الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

الإيمان كما قال : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (الممتحنة / ٥).

فاستغفر له على ما يصح ويجوز من شرائط الحكمة ، فلمّا تبيّن له أنه عدوّ لله ، وآيس من إيمانه تبرّأ منه ، فيكون بهذا قد أظهر آزر لإبراهيم الإيمان ، وكان إبراهيم قد وعده أن يستغفر الله إن آمن فلما أظهر الإيمان استغفر له ، فأعلمه الله أنّ ما ظهر منه بخلاف ما يبطنه «فتبرأ منه» (١).

فاستغفار إبراهيم له من أجل تظاهره بالإسلام ، والأنبياء مأمورون بمجاراة الظاهر والعمل عليه.

٢ ـ إنّ والد إبراهيم هو «تارخ» باتفاق مؤرخي الشيعة وبعض السنّة (٢) وآزر عمّ إبراهيم عليه‌السلام لا أبوه على المشهور ، وجدّه لأمه على قول بعضهم.

وهناك قرائن عدّة تؤكد كون «تارخ» والد إبراهيم عليه‌السلام هي :

القرينة الأولى :

لم يرد في كتب التاريخ أنّ أبا إبراهيم هو آزر ، بل الثابت أنّ اسم أبيه هو «تارخ» وهذا ما ورد أيضا في العهدين القديم والجديد ، والذين يعتبرون آزر والد إبراهيم يستندون إلى تعليلات لا يمكن قبولها ، من ذلك أنهم يقولون : إنّ اسم والد إبراهيم هو تارخ ولقبه آزر ، وهذا القول لا تسنده الوثائق التاريخية.

أو يقولون : إنّ «آزر» اسم صنم كان أبو إبراهيم يعبده ، وهذا القول لا يأتلف مع هذه الآية التي تقول إنّ أباه كان آزر ، إلّا إذا قدّرنا جملة أو كلمة ، وهذا أيضا خلاف الظاهر (٣).

القرينة الثانية :

وجود فرق بين كلمتي الأب والوالد ، حيث إنّ الأولى أعمّ من الثانية ، فكلمة «والد» عطي معنى الأبوة المباشرة ويشهد له قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام الذي استغفر لوالده الحقيقي بعد أن بلغ من الكبر عتيا (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن : ج ٥ ص ٣٠٩.

(٢) ذكر ابن حجر أنّ آزر لم يكن أبا لإبراهيم ، وإنما كان عمّه أو جده لأمه.

لاحظ تاريخ الخميس : ج ١ ص ٢٣٥ والصحيح من السيرة : ج ٢ ص ١٩٠.

(٣) تفسير الأمثل : ج ٤ ص ٣٢٢.

٤٨١

وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (إبراهيم / ٤٢) في حين عند ما استغفر لآزر كان ذلك في أول عهده وفي شبابه فلو كان آزر أبا لإبراهيم لما استغفر له في أواخر حياته بعد أن هجره أوان شبابه؟ لذا استعمل كلمة «أب» التي تفيد العمومة لا الأبوة المباشرة ويشهد له قوله تعالى حاكيا عن أولاد يعقوب (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً).

ففي الآية عبّر عن العمّ ب «الأب» لأنّ إسماعيل كان عمّا ليعقوب ابن إسحاق لا أباه ؛ فأولاد يعقوب عبّروا عن عمّهم إسماعيل بأنه أب لأبيهم يعقوب ، مع أنه كما عرفت يعتبر عمّا ليعقوب.

القرينة الثالثة :

إنّ آزر كان مشركا ، والمشرك نجس لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (التوبة / ٢٨) وقد أكّدت المرويات أنّ آباء النبي محمد كلّهم موحّدون ، منها الحديث الصحيح عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات لم يدنسني بدنس الجاهلية».

وقد قال الطوسي في التبيان (١) : «هذا لا خلاف في صحته». وقد رواه عدّة من المفسرين الشيعة والسنة كالطبرسي في المجمع والنيسابوري في غرائب القرآن ، والفخر الرازي في تفسيره ، والآلوسي في روح المعاني.

وكذا السيوطي في مسالك الحنفاء كما جاء في هامش بحار الأنوار (٢) ، مستدلا على إيمان والديّ الرسول وأجداده إلى إبراهيم عليه‌السلام بمقدمتين :

«الأولى : إنّ الأحاديث الصحيحة دلّت على أن كل أصل من أصول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آدم عليه‌السلام إلى أبيه عبد الله فهو خير أهل قرنه (أي عصره) وأفضلهم ، ولا أحد في قرنه ذلك خير منه ولا أفضل.

الثانية : إنّ الأحاديث والآثار دلّت على أنه لم تخل الأرض من عهد نوح عليه‌السلام أو آدم عليه‌السلام إلى بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن تقوم الساعة من أناس على الفطرة يعبدون الله ويوحّدونه ويصلّون له ، وبهم تحفظ الأرض ولولاهم لهلكت الأرض ومن عليها ، وإذا قرنت بين هاتين المقدمتين نتج أنّ آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن فيهم

__________________

(١) ج ٤ / ١٧٥.

(٢) ج ١٥ / ١١٨.

