الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (الأنعام / ١٣١).

فليس فيها ما يدلّ على وجود أنبياء منهم ، وإنما يستفاد من آيات سورة الجن ما يدلّ بجلاء على أنّ الإسلام والقرآن للإنس والجن ، وأنّ نبي الإسلام رسول الله إلى الجميع ، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لهم رسل وممثلون من جنسهم عهد إليهم رسول الله بدعوتهم إلى الإسلام.

ومما يدلّ على أنهم مكلّفون بما كلّف به الإنس ، ومأمورون بالاقتداء برسل الإنس قوله تعالى : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء / ٨٩).

لذا قد سارع فريق من الجن إلى الإيمان عند ما استمعوا للقرآن (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (٢) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٣) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٤)) (الجن / ٢ ـ ٤).

وهؤلاء الذين استمعوا إلى القرآن وآمنوا به هم المذكورون في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٣٠) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣١) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) (الأحقاف / ٣٠ ـ ٣٣).

فرجعوا دعاة يدعون قومهم إلى التوحيد والإيمان ويبشرونهم وينذرونهم ، وينبغي أن يعلم أنّ «منكم» الواردة في قوله تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ) لا تعني أن أنبياء كل جنس يكونون من الجنس نفسه ، لأننا عند ما نقول : «نفر منكم» يمكن أن يكون هؤلاء من طائفة واحدة أو من عدة طوائف.

لذا ومن منطلق أن الأنبياء والمرسلين بشر ، كان تخصيصهم بالفضل على البشر ، مع شموله للجن والملائكة من باب أنس الذهن البشري بالمحسوس الظاهر دون المستور الباطن فتأمل.

ولا خلاف بين طوائف المسلمين على أفضلية الأنبياء على الجن ، وإنما الخلاف على أفضليتهم على الملائكة ؛ فذهب الإمامية والأشاعرة إلى أفضلية

٥٠١

الأنبياء على الملائكة أجمعين ، وذهب المعتزلة إلى العكس.

واستدلّ الشيعة والسنة على المدّعى بوجوه :

الأول :

إنّ تكليف الأنبياء عليهم‌السلام أشق من تكليف الملائكة ، فلمّا كان الأنبياء بهذا المستوى من التكليف الشاق ، كانوا أفضل من الملائكة قطعا ، وذلك لأنّ الأنبياء يعبدون الله تعالى مع كثرة الصوارف والموانع الداخلية والخارجية كالشهوة والغضب ، والاشتغال بالأهل والولد ، وهذه الصوارف والموانع منتفية عن الملائكة وهم مبرءون منها ، ولا شك أن العبادة مع العائق أشق منها مع عدم العائق مضافا إلى أنّ أفضل العبادة أحمزها كما ورد في الحديث ، فيكون القائم بها أفضل وهو المطلوب (١).

الثاني :

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (آل عمران / ٣٤).

و (الْعالَمِينَ) جمع محلّى باللام الاستغراقية ، فيشمل عالم الإنس والجن والملائكة وغيرهم ، والاصطفاء المراد به هاهنا الفضيلة ، فعليه يكون الأنبياء أفضل من الملائكة.

الثالث :

إن الله سبحانه أمر الملائكة أجمعين حتى الكروبيين أن يسجدوا (٢) لآدم عليه‌السلام ، والسجود للأدون قبيح ، فثبت أنه عليه‌السلام أفضل منهم ، من هنا رفض إبليس عليه اللعنة أن يسجد لآدم لاعتقاده أنه أفضل من آدم عليه‌السلام ، (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٣).

الرابع :

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء / ١٠٨).

__________________

(١) إرشاد الطالبيين : ص ٣٢٢ وأنوار الملكوت : ص ١٨٧ بتصرّف بالعبارة.

(٢) الآية ٣٥ من سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ...).

(٣) الإسراء / ٦٢ والبقرة / ٣٥ والأعراف / ١٢.

٥٠٢

وحيث إن الملائكة من جملة العالمين ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة لهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم.

أما كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للملائكة فباعتبارين :

الأول : كون النبي وعترته الطاهرة العلّة الغائية التي من أجلها خلق سبحانه الكون بأسره.

الثاني : كون النبي وعترته عليهم‌السلام قد علّموا الملائكة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل كما في أخبار عالم الأرواح والأشباح.

واحتجّ المعتزلة على مدّعاهم بوجوه كثيرة (١) منها :

الأول :

قوله تعالى : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (الأعراف / ٢١).

وجه الاستدلال : أنّ إبليس رغّب آدم عليه‌السلام بالأكل من الشجرة رجاء حصول الملائكية له بقوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أو (تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي لو أكلتما لحصل لكما إحدى هاتين المرتبتين ، فنهاكما كراهة حصولها لكما ، وهذا يدلّ على أنّ الملائكة أعلى مرتبة من الأنبياء (٢).

والجواب :

١ ـ إنّ المراد من (ما نَهاكُما) ما هو إلّا إرادة أن تتشبها بالملك في عدم الاغتذاء ، فتكونا مجرّدين فتحصل لكما الكمالات النفسية وهو كاره أن تكونا من الخالدين ، ويحصل لكما الكمالات البدنية ، وهو ليس بناصح فيما أراد حصوله لكما ، وأنا أدلّكما على ما يحصّل لكما الكمالات النفسية والبدنية فيبقى بدنكما ، فيحصل لكما الكمالات البدنية ، والنفس متعلقة ببدنكما ، وبواسطتها يحصل لكما الكمالات النفسية ، وهذا لا يدلّ على أفضلية الملائكة على آدم عليه‌السلام.

