك واضحة ، حيث يجب على جماعة طلب التفقه لئلا يقعوا في مخالفة أوامر المولى عزّ ذكره فيعاقبوا جميعا.

أما الاحتياط : وهو العمل الذي يتيقّن معه ببراءة الذمة من الواقع المجهول. ومن يريد العمل بالاحتياط فإنّ عليه أن يكون على معرفة تامة بأقوال الفقهاء المتقدمين والمتأخرين ليمكن معه تحصيل موافقة الواقع ، وهذا لا يكون إلّا للأوحدي من الناس ممن لهم سعة باع واطّلاع لا يتسنيان إلّا لمن بلغ حظا وافرا

٦٥

من التقوى والعلم ، وفرّغ نفسه لطلبه ، وهذا غير مقدور لكل الناس تماما كوجوب الاجتهاد تعيينا على كل الأفراد ، عدا عن أنه يتعذر في بعض الأحيان كما لو تردد عدد التسبيحة الواجبة في الصلاة بين الواحدة والثلاث ، فالاحتياط يقتضي الإتيان بالثلاث ، لكنّه إذا ضاق الوقت واستلزم هذا الاحتياط أن يقع مقدار من الصلاة خارج الوقت ، وهو خلاف الاحتياط ، ففي مثل ذلك يتعسّر عليه الاحتياط بل لزم عليه الرجوع إلى التقليد أو الاجتهاد.

فإذا لم يتيسّر الاجتهاد أو الاحتياط لأغلب الناس فيتعيّن عليهم التقليد وهو اتّباع الفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، ليس هنا موضع شرحها ، وما يهمنا هو أن نذكر الأدلة على جواز التقليد في الفروع إخراجا له عن التقليد المذموم.

وهي وجوه :

الوجه الأول :

سيرة المتشرعة قديما وحديثا القائمة على الرجوع إلى المفتي والفقيه والسؤال عن أمور دينهم من دون نكير أحد ، وهذه السيرة تكشف عن أنهم تلقّوا حكمها من الشارع المقدّس.

بل لا ينبغي الإشكال فيه لأنه وكما تقدم أن الاجتهاد العيني في المسائل يقتضي إخلال النظام مما يسبّب حرجا هو منفي عقلا وشرعا.

أضف إلى أنه لم تردنا أخبار من العترة عليهم‌السلام تنهى عن هذا العمل بل العكس هو الصحيح ، حيث إنّ هناك أخبارا تلزم رجوع الجاهل إلى العالم كما سوف يأتيك.

ومما يؤكد هذه السيرة المتشرّعة أقوال أساطين الإمامية (قدست أسرارهم) منهم شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي قال : «والذي نذهب إليه أنه يجوز للعامي الذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالم ويدلّ على ذلك ، أني وجدت عامة الطائفة من عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها ويستفتونهم في الأحكام والعبادات ، ويفتي العلماء فيها ويسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به ، وما سمعنا أحدا منهم قال لمستفت : لا يجوز لك الاستفتاء ولا العمل به ، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما علمت ، ولا أنكر عليه العمل بما يفتونهم ، وقد كان منهم الخلق العظيم ، عاصروا الأئمة عليهم‌السلام ولم يحك عن

٦٦

واحد من الأئمة عليهم‌السلام النكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب القول بخلافه ، بل كانوا يصوّبونهم في ذلك ، فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم خلافه» (١).

واستدلّ المحقق الحلي (قدس‌سره) على ذلك بوجهين :

الأول : «لنا اتفاق علماء الأعصار على الإذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر ، وقد ثبت أن إجماع أهل كل عصر حجة».

الثاني : «أنه لو وجب على العامي النظر في أدلة الفقه ، لكان ذلك إما قبل وقوع الحادثة أو عندها ، والقسمان باطلان ، أما قبلها : فمنفي بالإجماع ، ولأنه يؤدي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه.

وإما عند نزول الواقعة : فذلك متعذر لاستحالة اتصاف كل عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين» (٢).

