الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

٣ ـ أسهاه الله تعالى في الصلاة ليفقّه الناس في أحكام الدين ويعلّمهم أحكام السهو ، فعن الحسن بن صدقة قال : قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام : أسلّم رسول الله في الركعتين الأولتين؟ فقال : نعم ، قلت : وحاله حاله (أي وحاله في الجلالة والرسالة ما هو معروف) قال : إنما أراد الله عزوجل أن يفقههم (١) ، تلخّص مما ذكر أنّ ثمة أمورا ثلاثة اعتمد عليها القوم :

الأول : لئلا يعيّر المؤمن أخاه المؤمن.

الثاني : لئلا يؤلّه النبي ويتخذ ربّا.

الثالث : حتى يفقّههم ويعلّمهم أحكام السهو.

لكن ينقض على هذا :

أولا : إنّ الروايات التي استدلّ بها على إثبات السهو لا بدّ من طرحها وذلك لمخالفتها :

أ ـ العقل القاضي بوجوب عصمة النبي عن السهو والنسيان كما عرفت سابقا.

ب ـ والإجماع القطعي ، وخروج الصدوق وأستاذه لا يقدح بصحته وانعقاده ، لأن وجود إجماع كهذا من قبل الطائفة مع كون الروايات بمرأى من أعينهم ، دليل على بطلان مفاد تلك الروايات المستدلّ بها على المطلب ، مضافا لضعف أسانيدها ، ولو سلّمنا بصحة أسانيد بعضها ، لكنّ الرواية مع صحتها ، تزداد ضعفا بإعراض الطائفة عنها وذلك لما يدلّ عليه الإعراض على مزيد من الخلل في الرواية.

ج ـ معارضتها للأخبار الصحيحة سندا والمعتبرة دلالة ، وموافقتها لأخبار العامة ، لأنّ الأخبار التي تمسّك بها الصدوق آحاد مروية بطرق العامة لا تناهض المرويات المتواترة النافية للسهو والنسيان ، لأنّ الخبر الواحد لا يقاوم المتواتر والمقطوع بصحته.

فإذا كانت من أخبار الآحاد وموافقة لأخبار العامة كيف يجوز الأخذ بها ، وترك ما عملت به الطائفة الإمامية ، مع تأكيد النصوص عنهم بطرح الأخبار الموافقة للعامة عند التعارض لأنّ الرشد في خلافهم.

__________________

(١) فروع الكافي : ج ٣ ص ٣٥٦ ح ٣.

٤٦١

ثانيا : لو كانت المصلحة في سهوه هي أن لا يعيّر المؤمن أخاه المؤمن فلما لا تسوّغ هذه المصلحة جعل النبي أعرجا أو أعورا أو أحولا لئلا يعيّر المسلم من ذوي الآفات والعاهات والمناقص المنفّرة ؛ مضافا إلى أنّ السهو في النبي ليس من مقتضيات القبح والنقص كالكذب حتى تسوّغه الموانع المتداركة لقبحه ونقصه من ضرورة أو ضرر ، بل هو من المناقص الذاتية والعلل التامة للقبح والمنقصة في رتبة النبي تماما كالظلم فلا يمنع قبحه مانع ولا يتدارك نقصه مصلحة.

ثالثا : وأما إسهاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لا يغالي فيه فمردود ، لأنّ المقام الربوبي منزّه عن الحوادث والعوارض الجسمانية ، وقد كان النبي كسائر أفراد البشر ، يعرض له ما يعرض لغيره من الحوادث فيأكل ويشرب ويتزوج ويمرض الخ ... فلدفع شبهة الغلوّ طرق أخرى غير التي ذكرها الصدوق لا يلزم منها أي محذور.

رابعا : وأما مسألة أنه سبحانه أسهاه ليفقّه الناس ويعلّمهم فغير صحيح على الإطلاق ، لأنّ بيان حكم السهو غير محتاج إلى وقوع النبي في السهو ، حيث من الممكن أن يعلّم النبيّ الآخرين أحكام السهو من دون أن يبتلى نفسه بالسهو.

خامسا : إنّ روايات سهوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متضاربة في مضامينها ، فتارة يروون أن الصلاة كانت عصرا ، وأخرى كانت ظهرا ، وتارة يقولون إنّ النبي دخل الحجرة ثم خرج ليكمل الصلاة إلى ما هنالك من اضطراب عجيب في مضامين تلك المرويات ، مما يسقطها عن الحجية والاعتبار.