٢ ـ لو سلّمنا أنّ الآية تدل على أفضلية الملائكة على آدم عليه‌السلام في وقت خطاب إبليس لآدم ، وأما وقت الاجتباء فلا ، فلم لا يجوز أن يكون الأنبياء قد

__________________

(١) لاحظ تفسير الرازي : ج ٢ ص ٢١٧.

(٢) إرشاد الطالبين : ص ٣٢٣.

٥٠٣

صاروا أشرف بعد الاصطفاء (١).

٣ ـ لا يبعد أن يكونا قد رغبا في أن يصيرا على هيئة الملائكة وصورها ، وليس ذلك دليلا على رغبتهما في الثواب ولا الفضل ، فإنّ الثواب لا يتّبع الهيئات والصور ، وذلك لأنه لا نزاع أنّ الملك أفضل من البشر في باب القوة والقدرة وفي الحسن والجمال وفي الصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات ، فإنّ الملائكة خلقوا من الأنوار ، وآدم مخلوق من التراب ، فلعلّ آدم عليه‌السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب ، وفي علمه عليهم إلّا أنه رغب في أن يكون مساويا لهم في تلك الأمور التي عددناها وهي الهيئات والصور ، فكان التغرير حاصلا من هذا الوجه (٢).

الثاني :

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (النساء / ١٧٣).

وجه الاستدلال : أنّ العرب قد جرت عادتهم بأنهم إذا أرادوا تعظيم شخص بنفي فعل عن الغير كانوا يقدّمون الأدنى ، ويتبعونه بالأعظم ، كما يقال فلان لا يردّ الوزير قوله «بل ولا السلطان» وتأخير النفي في الآية يدل على ما قلناه.

والجواب :

إنه ليس كلاما واحدا وقع فيه تقديم وتأخير ليدلّ على أشرفية أحدهما على الآخر ، بل كلامين مستقلين خاطب بأحدهما طائفة من النصارى ردّا عليهم في قولهم «المسيح ابن الله» وبالأخرى طائفة من مشركي العرب ، ردّا عليهم في قولهم «الملائكة بنات الله» ومضمونها «أنّ المسيح والملائكة عباد مربوبون» (٣).

الثالث :

قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (الأنعام / ٥١).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) رسائل المرتضى : ج ٢ ص ١٦٧.

(٣) إرشاد الطالبين : ص ٣٢٤.

٥٠٤

وجه الاستدلال : لمّا نفى النبي عن نفسه الملكيّة ، دلّ على أنّ الثاني أفضل منه.

والجواب :

إنّ المراد بالخزائن التي نفاها النبي عن نفسه ، هي خزائن الرحمة الإلهية الموجودة عند الله تعالى لا تنقص ، وهي مختصة به تعالى ، وأما غيره سبحانه كائنا من كان ، فما عنده مقدّر لأنه ممكن ومحدود ، أما الله فإذا بذل فلا ينقص من عطائه وبذله شيء أبدا (١).

والمراد من نفي علم الغيب عن نفسه ، إنما هو الاستقلال بهذا العلم من غير تعليم منه تعالى ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي أنت يا محمّد بحسب طبعك ومن دون تعليم منّا لا تعلم المنافقين ، أما أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم بتعليم منه سبحانه فمما لا ريب فيه أصلا لقوله تعالى : (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم / ٤) (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (آل عمران / ٤٥) (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (الجن / ٢٧ ـ ٢٨) والمراد من نفي كونه ملكا هو كناية عن نفي آثار الملكية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الملائكة منزّهون عن حوائج الحياة المادية من أكل وشرب وغيرهما لذا قال : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) (الكهف / ١١١).

والآية مورد البحث هي ردّ على أولئك الذين قالوا له :

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) (الفرقان / ٨).

فالآية المباركة جواب صارخ على المقترحين على النبي أن يكون كالملائكة المنزّهين عن الأكل والشرب ، أو أن يأتيهم بالمعجزات وأن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا أو تكون له جنة من نخيل وما شابه ذلك (٢). إذن ليس في دلالة الآية ما يدلّ على أفضلية الملائكة على الأنبياء عليهم‌السلام.

الرابع :

ما ذكره الشيخ الحر في آخر رسالته في الرجعة في ضمن جوابه السادس عن

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ٧ ص ٩٥.

(٢) سورة الإسراء / ٩٣.

٥٠٥

الشبهة الرابعة لمنكري الرجعة حيث قال :

إنّ جبرائيل أعلم من الإمام ومن الأنبياء ، فإنّ علمهم وصل إليهم بواسطته.

وفيه : إنّ أعلمية جبرائيل من الإمام وغيره من الأنبياء مناف لسجود الملائكة كلهم «أجمعين لآدم عليه‌السلام ، وتعلّمهم الأسماء منه ، واعترافهم بعدم العلم (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ولنصوص كون الأئمة أول ما خلق الله ومن نورهم اشتقّ خلق السماوات والأرضين ، وأنهم معلّمو الملائكة التسبيح والتقديس.

وعلى ذلك فوساطة جبرائيل في علمهم في هذه النشأة ليس من جهة الجهل والنسيان بل إنما هو من باب دلالة كثرة الأعوان على عظمة السلطان لا على العجز والنقصان ، وذلك لأنّ غاية مرتبة الملائكة الرسالة ولا يمتنع اجتماعها مع الجهل في الجملة ، بخلاف الإمامة أو النبوة فإنّ أول مرتبتها الرئاسة العامة الممتنع اجتماعها مع منقصة الجهل عقلا ونقلا.

