الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

الحديث الأول :

ما ورد عن الثقة الجليل ابن مسكان عن مولانا الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال: لم يقسّم بين العباد أقلّ من خمس :

اليقين ، والقنوع ، والصبر ، والشكر ، والذي يكمل به هذا كله العقل (١).

الحديث الثاني :

ما ورد عن داود بن سليمان قال :

سمعت الإمام الرضا عليه‌السلام يقول : ما استودع الله عبدا عقلا إلّا استنقذه به يوما (٢).

الحديث الثالث :

ما ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال :

إنما يداقّ (٣) الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا (٤).

الحديث الرابع :

ما ورد عن أبي حمزة السعدي عن أبيه قال : أوصى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى الإمام الحسن عليه‌السلام فقال :

يا بنيّ لا فقر أشدّ من الجهل ، ولا عدم من عدم العقل ، ولا وحدة ولا وحشة أوحش من العجب ، ولا حسب كحسن الخلق ، ولا ورع كالكف عن محارم الله ، ولا عبادة كالتفكر في صفة الله عزوجل ، يا بنيّ العقل خليل المرء ، والحلم وزيره ، والرفق والده ، والصبر من خير جنوده.

يا بنيّ أنه لا بدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه وليعرف أهل زمانه.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ ص ٨٦ ح ٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ١ ص ٨٨ ح ١٢.

(٣) المداقة : تعني المناقشة في الحساب.

(٤) الكافي الشريف ج ١ / ١١ ح ٧.

٤١

يا بنيّ إنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من ذلك مرض البدن ، وأشدّ من ذلك مرض القلب (١) ...

الحديث الخامس :

ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

ما قسّم الله للعباد شيئا أفضل من العقل ، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ولا بعث الله رسولا ولا نبيا حتى يستكمل العقل ، ويكون عقله أفضل من عقول جميع أمته ... إنّ العقلاء هم أولو الألباب الذين قال تعالى عزوجل : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

الحديث السادس :

ما ورد عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : ما خلق الله عزوجل شيئا أبغض إليه من الأحمق ، لأنه سلبه أحبّ الأشياء إليه وهو عقله (٣).

الحديث السابع :

ما ورد عن مولى الثقلين علي بن أبي طالب روحي فداه قال :

ليس الرؤية مع الإبصار ، وقد تكذّب العيون أهلها ، ولا يغشّ العقل من انتصحه(٤).

الحديث الثامن :

ما ورد عن الثقة الجليل محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

لمّا خلق الله العقل استنطقه ثم قال له :

أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر.

ثم قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ منك وإلا أكملتك إلّا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ ص ٨٨ ح ١٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ١ ص ٩١ ح ١٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ١ ص ٨٩ ح ١٦.

(٤) بحار الأنوار : ج ١ ص ٩٥ ح ٢٩.

٤٢

فيمن أحب ، أما إني إياك آمر ، وإياك أنهى ، وإياك أعاقب ، وإياك أثيب (١).

إشكال وحل :

مفاده : قد ورد في الخبر الثامن أنه سبحانه خاطب العقل بالإقبال والإدبار فكيف يصح خطاب الجماد بهما؟

يجاب عنه :

أولا : إنّ المراد من الخطاب فعله تعالى وإرادته لتحقق الشيء خارجا قال تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران / ٤٨) كما أن المفهوم الخطاب الإلهي نظيرا في الكتاب العزيز عند ما أوجد سبحانه السماء والأرض بقوله :

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (فصلت / ١٢).

وقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران / ٦٠).

وبهذا يكون أمره تعالى بالإقبال والإدبار الواردين في الحديث المستفيض أمرا حقيقيا تكوينيا لموجود عنده شعور وإرادة تماما كتسبيح الكائنات لله تعالى الصادر عنهم عن علم وإرادة كما يرمز إليه قوله تعالى :

(... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء / ٤٥) فقوله : (لا تَفْقَهُونَ) إشارة إلى كون التسبيح عن شعور وإرادة وعلم لا بلسان الحال.

ومنه قوله تعالى يوم الطامة :

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (فصلت / ٢١).

ولربّ قائل يقول :

لو كان غير الإنسان والحيوان كالجماد والنبات مثلا ذا شعور وإرادة لبانت

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ ص ١٠ ح ١.

٤٣

آثاره وظهر منها ما يظهر من الإنسان والحيوان من الأعمال العلمية والأفعال والانفعالات الشعورية؟

جوابه :

أولا : لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد من تشابه الآثار المترشحة منه ، فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها الآثار ، على أن الآثار والأعمال العجيبة المتقنة المشهورة عند النبات وسائر الأنواع الطبيعية في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها ونظمها وترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان والحيوان.

ثانيا : أن يكون المراد بالخطاب بالإقبال والإدبار الاستعارة التمثيلية أو كناية عن بيان أو مدار التكاليف والكمالات والترقيات منوطة بالعقل ومتوقفة عليه ، ومنه ما ورد عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

خلق الله العقل من أربعة أشياء :

العلم ـ والقدرة ـ والنور ـ والمشية بالأمر ، فجعله قائما بالعلم دائما في الملكوت(١).