٤٨٢

مشرك ، لأنه ثبت في كل منهم أنهم خير قرنه ، فإن كان الناس الذين على الفطرة هم آباءهم فهو المدّعى ، وإن كان غيرهم وهم على الشرك لزم أحد الأمرين :

إمّا أن يكون المشرك خيرا من المسلم وهو باطل بالإجماع ، وإمّا أن يكون غيرهم خيرا منهم وهو باطل لمخالفة الأحاديث ، فوجب قطعا أن لا يكون فيهم مشرك ليكونوا خير أهل الأرض في كل قرنه».

يتبين من هذا أن التفسير المذكور للآية ١٣٣ البقرة مبني على وجود قرائن واضحة من القرآن نفسه ومن مختلف الروايات الإسلامية.

ب ـ ومن الأمور التي استدلّوا بها على كفر آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما روي عن مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفّان عن حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله أين أبي؟

قال : في النار ، فلمّا قفا دعاه ، فقال : إنّ أبي وأباك في النار (١).

يجاب عنه :

أولا : إنّ هذه الرواية معارضة للروايات التي تقدمت سابقا الدالّة على إيمان آباء النبي وأجداده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما يدلّ على حرمة الأخذ بها.

ثانيا : لقد روى هذه الرواية حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس ، مع أننا نجد (٢) : أنّ معمرا قد روى نفس هذا الحديث عن ثابت عن أنس ولكن بنحو آخر لا يدلّ على كفر أبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حيثما مررت بقبر كافر فبشّره بالنار (٣).

مضافا إلى أن رواية معمر رويت بسند صحيح على شرط الشيخين عن سعد بن أبي وقاص ، وكذا رويت عن الزهري بسند صحيح أيضا.

ثالثا : كيف يكون أبواه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عبد الله وعبد المطلب) وغيرهم في النار كما يدّعي هؤلاء ، ثم يكون ورقة بن نوفل ، الذي أدرك البعثة ، ولم يسلم ، في الجنّة عليه ثياب السندس (٤).

__________________

(١) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢٢٣.

(٢) الصحيح من السيرة : ج ٢ ص ١٩٢.

(٣) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢٢٣.

(٤) الصحيح من السيرة : ج ٢ ص ١٩٢ وص ٢٨٨.

٤٨٣

رابعا : إنّ هذه الرواية مخالفة لما أطبق عليه جمهور العامة من أن من مات ولم تبلغه دعوة النبي مات ناجيا ، ويدخل الجنّة ، وعليه فأهل الفترة من العرب ، لا تعذيب عليهم ، وإن غيّروا أو بدّلوا أو عبدوا الأصنام ، والأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر مؤولة (١).

* * *

__________________

(١) الصحيح من السيرة : ج ٢ ص ١٩٣ نقلا عن السيرة النبوية لدحلان : ج ١ ص ٣٢ والسيرة الحلبية : ج ١ ص ١٠٦.

٤٨٤

الباب الرّابع عشر

عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

قال المصنّف (قدّس سره) :

نؤمن على الإجمال بأنّ جميع الأنبياء والمرسلين على حقّ ، كما نؤمن بعصمتهم وطهارتهم ، وأما إنكار نبوّتهم أو سبّهم أو الاستهزاء بهم فهو من الكفر والزندقة ، لأنّ ذلك يستلزم إنكار نبينا الذي أخبر عنهم وصدّقهم.

أما المعروفة أسماؤهم وشرائعهم كآدم ونوح وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وسائر من ذكرهم القرآن الكريم بأعيانهم ، فيجب الإيمان بهم على الخصوص. ومن أنكر واحدا منهم فقد أنكر الجميع ، وأنكر نبوة نبيّنا بالخصوص.

وكذلك يجب الإيمان بكتبهم وما نزل عليهم. وأما التوراة والإنجيل الموجودان الآن بين أيدي الناس ، فقد ثبت أنهما محرفان عمّا أنزلا بسبب ما حدث فيهما من التغيير والتبديل والزيادات والإضافات ، بعد زمانيّ موسى وعيسى عليهما‌السلام بتلاعب ذوي الأهواء والأطماع بل الموجود منهما أكثره أو كله موضوع بعد زمانهما من الأتباع والأشياع.

* * *

يتركّز البحث هنا في نقطتين :

الأولى : وجه الحكمة في تعدّد الأنبياء ومقدار عددهم.

الثانية : وجوب الاعتقاد بما جاءوا به.

٤٨٥

أما النقطة الأولى :

قد عرفت مما تقدم في البحوث السابقة أنّ العقل غير قادر على الإحاطة بالمعارف والعلوم المؤثرة بالسعادة الدنيوية والأخروية ، لذا اقتضت الحكمة الإلهية تأييده بتعيين الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ليتم تعليمهم الحقائق الضرورية ليبلّغوها لسائر البشر ، بحيث تقام عليهم الحجة لئلا يقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (طه / ١٣٥) (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص / ٤٨).

وحتى تكون الحجة لله ولا يكون للناس على الله حجة (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (الأنعام / ١٥٠) (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء / ١٦٦).

قد يقال :

إنه ليس من الضروري ، تعدّد الأنبياء والشرائع ، بل يكفي أن يجعل سبحانه للناس شريعة واحدة بواسطة نبي واحد ، تتوفر فيها كل الأحكام التي تحتاجها البشرية على مرّ العصور ، بحيث يتمكن كل فرد من التعرّف على وظيفته من خلال رسالة هذا النبي الواحد!