إلى آخر ما هنالك من أقوال تشهد بجواز رجوع العامي إلى المفتي في أمور دينه مما لا يبقى مجال للشك في صحة قيام هذه السيرة على الاستفتاء ، إضافة إلى وجود سيرة عقلائية في كل عصر ومصر ومن كل دين توجب رجوع الجاهل إلى العالم في جميع الأمور كرجوع المريض إلى الطبيب وصاحب الدار إلى المهندس في تصميم تشييدها ؛ وحيث إنّ الشريعة المقدّسة لم تردع عن هذه السيرة مما يدلّ على إمضائه لها والعمل بمقتضاها وهذا يكشف عن كونها حجة على صحة التقليد والاجتهاد.

الوجه الثاني :

الآيات الدالة على رجوع الجاهل بأمور دينه إلى العالم بها ، منها :

١ ـ قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل / ٤٤).

ودلالة الآية على الوجوب واضحة ، حيث أمرت الجاهل بالرجوع إلى أهل الذكر ، وقد ورد عبر نصوص كثيرة أن أهل الذكر هم العترة الطاهرة ، ولكنه لا

__________________

(١) عدة الأصول : ص ٢٩٣.

(٢) معارج الأصول : ص ١٩٧ فصل : المفتي والمستفتي.

٦٧

ينافي العموم الشامل لغيرهم ممن أخذ عنهم العلم ، لأنّ الأخذ من الفقهاء العدول يعتبر أخذا عنهم عليهم‌السلام بالواسطة ، فالأئمة عليهم‌السلام هم الفرد الأكمل والأظهر لمفهوم أهل الذكر.

٢ ـ ومنها قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة / ١٢٢).

يستفاد من مدلول الآية المباركة قيام جماعة قد تفقهوا في دينهم ثم رجوعهم إلى أوطانهم أو أقوامهم ينذرونهم أمر الرسالة ، وهذا الوجوب مستفاد من كلمة «لو لا» لكون وجوب الإنذار غاية لوجوب النفر ، كما أنها تدل على وجوب الحذر بالعمل بقول المنذر لكونه غاية للإنذار الواجب ، فيكون قول الفقيه المنذر حجة وإلّا لكان وجوب الحذر لغوا.

الوجه الثالث :

الأخبار الدالة على جواز التقليد.

وفيها طوائف من الروايات الصحيحة والضعيفة سندا ، وقد يدّعى ضعفها جميعا ومع هذا فإن ذلك لا يضرّ نظرا للعلم بصدور واحدة منها عن أهل بيت العصمة ، وهي على كثرتها توجب الاطمئنان بصحة جملة منها.

ولا بأس بعرض بعض من هذه الأخبار :

١ ـ ما ورد عن شعيب العقرقوفي قال :

قلت لأبي عبد الله : ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء ، فمن نسأل؟

قال عليك بالأسدي يعني أبا بصير (١).

٢ ـ وما ورد عن عبد العزير ابن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين عن الإمام الرضا عليه‌السلام قال :

قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟

قال : نعم (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١١ ح ١٥ صفات القاضي.

(٢) نفس المصدر : ج ١٨ باب ١١ ح ٣٤.

٦٨

٣ ـ وعن علي بن المسيّب الهمداني قال :

قلت للإمام الرضا عليه‌السلام : شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت ، فممن آخذ معالم ديني؟

قال : من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا.

قال علي بن المسيّب : فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه (١).

٤ ـ ما ورد في مكاتبة إسحاق بن يعقوب إلى مولانا صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف) قال :

«أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (٢).

هذه الأحاديث وأمثالها تنص على الرجوع إلى الوكلاء المنصوبين من قبلهم عليهم‌السلام ولا فرق في ذلك حال الحضور أو الغياب ما دام المناط هو أخذ الأحكام بل الرجوع إلى الفقهاء فترة غياب المعصوم يتأكد أكثر باعتبار ما يحمله هؤلاء من أحكام أخذوها عن الأئمة عليهم‌السلام ؛ إضافة إلى أن الأوامر بالرجوع كانت حال وجودهم بين ظهراني المؤمنين فكيف في حال غيابهم فيكون بطريق أولى ، وإلّا فعدم الرجوع إلى الفقهاء في عصر الغيبة مما يشكّل خطرا على الإسلام وضياعا لعقائده وأحكامه مما يؤدّي إلى اضمحلال التكاليف وحصول الهرج المنفي عقلا وشرعا.