فخلق هذه الأشياء الأربعة كناية عن استلزامه لها فكأنها مادته ؛ ويحتمل أن تكون (من) تعليلية أي خلقه لتحصيل تلك الأمور ، أو المعنى أنه تعالى لم يخلقه من مادة بل خلقه من علمه وقدرته ونوريته ومشيته فظهر في تلك الآثار من أنوار جلاله.

ثالثا : أن يكون المقصود بالخطاب نور النبي محمّد وآله المقدّسين صلّى الله عليه وعليهم أجمعين كما ورد في بعض النصوص :

منها : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أول ما خلق الله نوري» (٢).

وفي حديث مثله مع زيادة : «إذ به تنوّرت السماوات والأرض» (٣).

ومنها عنه صلّى عليه وآله وسلّم : «أول ما خلق الله عزوجل أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتمجيده

__________________

(١) مصابيح الأنوار : ج ٢ ص ٤٠٦ نقلا عن الاختصاص للمفيد (قدس‌سره).

(٢) بحار الأنوار : ج ١ ص ٩٧ ح ٧.

(٣) علم اليقين : ج ١ ص ١٥٦.

٤٤

ثم خلق الملائكة» (١).

ويؤيده ما ورد في أخبار كثيرة عنهم عليهم‌السلام : أن الأرواح خلقت قبل الأجساد (٢).

فيكون معنى الحديث :

أقبل يا محمّد إلى الوجود واهبط إلى الأرض رحمة للعالمين ، فأقبل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان نوره مع كل نبي باطنا (بولايته ونطفته المباركة التي تدرّجت في أصلاب الأنبياء عليهم‌السلام) ومع جسمه المبعوث أول ولادته ظاهرا ؛ ثم قال له : أدبر فأدبر عن الدنيا ورجع إلى ربّه بكنه روحه حتى صار كقاب قوسين أو أدنى ، فقال له الباري عزّ اسمه : «وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ منك» ، وهذا حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو حبيب الله ، وهل هناك من هو أحبّ إليه سبحانه من محمد وعترته؟ كلا. وبهذا يتبين أنه سبحانه يحتج على العباد بالعقل ، ولأهميته في نظر الإسلام جعل مصدرا رابعا عند الإمامية أيدهم الله تعالى ، ومع هذا فإنه لا يكفي في استكشاف مناطات الأحكام الشرعية بل هو بحاجة دائما إلى مؤازرة الشريعة المقدّسة ويؤيده ما حكي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال :

«الشرع عقل من خارج ، والعقل شرع من داخل» (٣).

وما ورد عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال :

«حجة الله على العباد النبي ، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل» (٤).

الأمر الثالث : علامات العقل وجنوده :

حيث إن العقل مخلوق عجيب ، عظيم الصنع ، تكرّم به الباري سبحانه على الإنسان ليميّزه عن سائر مخلوقاته ، وليجعله أشرفها إذا أطاعه ، وأخسّها إذا عصاه ، ومع هذا لم يعرف بالكنه والحقيقة بل إنما يدرك بآثاره ولوازمه ، لذا نسب إلى مولى الثقلين مادحا إياه بقوله :

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٥ / كتاب الامامة وعلم اليقين ج ١ ص ١٥٦ ومعاني الأخبار.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٥ / باب بدء خلقهم.

(٣) مجمع البحرين : ج ٥ / ٤٢٥ مادة عقل.

(٤) أصول الكافي : ج ١ / ٢٥ ح ٢٢.

٤٥

فتمييز الإنسان عن الحيوان بالعقل لما اختاره سبحانه عن بقية مخلوقاته لحكمة إيداعه خزائن الأسرار الكامنة كمون النار في الزناد ، تزيد وتنقص وتظهر وتختفي ، فهو خير صاحب وصديق لمن استعمله فيعينه على السداد ومشاركة أهل الرشاد ، فلو استعمل بحق لشارك السبع الشداد قال أمير الموحّدين علي بن أبي طالب روحي فداه :

«خلق الإنسان ذا نفس ناطقة ، إن زكاها بالعلم والعمل ، فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، وإذا اعتدل مزاجها وصحّ منهاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد».

فلو زكّى الآدمي نفسه فتتشبه بجواهر عللها في الصفاء واللطافة والبراءة من الكثرات حصلت على مكنون العلم وعناصر الحلم والفهم ، وجواهر العلل هي العقل لأنه علة العلل ، فإذا اعتدل مزاج تلك النفس وتوسطت بين الطبائع ، صارت ملكية حاكية لما وراءها من العقل. وحيث إنّ العقل جوهرة ثمينة لا بدّ له من صفات ودلالات بها يعرف العاقل عن غيره ، وقد وردت أخبار فوق الاستفاضة تشرح علامات العقل وصفاته ، ولسان هذه الأخبار العقلي العملي لا النظري الذي يشترك به كل الناس ، وإلّا لتساوى عقل معاوية مع عقول الحجج عليه‌السلام.