والجواب :

١ ـ إنّ أيّ قانون يشرع لتيسير وتنظيم حياة الناس ، لا بدّ أن يلحظ فيه وجد راع يأخذ بأيدي المكلفين إلى سبل الطاعة ويحرس هذه الأحكام من أن تتلاعب بها الأهواء ، والأطماع ، حتى لا تسود الفوضى ويكثر الهرج والمرج بين العباد ، فيختل النظام ، الذي شاءت القدرة الإلهية أن يكون منضبطا ومتكاملا مع انضباط وتكامل أفراده ، والحارس المذكور يعتبر شخصا مميزا بصفات ربانية ، تؤهله لأن يكون سفيرا إلى الناس من قبل الله تعالى للحكمة المتقدمة ، وهذا السفير هو النبي ، وبقاؤه حيّا إلى نهاية العالم ليهدي جميع البشر وإن كان مقدورا لله تعالى إلّا أنّ الحكمة تقتضي إيجاد غيره دفعا لتوهّم عدم القدرة على إيجاد غير هذا النبي على ساحة الوجود ، لأنه سبحانه عند ما بعث الأنبياء والرسل والأولياء عليهم‌السلام مسدّدين ملهمين ، لم يفعل ذلك بهم قهرا ، وإنما نتيجة قابليات عندهم ، من هذا المنطلق لا يخلو منهم زمن ، فتعددهم على مرّ الأزمنة والدهور لازم

٤٨٦

بحسب ما يمتلكون من معارف وكمالات تؤهلهم أن يأخذوا بالبشرية إلى الهداية والصلاح.

٢ ـ إنّ طبيعة المجتمعات وظروفها في مختلف الأزمنة والأمكنة لا تتشابه مع بعضها البعض ، فلا يمكن قياس زمن النبي نوح عليه‌السلام على بقية الأزمنة المتأخرة عنه لا سيما في أزمنتنا الحاضرة حيث تعقدت فيها وسائل العيش ، وتشابكت البلدان ، وكثر العمران مما يستدعي تعقيدا في العلاقات الاجتماعية ، كل هذا يمكن أن يكون له تأثير في كيفية الأحكام والقوانين الاجتماعية وكميتها ، وربما فرض ـ أحيانا ـ تشريع قوانين جديدة ، وإذا ما فرض بيان مثل هذه القوانين وإبلاغها بوساطة نبي مبعوث قبل آلاف السنين ، لكان مثل هذا البيان والإبلاغ عبثا ولغوا ، كما يصعب الحفاظ عليها ، ويعسر تنفيذها في مجالاتها الخاصة ، لعدم توفر الشخص المنزّه عن المعصية لكي يحفظها من التغيير والتبديل ، ولو فرض وجوده لكان هو صاحب التشريع ، فلا حاجة حينئذ لسنّ قانون قبل وجوده ليحافظ عليه بنفسه بعد وجوده.

٣ ـ للاكتفاء بدعوة نبي واحد لا بدّ من توفر وسائل إعلامية بواسطتها يمكن إيصال رسالته لجميع البشر في كل زمان ومكان وهذا مما لم يتوفر للأنبياء بشكل عام ، وإرسال سفراء من قبل هذا النبي إلى الأجيال اللاحقة ، لا يحل المشكلة لاحتمال تعرّضهم للسهو والخطأ ، مما يؤدّي إلى تحريف المفاهيم والمعتقدات.

٤ ـ إنّ إرشادات ودساتير هذا النبي قد تتعرّض بمرور الزمن إلى شتّى أنواع التحريف ، وإلى تفسيرات خاطئة ، مما يؤدي بعد فترة زمنية إلى اعتقادات دينية مشوّهة ومنحرفة كما هو ملاحظ في الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية ـ المسيحية ـ الإسلامية) ، فإنّ من الملاحظ في مسيرة هذه الأديان ، أنّ أيدي الدسّ والتحريف لعبت دورا كبيرا بمسخ هيكلية هذه الأديان والتلاعب بمفاهيمها وعقائدها ، والإسلام لم يسلم كغيره من الأديان من يد الغدر والخيانة بطمس معالمه القيّمة وأفكاره الوضاءة عبر تحجيم دور العترة الطاهرة ، وإبعادهم عن مسرح الحياة ، وتغريبهم عن قواعدهم الشعبية ، وسيأتي اليوم الذي يخرج فيه مخلّص البشرية القائم المنتظر ناموس الدهر وإمام العصر بقية الله روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء ، فيعيد الدين غضا جديدا لا لبس فيه ولا تشويش كما هو ملاحظ في وقتنا الحاضر ، حيث بات الاضطراب والتضارب بين المؤمنين نتيجة الآراء

٤٨٧

والمشارب الاجتهادية الذي لم يجلب على المؤمنين إلّا «التمزق والحيرة» ، لكن ليس معنى هذا أنه لا يجوز التقليد بل يجب في غيبة وليّنا عجّل الله تعالى فرجه الشريف حتى لا تترك الأحكام كليا فتضيع الشريعة بضياع أفرادها.

٥ ـ إنّ تعدد الأنباء حاجة ضرورية لدفع الاختلافات الناتجة عن الاختلاف في القابليات والاستعدادات ، فليست التكاليف سوى امتحانات إلهية للإنسان في مختلف مواقف الحياة ، وإخراجا له من القوة إلى الفعل في جانبي السعادة والشقاء ، أو تمييزا لحزب الرحمن من حزب الشيطان.