قد يقال : إن هذه النصوص جوّزت الرجوع إلى مطلق العلماء فمن أين توجبون الرجوع إلى العدول منهم؟

جوابه :

أولا : إن مسألة تقليد العادل مما تسالمت عليه سيرة المتدينين عند المسلمين قاطبة لما يمثّل المقلّد العادل من أحكام إلهية يقتضي العقل أن يكون على مستوى من الطهارة النفسية والخلق الرفيع لئلا يختلط الحلال بالحرام فيما لو كان المقلّد فاسقا.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١٨ باب ١١ ح ٢٧.

(٢) نفس المصدر : ج ١٨ باب ١١ ح ٩.

٦٩

ثانيا : قيام النصوص واشتراطها لمسألة العدالة المعتبرة في صحة التقليد منها ما ورد في حديث المسيّب المتقدم الذي أحاله الإمام إلى زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا.

ومنها ما ورد عن مولانا أبي محمّد العسكري عليه‌السلام في حديث طويل قال : «... وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم ، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم ... فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا كرامة» (١).

فالرواية واضحة الدلالة على شيئين :

ـ العدالة النفسانية.

ـ والوثاقة في الدين.

فإذا تحقق هذان الشرطان وجب تقليد المتصف بهما مع إحراز الشروط الأخرى المذكورة في كتب الفقه الاستدلالي ، وإلّا فيحرم حينئذ تقليد فاقدهما.

تنبيه :

لو أنّ أحدا لم يقلّد ولم يحتط ولم يجتهد ، ولكنه عمل من دون استناد إلى أحد العناوين الثلاثة فما حكم صحة عباداته؟

هنا لا بدّ من اشتراط شيئين للحكم بصحة عمله :

الأول : أن يكون عمله موافقا للواقع أو لرأي من يقلّده.

الثاني : أن يكون صادرا عن نية القربة إليه تعالى.

وهذان الشرطان متلازمان ، فإذا انتفى أحدهما يحكم ببطلان عمله.

ومورده التقليد إنما هو في غير الضروريات ، وأما الضروريات الثابتة بنص الكتاب والسنّة كالصلاة والصوم والخمس والحج ، فلا يمكن التقليد أو الاجتهاد في أصل وجوبها بمعنى أنه لا يجوز للمكلّف أن يقلّد من لم يعتقد بوجوب

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ٩٤ ح ٢٠ رقم ٣٣٣٨٥.

٧٠

الخمس مثلا على فرض حصول رأي كهذا ، لأن ثبوت الخمس من الضروريات عند الإمامية فلا مجال لإبداء الرأي الاجتهادي في عدم وجوبه رأسا ، وهكذا بقية الفروع الثابتة بالضرورة، نعم يمكن الاجتهاد في بعض الجزئيات الواردة فيها مما لا يضرّ في أصل تشريعها وتواتر ثبوتها بالضرورة.

* * *

٧١

البحث الثالث

عقيدتنا في الاجتهاد

قال المصنف (قدس‌سره) :

نعتقد أنّ الاجتهاد في الأحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الإمام ، بمعنى أنه يجب على كل مسلم في كل عصر. ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين ، ويكتفون بمن تصدى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط ، فيقلدونه ويرجعون إليه في فروع دينهم.

ففي كل عصر يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم ، فإن وجدوا من بينهم من تبرع بنفسه وحصل على رتبة الاجتهاد التي لا ينالها إلّا ذو حظ عظيم ، وكان جامعا للشرائط التي تؤهله للتقليد ، اكتفوا به وقلّدوه ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم ، وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة وجب عليهم أن يحصل كل واحد على رتبة الاجتهاد أو يهيئوا من بينهم من يتفرّغ لنيل هذه الرتبة حيث يتعذر عليهم جميعا السعي لهذا الأمر أو يتعسر ، ولا يجوز لهم أن يقلّدوا من مات من المجتهدين.