من هذه الأخبار :

الخبر الأول : ما ورد عن البرقي عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«قسّم العقل على ثلاثة أجزاء ، فمن كانت فيه كمل عقله ، ومن لم تكن فيه فلا عقل له :

حسن المعرفة بالله عزوجل ، وحسن الطاعة له ، وحسن الصبر على أمره» (١).

فبجعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الأشياء من أجزاء العقل مع أنها من آثاره محمول على المبالغة والتوسع لعلاقة عدم انفكاكها عنه ودلالتها عليه ، فيكون المراد بها العقل العملي الداعي إلى الطاعة والخير.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ ص ١٠٦ ح ١.

٤٦

الخبر الثاني : عن الأصبغ بن نباتة صاحب أمير المؤمنين عنه عليه‌السلام قال : «هبط جبرائيل على آدم عليه‌السلام فقال :

يا آدم إني أمرت أن أخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين.

فقال له آدم :

يا جبرائيل وما الثلاث؟

قال عليه‌السلام : العقل والحياء والدين.

قال آدم عليه‌السلام : إني قد اخترت العقل.

فقال جبرائيل للحياء والدين : انصرفا ودعاه.

فقالا : يا جبرائيل إنّا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان.

قال عليه‌السلام : فشأنكما وعرج (١).

إذن هما (أي الحياء والدين) مأموران تكوينا بالتبعية للعقل ، فهما ملازمان له ملازمة الظل لذي الظل ، وملازمتهما له أصالة إذا كان العقل كامل الإدراك وإلّا فقد يتخلّفان عن العقل في أكثر الأحيان كما نشاهد في الفسّاق ، وهذا تماما كولادة الإنسان على الفطرة تكوينا إلّا أن الإنسان يلوّثها بالمعاصي وقبائح الأفعال.

وأما خطاب جبرائيل عليه‌السلام لهما فيحمل :

إما على الخطاب الحقيقي وأن لهما شعورا لا ندرك كنهه.

وإمّا مبني على الاستعارة والمجاز.

وإما أنه عليه‌السلام أتى بثلاث صور ، فكان لكل واحدة من تكلم الخصال صورة تناسبها ، حيث إنّ لكل من الأعراض والمعقولات صورة تناسبها من الأجسام والمحسوسات وبها تتمثل في المنام.

الخبر الثالث : وفيه تعداد جنود العقل ، نورده بطوله لأهميته.

فعن سماعه بن مهران قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل.

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ ص ١٠ ح ٢.

٤٧

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

اعرفوا العقل وجنده ، والجهل وجنده تهتدوا.

قال سماعة : قلت : جعلت فداك لا نعرف إلّا ما عرّفتنا.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله عزوجل خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره ، فقال له : أدبر فأدبر ، ثم قال له أقبل فأقبل ، فقال الله تبارك وتعالى : خلقتك خلقا عظيما وكرّمتك على جميع خلقي ، قال : ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانيا ، فقال له أدبر فأدبر ثم قال له : أقبل فلم يقبل ، فقال له :

استكبرت فلعنه ، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جندا فلمّا رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة ، فقال الجهل يا ربّ هذا خلق مثلي خلقته وكرّمته وقوّيته وأنا ضده ولا قوة لي به فأعطني من الجند مثل (١) ما أعطيته ، فقال :

نعم فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي.

قال : قد رضيت فأعطاه خمسة وسبعين جندا فكان مما أعطي العقل من الخمسة والسبعين الجند :

الخير وهو وزير العقل ، وجعل ضدّه الشر وهو وزير الجهل.

والإيمان وضده الكفر ، والتصديق وضده الجحود.

والرجاء وضده القنوط ، والعدل وضده الجور.

والرضا وضده السخط ، والشكر وضده الكفران.

والطمع وضده اليأس ، والتوكل وضده الحرص.

والرأفة وضدها القسوة ، والرحمة وضدها الغضب.

والعلم وضده الجهل ، والفهم وضده الحمق.

والعفة وضدها التهتك ، والزهد وضده الرغبة.

__________________

(١) يظهر من سياق الحديث أن أمر الجهل بالإقبال يعد أمرا تشريعيا متمثلا بإبليس اللعين حيث أمره سبحانه بالإقبال على الطاعة فلم يمتثل فهو دائما مدبر عن الطاعة مقبل على المعصية.

٤٨

والرفق وضده الخرق ، والرهبة وضدها الجرأة.

والتواضع وضده الكبر ، والتؤدة وضدها التسرّع.

والحلم وضده السفه ، والصمت وضده الهذر.

والاستسلام وضده الاستكبار ، والتسليم وضده الشك.

والصبر وضده الجزع ، والصفح وضده الانتقام.

والغنى وضده الفقر ، والتذكر وضده السهو.

والحفظ وضده النسيان ، والتعطف وضده القطيعة.

والقنوع وضده الحرص ، والمؤاساة وضدها المنع.

والمودّة وضدّها العداوة ، والوفاء وضده الغدر.

والطاعة وضدها المعصية ، والخضوع وضده التطاول.

والسلامة وضدّها البلاء ، والحبّ وضده البغض.

والصدق وضده الكذب ، والحق وضده الباطل.