ومن هنا تتضح الحكمة من تعدد الشرائع والكتب السماوية بالرغم من اتحادها في أصول العقائد والأسس الخلقية والعبادية كعبادة الله الواحد الأحد ، ورفض الأصنام والوثنية.

مضافا إلى أنّ الامتحانات الإلهية تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات وتنوعها ، مما يلزم اختلاف الشرائع لذا علّل سبحانه ببعض آياته أنّ الاختلاف في الشرائع لأجل الامتحان والبلاء لما لكل إنسان من طبائع وأخلاق تحدّد هويته من حيث العمل قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (المائدة / ٤٩) (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (الإسراء / ٨٥).

عدد الأنبياء :

حيث إنّ المسألة من التعبديات التي تعتمد على السّماع من الشارع المقدّس ولا دخل للعقل في معرفة عددهم ومقدار الكتب المنزلة عليهم لعدم قدرته على استكشاف الماضي والمستقبل ، وإنما مهمته الإذعان والتصديق بأنّ للطبيعة مدبرا حكيما ، أرسل سفراء إلى خلقه (١) ، وقد أشار القرآن إلى بعض الأنبياء ، وأنّ لكل أمة نبيا كما في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (فاطر / ٢٥).

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل / ٣٧).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ

__________________

(١) لاحظ خبر هشام بن الحكم بحار الأنوار : ج ١١ ص ٢٩ وأصول الكافي : ج ١ ص ١٦٨.

٤٨٨

عَلَيْكَ) (غافر / ٧٩).

كما أنه أشار إلى أسماء ٢٥ نبيا ، والباقي مسكوت عنه لحكمة لم نطلع عليها.

وقد أشارت النصوص الشريفة عن عترة آل محمد عليهم‌السلام إلى أعدادهم كما في خبر الليثي عن أبي ذر قال :

قلت : يا رسول الله كم النبيون؟

قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي.

قلت : كم المرسلون منهم؟

قال : ثلاثمائة عشر جما غفيرا (١) ...

وفي مقابل هذا النص وأمثاله ، يوجد نصوص أخر تشير إلى أنّ عددهم مائة وأربع وأربعون ألف نبي (٢).

وروي أيضا عن أنس بن مالك قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل (٣) ،

يقال في الجواب :

إنّ رواية المائة وعشرين ألف نبي تفوق حدّ الاستفاضة ، وقد أخذ بها مشهور المؤرخين ، مع إعراضهم عن رواية المائة وأربعة وأربعين لضعف سندها ، وإعراضهم عن خبر يوجب ضعف حجيته حتى ولو كان سنده صحيحا كما هو مقرر في علم الحديث.

وأمّا رواية الثمانية آلاف ، فعلى الرغم من ضعف سندها ، وعدم إعراض المشهور عنها ، يمكن الجمع بينها وبين رواية المشهور بحمل العدد فيها على عظماء الأنبياء.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٢ ح ٢٤.

(٢) نفس المصدر : ج ١١ ص ٥٩ ح ٦٧.

(٣) أمالي الطوسي : ج ٢ ص ١١.

٤٨٩

النقطة الثانية :

قد اتفقت الأمة الإسلامية على وجوب الاعتقاد بكل أنبياء الله تعالى ، وبجميع ما جاءوا به من شرائع ورسالات ، فلا يجوز التفريق بينهم أبدا ، أما تفضيل بعضهم على بعض فمما لا ريب فيه إذ فوق كل ذي علم عليم ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. ووجوب الاعتقاد بهم يجب أن يكون على سبيل الاستغراق المجموعي ، فلا يكفي الإيمان ببعض دون بعض ، بل إنّ إنكار واحد منهم مساوق لتكذيبهم جميعا ، وإنكار حكم من أحكامهم النازلة عليهم يعدّ بمثابة إنكار حكم الله تعالى ؛ كما لا يجوز توهينهم والبخس بحقهم ، والازدراء بهم ، والاستخفاف بمقاماتهم وسبّهم ، كل ذلك موجب للخروج من الدين ، ويعدّ تحاملا وتملصا من شريعة سيد المرسلين وذلك لوجهين :

الأول : إنّ إنكار واحدا منهم مستلزم لإنكار ما نزل على نبينا محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما صدر عنه من أخبار في حقهم عليهم‌السلام.

قد يقال :

إنّ من غير الجائز إنكار من نصّت عليه الآيات والأخبار بالاسم ، أما من لم يذكر ، فربما يقال بجواز إنكاره ما دام غير متعيّن بالاسم؟

والجواب :

لا يجوز إنكار غير المقصوص والمنصوص عليه بالقرآن والأخبار ، لوجود علم إجمالي بوجود أنبياء لا نعلم أسماءهم وكتبهم ، وهذا كاف في تنجّزه وحجيته.

الثاني : إنّ إنكار نبوة أيّ نبي كفر بذاته ، لأنه إنكار لنبوة من ثبتت نبوّته بالمعجزات.

مضافا إلى ذلك ، فمقتضى إيماننا بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستدعي أن نؤمن بجميع الأنبياء الذين أخبر عنهم بالإجمال والتفصيل ، وإلّا فإنكار أي واحد منهم يعني إنكار ما نزل على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو كفر صريح.