سادسا : من المعروف بالأخبار الكثيرة التي فاقت حدّ الاستفاضة أنّ النبي تنام عينه ، ولا ينام قلبه ، حتى أن البخاري عقد له بابا في صحيحه في كتاب بدء الخلق ، وروى فيه ثلاثة أحاديث ، وفي أحدها : «وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم» (١) ، فإذا كان قلبه لا ينام حال النوم ، فهل يعقل أن ينام قلبه حال اليقظة؟!

سابعا : إنّ وقوع السهو من الأنبياء في العبادة ، مناف لحكمة البعثة ، فإنّ الحكمة فيها إرشاد الخلق وتقريبهم إلى ما هو الأحب إليه تعالى والأصلح لهم ، ومن المعلوم أن الإقبال على عبادة الله تعالى أحب الأمور إلى الله تعالى وأصلحها للعبد ، والسهو مناف للإقبال ، فإذا لم يقبل النبي على عبادة ربه وصدر منه السهو

__________________

(١) رقم الحديث : ٣٥٦٩ ورقم ٣٥٧٠.

٤٦٢

كانت الأمة أولى بذلك وأحق بالمسامحة في العبادة ، وهذا من أكبر المنافيات لمنصب الدعوة إلى الله تعالى والقرب منه (١).

ثامنا : أنه تعالى قال : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٥) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٦)) (الماعون / ٥ ـ ٦) حيث جعل السهو صفة نقص ، ودخيلا في استحقاق الويل ، بلا فرق بين ما يوجب ترك أصل الصلاة أو أجزائها لأنهما معا ناشئان من السهو عنها ، فكيف يكون النبي من الساهين ، بل لو سها كان أولى الناس بالويل (٢).

هذا وقد وجّه بعضهم كلام الصدوق بأنّ :

«تجويز النسيان عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الركعتين ، وأنه تعالى أنامه عن الصلاة حتى خرج وقتها ، كل ذلك إشارة إلى أنه سبحانه أمره بذلك ، أو يكون ذلك من خصائصه من باب تبديل الواقع عليه وعمله بالواقع المتبدل في حقه ...» (٣).

يجاب عنه :

إنّ كون هذا من باب الأمر الإلهي ، أو من مختصاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر لا يمكن قبوله وذلك لاستدعائه التنفير وعدم الوثوق ، وهذا عام يشمل كل حالاته وأفعاله ، فإنّ الله سبحانه لا يأمر نبيه بشيء يستدعي جعله سخرية للناس مما يستتبع توهينه وعدم الاعتماد على شيء من أقواله وأفعاله ، هذا مضافا إلى أن النسيان والغفلة عن الصلاة من أظهر مصاديق الرجس المرفوع عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذهاب الرجس عن النبي يشمل كل حالاته سواء قبل التبليغ أم معه أم بعده ، فلا يمكن ردّ النص القرآني فيما لو تعارض مع النص الظني كما في الخبر المتقدم.

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ١ ص ٣٨٢.

(٢) نفس المصدر : ج ١ ص ٣٨١.

(٣) المعارف السلمانية : ص ٥٦.

٤٦٣

(ج)

العصمة عن الخطأ في الرأي

الخطأ تارة يكون عن سهو ونسيان ، وأخرى عن جهل ، لأنّ الخطأ عبارة عن عدم تشخيص الحق أو الواقع في أغلب الأحيان ، إذ قد يصيب المخطئ الواقع من دون أن يقصده ، ولكنه في حالات نادرة جدا ، والخطأ رديف الجهل والنسيان ، إذ ربما يجتمع مع الجهل تارة ، ومع النسيان تارة أخرى مثاله : ما لو أنّ المعصوم حكم على شخص بحكم ، مع أنّ آخر هو المراد بالحكم ، فقد نسي وسها إنّ عرفه ، ثم توهّم غيره.

وقد جهل لو لم يسبق بأي علم أو معرفة بالمحكوم واقعا ، ففي هاتين الصورتين أخطأ المعصوم ، ولكنه في الأولى عن سهو ونسيان وفي الثانية عن جهل وعدم علم ، أما السهو فهو ملازم للخطأ دون العكس.