والأمانة وضدها الخيانة ، والإخلاص وضده الشوب.

والشهامة وضدها البلادة ، والفهم وضده الغباوة.

والمعرفة وضدها الإنكار ، والمداراة وضدّها المكاشفة.

وسلامة الغيب وضدها المماكرة ، والكتمان وضده الإفشاء.

والصلاة وضدها الإضاعة ، والصوم وضده الإفطار.

والجهاد وضده النكول ، والحج وضده نبذ الميثاق.

وصون الحديث وضده النميمة ، وبر الوالدين وضده العقوق.

والحقيقة وضدها الرياء ، والمعروف وضده المنكر.

والستر وضده التبرّج ، والتقية وضدها الإذاعة.

والإنصاف وضده الحمية ، والتهيئة (أي الموافقة) وضدها البغي.

والنظافة وضدها القذر ، والحياء وضدها الجلع (أي الوقاحة).

والقصد وضده العدوان ، والراحة وضدها التعب.

والسهولة وضدها الصعوبة ، والبركة وضدها المحق.

٤٩

والعافية وضدها البلاء ، والقوام (ما يعاش به) وضده المكاثرة (أي تحصيل متاع الدنيا زائدا على قدر الحاجة).

والحكمة وضدها الهواء ، والوقار ، وضده الخفّة.

والسعادة وضدها الشقاوة ، والتوبة وضدها الإصرار.

والاستغفار وضده الاغترار ، والمحافظة وضدها التهاون.

والدعاء وضده الاستنكاف ، والنشاط وضده الكسل.

والفرح وضده الحزن ، والإلفة وضدّها الفرقة.

والسخاء وضده الجهل.

ثم قال الإمام عليه‌السلام :

فلا تجتمع هذه الخصال كلّها من أجناد العقل إلّا في نبي أو وصي نبي أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ، وأما سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتى يستكمل ، وينقّى من جنود الجهل ، فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء وإنما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده ، وبمجانبة الجهل وجنوده وفّقنا الله وإياكم لطاعته ومرضاته (١).

فكلما كملت في الإنسان صفات العقل كلما قرب من باب العصمة أي يصبح بدلا صالحا يستحق نيل الفيض الأقدس بجوده تعالى وكرمه ، اللهم ارزقنا.

وكلما تناقص فيها كلما قرب من باب الشيطنة والدهاء ، فيصبح بابا من أبواب إبليس وعونا من أعوانه. اللهم أعذنا من ذلك بالنبي وآله.

الخبر الرابع : عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواب شمعون بن لاوي بن يهودا أحد حواريي النبي عيسى عليه‌السلام حيث قال :

أخبرني عن العقل ما هو وكيف هو؟

وما يتشعب منه وما لا يتشعب؟

وصف لي طوائفه كلّها.

فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٢٠ ح ١٤.

٥٠

إن العقل عقال من الجهل ، والنفس مثل أخبث الدواب ، فإن لم تعقل حارت (أي هلكت) (١).

كل هذه النصوص إشارة إلى حقيقة العقل العملي ، فبمقدار ما يرتبط المرء بالمولى عزّ ذكره بمقدار ما يحصل على نسبة ما من الكمال العقلي لذا ورد عن مولانا أبي جعفر الباقر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعبد الله عزوجل بشيء أفضل من العقل ، ولا يكون المؤمن عاقلا حتى تجتمع فيه عشر خصال :

الخير منه مأمول ـ والشر منه مأمون.

يستكثر قليل الخير من غيره ـ ويستقلّ كثير الخير من نفسه.

ولا يسأم من طلب العلم طول عمره ـ ولا يتبرم (أي يتضجّر) بطلاب الحوائج قبله.

الذلّ أحبّ إليه من العز ـ والفقر أحبّ إليه من الغنى.

نصيبه من الدنيا القوت ، والعاشرة لا يرى أحدا إلّا قال :

هو خير مني وأتقى. إنما الناس رجلان : فرجل هو خير منه وأتقى وآخر هو شرّ منه وأدنى ، فإذا رأى من هو خير منه وأتقى تواضع له ليلحق به ، وإذا لقى الذي هو شر منه وأدنى قال :

عسى خير هذا باطن ، وشرّه ظاهر ، وعسى أن يختم له بخير ، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه (٢).

ونزيد بيانا في أن المراد بالعقل هو العملي ، ما ورد عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما سئل : ما العقل؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : العمل بطاعة الله وإن العمّال بطاعة الله هم العقلاء (٣).

ويظهر من الأخبار أن للعقل استعمالات عدّة :

فمرة يطلق ويراد به الحقيقة المحمدية كما تقدم آنفا.

وأخرى يراد به نوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعاعه في قلوب المؤمنين ، ونقصد بالنور ولاية

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ ص ١١٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ١ ص ١٠٨.

(٣) نفس المصدر : ج ١ ص ١٣١.

٥١

محمّد والعترة عليهم‌السلام.

وثالثة يراد به روح القدس الذي يبقى دائما مع النبي وآله كما هو أخبار كثيرة فلاحظ.