أما وجوب الاعتقاد بالكتب المنزلة عليهم فمما لا ريب فيه بشريعة الإسلام ، إلّا أن الموجود حاليا بين أيدينا من التوراة والإنجيل فلا شكّ بكونهما محرّفين عن

٤٩٠

النسخ الأصلية ، ويشهد له وقوع التناقضات الكثيرة فيهما (١) ، مع وجود اختلافات واشتباهات في فقراتهما ، كل ذلك يسقطهما عن الحجيّة ، ولا يضر دعوى العلم بوجود بعض الفقرات منهما لم تصلها يد التحريف ، لكنّها غير مشخّصة لكل أحد إلّا ما ورد تفسيره في مروياتنا.

* * *

__________________

(١) لاحظ التوراة : سفر التكوين / الباب الثالث / الرقم ٨ ـ ١٢.

التوراة : سفر التكوين / الباب السادس / الرقم ٦.

التوراة : سفر التكوين / الباب ٣٢ / الرقم ٢٤ ـ ٣٢.

العهد القديم : كتاب صموئيل الثاني / الباب ١١.

التوراة : سفر التكوين / الباب ١٩ / الرقم ٣٠ ـ ٣٨.

إنجيل يوحنا : الباب الثاني.

تناقض في إنجيل لوقا / الإصحاح الثالث / الرقم ٢٣.

وإنجيل متى : الإصحاح الأول / الرقم ١٦. ولاحظ إنجيل متى : الإصحاح ٢٧ / الرقم ٣٩.

وإنجيل لوقا : الإصحاح ٢٣ / الرقم ٣٢ و ٣٣ و ٣٩.

٤٩١

الباب الخامس عشر

عقيدتنا في الإسلام

قال المصنّف (قدس‌سره) :

نعتقد أن الدين عند الله الإسلام ، وهو الشريعة الإلهية الحقّة التي هي خاتمة الشرائع وأكملها ، وأوفقها في سعادة البشر وأجمعها لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم ، وصالحة للبقاء مدى الدهور والعصور لا تتغير ولا تتبدل ، وجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من النظم الفردية والاجتماعية والسياسية. ولما كانت خاتمة الشرائع ولا نترقّب شريعة أخرى تصلح هذا البشر المنغمس في المظالم والفساد ، فلا بد أن يأتي يوم يقوى فيه الدين الإسلامي فيشمل المعمورة بعدله وقوانينه.

ولو طبّقت الشريعة الإسلامية بقوانينها في الأرض تطبيقا كاملا صحيحا ، لعمّ السلام بين البشر وتمت السعادة لهم ، وبلغوا أقصى ما يعلم به الإنسان من الرفاه والعزة والسعة والدعة والخلق الفاضل ، ولا نقشع الظلم من الدنيا وسادت المحبّة والإخاء بين الناس أجمعين ، ولا نمحى الفقر والفاقة من صفحة الوجود.

وإذا كنّا نشاهد اليوم الحالة المزرية عند الذين يسمّون أنفسهم بالمسلمين ، فلأنّ الدين الإسلامي في الحقيقة لم يطبق بنصّه وروحه ، ابتداء من القرن الأول من عهودهم ، واستمرت الحال بنا ـ نحن الذين سمينا أنفسنا بالمسلمين ـ من سيّئ إلى أسوأ إلى يومنا هذا ، فلم يكن التمسّك بالدين الإسلامي هو الذي جر على المسلمين هذا التأخر المشين ، بل بالعكس ان

٤٩٢

تمردهم على تعاليمه واستهانتهم بقوانينه ، وانتشار الظلم والعدوان فيهم من ملوكهم إلى صعاليكهم ومن خاصتهم إلى عامّتهم ، هو الذي شلّ حركة تقدمهم وأضعف قوتهم وحطّم معنوياتهم وجلب عليهم الويل والثبور ، فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال / ٥٤) ، تلك سنّة الله في خلقه (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (يونس / ١٨) (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (هود / ١١٨) (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود / ١٠٣).

وكيف ينتظر من الدين أن ينتشل الأمة من وهدتها ، وهو عندها حبر على ورق لا يعمل بأقلّ القليل من تعاليمه ان الإيمان والأمانة والصدق والإخلاص وحسن المعاملة والإيثار ، وان يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه ، وأشباهها من أول أسس دين الإسلام ، والمسلمون قد ودعوها من قديم أيامهم إلى حيث نحن الآن. وكلما تقدم بهم الزمن وجدناهم أشتاتا وأحزابا وفرقا يتكالبون على الدنيا ويتطاحنون على الخيال ويكفر بعضهم بالآراء غير المفهومة أو الأمور التي لا تعنيهم ، فانشغلوا عن جوهر الدين وعن مصالحهم ومصالح مجتمعهم بأمثال النزاع في خلق القرآن والقول بالوعيد والرجعة ، وان الجنة والنار مخلوقتان أو سيخلقان ، ونحو هذه النزاعات التي أخذت منهم بالخناق وكفّر بها بعضهم بعضا ، وهي إن دلّت على شيء فإنما تدلّ على انحرافهم عن السنن الجادة المعبدة لهم إلى حيث الهلاك والفناء.