والاجتهاد هو النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين ، وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والأحوال (حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة). والأدلة الشرعية هي الكتاب الكريم والسنّة والإجماع والعقل على التفصيل المذكور في كتب أصول الفقه.

٧٢

وتحصيل رتبة الاجتهاد يحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلّا لمن جدّ واجتهد وفرّغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها.

* * *

في هذا البحث عدة نقاط :

النقطة الأولى : الغاية من الاجتهاد :

الغاية من كل علم هي الهدف الذي من أجله درّس هذا العلم وإلّا أصبحت دراسته عبثا ، بل إن كلّ شيء في الكون مرسوم إلى غاية منشودة لأجلها وجد هذا الشيء.

فالغاية من خلق الكائن ذي الشعور هي المعرفة والعبادة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات / ٥٧).

وكذا كل العلوم إنما وجدت لأجل هدف وغاية ، فالغاية من علم الطب رفع الألم عن الجسد ، وعلم الصناعات غايته تحسين البنية الاقتصادية عند الشعوب ، وهكذا بقية العلوم الاعتبارية في عالم الطبيعة.

وبما أن الاجتهاد في تحصيل الدليل على الأحكام الفرعية من المنابع الفكرية الأساسية في الإسلام هو علم كبقية العلوم التي تتطلب السعي والجهد لتحصيل الدليل على أمر شرعي ، فإنّ غايته رفع المستوى الثقافي والعملي لدى الفرد المسلم والسير نحو حياة أفضل. والاجتهاد في منابع الشريعة من أهم الأمور التي ينبغي للأمة الإسلامية التي هي خير الأمم (بما لديها من طاقات فكرية وعقائدية وسياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية) أن تفرّغ جماعة منها لتحصيله لئلا تبقى فارغة في مجالي العقيدة والسلوك ، تماما كتفرّغ جماعة منها لتحصيل علم الطب أو الهندسة أو غير ذلك ، بل إن تحصيل الاجتهاد لتحصيل الحكم أهم بكثير من بقية العلوم ، لأنّ تلك العلوم إذا لم تكن مقرونة بالإيمان به سبحانه والاعتقاد بما جاء به الأنبياء فستكون وبالا على أصحابها ، ومصدر فساد لأفراد الإنسانية ، لذا تندرج هذه العلوم في عداد الخدم والعبيد لعلم الشريعة الذي يكشف عنه علم خاص يسمى ب «الاجتهاد».

النقطة الثانية : معنى الاجتهاد :

الاجتهاد مأخوذ من «الجهد» بالضم والفتح ، بمعنى الوسع والطاقة ، أو

٧٣

بمعنى المشقة على اختلاف القراءتين ، فلو «قرئ بالفتح «الجهد» يعني المشقة وبالضم «الجهد» يعني الوسع والطاقة» (١).

فالمجتهد يبذل أقصى وسعه ، ويتحمّل المشقة والتعب في سبيل تحصيل الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية الأربعة المقررة وهي :

الكتاب الكريم ـ السنة المطهّرة المتمثلة بأحاديث النبي وعترته الصادقة ـ الإجماع ـ العقل.

وتحصيل الحكم الشرعي من الأدلة ليس قطعيا تماما كتحصيل المعصوم عليه‌السلام للحكم ، وإلّا لما اختلف الفقهاء فيما بينهم بأحكام متعددة على موضوع واحد ، مع أن حكم الله تعالى واحد لا يتبدل باختلاف المجتهدين وأرباب النظر ، لذا أحسن التعاريف لكلمة «مجتهد» هو أن يقال :

«إن المجتهد هو من استفرغ وسعه لتحصيل الظن بالحكم الشرعي».

والمراد ب «الظن» هنا الظن الخاص الذي قامت الحجة على اعتباره فيكون العمل في الحقيقة بتلك الحجة لا بالظن.