ويسدّد به المؤمنون ويشهد له نصوص عدة منها ما ورد في شأن حسان بن ثابت يوم بيعة أمير الثقلين فأنشد فيه شعرا ، فمدحه النبي بقوله :

لا تزال يا حسّان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».

وكان مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحسان معلّقا على ظرف استمراره في نصرة العترة عليهم‌السلام لأنّ المعروف من سيرة حسّان أنه انحرف عن إمام الهدى في أخريات أيامه.

النقطة الثالثة : معرفته تعالى بالعقل :

ومما تطرّق إليه المصنف (قدّس سره) معرفة الله تعالى بالدليل العقلي ، حيث يتحلى الإنسان بخصائص فطرية وغريزية لمعرفة الحقائق والاطلاع على الواقعيات وهي بدورها تدفعه للتفكّر والتأمّل في كل المسائل التي لها مسيس حاجة عند الإنسان ، وترتكز عليها حياته وتحركاته ، فهو دائما يتساءل عن الدين وعلاقة الإنسان بالسماء ، فهل هناك موجود غير محسوس؟

وإذا كان له وجود فهل له علاقة بعالمنا المشهود؟

وإذا كان له علاقة فهل هي حسية أم عقلية أو روحية؟

وهل لهذا الكون مدبّر أم أنه وجد صدفة؟

والواقع أن كل هذه التساؤلات يجيب عنها العقل السّوي ، من هنا يقال ما هو مدى حجية العقل وما هو هذا العقل الحجة؟ فليكن معلوما أن مناط التكليف الشعور للكليات لا النماء والحياة فحسب لأنهما متوافران عند النبات والحيوان والإنسان المجنون ، فالتكليف لا بدّ أن يكون منصبّا على كل ذي شعور عقلاني وهذا الذي عليه مناط الأمر والنهي والخطاب والعتاب والثواب والعقاب وهو المأمور بالمعرفة واليقين والثبات والعلم والعمل ولا يمكن للإنسان تصديق شيء إلّا إذا صدّقه عقله ، ولا تكذيب شيء إلّا ما كذّبه عقله ولا يسعه إلّا ذلك ولا يكلّف إلّا بذلك ، فالعقل هو حجة الله على خلقه وأمينه في عباده ، به يعرف الله ويعرف رسوله وحججه ودينه وما وعد به عباده وأوعد ، فلا شك في اعتباره

٥٢

وصحة الاعتداد بنظره ولم يرسل الرسل إلّا إليه ولم ينزل الكتب إلا عليه ولم يخاطب إلّا إياه ولا كلّف سواه ، وهو في أصل الفطرة على صفة إذا عرض عليه الحق عرفه وصدقه ، وإذا عرضت عليه شوائب غيّرته عمّا خلق له ، ولم يبق له اعتبار واحتاج إلى ميزان يوازن به ما أدركه وذلك الميزان هو الذي لم يشبه شيئا من الأعراض وهو على أصل الخلقة والجبلّة والفطرة الإلهية ولذلك قال سبحانه : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (الرحمن / ٨ ـ ٩).

ولمّا علم الله من خلقه تغيير الفطر لم يرض لهم من أنفسهم بالنظر وأرسل إليهم رسولا من البشر ، وأنزل إليهم النور الأنور حتى يهتدوا في جميع طرق الخير ويجتنبوا شوائب الجهل والشهوات المحرمة حتى لا ينحرف العقل والنفس عن الفطرة السلمية ، لأن البشر وصنوف أصباغ الجهل والعادات والرسوم المختلفة وصباغ الشهوة والغضب والالحاد والشقاء ؛ كل ذلك يصبغ العقل ويهيئه بهيئة منكرة تحرفه عمّا فطر عليه ، كما أن العين مخلوقة في أصل الخلقة للنظر ، ونظرها معتبر ، أما إذا حصل فيها خيالات أو اتباع تقية أو نزل إليها ماء أو عرضها حول يرى الأشياء على خلاف الواقع فلأجل ذلك لا عبرة برأي العقول حتى يوزن بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ، فما روي من أن العقل حجة باطنة فإنما يراد منه شيئان :

أحدهما : العقل السليم الخالي عن كل شائبة لأنّ الله سبحانه لا ينصب على خلقه حجة غير معصوم وغير مطهّر عمّا لا يرضيه فإنه بذلك يدعو إلى خلاف ما يرضيه وهو واضح البطلان.

ثانيهما : أنه حجة فيما يدركه كل العقول وهو من البديهيات العقلية فإنها برأي العقول بديهية ، ولو لا العقول لم تكن بديهية ، فما حكم العقل به بالبداهة وهو ما أجمع العقول عليه فهو حجة ينبغي متابعته ، وأما ما تختلف فيه العقول فحكمه إلى الله تعالى ورسوله وحججه : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى / ١١) ، (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء / ٦٠) ، (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء / ٨٤) ، ولو رأى الله سبحانه فيهم سلامة العقول على ما

٥٣

فطرت عليه لما أرسل إليهم الرسل أو أنزل الكتب بل لصاروا كلهم أنبياء يوحى إليهم فعل الخيرات ، ولو رضي عن عقولهم لما ذمهم بقوله تعالى :

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون / ٥٤).