... بعد أن ثبت أفضلية الأنبياء على الملائكة ، لا بدّ أن يكون أحد الأنبياء أفضلهم ، لتفاوت العقول والكمالات لما ورد في الكتاب الكريم بقوله تعالى :

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف / ٧٧).

(وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) (الزخرف / ٣٣).

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) (البقرة / ٢٥٤).

(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) (الأنعام / ١٦٦).

وقد أجمعت الأمة الإسلامية بأكملها على أفضلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنبياء والمرسلين منذ آدم إلى من دونه سوى العترة فهم نفسه (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ).

ويستدل على أفضليته على الأنبياء والمرسلين بوجوه :

الأول :

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر الأنبياء كمالات في القوة العلمية والعملية فيكون أفضل.

قد تقول : من أين أثبّت أنه أكثرهم قوة وعلما وعملا؟

أجيب : إنّا أثبتنا ذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثرهم فيضانا للعلوم ، وأعمّ نورا من أكثرهم ، فوجب أن يكون أفضل.

٥٠٦

أما كونه عليه وآله السلام أكثر فيضانا ، فلأنّ شريعته بلغت أكثر بلاد العالم وانتشرت في أطراف الأرض بالرغم من محاربة كل الأديان المنحرفة لها ، وانتشارها دليل عافيتها بخلاف سائر الأنبياء ، فإنّ دعوة موسى عليه‌السلام رغم تقدّمها زمانا على شريعة النبي محمد اقتصرت على بني إسرائيل وهم بالنسبة إلى أمّة محمّد في غاية القلة ، وأما عيسىعليه‌السلام فالدعوة الحقة التي جاء بها لم تبق البتة ، وما هو موجود بين أيدي النصارى مما يدعونه شريعة له عليه‌السلام فهو تخرّص وجهل محض بحقائق ومعارف النبي عيسى عليه‌السلام ، وكفر صريح بما جاء به ، والاستقراء يدعمه ، فوجب أن لا يكون شريعة له ، فإذا ثبت كونه أكثرهم فيضانا ثبت بطريق أولى كونه أفضلهم كمالا.

الثاني :

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام / ٩١).

أمر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقتدى بهم بأسرهم ، فوجب أن يأتي بكل ما أتوا به ، فوجب أن يحصل على مثل كمالات جميعهم ، فيكون أفضل من كل واحد منهم (١).

قد يقال : ما المقصود من أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهتدي بهدى أولئك الأنبياء؟

يقول بعض المفسرين : «إنّ المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمّل والثبات في مواجهة المشاكل» ، ويقول بعض آخر أنه «التوحيد وإبلاغ الرسالة» ولكن يبدو أن للهداية معنى واسعا يشمل التوحيد وسائر الأصول العقائدية ، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأصول الأخلاقية والتربوية» (٢).

أيضا يتضح مما سبق أنّ هذه الآية لا تتعارض مع القول بأنّ الإسلام ناسخ الأديان والشرائع السابقة ، إذ إن النسخ إنما يشمل جانبا من أحكام تلك الشرائع لا الأصول العامة للدعوة.

الثالث :

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم / ٥).

بما أن الله سبحانه وصف نبيه الكريم بحسن الخلق العظيم دل ذلك على أنه

__________________

(١) قواعد المرام : ص ١٣٥.

(٢) تفسير الأمثل : ج ٤ ص ٣٤٥.

٥٠٧

ليس وراء مدحه مدح ، إذ لم يمتدح نبي قبله كما حصل للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث مدحه بالعظمة ، وهذا بذاته أكبر شاهد ودليل على تقدمه على من سبقه.

الرابع :

الأخبار العديدة التي هي فوق التواتر ، الدالة على سبق خلقة روحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أرواح بقية الأنبياء والمرسلين (١).

وأما النقطة الثانية :

من ضروريات دين الإسلام أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر الأنبياء والرسل ، ختم به سبحانه من تقدمه منهم لشرافته وأفضليته عليهم بلا منازع ولأكملية شريعته المتضمّنة لأحكام وتعاليم وتشريعات مستجيبة لكل احتياجات المجتمعات الماضية والراهنة والمستقبلية ، واحتوائها على جميع الاحتياطات الضرورية للمسائل المستجدة والمستحدثة مع وجود ضامن يكفل بقاءها وصيانتها عن التحريف ، وهو الإمام عليه‌السلام.

وشريعة الإسلام الحاوية لما ذكرنا ، تكون ناسخة للشرائع المتقدمة عليها ، وآخذة بيد الأفراد والجماعات إلى الحياة الرغيدة ، وما يعانيه المسلمون اليوم من فقر وجوع ، وعدم انتظام في مرافق حياتهم ما هو إلّا نتيجة عدم اتخاذهم الإسلام منهج حياة ، والسر في ذلك يرجع إلى أمرين :

الأول : عدم التركيز على الذات بتهذيبها بمكارم الأخلاق الإسلامية مما يعني الجهل المطبق بأحكام الإسلام الآمرة بكل خلق جميل وفعل رشيد.

الثاني : الحكومات الظالمة والمستبدّة التي هي بذور إبليس ، وأدوات الاستعمار يتلاعب بمقدّرات بلاد المسلمين ، ونهب ثرواتهم ومقدّراتهم.