والخطأ بشتّى صوره ، يقبح صدوره من الأنبياء والأوصياء ، ولا يتصوّر صدوره ممن ذاب في العبودية ، وكان مرآة الحق جلّ وعلا يعكس عنها صفات الجمال والكمال والعظمة والبهاء ، ولو لم يسدّدوا عن الخطأ لدلّ ذلك ، إما على عدم القابلية وإما على عدم الجود الإلهي ، وكلاهما منفيان لأنّ القابلية متوفرة باعتبارهم صفوة الخلق ، ولأنّ فيضه تام ، والبخل به قبيح يتنزّه عنه المولى عزوجل.

والمراد من العصمة عن الخطأ في الرأي هو في مجال تشخيص الموضوعات الصرفة ، لا الأحكام الشرعية التبليغية إذ يجب أن يكون معصوما فيها حتى لا يقلب الحلال إلى حرام وبالعكس ، ولا الموضوعات التي يترتب عليها حكم كلي

٤٦٤

لأنّ جهل الأنبياء والأوصياء بها يعدّ نقصا في رتبته وحطا من كرامته ومنزلته ، إضافة إلى أنّ العلم بالموضوعات المترتّب عليها حكم كلي دخل ضمن العلم بالأحكام الشرعية التي لا يجوز عقلا ونقلا أن يسأل عن حكم منها ولم يكن عالما به أو حاضرا لديه وإلّا لم يكن الحجة على العباد ، بل ولبطلت نبوته أو إمامته ، إذ لا يراد من النبوة أو الإمامة سوى تبيين الأحكام وتسيير العباد إلى طاعة الرحمن.

والاستدلال على عصمتهم عن الخطأ يتوقف على إثبات أمرين :

الأول : عصمتهم عن الذنوب والسهو والنسيان.

الثاني : إحاطة علمهم بالأشياء وإقدارهم عليها بإذن الله تعالى.

أما الأول : فقد أثبتناه سابقا.

وأما الثاني : فقد وقع جدال في شمولية وإحاطة علوم الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام هل هي إحاطة كلية أو جزئية وفي حدود معينة يطلعهم سبحانه على بعض عوالم غيبه؟

وعدم وقوع الأنبياء في الخطأ ، يلازم العلم بالمغيّبات ، ولا إشكال أنه سبحانه لا يظهره على أحد إلّا من ارتضى من رسول.

وعلم الأنبياء بالغيب لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاثة :

١ ـ علمهم بالغيب حضوري شهودي يعبّر عنه ب «العلم اللدني».

٢ ـ علمهم بذلك جزئي بمقدار ما يطلعهم عليه الباري.

٣ ـ علمهم بذلك إرادي أو إنشائي بمعنى لو شاءوا لعلموا.

أما الثاني فهو القدر المتيقن من علوم الأنبياء والأوصياء الموحى إليهم من عند علّام الغيوب ، والروايات المتواترة دالّة عليه ، وهذا لا خلاف فيه أصلا ، وإنما الكلام في الزائد عن هذا المقدار أي الخلاف في الحضوري والإرادي (الأول والثالث).

والثالث باطل وذلك لأمور : أولا : لأنّ جلّ أسانيد المرويات المستدل بها على عدم فعلية علمهم (أي مقابل حضوريته) هي مجاهيل وضعاف ؛ مع معارضتها للروايات الصحيحة والمعتبرة الدالّة على فعلية علمهم وحضوريته لديهم عليهم‌السلام.

٤٦٥

ثانيا : إن هذه المرويات المذكورة من كلماتهم المتشابهة التي لا بدّ من الرجوع لمعرفتها إلى المحكمات من الكتاب والسنّة وحكم العقل تماما كالمتشابهات القرآنية التي يجب الرجوع فيها إلى المحكم ، فقد ورد عن مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام قال :

«إنّ من أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ، ومحكما كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا» (١).

والآيات والروايات الأخرى تثبت حضورية علمهم عليهم‌السلام ، إضافة إلى حكم العقل بذلك ، مع قبول تلك الروايات المقيّدة لعلمهم بالإرادة إلى التأويل بما يتناسب مع الأدلة الأخرى المثبتة لحضورية علمهم ، وبما يليق بشأنهم وعلوّ مقامهم.

ثالثا : إنّ العلم الإرادي ـ التي صرّحت به تلك المرويات ـ المقيّد بالمشية من معاني العلم المجازية لا الحقيقية ، لتبادر غيره وصحة السلب عنه ، فيخرج عن فردية العلم المطلق القابل لتقييد إطلاقه كما توهمه بعض.