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء / ٦٦).

(يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (المائدة / ١٠٤).

(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (يونس / ١٠١).

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت / ٦٤).

فإذا كان كذلك تعلم أنه سبحانه لا يرضى بحكم أي عقل إلّا العقل السليم الخالي من شبهات إبليس والمتّبع لصراط الله المستقيم ، فكل حكم يحكم به فقيه وليس له عليه برهان من كتاب أو سنّة محمد وحججه الطاهرين فهو حكم بالرأي وهو ظنّ لشوب (١) العقول غير المعصومة بما ذكرنا من الأعراض ، «وإنّ الظن لا يغني من الحق شيئا» إلّا ما قام عليه دليل العترة الطاهرة ، فكل حكم لم يثبت بخبر منهم عليهم‌السلام فلا عبرة به وذلك لأنّ العقول الجزئية لا تقدر على إدراك الجزئيات ، وموضوعات الأحكام جزئيات فمرجعها العقل الكلي العالم بالشيء قبل كونه المحيط بالأشياء ؛ نعم الموكول إلى العقول هو معرفة الصانع وأدلتها بديهية وهي الآيات المشهودة في الآفاق والأنفس ومعرفة الرسول وأدلتها المعجزات المشهودة وكذا معرفة أولياء النعم وما صدر عنهم من معجزات إلى آخر ما يختص به العقل النظري من أمور بديهية عند كل العقلاء.

ثم على الناس الرجوع في الجل والقل (٢) إلى ذلك الرسول فيكفيها سبحانه مئونة الاستدلال ، وما زاغ قوم عن الحق إلّا بالاستدلال في الجزئيات مع عقولهم الناقصة البائرة (٣) ويشهد له ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ليس على الناس أن

__________________

(١) الشّوب : الخلط.

(٢) القلّ : أي الشيء القليل مقابل الكثير.

(٣) لاحظ المحاسن للبرقي / ٢٠٠ باب الهداية من الله عزوجل.

٥٤

يعلموا حتى يكون الله هو المعلّم لهم ، فإذا علّمهم فعليهم أن يعلموا (١).

وعن درست عن بريد بن معاوية عن ابن عبد الله عليه‌السلام قال : ليس على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرّفهم ، ولله على الخلق إذا عرّفهم أن يقبلوا (٢).

وعن الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إياك أن تفتي الناس برأيك أو تقول ما لا تعلم (٣).

يتلخّص مما ذكرنا : أن بالعقل يعرف خالق الوجود ؛ أما كيف يستقل العقل بوجوب المعرفة فيستدلّ عليه بدليلين :

الأول : كون المعرفة دافعة للخوف الحاصل للإنسان من اختلاف النوع في الديانات وإثبات الصانع الحكيم ، حيث يجد من نفسه خوف العقاب المظنون الوقوع فيه لو ترك المعرفة ، وذلك ضرر واجب دفعه عن النفس بحكم ضرورة العقل.

الثاني : ويتألف من مقدّمتين :

الأولى : أن شكر المنعم واجب.

الثانية : ولا يتم شكره إلّا بالمعرفة.

أما الأولى : فلأنه تقرر عند العقلاء وجوب شكر كل من أنعم على آخر ، فترك شكره قبيح عندهم يوجب التوبيخ والملامة.

وأمّا الثانية : فلأن العاقل إذا فكّر في كيفية خلقه ، وجد آثار النعمة عليه ظاهرة ، وقد تقرّر في عقله وجوب شكر المنعم ، فيجب عليه شكره ، فتجب حينئذ معرفته ، وإلّا فكيف يشكر مجهولا.

وبعبارة أخرى :

إن ترك طلب المعرفة يستلزم ترك شكر المنعم ، وتضييع حقه على تقدير وجوده ، وحيث إنّ تضييع حق المنعم ظلم وقبيح ، وشكره واجب ، فطلب

__________________

(١) لاحظ المحاسن للبرقي ص ٢٠٠ باب الهداية من الله عزوجل.

(٢) أصول الكافي ج ١ / ص ١٦٤ ح ١ باب حجج الله على خلقه.

(٣) أصول الكافي ج ١ / ٤٢ ح ١.

٥٥

المعرفة واجب حتى لا يلزم تضييع حقه على تقدير وجوده.

ولا يخفى على المتأمل وجه الفرق بين الدليلين المتقدّمين ، فهما مختلفان مضمونا ، إذ الملاك في الأول هو ملاحظة جانب العبد لئلا يقع في الضرر والتهلكة بسبب ترك المعرفة.

أما ملاك الثاني هو مراعاة جانب المولى وحقه ، حيث يمنع العقل من تضييع حقه بترك شكره ويحكم بوجوب الشكر دفعا للمحذور. ولا بدّ في المعرفة من وجوب الاعتقاد وتحصيل اليقين إذ بدونهما لا يحصل احتمال دفع الضرر ووجوب شكر المنعم ، بل يبقى احتمال الضرر وتضييع حق المولى باقيا على حاله ، ومعه فلا يحصل الأمن من احتمال الضرر وتحصيل شكر المنعم ، لذا وبّخ سبحانه وتعالى الأعراب الذين آمنوا بألسنتهم دون الاعتقاد القلبي حيث قال : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات / ١٥).