وليس دين الإسلام بدعا من الأديان ، بل هو تكملة لرسالات السماء منذ آدم عليه‌السلام إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما أنزله عزوجل على آدم لا يفترق بالجوهر عمّا أنزل على رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالشرائع السماوية المقدّسة كانت في بدء أمرها كنواة قابلة للنمو والنشوء ، أخذت تنمو وتكبر وتستكمل عبر القرون والأجيال ، حسب تطور الزمان ، وتكامل الأمم ، فدعوة الأنبياء واحدة لا تتغير لأنها من مصدر ومنبع واحد ؛ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ باب بدء خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جرى له في الميثاق.

٥٠٨

ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (آل عمران / ٢٠) ، وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى / ١٤).

فهذه الشرائع مع اختلافها في بعض الفروع والأحكام نظرا إلى بعض الأحوال والظروف الموضوعية ، تسوق الجميع إلى هدف واحد ، وإنما الاختلاف في المنهج لا في المقصد والغاية ، لذا قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (المائدة / ٤٩).

وقد شرّفنا وامتحننا بالإسلام المبارك (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران / ٨٦).

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة / ٤٩).

ويستدل على الخاتمية بأمرين :

الأمر الأول : دليل الحكمة وفيه نقاط :

النقطة الأولى : إنّه بعد كمال الأنبياء في درجاتهم لا بدّ من ظهور الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأنّ الله سبحانه كان ولم يزل في جلال قدسه ، متوحّدا في ربوبيته ، متفرّدا في عظمته ، ليس له شريك في كمال من كمالاته ، ولا صفة من صفاته ، فأول ما تجلّى ، تجلّى بأول مخلوق له به فيه بمعنى أنه سبحانه تجلّى للمخلوق الأول بالصفات والأسماء ـ لا بالذات جلّ وعلا ـ فكان أول تجلّيه سبحانه كاملا في جميع صفاته ، إذ كان صلوات الله عليه وآله أثر الكامل ، وأثر الكامل كامل ، وقد سبق في وجوده جميع الخلق ، وله أثر وكمال لا محالة ، وأثره نوره ، فسطع من وجهه نور لأنّ نوره من نور ربّه ، وهذا النور المقدّس هو نور الأنبياء ، ثم سطع من أنوار وجوههم أيضا أنوار ، وخلق منها الأناسيّ والصالحين منهم ، وكذلك دار الأمر بذلك إلى أن انتهى في قوس النزول إلى الأرض التي هي في آخر القوس ثم في الإقبال إليه سبحانه سبق في الظهور كل ما كان متأخرا ، فأول المقامات في الظهور في الدنيا مقام الجماد ثم من بعد وصوله إلى درجة الكمال

٥٠٩

يظهر عليه النبات ، ثم من بعد وصوله إلى مقام الكمال ودرجة الاعتدال يظهر عليه الحيوان ، وكذلك بعد ما وصل الحيوان إلى درجة الكمال يظهر عليه الإنسان ، وكل ذلك بعد ختم دورتهم وسيرهم في تمام فسحتهم ، فإنّ للجماد فسحة وجود إذا بلغ أعلاها يظهر عليه النباتية ، فمنهم من بلغ وصار جمادية النبات ، ومنهم من سقط في سائر الدرجات والمراتب ، فلذلك بعد تولّد المرتبة العليا يوجد أيضا من مواليد الدرجة السفلى ، وتحت ذلك أسرار جمّة وحكم كثيرة ثم بعد ما بلغ الإنسان أشدّه واستوى وبلغ أعلى مراتب فسحة وجوده يتعلق به نور مؤثره فيصير نبيا ولكن لا يبلغ جميعهم هذه المرتبة ، فمنهم من يقف في الأدنى ويصير أمة ، ومنهم من يصعد ويصير نبيا ، وبعد ما كمل النبي في نبوته ، وسار في جميع درجات النبوة ، ورأى من آيات ربّه الكبرى فوقف من ربه في قاب قوسين أو أدنى ، صار مظهر نور الخاتم ومحل بروزه فيتجلّى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ، ولكن لا يبلغ جميع الأنبياء هذه الدرجة ، ويبلغ منهم واحد أو ما شاء الله في العوالم المختلفة هذه المرتبة ، وفي الدنيا لم يبلغ هذا المقام إلّا واحد ، فبعد كمال الأنبياء في درجاتهم ومقامهم لا بدّ من ظهور الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ظهر بعد ختام النبوة ولو لم يظهر لما انقطع ظهور الأنبياء ودعوتهم ، ولمّا رأينا انقطاعهم عرفنا أنه ختم أمرهم وظهر السر الأعظم.

النقطة الثانية : لمّا كان سبحانه وتعالى حكيما عليما ، والحكيم لا يعبث ولا يلهو وقد وقفنا على حكمته من وجوه : منها انتظام خلقه وترتّب أجزاء ملكه بعضها على بعض ، فخلقه الخلق ليس إلّا لفائدة مهمة قد بيّنها في كتابه حيث قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وفي القدسي «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف» والمعرفة وجدان المعروف ، وذلك لا يمكن إلّا بظهوره لهم في مقامهم وحدهم كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام «تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة وتشهد له المرائي لا بمحاضرة لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع منها».