رابعا : صراحة المطلقات المثبتة لعلمهم في الإطلاق والعموم والفعلية على وجه تأبى عن التبعيض وعن التقييد بالمشية (٢) كما لا يخفى على من راجع تلك النصوص النقية (٣) القطعية ودلالتها الصريحة الجلية ، ولا ينكرها إلّا كل مكابر ، أعمت العصبية عينيه.

خامسا : لو لم يكن علمهم حاضرا لجاز أن يوجد من هو أعلم منهم بالأمر الذي يقع أو يسألون عنه ، ولا يجوز أن يكون أحد أعلم من الإمام أو النبي في وقته في شيء من الأشياء.

وأما استلزام عدم الحضوري وجود الأعلم فأمر بديهي ، وذلك لأنّ جزئيات الموضوعات الخارجية لا بدّ وأن يكون هناك من يعرفها كبنوة زيد لعمرو ، أو زنا

__________________

(١) عيون أخبار الإمام الرضا : ج ١ ب ٢٨ ص ٢٩٠ ح ٣٩ ط. قم.

ووسائل الشيعة : ج ١٨ ص ٨٢ ح ٢٢ ط. قم.

والاحتجاج للطبرسي : ج ٢ ص ١٩٢ ط. قم.

(٢) المعارف السلمانية : ص ١٠٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٦ ص ١٠٩.

٤٦٦

خالد بهند ، فلو سئل المعصوم عنها ، وكان غير عالم بها واتفق وجود العالم بها ، فقد وجد حينئذ في الناس الأعلم من المعصوم ولو في الموضوعات الخارجية (١).

سادسا : جهلهم يستلزم السهو والنسيان وغيرهما أحيانا وذلك لو أننا قلنا بأنهم لا يعلمون بالموضوعات الصرفة ، لجاز عليهم السهو والنسيان ، بل لوقع منها قطعا ، ولجاز عليهم أيضا حرمان المستحق وإعطاء من لا يستحق ، بل لكثر عنهم الخطأ في الشئون الخارجية ، وتفويت الواقع أحيانا ، لأنّ هذه شئون لازمة للجهل لا محالة ولا ينفك عنها البشر ، وأي منقصة أكبر من ذلك للمعصوم ، وهو المنزّه عن النقائص.

سابعا : جهلهم يستلزم الحاجة للناس ، بمعنى أننا لو قلنا أنّ علمهم إرادي ، استلزم ذلك كون علمهم غير حاضر مما يستدعي احتياجهم إلى العالم من الناس فيما لو لم يعلمهم الله سبحانه إذا أرادوا العلم ، وحتى قبل إرادتهم العلم ، يكون بعض الناس أعلم منهم في الموضوعات التي يجهلونها ، فبذا يكون المعصوم قد احتاج إلى غيره في حين أنّ الغير محتاج إليه.

ثامنا : «إنّ قضية الخضر مع النبي موسى تشهد على بطلان الاتجاه الثالث ، وإلّا لما تكلّف عناء السؤال من الخضر عن حقيقة ما يفعل ، خصوصا أنه تراءى له فساد فعل الخضر عليه‌السلام» (٢) ، أي لو كان علمهم إراديا لما احتاج موسى عليه‌السلام أن يسأل الخضر عليه‌السلام ، فلما لم يطلب من الله تعالى ـ ما دام علمه إراديا ـ أن يعلّمه من دون تجشم السؤال من الخضر عليه‌السلام.

فإذا ظهر بطلان الثالث ، ثبت صحة الاحتمال الأول أي حضورية علومهم وفعليتها لما ذكرنا آنفا ، وثمة أدلّة أخرى تطلب من مظانها (٣).

اعتراض :

قد يقال : إنّ ثمة آيات ظاهرها نفي علم الغيب عن الأنبياء فتكون موافقة لروايات العلم الإنشائي ، من هذه الآيات :

__________________

(١) علم الإمام : ص ٥٩ للمظفر (قدس‌سره) بتصرّف بسيط.

(٢) عصمة الأنبياء : ص ٧٣ للسيد علي مكي.

(٣) لاحظ المعارف السّلمانية بتحقيقنا ، وعلم الإمام للعلّامة المظفر.

٤٦٧

قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (الأنعام / ٦٠).

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة / ١١٠).

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (النمل / ٦٦).

(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (الأعراف / ١٨٩).

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)) (التوبة / ١٠١).

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (الشورى / ٥٣).

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (هود / ٣٢).