إذن فالعقل وحده كاف في تحصيل المعرفة ، وما ورد في الكتاب والسنّة ما ظاهره الوجوب فيحمل على الإرشاد إلى حكم العقل المستقل بإدراك أن للكون خالقا عظيما ومدبّرا حكيما ، وقد ورد نظير له في القرآن كقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران / ١٣٣) فهنا أمر بإطاعته تعالى مع أن إطاعته واجبة على العباد بحكم العقل.

والأشاعرة خالفوا العقلاء في مسألة وجوب المعرفة العقلية ، وقالوا : إنّ وجوب معرفته تعالى سمعي تمسكا بظواهر الآيات كقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (محمد / ٢٠).

حيث الأمر للوجوب دلّ على كون السعي نحو تحصيل المعرفة بوحدانيته تعالى واجبا شرعا ، وكذا قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس / ١٠٢).

وأجاب الإمامية :

إن ما يظهر من الآيات وغيرها مما ظاهره الوجوب لا إشكال فيه ، إلّا أنه ليس واجبا استقلاليا من دون الاستعانة بحكم العقل وأدلّته ، فالعقل حاكم لوحده بوجود خالق لهذا الكون المنظّم والدقيق وإلّا فما ذا نفعل بمن لم يعلم بالآيات

٥٦

القرآنية أو بمن كان قبل البعثة ممن لم يعتقد بوجود إله مدبّر لهذا الكون الفسيح؟!

لذا قال الإمامية : إن السمعيات ألطاف في العقليات ، بمعنى أن الشرع مرشد لا مؤسس لمسألة وجود الخالق العظيم.

إضافة إلى أن الوجوب لو كان شرعيا كما ادّعى الأشاعرة لزم منه إفحام الأنبياء وانقطاعهم عن الجواب ، وحيث إنّ اللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة :

إذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمكلف اتبعني ، يقول : لا أتبعك إلّا بعد أن أعرف صدقك ، ولا أعرف صدقك إلّا بالنظر لأنه ليس ضروريا ، ولا أنظر لأني لم أعرف وجوبه إلّا بقولك ، وقولك ليس حجة ، لأن معنى كونه حجة يتوقف على صدقه فيدور ، فحينئذ تنقطع حجة النبي ، أمّا إذا قلنا بوجوبه عقلا فلا يلزم ذلك المحذور لأنّ المكلّف إذا قال لا يجب عليّ النظر إلّا بقولك ، يقول النبي : يجب عليك عقلا لأنه دافع للخوف المظنون ، وكلما كان دافعا للخوف فهو واجب.

وأما بطلان اللازم فمفاده :

إن الأنبياء عليهم‌السلام إنّما أرسلوا حججا على الخلق ، فلا يجوز أن يمكن الله سبحانه المعاند من إلزامهم وإفحامهم ، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم ، وهو كون وجوبه سمعيا فيكون عقليا وهو المطلوب (١).

وتقسّم آيات الكتاب الدالة على تأكد وجوب المعرفة والحث على التدبر إلى عدّة أصناف :

الصنف الأول : في معرفة ما في الطبيعة :

منها قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (آل عمران / ١٩١).

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (الأعراف / ١٨٦).

وفي الآيتين دعوة إلى النظر والتفكّر في عالم الملكوت الرحيب ليعلم البشر أن هذا العالم الفسيح وما خلق فيه لآيات تدهش العاقل ، وتزيد من يقينه وإيمانه

__________________

(١) نقد المحصّل : ص ٥٨ ـ نهج المسترشدين : ص ١١١.

٥٧

بالله سبحانه قال تعالى : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (يونس / ٧).

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (الذاريات / ٢١ ـ ٢٣).

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (فصلت / ٥٤).

الصنف الثاني : في معرفة سنن المتقدمين :

ليأخذ الإنسان العبر والمواعظ ممن سبقوه في الحياة قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١٢].

(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف / ١٧٧).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام / ١٢).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (النمل / ٧٠).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ...) (العنكبوت / ٢١).

الصنف الثالث : في معرفة النفس :

وهي من أهم المعارف التي أكّد عليها الإسلام وورد في شأنها كثير من الآيات والأخبار ، هذه النفس التي من عرفها عرف ربه حضوريا. قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (الشمس / ٨ ـ ١١).

فعند ما تزكّى النفس بالعمل الصالح تصبح مهيئة لإفاضة الإشراق عليها فتعرف ربها بالمعرفة الحضورية التي لا يشوبها أدنى شك في بارئها ومصوّرها ، لأن النفس قبل التزكية لم تكن حاصلة على الإيمان المستقر الذي لا يتزعزع ، بل كانت في حالة مضطربة وقلق دائم إلى أن تصل إلى معدن الرحمة فتصبح معلقة بعز قدسه وفيض أنسه.