فهو سبحانه لمّا خلقهم لمعرفته وعبادته ، تجلّى لهم ـ بالصفات لا بالذات ـ ليقتدروا على النظر إليه ومعرفته ، وذلك في كل عالم بحسبه وتجليه الدالّ عليه في جميع العوالم هو الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقامه مقامه في سائر عوالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ولا تمثله غوامض الظنون في الأسرار ،

٥١٠

لا إله إلا الله الملك الجبّار ، فالنبي محمّد مرآة التجلي في كل عالم من العوالم ومقام من المقامات ، قد تجلّى لعباد الله بحسب قربهم ليعرفوا الله ويعبدوه ، ولو لم يظهر لما عبد الله مطلقا ، ففي الحديث «كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عزوجل مطيعا يسبّح. ثم ركّب ذلك النور في صلب آدم فلم نزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزء أنا وجزء علي».

كانا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة ، فلا بدّ للأنبياء والمرسلين والأوصياء الماضين غير العترة أن يعرفوا هذه الوجهة العظيمة والتوجه إلى هذه القبلة الشريفة ، ثم إنّ ظهوره عليه‌السلام في كل عالم بعد استعداد القوابل وكمال الأركان وقوة المشاعر وذلك لا يمكن إلّا بتكميل الكاملين وهم الأنبياء ، فلا بدّ أن يظهروا أولا في كل عالم لتكميل القابليات ليظهر بعدهم أشرف الآيات وهو الخاتم محمد من بعدهم.

النقطة الثالثة : في أن الخاتم أول الخلق والأنبياء آثاره : اتّفق المسلمون قاطبة على أنّ الخاتم أول الخلق وذلك لأنّ للخلق أولا ، والأوليّة في غير الزمان ليست كالأولية الدنيوية ، فإنّ الأول فيها في عرض الثاني والثالث ولكن الأول الدهري والسرمدي سابق في الطول ، وكل مقدّم في الطول فوق من هو تحته على الحقيقة ، وإذا كان مؤثرا لكل من دونه فيكون محيطا بهم واقفا عليهم ، والخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محيط بجميع من دونه بالمؤثرية في الكون وجميع الخلق آثاره ، فإنّ كل خلق إن كان من النوريين يكون أثر نفسه وإن كان من الظلمانيين فهو أثر ظله ، فهو الظاهر في الكل لأنّ المؤثر أظهر في آثاره منها وأولى بها منها وأوجد في مكانها منها ، ألا ترى إلى الجسم المطلق بالنسبة إلى أفراده ، فلا ترى في الأجسام العلوية والسفلية والفلكية والعنصرية سوى الجسم ، فلا ظهور إلّا للجسم ولا وجود إلّا له ، ولا حكم ولا أثر إلّا له ، فتبارك من جعل الجسم محيطا بهذه المنزلة ، وإذا كان الأمر في الجسم الذي هو أخسّ مراتب الخلق هكذا فما ظنك بأول الخلق الذي هو أقرب الخلق من الله بل هو مقامه وعلامته ، ولا شك أنّ العلامة لا تكون علامة إلّا إذا وجد فيها من ذي العلامة أثر أو آثار ، ولمّا أطلق الإمام عليه‌السلام في صفة الأئمة لفظ العلامات والآيات عرفنا أنهم علامات الله من كل حيثية فيجب أن يكونوا في جميع الآثار والصفات علامته لا من حيثية واحدة ، ولا شكّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يثبت له هذه الصفة لكونه وعترته من نور واحد وطينة

٥١١

واحدة «أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد» ، ففي محمّد وآله من أحديته تعالى بقدر دلالتهم عليه تعالى بالأحدية وذلك قوله في محمّد وآله : «بهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلّا أنت» (١). فالله سبحانه أظهر لنا أحديته وبساطته وطيه للأشياء بأول خلقه ، فجميع ما ترى في الملك ظهورات آل محمد سلام الله عليهم وآياته ، وجميع الأبدان في الملك مرايا ظهور نورهم ، وجميع الحجج أعضاؤهم وجوارحهم ، وجميع أوليائهم ألسنتهم ، فالخاتم مؤثر الأنبياء وجميع النورانيين آثاره وآثاره آثاره ، وهو الظاهر من الأنبياء ، بل أقول إنّ النبي الكامل في حقيقته هو الخاتم بأي معنى كان فإنه إما من «النبأ» بمعنى الخبر فهو النبي أي المنبئ أو من «النبوة» بمعنى الرفعة ، فهو النبي أي الرفيع ، وهو المخبر عن الذات والمرتفع عن كل الآيات ، وكل نبي صار نبيا بسبب حكاية نوره ورفيعا لكونه مظهرا لنوره فهو أول الأنبياء وآخرهم وأول الحجج النبوية وآخرها ، وينبؤك عن كل ذلك قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) والأنبياء هم الساجدون ، وقال عليه‌السلام : إنّ لنا مع كل ولي أذنا سامعة وعينا ناظره ولسانا ناطقا ، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وروحي فداه : «أنا الأول أنا الآخر أنا الظاهر أنا الباطن» ، فإذا كان الأمر هكذا فهو الظاهر من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين والحجج المكرمين والمؤمنين الممتحنين فأرني غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الطاهرة عليهم‌السلام حتى أثبت لك وجوده ونبوته ولا غير له ولا لوصيه فهو الكل ووصيّه الجلّ ، فما ذا أقول في من جميع الأنبياء وجوهه وآياته ونسبة الكل إليه نسبة الأثر إلى المؤثر بلا تفاوت ، نعم بدنه الشريف من بين الآثار كان أحكى لكمالاته وإن كان نسبة الجميع واحدة بالنسبة إلى ذاته.

الأمر الثاني : دليل الشرع :

الآية الأولى : قوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب / ٤١).