إلى ما هنالك من آيات من هذا القبيل تنفي علم الغيب عن الأنبياء فتكون موافقة للروايات التي تنفي كونهم عليهم‌السلام عالمين بالغيب ، أو أنهم إذا أرادوا أن يعلموا علموا على أقل تقدير.

والجواب :

إنّ الآيات والروايات النافية عنهم عليهم‌السلام علم الغيب ، يراد منها أنهم لا يعلمون الغيب من ذواتهم ومن دون استعانة بالله تعالى وهذا مستحيل وغير ممكن وهو حق لا أحد ينكره ، وأما لو قيل إنهم يعلمون بعلم مستفاد من الله تعالى فأي إشكال فيه ، إذ لا يكون ضربا من المستحيل حتى يرفضه الرافضون.

إضافة إلى أن الآيات والروايات النافية لعلم الغيب عنهم يوجد في مقابلها آيات وروايات تثبت علم الغيب لهم ، فمقتضى الجمع الصناعي بين هذه الآيات والأخبار ، أن تأول تلك التي تنفي الغيب عنهم بما يتناسب مع الآيات والأخبار المثبتة لعلم الغيب لهمعليهم‌السلام.

ومن الآيات المثبتة قوله تعالى :

(فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (الجن / ٢٧ ـ ٢٨).

٤٦٨

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (البقرة / ٣٢).

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران / ٨).

(وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (آل عمران / ٥٠).

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٤) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٥) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٦)) (النجم / ٤ ـ ٦).

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (الإنسان / ٣١).

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (آل عمران / ١٧٩).

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب / ٣٤).

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (آل عمران / ٣٤).

نظرا إلى أنّ عموم إذهاب الرجس والتطهير والاصطفاء من جميع المناقص الظاهرية والباطنية وشوائب الكدر وظلمات الجهل والسهو دالّ على كلّ من المطلوبين من عموم علمهم وفعليته.

إذن لا بدّ من الاعتقاد بعصمة الأنبياء والأوصياء في مجالات الرأي الشخصي باعتبار كونهم قادة وحجج وروابط الفيض الإلهي وإلّا لارتفعت وثاقتهم في كل ما يقولون وهو خلاف الغرض من بعثتهم ، علاوة على أن العرف ينظر إلى القادة الروحيين أنهم حكماء ومسددون ، وأنّ كلّ ما يصدر منهم من آراء تعبّر عن الحق والصواب والحجة الدامغة ، فإذا كان هذا حالهم مع القادة العاديين فكيف يكون الحال مع أناس جعلهم الله سبحانه حججه وسفراءه إلى خلقه ، فهل يتصور أحد أن يبخل عزّ شأنه فلا يفيض عليهم من علوم الغيب بحيث يجعلهم غاية في الكمال العلمي والرقي الروحي؟ كلا وألف كلا.

فبذا يعرف أنهم معصومون عن كل ما يخالف المروءة والشهامة ، وما صدر منهم من تركهم للأولى فلا يستدعي تنفيرا عنهم ، وإنما يحمل على نوع من

٤٦٩

المصلحة ، اقتضى الظرف والحال أن يتركوا الأولى تقديما للمصلحة النوعية على المصلحة الشخصية.

قال المفيد (قدس سرّه) :

والأنبياء والأئمة عليهم‌السلام من بعدهم معصومون في حال نبوّتهم وإمامتهم من الكبائر كلها والصغائر ، والعقل يجوّز عليهم ترك مندوب إليه على غير التعمّد للتقصير والعصيان ، ولا يجوز عليهم ترك مفترض (أي واجب) إلّا أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام من بعده كانوا سالمين عن ترك المندوب والمفترض ، قبل حال إمامتهم وبعدها» (١).

وقال في موضع آخر :

«إنّ الرسول والأئمة عليهم‌السلام من ذريته كانوا حججا لله تعالى منذ أكمل عقولهم إلى أن قبضهم ، ولم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص وجهل ، فإنهم يجرون مجرى عيسى ويحيى عليهما‌السلام في حصول الكمال لهم مع صغر السّنّ وقبل بلوغ الحلم ، وهذا أمر تجوّزه العقول ولا تنكره ، وليس إلى تكذيب الأخبار سبيل ، والوجه أن نقطع على كمالهمعليهم‌السلام في العلم والعصمة ...» (٢).