٥٨

النقطة الرابعة : هل يصح التقليد في أصول الدين؟

وقبل الإجابة على السؤال ، لا بدّ من البحث في معنى التقليد لغة واصطلاحا ، فنقول :

أما لغة : فالتقليد مصدر ومنه الفعل «قلّد» أي فعل مثل فعله ، وقلّده السيف : جعل حمالته في عنقه ، وقلّده العمل : فوّضه إليه ، وقلّده الدين : سلّمه إياه. وقلّده القلادة: أي جعل في عنقه شيئا خاصا يكون للإنسان أو الفرس أو البدنة التي تهدى حيث يجعل في عنقها شعار يعلم به أنها هدي وفي الحديث : يقلّدها بنعل قد صلّى فيه. قال شاعر العرب الفرزدق :

حلفت بربّ مكة والمصلّى

وأعناق الهديّ مقلّدات

وقلّده الأمر : ألزمه إياه.

وفي حديث الخلافة : «فقلّدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا» ألزمه بها أي جعلها في رقبته وولاه أمرها (١). والجمع : تقاليد وهي مجموعة عادات وعقائد تنتقل إلى الأبناء عن الآباء والأجداد.

أمّا اصطلاحا : فالتقليد عبارة عن قبول قول الغير من دون دليل عند المقلّد لا المقلّد (بالفتح) وسمّي تقليدا لأنّ المقلّد يجعل ما يعتقده من قول الغير كحق أو باطل قلادة في عنق من قلّده.

فإذا قلّد فلان آخر يعني أنه جعل أعماله على رقبته وعاتقه ، هذا فيما لو كان المقلّد (بالفتح) من أهل المعرفة والنظر ، لأنّ التقليد يعني رجوع الجاهل إلى العالم ، وإلقاء تبعة الفحص عن الدليل من مصدره المقرّر.

إذا عرفت المعنى فنجيب الآن على السؤال المتقدم فنقول : إن التقليد في مطلق الأصول الخمسة غير صحيح بل غير جائز ، فلا يصح أن يقلّد المرء من يعتقد بوجوده سبحانه ، إذا كان هذا المقلّد شاكّا بوجوده عزوجل بل عليه أن يفحص بمقتضى ما وهبه عزّ ذكره من عقل يمكن بواسطته النظر في النفس والآفاق ليتبيّن له صحة وجوده والاعتقاد به تبارك وتعالى.

وكذا صفة عدله سبحانه ، فإنه لا يصح فيها التقليد بل لا بدّ من النظر أو الاعتقاد القلبي في أنه سبحانه عادل لا يظلم أحدا بل هو جلّ جلاله عين

__________________

(١) مجمع البحرين : مادة قلّد.

٥٩

الإنصاف والحكمة ؛ وما أفاده المصنف (قدّس سره) : «من وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد كما أنه لا يجوز تقليد الغير فيها» ، غير سديد ، لأنه إن أراد من الوجوب تحصيل الدليل على كل فرد فرد فيترتب عليه :

أولا : أنه متعسّر على العوام ، لأنّ الحكم بكون تلك المعارف نظرية عند كل المكلفين ممنوع لجواز أن يحصل بعضهم على تلك المعارف أو بعضها بالبداهة لا بالدليل.

ثانيا : إن النبي والعترة الطاهرة عليهم‌السلام كانوا يكتفون من العوام إقرارهم باللسان مع الاعتقاد والاعتراف بنبوة النبي وغير ذلك من دون طلب استفسار بالنظر والاستدلال ، ولو كانت المعارف واجبة بالدليل النظري لما اكتفى النبي وآله بذلك من العوام.

نعم ربما إيمان العوام في فترات المعصومين عليهم‌السلام كان فطريا وجدانيا فيترتب على ذلك حصول اليقين والاعتقاد من قولهم عليهم‌السلام في غير التوحيد ، «إذ المطلوب في الاعتقاديات هو العلم واليقين بلا فرق بين أسبابهما وطرقهما ، بل حصول اليقين من قول الغير يرجع في الحقيقة إلى اليقين بالبرهان لأنه يتشكّل عند المكلّف حينئذ صغرى وكبرى فيقول :

هذا ما أخبر به أو اعتقده جماعة ، وما اعتقده جماعة ، وما أخبر به جماعة فهو حق ونتيجتهما أن ذلك الأمر حقّ فيحصل فيه اليقين بأخبارهم» (١).

قال الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) ما معناه :

«إن مقصود المجمعين هو وجوب معرفته تعالى لا اعتبار أن تكون المعرفة حاصلة عن النظر والاستدلال كما هو المصرّح به عن بعض ، والمحكي عن آخرين باعتبار العلم ولو حصل من التقليد» (٢).

كما أنّ أصول الدين وهي التي لا يطلب فيها أولا وبالذات إلّا الاعتقاد باطنا والتدين ظاهرا ، فيكفي فيها تحصيل الاعتقاد من أي طريق كان.

ثالثا : قيام السيرة على الحكم بإيمان من مات ولم يحصّل المعرفة بالنظر

__________________

(١) التنقيح للخوئي تقرير الميرزا الغروي : ج ١ ص ٤١١.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ ص ٢٧٣ وبداية المعارف : ج ١ ص ١٣.

٦٠