__________________

(١) من دعاء مولانا ومقتدانا الإمام الحجّة (عج) الشريف في أيام رجب لاحظ أدعية أيام رجب في مفاتيح الجنان ، وقد ورد في نفس الزيارة أيضا : «أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك فجعلتهم معادن لكلماتك وأركانا لتوحيدك وآياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك ، لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك ... فلاحظ الدعاء.

٥١٢

الآية واضحة الدلالة في كون النبي خاتم الأنبياء جميعا ، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة.

وفي كلمة «خاتم» ثلاث لغات :

١ ـ فتح التاء «خاتم» وهي لغة عاصم.

٢ ـ كسر التاء «خاتم» وهي لغة باقي القرّاء.

٣ ـ مدّ التاء «خاتام» وهي من شواذ القراءات ، وفي لغة «خيتام» وجميعها ألفاظ مترادفة لمعنى واحد هو ما يلبّس به الأصبع من الحلي أو الطابع يطبع به السمة ونحوها ، ثم كثر استعماله لذلك وإن أعدّ الخاتم لغير الطبع ، قال ابن بري في الخيتام :

يا هند ذات الجورب المنشقّ

أخذت خيتامي بغير حق

ويروى : خاتامي قال آخر : أتوعدنا بخيتام الأمير.

وشاهد الخاتام ما أنشده الفراء لبعض بني عقيل :

لئن كان ما حدّثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشمس باديا

واركب حمارا بين سرج وفروة

وأعر من الخاتام صغرى شماليا (١)

فعلى القراءة الأولى : يراد بالخاتم (بالفتح) حلقة تدخل في الإصبع للزينة (٢) ، أو ما يستعمل من الطين لختم الكتب تماما كالطابع بمعنى ما يطبع به ، حيث كان متداولا فيما مضى ولا يزال حينما يريدون إغلاق رسالة أو غطاء الوعاء ، أو باب المنزل لئلا يفتحها أحد ، حيث كانوا يضعون مادة لاصقة على الباب أو القفل ويختمون عليها ، وهذه المادة تسمى بالخاتم.

وعلى القراءة الثانية ، يراد بالخاتم (بالكسر) اسم فاعل بمعنى الآخر ، فخاتم كل شيء : آخره وعاقبته ، ومنه خاتمة السورة : آخرها (٣).

وسواء أكان «الخاتم» بمعنى الزينة في اليد أم بمعنى الآخر أو ما يختم به فإنّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خاتم النبيين ، وقد افتخر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأنبياء والمرسلون بل ما صار الأنبياء أنبياء إلّا بأخذ الميثاق عليهم بنبوته وولاية أمير الثقلين علي بن أبي طالب

__________________

(١) لسان العرب : ج ١٢ ص ١٦٤.

(٢) مجمع البحرين : ج ٦ ص ٥٤.

(٣) لسان العرب : ج ١٢ ص ١٦٤ ومجمع البحرين : ج ٦ ص ٥٤.

٥١٣

عليه‌السلام ، فهو بهذا المعنى خاتم وآخر وذلك لوجود مزية له عليهم ، فلو لم يكن أفضلهم لما تزينوا به كتزين الإنسان بخاتم من عقيق وما شابهه ؛ مضافا إلى أنّ الخاتم وإن أطلق على خاتم الزينة ، إلّا أنّ أصله مأخوذ من الختم أي النهاية والإغلاق تماما كإغلاق باب المنزل أو الرسالة ، وقد استعملت هذه المادة في عدة موارد في القرآن منها قوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (يس / ٦٦) (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (البقرة / ٨).

ولا يراد بالخاتم ـ كما ربما يتوهم ـ أنه يعد زينة الأنبياء من دون أن يكون آخرهم ومن به يختم باب النبوة ، فإن هذا التصور باطل قطعا وذلك لأنّ «خاتم» بمعنى حلقة أو زينة في اليد هو كناية عن كونه آخرهم ، «لأنّ التلبس له لا يمكن إلّا بعد وجود المتلبس فلا يقال : إن هذا خاتم زيد إلّا بعد وجود زيد وتلبسه به ، وعليه كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة الخاتم لجميع النبيين ، فمقتضى إضافة الخاتم إليهم ، أنهم جميعهم كانوا قبله موجودين ، فهو متأخر عنهم وآخرهم» (١).

هذا كله بناء على قراءة «خاتم» بالفتح ، أما على قراءتها بالكسر فالأمر واضح لأن «الخاتم» على هذه القراءة هو اسم فاعل بمعنى الآخر ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتم الأنبياء بوجوده وفضائله فلا نبي بعده أبدا.

إشكالان وجوابهما :

الإشكال الأول :

عرفنا أن الآية تقيد كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر النبيين لكن لا يعني هذا أنه آخر المرسلين.

الجواب :

إنّ الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس ، والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه ، ولازم ذلك أن ترتفع الرسالة بارتفاع النبوة ، فإنّ الرسالة من أنباء الغيب ، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة ، ومن هنا يظهر أنّ كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين يستلزم كونه خاتما للرسل.

__________________

(١) بداية المعارف الإلهية : ج ١ ص ٢٨٤.

٥١٤

وفي الآية إيحاء إلى أنّ ارتباطه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعلّقه بكم تعلق الرسالة والنبوة وأنّ ما فعله كان بأمر من الله سبحانه (١).