وزاد الانحراف فيهم بتطاول الزمان حتى شملهم الجهل والضلال وانشغلوا بالتوافه والقشور ، وبالأتعاب والخرافات والأوهام ، وبالحروب والمجادلات والمباهات ، فوقعوا بالأخير في هاوية لا قعر لها ، يوم تمكن الغرب المتيقظ ـ العدوّ اللدود للإسلام ـ من أن يستعمر هذه البقاع المنتسبة إلى الإسلام وهي في غفلتها وغفوتها ، فيرمي بها في هذه الهوة السحيقة ، ولا يعلم إلّا الله مداها ومنتهاها (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).

٤٩٣

ولا سبيل للمسلمين اليوم وبعد اليوم إلّا أن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على تفريطهم ، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والأجيال الآتية بتعاليم دينهم القويمة ، ليمحوا الظلم والجور من بينهم. وبذلك يتمكنون من أن ينجوا بأنفسهم من هذه الطامة العظمى ، ولا بد بعد ذلك أن يملئوا الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، كما وعدهم الله تعالى ورسوله وكما هو المترقب من دينهم الذي هو خاتمة الأديان ، ولا رجاء في صلاح الدنيا وإصلاحها بدونه. ولا بد من إمام ينفي عن الإسلام ما علق فيه من أوهام وألصق فيه من بدع وضلالات ، وينقذ البشر وينجيهم مما بلغوا إليه من فساد شامل وظلم دائم وعدوان مستمرّ واستهانة بالقيم الأخلاقية والأرواح البشرية. عجل الله فرجه وسهّل مخرجه. انتهى كلامه (قدّس سره).

* * *

يبحث في هذا الباب عن جامعية وعالمية دين الإسلام وأكمليته وأفضليته على كل الأديان السماوية المتقدمة عليه كالنصرانية واليهودية ، بل هو ناسخ لها ، حاكم عليها ، وفي الباب الآتي (مشرّع الإسلام) نبحث في خاتمية الرسالة الإسلامية وأنه لا شريعة بعد شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

جامعية الإسلام :

بعد أن ثبتت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يلزم الإيمان به كنبي عظيم ، والإيمان بكل الآيات النازلة عليه ، وبجميع الأحكام والتعاليم المنزّلة من الله تعالى والإيمان بالأنبياء المتقدمين عليه وبما جاءوا به ، لا يستلزم لزوم العمل وفق شرائعهم ، فالملاحظ عند المسلمين أنهم يؤمنون بكل الأنبياء العظام وجميع الكتب السماوية النازلة عليهم ، ولكن لا يمكنهم ولا يجوز لهم العمل بالشرائع السابقة ، بمعنى أنه لو تمكّن الفرد من العلم بالأحكام الصحيحة الموجودة في التوراة والإنجيل فلا يجوز له العمل بها ، لبطلان العمل بتلك الشرائع مع وجود رسالة الإسلام الناسخة لغيرها ، ولأنّ الوظيفة العملية لكل أمة هي العمل بتعاليم النبي المرسل لتلك الأمة ، إذ من الملاحظ بشرائع الأنبياء ، أن شريعة اللاحق كانت أكمل من السابق ، ومن الملفت للنظر عند أرباب الفكر والأدب والفلسفة أن الإسلام بدساتيره العظيمة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والسنن والآداب حتى الدخول إلى المرحاض ومعاشرة المرأة في الفراش ، يدلّ بالدلالة الواضحة أنه

٤٩٤

أفضل الأديان على الإطلاق ، قال الكاتب دريترسي الألماني في كتابه مقولات أرسطاطاليس:

[إن العلوم الطبيعية والفلك والفلسفة والرياضيات التي أنعشت أوروبا في القرن العاشر للميلاد مقتبسة من قرآن محمد ، بل إنّ أوروبا مدينة للإسلام الذي جاء به محمد.

وقال كوستالوبون : إنّ القرآن لم ينشر إلّا بالإقناع لا بالقوة ، فاستطاع بذلك أن يجذب إليه الشعوب ، وتدين به تلك الشعوب] (١).

يقول الكاتب الفرنسي موريس بوكاي :

إن النظرية القائلة أنّ محمّدا كاتب للقرآن مرفوضة ، إذ كيف يتيسر لرجل حرم العلم في نشأته ، أن يصبح ـ على الأقل من وجهة نظر القيمة الأدبية ـ الكاتب الأول في الأدب العرب كله ، يخبر عن حقائق في النظام العلمي تتجاوز وسع أي كائن إنساني في هذا الزمن ، ودون أن يكون منه أي خطأ مع ذلك ، إنّ الاعتبارات التي سنتوسع فيها في هذه الدراسة ـ (بقصد مقارنة الإسلام مع اليهودية والمسيحية) ستوصلنا من وجهة النظر العلمية فقط ، إلى الحكم بأنّ من المستحيل تصوّر رجل عاش في القرن السابع الميلادي ، واستطاع أن يورد في القرآن أفكارا في موضوعات متنوعة جدا ، ليست أفكار عصره تلتقي مع ما سيكتشفه الناس منها بعد قرون متأخرة عنه ، أما بالنسبة إليّ فليس للقرآن أي تفسير بشري» (٢).

وقال المستر بيكتول :

القرآن هو الذي دفع العرب إلى فتح العالم ، ولكنّهم من أنشأ أمبراطورية فاقت امبراطوريات اسكندر الكبير ، والإمبراطورية الرومانية ، سعة وقوة وعمرانا وحضارة ودواما(٣).