أما متعلق «الظن» فهو الظن بالحكم الواقعي لأنّ المجتهد عند ما يستفرغ وسعه لتحصيل الدليل على مسألة ما ، فإن ذلك قطعيّ عنده ظاهرا ، وظنيّ واقعا ، لذا قيل : «المجتهد إذا أصاب فله أجران ، وإذا أخطأ فله أجر واحد».

والمقصود : أنّه إذا أصاب الواقع بما حصّله من أدلة ، فله أجر المشقة وأجر تحصيل الواقع ، وإن أخطأه فله أجر المشقة لا غير.

وهذا المعنى للاجتهاد مما تفرّدت به الإمامية ، بعكس باقي المسلمين حيث باب الاجتهاد عندهم مقتصر على أئمة المذاهب الأربعة دون غيرهم ممن له أهلية النظر ، ومع هذا فإن سدّهم لهذا الباب يترتّب عليه أمران :

الأول : تجميد حركة الفكر وتطوره في حركة التشريع الإسلامي وما يستجد من مسائل في حركة الصراع بين الإسلام والمبادي الأخرى.

الثاني : إماتة فتاوى بقية المجتهدين المتأخرين عن الأربعة الأوائل.

والأفضل أن لا يكتب لها الحياة لابتناء أكثرها على القياس والاستحسان كما هو دأب فتاوى الأئمة الأربعة عندهم.

__________________

(١) لسان العرب : ج ٣ ص ١٣٣.

٧٤

ويطالب اليوم ثلة من مفكري العامة بفتح باب الاجتهاد المؤصّد بعد عصر المذاهب الأربعة.

وفتحهم لباب الاجتهاد إن لم يكن مقرونا بالانفتاح على فقه الإمامية ومرويات العترة الطاهرة يكون أشبه شيء بخرط القتاد ، وكناقش الشوكة بالشوكة (١) وإقفاله أفضل من فتحه.

وعليه فما ارتأته الشيعة الإمامية مما لا مناص عنه لضرورته في عصر فقدان النص المباشر القطعي من النبي والوصي ، ففي عصر النص لم تكن هناك حاجة للاجتهاد ولا التقليد لغير المعصوم عليه‌السلام ، إذ كان التعامل يوم ذاك يقوم طبقا لطريقة الاتباع وذلك لتوفر قرائن العلم والوضوح بما لم يدع ذريعة للعمل بالرأي ، وبعد عصر النص وبالتحديد بعد الغيبة الكبرى لمولانا الإمام المهدي (عج) أخذت قرائن العلم والوضوح تضعف شيئا فشيئا كلما طال الزمن ، لا سيما الظروف الضاغطة التي أحدقت بالشيعة آنذاك مما سبّب فقدان الكثير من النصوص القطعية التي لو بقيت لأثرت المسلمين بحيويتها ، لذا كان لا بدّ من الاجتهاد للتوصل إلى معرفة الأحكام ولو على سبيل الظن لأنّ العلوم الشرعية كبقية العلوم يجب تحصيلها كفاية لاحتياج الناس إليها لمعرفة أمور دينهم ودنياهم.

فما ذهب إليه العامة من تجميدهم لحركة الاجتهاد مما لا تقره السيرة العقلائية وخلاف قيام الأدلّة الآمرة بمعرفة أمور الدين مما لا نص قطعيا عليه سيّما الموضوعات المستجدة التي تطرأ على الفرد المسلم مما يستدعي (لو قلنا بعدم جواز عملية الاجتهاد) بقاء الفرد حائرا مترددا يتخبط في غياهب الجهل نتيجة فقدان من يشخّص له وظيفته العملية والسلوكية تجاه ما يعترضهم من مشكلات تعيق سيره نحو الفضيلة والتكامل.

النقطة الثالثة : أقسام الاجتهاد :

ينقسم بحسب مورده إلى أقسام منها جائز وأخرى غير جائزة هي :

__________________

(١) مثال ضربه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لكل أمر يريد المرء الخروج منه بشيء أضعف منه أو مساويه ، كمن يريد استخراج الشوكة الناشبة في القدم بشوكة مثلها ، فإن إحداهما في القوة والضعف كالأخرى فكما أن الأولى لما وطئتها فدخلت في لحمك ، فالثانية إذا حاولت استخراج الأولى بها فتنكسر وتلج في لحمك.