مضافا إلى وجود فرق بين النبي والرسول ، خلاصته :

أنّ النبي هو الإنسان الموحى إليه من الله بإحدى الطرق المعروفة ، وأما الرسول فهو الإنسان القائم بالسفارة من الله بإبلاغ قول أو تنفيذ عمل ، وإن شئت قلت :

النبوة منصب معنوي يستدعي الاتصال بالغيب بإحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسل (بالفتح) من جانبه سبحانه لتنفيذ ما تحمله منه في الخارج أو إبلاغه إلى المرسل إليهم ، ولأجل هذا يقترن لفظ الوحي بلفظ «النبيين» ويقول سبحانه (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء / ١٦٤).

«ولو فرض أنه أوصد باب النبوة وختم نزول الوحي إلى أي إنسان كما تصرّح به لفظ «خاتم النبيين» فعند ذاك يختم باب الرسالة الإلهية أيضا بلا ريب ، لأنّ الرسالة لا تهدف سوى تنفيذ ما يتحمله النبي من جانب الله عن طريق الوحي فإذا انقطع الوحي والاتصال بالمبدإ الأول والاطلاع على ما عنده لا يبقى موضوع للرسالة أبدا ، فإذا كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتما للنبيين أي مختوما به الوحي والاتصال فهو خاتم الرسل والمرسلين قطعا ، لأنّ رسالة الإنسان من جانب الله سبحانه ، عبارة عن بيان أو تنفيذ ما أخذه عن طريق الوحي فلا تستقيم رسالة أي إنسان من جانبه سبحانه إذا انقطع الوحي والاتصال به تعالى»(٢).

الإشكال الثاني :

كيف يكون سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر الأنبياء ، في حين يقول المسلمون أن عيسىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل من السماء إلى الأرض في آخر الزمان؟

والجواب :

معنى كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر الأنبياء يعني أنه لا ينبّأ أحد بعده بالوحي التشريعي ، أما الوحي التسديدي فلا مانع منه في حق عيسى عليه‌السلام وغيره من الأولياء المطهّرين ، وعيسىعليه‌السلام حين نزوله يكون عاملا بشريعة سيد المرسلين محمد

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٣٢٥.

(٢) معالم النبوة : ص ١٣٦ للسبحاني.

٥١٥

بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا شريعته المنسوخة بشريعة من يأتي بعده.

الآية الثانية : قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان / ٢).

مفاد الآية المباركة أنّ الغاية من تنزيل الفرقان على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي كون القرآن نذيرا للعالمين أي الخلائق كلها من بدء نزوله إلى يوم يبعثون.

وكلمة «العالمين» اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وقيل كل ما علم به الخالق من الأجسام والأعراض (١) ، وعلى أي تقدير سواء أكان المراد من العالمين جميع المخلوقات التي يحويها الفلك من الجواهر والأعراض ، أم كان المراد الإنس والجن فالمراد منه في الآية بقرينة كونه «نذيرا» خصوص الإنسان أو مطلق من يعقل ، فالآية صريحة في أنّ إنذاره لا يختص بناس دون ناس أو بزمان دون زمان ، فهو على إطلاقه يعطي كونه نذيرا للإنس والجن بلا قيد ولا حدّ.

وهناك آيات أخر تثبت عمومية دعوة نبي الإسلام لكل المكلّفين كقوله تعالى :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سبأ / ٢٩).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (الأعراف / ١٥٩).

إنّ ملاحظة سعة مفهوم «العالمين» و «الناس» و «كافة» تؤيد هذا المعنى أيضا ، إضافة إلى إجماع المسلمين على ذلك ، وكون المسألة من ضروريات الدين عندهم ، والروايات الكثيرة الواردة عن النبي والعترة الطاهرة توضّح هذا المطلب ، نذكر بعضا منها على سبيل المثال :

١ ـ ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المشهور قال :

«أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة ألا وقد بيّنهما الله عزوجل في الكتاب وبيّنتهما في سيرتي وسنتي» (٢).

وورد بلفظ آخر أيضا قال أبو عبد الله عليه‌السلام :

«حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة

__________________

(١) تفسير الكشّاف : ج ١ ص ٢٠ ط. دار الكتب العلمية.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢ ص ٢٦٠ ح ١٧.

٥١٦

لا يكون غيره ولا يجيء غيره» (١).

٢ ـ تنصيص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بمنزلة هارون من موسى وأنه لا نبي من بعده ، مما يدلّ على كون النبي خاتما للأنبياء والرسل ، وقد روي هذا الحديث بطرق كثيرة في مصادر الفريقين (٢) ، وأجمعت على صحته الأمة بأسرها ، فلا مغمز في سنده أو دلالته ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نبي بعدي» نص صريح في خاتميته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والأحاديث بشأن الخاتمية فوق التواتر روى بعضها شيخنا العلّامة جعفر السبحاني (دام ظلّه) في كتابه معالم النبوة ص ١٥٠ فلتراجع.

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٥٨ ح ١٩.

(٢) فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج ١ ص ٣٠٠ ط. قم.

٥١٧

الباب السابع عشر

عقيدتنا في القرآن الكريم

قال المصنّف (قدّس الله سرّه) :

نعتقد أنّ القرآن هو الوحي الإلهي المنزّل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم ، فيه تبيان لكل شيء ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما حوى من حقائق ومعارف عالية لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه ، وكلهم على غير هدى ، فإنه كلام الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

ومن دلائل إعجازه أنه كلّما تقدم الزمن وتقدّمت العلوم والفنون فهو باق على طراوته وحلاوته وعلى سموّ مقاصده وأفكاره ، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة ، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفيّة يقينية ، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية ، فإنه يبدو بعض منها على الأقل تافها أو نابيا أو مغلوطا ، كلما تقدمت الأبحاث العلمية وتقدّمت العلوم بالنظريات المستحدثة ، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالأبوة العلمية والتفوّق الفكري.