ويقول برنارد شو الكاتب الانكليزي الساخر الذي رفض أن يكتب حياة محمد في مسرحية هزلية :

__________________

(١) القرآن يتجلى في عصر العلم : ص ٤٤ للشيخ نزيه القميحا.

(٢) التوراة والإنجيل والقرآن والعلم للكاتب موريس بوكاي : ص ١١٨ ط. دار الكندي بيروت.

(٣) القرآن يتجلى : ص ٤٣.

٤٩٥

«لو أنّ محمد وجد في هذا العالم اليوم لاستطاع بقوة إقناعه أن يحل كل مشكلات العالم ، وأن يجعل الحب والسلام هما الحياة ، ولا شك أنّ الإسلام ونبي الإسلام ، استطاعا أن يجعلاني أقف باحترام شديد للرسالة ، ورسولها ، وتمنيت دائما أن يكون الإسلام هو سبيل العالم ، فلا منقذ له سوى رسالة محمد ، ولقد وضعت دائما دين محمد موضع الاعتبار السامي بسبب حيويته فهو الدين الوحيد الذي يلوح لي أنه صالح لأطوار الحياة المختلفة بحيث يستطيع أن يكون جذّابا لكل جيل» (١).

أنطوني كوني ، الفنّان العالمي ، بعد أدائه دور عمر المختار للشاشة الكبيرة يقول :

«أحسست أن الإسلام قوة غير عادية بعد أن درست حياة الزعيم عمر المختار. كانت قراءتي عن الإسلام من خلال هذه الشخصية الخالدة ، تأكّد لي أنّ الإسلام هو القوة الخفية التي يحملها ليس عمر المختار فقط ، بل كل المخلوقات البشرية في هذا العالم ، وإنما ينقصهم أن يتعرّفوا عليه وعلى قيمه ومباديه وتعاليمه التي درستها وأنا أعدّ نفسي لأداء دور عمر المختار ، وأنا نادم على أنّ عمري فات ولم أكن مسلما» (٢).

هذه نبذة من كلمات المفكرين الغربيين الذين انحنوا أمام عظمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشخصيته الفذّة والتي لا يعرف عنها أغلب المسلمين النذر القليل ، وعلى الأقل أن يعملوا بمناهجه ، فبات المرء مدهوشا أمام تيارات الفساد والرذيلة التي يغصّ بها المجتمع الإسلامي في أنحاء المعمورة ، متأثرا بمجتمعات يهودية وتطرفية وعلمانية ، في حين أنه يمتلك دينا يقف العظماء خاشعين أمامه ، لما فيه من مبادي سامية خلّاقة.

فيجب على البشرية جمعاء أن تلتزم الإسلام عقيدة ومنهج حياة ، ولزوم عمل الناس ـ جميعا ـ بالشريعة الإسلامية إنما يثبت فيما لو لم تختص رسالة نبي الإسلام بالعرب فقط ، وكذلك فيما لو لم يبعث نبي آخر بعده ينسخ شريعته ، من هنا نبحث في : عالمية رسالة النبي محمد والأدلة عليها : عالمية رسالة الاسلامية والأدلة عليها :

__________________

(١) الإسلام ورسوله في فكر هؤلاء للكاتب أحمد حامد.

(٢) نفس المصدر.

٤٩٦

١ ـ الدليل العقلي :

إنّ العقل يحكم بأنّ الإنسان لم يخلق عبثا ، وإنما خلق لغاية هي أسمى وأرفع منه وهي عبادة الله الواحد الأحد (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات / ٥٧) والطريق إلى الله بالعبودية لا يعرف إلّا بالأنبياء والرسل ، الذين جاءوا بدساتير وأحكام تؤهل الفرد والجماعات إلى السعادة في الدارين ، وكلما كانت الشريعة أشمل وأكمل كلما كان الوصول إلى الهدف أسهل وأسرع ، لذا لم نر دينا أو رسالة هي أتمّ وأكمل من رسالة الإسلام الحاوية لكل ما يحتاجه المرء على كل الصعد والنواحي ، ويشهد له دساتيره وقوانينه الحقة التي تميّزت عن بقية الأديان بدقة أحكامها وشموليتها بل لا يمكن قياسها على غيرها من الأديان لعدم توفّر أحكام وتشريعات في الديانتين اليهودية والمسيحية ، لاقتصارهما على مجرد النصائح والارشادات ، هذا فيما يتعلق بكتابيهما المعروفين بالعهدين القديم والجديد ، أما كتاباهما الصحيحان المفقودان في وقتنا الحاضر ، ففيهما بعض الأحكام التشريعية التي كان المجتمع بحاجة إليها يوم ذاك ، فكانت الشريعتان ـ اليهودية والنصرانية ـ لمرحلتين زمانيتين محدودتين ، بعكس الإسلام الذي لا يحدّه زمان أو مكان بل هو لكل الأجيال ، ففيه من الكليات الأساسية المستنبطة من الكتاب والسنّة ، ما يقدر بواسطته على بيان حاجات الناس في جميع أمورهم من الاعتقادات والآداب والسنن وتشريع الأنظمة والقوانين الاقتصادية والقانونية والزراعية والاجتماعية ، وكل ما يتطلبه الفرد أو الجماعات لتنظيم شئونهم وأحوالهم.