٧٥

الأول : ما يكون في مورد النص القطعي ثبوتا ودلالة بمعنى العلم بوجوه يقينا في الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة ، بحيث لا يقبل الشك لوضوح دلالته ولا يحتمل التأويل ، وهذا القسم من الاجتهاد مما لا يمكن الأخذ به وقد أنكره الشيعة ، والعجب أن العامة أنكروه أيضا في حين أن سيدهم عمر بن الخطاب أول من قال به وعوّل عليه عند ما قال : «متعتان كانتا على عهد رسول الله ، أنا أنهى عنهما ، متعة النساء ومتعة الحج». وفي لفظ آخر : وأحرّمهما.

فالاجتهاد إنما يكون في النظريات لا الضروريات التي قامت الأدلة القطعية على ثبوتها ، والاجتهاد فيها يؤدي إلى محق الدين وتعطيل شريعة سيد المرسلين بجحود النصوص ، وهذا ما يسمى بالاجتهاد في مقابل النص (١) ، وهو مما نص على تحريمه إضافة إلى الشريعة المقدّسة بقية الشرائع الوضعية.

الثاني : أن يكون في مورد لا نص فيه من آية أو رواية أو إجماع قطعي وهذا يشمل القياس والاستحسان الظنيّين اللّذين قال بهما العامة ، وحرّمهما الخاصة (رضوان الله عليهم) ، لأنّ القياس والاستحسان يعني الاعتماد على مجرّد الحدس أو الرأي الذاتي المحض الذي اعتمد عليه المكلّف من دون استعانة بأحد الأدلة الأربعة ، حيث إن المكلّف قد أقام رأيه الخاص وظنونه الشخصية مقام النص ، واتخذ منه مصدرا لأحكام الدين.

وقد يكون الاجتهاد في مورد لا نص فيه كما لو اعتمد على دليل عام يحكم العقل بصحته ويجزم بصوابه كمسألة دوران الأمر بين الأهم والمهم عند التزاحم ، والضرورات تقدّر بقدرها وقبح العقاب بلا بيان ، وما إلى ذلك من أحكام قرّرها العقل وحكم بصحتها الشرع ، لما يستكشف منها من أحكام كما يستكشف وجود

__________________

(١) من مصاديق هذا الاجتهاد : ما فعله عمر بن الخطاب حيث حرّم المتعتين وحي على خير العمل وكثيرا من الأحكام الضرورية التي كانت ثابتة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكتف بذلك ، بل منع من وصول الكتاب الذي أراد أن يكتبه لهم النبي وهو على فراش الموت فقال تلك المقالة الفظيعة : إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله ، اعتقادا منه أن الكتاب كاف لوحده في السير إلى الله تعالى من دون الرجوع إلى سنة النبي التي أمر القرآن بالرجوع إليها. ولقد روى هذا الحديث عن عمر بن الخطاب : الشهرستاني في الملل والنحل ج ١ / ٢٢ وصحيح البخاري ج ٥ / ١٦٢ ح ٤٤٣٢ وح ٤٤٣١ وج ٨ / ٥١٦ ح ٧٣٦٦ باب مرض النبي وصحيح مسلم ج ١١ / ٧٥ حديث ١٦٣٧ كتاب الوصية وابن الأثير في الكامل ج ٢ / ٣٢٠.

٧٦

المسبّب من وجود السبب.

وهذا النوع من الاجتهاد أجازه الشيعة وفتحوا بابه لكل كفؤ لأنه يعتمد على دليل العقل الذي هو حجة عند كل العقلاء فكيف بشريعة سيد الأنام محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودليل العقل هو آخر ما يلجأ إليه الفقه في استنباط الحكم الشرعي.

الثالث : أن يكون الاجتهاد في فهم النص القرآن أو السنة الثابتة بالخبر الواحد الثقة أو المتواتر ، وهذا كسابقه حائز وبه يعمل الشيعة في عصر الغيبة.