ونعتقد أيضا بوجوب احترام القرآن الكريم وتعظيمه بالقول والعمل ، فلا يجوز تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزءا منه على وجه

٥١٨

يقصد أنها جزء منه ، كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمس كلماته أو حروفه (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ، سواء كان محدثا بالحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها ، أو محدثا بالحدث الأصغر حتى النوم ، إلّا إذ اغتسل أو توضأ على التفاصيل التي تذكر في الكتب الفقهيّة.

كما أنه لا يجوز إحراقه ، ولا يجوز توهينه بأي ضرب من ضروب التوهين الذي يعد في عرف الناس توهينا ، مثل رميه أو تقذيره أو وضعه في مكان مستحقر ، فلو تعمد شخص توهينه وتحقيره بفعل واحد من هذه الأمور وشبهها ، فهو معدود من المنكرين للإسلام وقدسيته المحكوم عليها بالمروق عن الدين والكفر برب العالمين.

* * *

تعرّض المصنف (قدس‌سره) في هذا الباب إلى نقطتين مهمتين :

الأولى : كون القرآن معجزة إلهية ، ووجوه الإعجاز فيه.

الثانية : صيانته عن التحريف.

أما النقطة الأولى :

فمما لا ريب فيه عند المسلمين أنّ القرآن كتاب سماوي يحتوي على شتّى العلوم والمعارف والأخلاق والقوانين ، وكل ما يحتاجه الفرد والجماعة ، وهو المعجزة العلمية الكبرى التي تفرّد بها الله سبحانه على النبي الكريم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون سواه من الأنبياء والرسل ، وهو الكتاب الوحيد الذي أعلن بقوة وبصراحة تامة أنّ أحدا لا يمكنه أصلا أن يأتي بمثله ، حتى جماعات الإنس والجن لن يتمكنوا لو اجتمعوا أن يأتوا بمثل سورة من القرآن ، قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء / ٨٩) ، (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (يونس / ٣٩).

وعدم قدرة الجن والإنس قديما وحديثا على الإتيان بمثله ومجاراته دليل صدق محمد وسطوع نوره عبر الأجيال إلى يوم القيامة ، وقد ردّ سبحانه كل المشكّكين بمعجزة النبي محمّد (حيث نسب بعضهم أنّ القرآن من صنع محمد بن عبد الله ، وافترى بعضهم بالقول أنّ الشياطين تنزّلت به عليه ، كما يعتقده

٥١٩

المشركون القدامى ، ومن الجدد سلمان رشدي) بقوله تعالى :

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٤) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٥)) (الطور / ٣٤ ـ ٣٥).

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١١) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١٢) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٣)) (الشعراء / ٢١١ ـ ٢١٢ ـ ٢١٣).

والسر في عدم قدرة الجن والإنس على الإتيان بمثل آياته ، يكمن في وجوه الإعجاز فيه وهي كما يلي :

الوجه الأول : فصاحة القرآن :

من أهم عناصر الإعجاز القرآني فصاحته وبلاغته وروعة نظمه وتأليفه وسبك مفرداته وتراكيبه ودقة معانيه وعظمة مبانيه ، فهو عزوجل قد استخدم في كتابه لعرض مقاصده أعذب الألفاظ وأجملها ، وأجود التراكيب سبكا واعتدالا وتأثيرا ، ليوصل المعاني التي يريدها إلى الأذهان ، وهو بهذه الكيفية لا يمكن لأي إنسان أن ينال معانيه إلّا لمن حظي بقسط وافر من معرفة الألفاظ وتراكيبها ، بل لا يتيسّر اختيار أمثال هذه الألفاظ والتراكيب الملائمة والمتناسقة للمعاني العالية والدقيقة ، إلّا لمن كان له إحاطة تامة بكل خصوصيات الألفاظ ودقائق المعاني ، والعلاقات فيما بينها ليمكنه اختيار أفضل الألفاظ والعبارات ، مع ملاحظة كل أبعاد المعاني المقصودة وجوانبها ، وملاحظة مقتضى الحال والمقام ، ومثل هذه الإحاطة العلمية الشاملة لا يمكن توفرها في أي إنسان ، بدون دراسة آداب اللغة العربية ، ومن دون استعانة بما ورد في أخبار النبي وعترته الطاهرة المطهّرة ؛ وأما المقولة المشهورة إنّ كل إنسان يفهم القرآن فلا أساس لها ، وتكذّبها شواهد الاعتبار والوجدان ، فمن لم يمتلك قسطا وافرا من المعرفة في العمومات والخصوصيات والمحكمات والمتشابهات والناسخ والمنسوخ كيف يمكنه أن يعرف حكم الله تعالى في كتابه المليء بما ذكرنا وإلّا لوقع في محذور تفسير الكتاب بالآراء والظنون والأوهام مما يستدعي ذلك نسف القواعد والمرتكزات العقيدية والتشريعية وغيرهما من الأساس ؛ فيوجب ذلك انحرافا عن الدين والكفر بشريعة سيد المرسلين ؛ نعم هناك بعض الآيات يمكن للإنسان العادي تفهّمها لوضوح ألفاظها من دون اشتراط ما ذكرنا لكن فهمه لها يعدّ ناقصا بالقياس إلى من يمتلك الاطّلاع على علوم

٥٢٠