٢ ـ الدليل القرآني :

لا شك أنّ القرآن الكريم هو أفضل الأدلة ، وأكثر المصادر اعتبارا على عالمية دين الإسلام وأنه للناس كافة ، وليس للعرب وحدهم كما توهّم جماعة من المستشرقين المعادين للإسلام ، «معتقدين أن عالمية الرسالة الإسلامية قد ظهر فيما بعد ، وأنّ محمدا اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب ، ولم يكن محمّد يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية» (١).

ولو ألقى المرء نظرة ـ ولو عابرة ـ على هذا الكتاب الإلهي يدرك بكل

__________________

(١) سيد المرسلين : ج ٢ ص ٣٥٤.

٤٩٧

وضوح عموم دعوته ، وعدم اختصاصها بقوم أو عنصر أو لسان ، وهنا ندرج بعض الآيات التي تشهد على عالمية الرسالة المحمدية منذ بداية ظهورها ومنها :

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (الأعراف / ١٥٩).

٢ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء / ١٧١).

٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء / ١٧٥).

٤ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سبأ / ٢٩).

٥ ـ (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (القلم / ٥٣).

٦ ـ (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) (يس / ٧١).

٧ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف / ١٠).

٨ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء / ١٠٨).

إضافة إلى الآيات التي تخاطب أهل الكتاب والأديان الأخرى على لزوم طريق الحق ونبذ الباطل وعبادة الأشخاص كما هو الملاحظ في سورة آل عمران / ٦٥ ـ ٧١ ـ ٧٢ ـ ٩٩ ـ ١١١ وفي سورة المائدة / ١٦ و ٢٠ ومع التأمل في هذه الآيات ونظائرها ، لا يبقى مجال للشك في عمومية الدعوة القرآنية وعالمية دين الإسلام ، وما ورد ببعض الآيات الدالة على أن النبي كان مأمورا بهداية عشيرته وأقربائه أو أهل مكة وما يحاذيها (١) ، فتحمل على بيان مراحل الدعوة ، حيث تبدأ من عشيرته الأقربين ، وبعد ذلك تمتد لسائر البلدان غير مكة ، فليست هذه الآيات مخصصة للآيات الدالة على عالمية الإسلام.

٣ ـ الدليل التاريخي :

يوجد الكثير من الشواهد والدلائل التاريخية التي تدلّ على أنّ النبي الأكرم

__________________

(١) كالآية من : الشعراء / ٢١٤ والأنعام / ٩٢ والشورى / ٧ والسجدة / ٣ والقصص / ٤٦.

٤٩٨

قد بعث الرسائل والكتب لرؤساء وملوك الدول القائمة آنذاك ، أمثال قيصر الروم وشاه إيران وحكام مصر والشام والحبشة واليمامة والبحرين والحيرة (الأردن).

وأرسل لكل واحد من هؤلاء الملوك رسولا خاصّا ، ودعاهم جميعا لاعتناق الإسلام ، وحذّرهم من مفاسد الكفر والمساوئ المترتبة على امتناعهم عن اعتناق رسالته ، التي هي نور ورحمة وهدى لكل من دخل فيها وعمل بمبادئها والتزم أوامرها وانزجر عن نواهيها.

«والرسائل التي وجّهها رسول الله إلى الأفراد والسلاطين وإلى رؤساء القبائل ، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية وخارجها لدعوتهم إلى الإسلام ، تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ والإرشاد والهداية.

وبين أيدينا الآن نصوص مائة وخمسة وثمانين رسالة وكتابا من مكاتيب رسول الله ، ورسائله التي دعا فيها من أرسلها إليهم إلى الإسلام ...» (١).

* * *

__________________

(١) سيد المرسلين : ج ٢ ص ٣٥٢ ومكاتيب الرسول للأحمدي.

٤٩٩

الباب السادس عشر

عقيدتنا في مشرّع الإسلام

قال المصنّف (قدّس الله روحه) :

نعتقد أنّ صاحب الرسالة الإسلامية هو محمّد بن عبد الله وهو خاتم النبيين وسيّد المرسلين وأفضلهم على الإطلاق كما أنه سيد البشر جميعا لا يوازيه فاضل في فضل ، ولا يدانيه أحد في مكرمة ، ولا يقاربه عاقل في عقل ، ولا يشبهه شخص في خلق ، وأنه لعلى خلق عظيم ، ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة.

* * *

أكّد المصنّف (قدس‌سره) في هذا الباب على نقطتين هامتين :

الأولى : أفضلية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر البشر.

الثانية : خاتمية رسالته لكل الشرائع والأديان.

أما النقطة الأولى :

وهي بيان أفضليته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر البشر وبالأخص على الأنبياء والمرسلين على الإطلاق ، لا يدانيه منهم بالفضل أحد ، فهو سيد البشر ، ولا يعني تخصيصه بالفضل على البشر أنه غير مفضّل على بقية المخلوقات المكلفة بالطاعات مع وجود منازع الشهوة لها كالجن ، فهم تابعون للإنس بأخذ المعارف الإلهية والإرشادات السماوية عبر الأنبياء والأوصياء ، فلم يرد أنّ من الجن أنبياء ومرسلين ، بل هذا المقام مختصّ ببني البشر الذين فضّلهم الله تعالى على كثير مما خلق تفضيلا ، وما ورد من قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ

٥٠٠