وزبدة المخض :

إن الشيعة أيدهم الباري أجازوا الاجتهاد في تفسير النّص غير قطعي الدلالة ، وقطعي الثبوت ، وفيما لم يرد فيه نص ، وما سوى ذلك فهو حرام عندهم لأنه اجتهاد في مقابل النص حرّمه النبي والعترة وأجازوا لهم ما أوردناه لقول مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام :

إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» (١).

وهذا يتضمن جواز التفريع عن الأصول المسموعة منهم والقواعد الكلية المأخوذة عنهم عليهم الصلاة والسلام.

النقطة الرابعة : تقسيم الاجتهاد :

وهو ينقسم إلى : مطلق ومتجزئ.

الاجتهاد المطلق : هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من إمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد التي لم يظفر فيها بها (٢).

الاجتهاد المتجزئ : هو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام دون بعض.

ولا خلاف بينهم في إمكان الاجتهاد المطلق ، وإنما اختلف في المتجزئ وهل يمكن وقوعه أم أنه ضرب من المستحيلات؟

الذين قالوا بالاستحالة ناقشوا في ذلك بدعوى : أن الاجتهاد ملكة كملكة الشجاعة أو السخاوة وغيرهما من الملكات النفسانية البسيطة غير القابلة للتجزئة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٦ ح ٥١.

(٢) حقائق الأصول : ج ٢ ص ٦٠٢.

٧٧

والتقسيم ، فبما أنّ الملكة يدور أمرها بين الوجود والعدم ، ولا يعقل أن تتحقق متبعضة كأن يقال : إنّ لفلان نصف ملكة الشجاعة ، أو نصف ملكة الاجتهاد ، إذا المتصدي للاستنباط إما أن يكون مجتهدا مطلقا وإما أن لا يتصف بالاجتهاد أصلا ، فالتجزي في الاجتهاد أمر غير معقول.

والجواب عنه :

أن من قال بجواز تبعض الاجتهاد لا يريد بذلك أن ملكة الاجتهاد قابلة للتجزئة ، وأن للمتجزئ نصف ملكة كما مرّ فإن هذا غير معقول نظير دعوى أن زيدا له نصف ملكة الشجاعة بل مراده أن متعلق القدرة في المتجزي أضيق دائرة من متعلقها في المجتهد المطلق لأنها فيه أوسع (١) ، توضيحه :

إن القدرة تتعدد بتعدد متعلقاتها ، فإنّ القدرة على استنباط حكم مغايرة للقدرة على استنباط حكم آخر ، وحيث إن أبواب الفقه مختلفة المدارك ، متفاوتة سهولة وصعوبة مع اختلاف الأشخاص في الاطّلاع عليها ، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إلى تلك الأبواب ؛ فربّ فرد كثير الاطّلاع ، طويل الباع في مدرك باب معين من أبواب الفقه دون باب آخر ، فهذا يستدعي بالضرورة حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركها أو لمهارة الشخص فيه دون غيره ، فما ادّعي من استحالة وقوع الاجتهاد المتجزئ مردود ، بل قد يقال : إنه يستحيل عادة حصول اجتهاد مطلق لا يكون مسبوقا بتجزؤ لأنه ليس من المستحيلات العقلية نظير اجتماع الضدين أو النقيضين ، وذلك لأن المسائل الفقهية في عرض واحد ولا تقدم لبعضها على بعض آخر زمانا أو رتبة بأن يكون التمكن من استنباط بعضها مقدمة للقدرة على استنباط بعضها الآخر حتى يتوهم أن المتأخر يستحيل أن يتحقق قبل حصول المتقدم حيث إن تحقق ذي المقدمة من دون مقدمته في المقام يستلزم الطفرة المحالة ، فأي مانع لدى العقل من أن تحصل ملكة الاجتهاد المطلق دفعة واحدة ولو بالإعجاز والإفاضة منه تعالى جلّت عظمته.

فإذن يمكن أن يصبح المرء مجتهدا مطلقا دفعة واحدة ومن دون أن يمر بمرحلة التجزؤ إلا أن ذلك نادر الحصول ، فلا بدّ من اجتياز تلك المرحلة الجزئية للوصول إلى مرحلة الاجتهاد المطلق.

__________________

(١) التنقيح : ج ١ ص ٣٣.

٧٨

المبحث الرابع

عقيدتنا في المجتهد

قال المصنف (قدس‌سره) :

وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام في حال غيبته ، وهو الحاكم والرئيس المطلق ، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس ، والرادّ عليه رادّ على الإمام ، والرادّ على الإمام رادّ على الله تعالى ، وهو على حدّ الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت.

فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعا في الفتيا فقط ، بل له الولاية العامة ، فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء ، وذلك من مختصاته لا يجوز لأحد أن يتولاها دونه إلّا بإذنه ، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلّا بأمره وحكمه.

ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته.

وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام عليه‌السلام للمجتهد الجامع للشرائط ، ليكون نائبا عنه في حال الغيبة ولذلك يسمى (نائب الإمام).

* * *

عرفنا أنّ المجتهد هو من كانت لديه القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها التفصيلية ، وهناك صفات لا بدّ أن تتوفر في الشخص الذي يراد تقليده والرجوع إليه في الفتيا ، وهذه الصفات هي ضوابط كلية حتى لا يكون التقليد رغبة نفسية يفرّغها المقلّد عند من تهواه نفسه وتشتاق إليه عواطفه ، لذا ذكرها فقهاء الإمامية في كتبهم هي :

٧٩

أ ـ العقل : بمعنى أن لا يكون مجنونا وهذا واضح.

ب ـ البلوغ : فلا يصح تقليد غير البالغ حتى ولو كان مجتهدا.

ج ـ الرجولية : فلا يصح تقليد المرأة مهما شمخت بالعلم.

د ـ الحياة : فلا يصح تقليد الميّت ، على خلاف بين الفقهاء ، فيما لو قلّده ابتداء فذلك غير جائز ، أما استمرارا كما لو كان أعلم من الأحياء فيجوز أو يجب البقاء على تقليده في المسائل التي له رأي فيها.

وهناك من الشيعة من جوّز تقليد الميّت ابتداء عكس المتسالم عليه لدى مشهور الفقهاء ، واستدلّ المجوّزون على ذلك بأدلة منها :

إنكار مشروعية التقليد من الأصل لأنّ رجوع العامي إلى المجتهد إنما هو من باب الرجوع إلى رواة الأحاديث كما في رواية إسحاق بن يعقوب عنه عليه‌السلام بقوله : «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا».

والمفتي ينقل الرواية لا أنه يفتي حقيقة حسب نظره ورأيه ، ومن الظاهر أن حجية الرواية وجواز العمل بها لا يتوقفان على حياة الراوي بوجه ، لأنها حجة ويجوز العمل بها سواء كان المحدّث حيّا أم ميتا (١).

ه ـ العدالة : فلا يجوز تقليد الفاسق ، فهو بمثابة شيطان إنسي رفض السجود لشريعة سيد المرسلين.

و ـ الإيمان : فلا يجوز تقليد غير المعتقد بالأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام.

ز ـ الحرية : فلا يصح تقليد الذين يرزحون تحت نير العبودية لأنّ ذلك يؤدّي إلى أن كل ما يصدر عنهم من فتاوى لا تعبّر عن الإرادة الحرة التي لا بدّ للفتوى أن تنطلق منها.

ح ـ الضبط المتعارف : أي أن يملك ذاكرة وحافظة تؤهله ألا ينسى أحكام الله تعالى.

ي ـ طهارة المولد : أي أن لا يكون ابن زنا ، وذلك لأنّ الوظائف الاجتماعية لا سيما الدينية منها منوطة بمن يحبه الناس ويميلون إليه بطبائعهم لذا تراهم ينفرون غريزيا من المنبوذ الذي لم يلاق الرعاية الحسنة والمطلوبة.

__________________

(١) التنقيح : ج ١ ص ٩٦.

٨٠