وفي الختام أقول :

من المعهود تاريخيا أنّ الأنبياء والأوصياء لم يعهد منهم أنهم ارتكبوا ما يخلّ بمروءتهم وشهامتهم ، بل لم يعهد هذا من الكاملين ، على غير هدى الشريعة ، فكيف بمن أفنوا أعمارهم بطاعة الله والقرب منه لا سيما الأنبياء والأوصياء ، فإن العقل لا يتصور صدور المنفّرات ، وما يخلّ بالمروءات منهم ، خاصة وأن ذلك ليس من طبعهم من دون حاجة إلى لطف خاص يمنعهم من ذلك ، لأنّ الإخلال بالمروءات نقص يتنزّه الحكيم عنه ، فكيف بالأنبياء والأوصياء الذين هم سادة الحكماء وقادتهم.

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ص ١٢٩.

(٢) نفس المصدر : ص ١٣٠.

٤٧٠

الباب الثّالث عشر

عقيدتنا في صفات النبي

قال المصنّف (قدّس سره) :

ونعتقد أن النبي كما يجب أن يكون معصوما ، يجب أن يكون متصفا بأكمل الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها ، من نحو الشجاعة والسياسة والتدبير والصبر والفطنة والذكاء حتى لا يدانيه بشر سواه فيها ، لأنه لو لا ذلك لما صحّ أن يكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق ولا قوة إدارة العالم كله.

كما يجب أن يكون طاهر المولد ، أمينا صادقا ، منزّها عن الرذائل قبل بعثته أيضا ، لكي تطمئن إليه القلوب وتركن إليه النفوس ، بل لكي يستحق هذا المقام الإلهي العظيم.

* * *

أشار المصنف (قدّس سره) في هذا الباب إلى عدّة نقاط :

الأولى : وجوب تحلّي النبي بأكمل الصفات الخلقية والعقلية.

الثاني : كونه رئيسا للعالم ووليّا عليه بإذن الله تعالى.

الثالث : كونه خاليا من المعايب النسبيّة.

النقطة الأولى :

مما لا ريب فيه أنّ مطلق نبيّ لا بدّ أن يتصف بأفضل الصفات الروحية والنفسية والعقلية وإلّا نفرت منه القلوب ، واشمأزت من عمله النفوس ، لأنّ طبيعة البشر تميل بفطرتها إلى العظماء الكاملين ، وتحنو دائما للاقتباس منها ، وهذه

٤٧١

الفطرة موجودة عند كل الناس حتّى عبّاد الأصنام ؛ وحيث إن وظيفة الأنبياء عليهم‌السلام هداية البشرية ، والأخذ بيدها إلى السعادة في الدارين لا بدّ لهؤلاء القادة أن يكونوا أكمل البشر في كل شيء وإلّا احتاجوا إلى غيرهم من سائر أفراد جنسهم ليكمّلوهم ويهدوهم ، والمكمّل للغير يشترط فيه العصمة وإلّا احتاج أيضا إلى من يكمّله ويهديه ، وهكذا فيدور أو يتسلسل وكلاهما باطل بالضرورة مضافا إلى أنّ الأنبياء لو احتاجوا إلى غيرهم في تهذيب الذات لصاروا بذلك مفضولين وتابعين لا فاضلين ومتبوعين ، وهذا قبيح لا يصدر من الحكيم العظيم.

بعبارة أخرى : إنّ الدليل على كون النبي أفضل أهل زمانه ؛ أنّه لو لم يكن كذلك لكان :

إما مساويا ، وإما مفضولا ، وكلاهما باطل.

أما بطلان الأول : فلأجل امتناع الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا بطلان الثاني : فلأجل قبح تقديم المفضول الناقص على الفاضل الكامل عقلا وسمعا.

أمّا عقلا : فظاهر كما قدّمنا.

وأمّا سمعا : فلأنه تعالى قال : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس / ٣٦).

والواضح أن هذا الاستفهام تقريري يدلّ على قبح تقديم المفضول على الفاضل.

وأيضا قال تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر / ١٠).

قال السّيوري (قدّس سره) :

يجب اتصاف النبي بجميع الكمالات والفضائل ، ويجب أن يكون في يكون في ذلك أفضل وأكمل من كل أحد من أهل زمانه ، لأنّه يقبح من الحكيم الخبير أن يقدّم المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل المكمّل عقلا وسمعا.

أمّا عقلا فظاهر إذ يقبح في الشاهد (يعني العقل) أن يجعل مبتدئا في الفقه مقدّما على ابن عبّاس وغيره من الفقهاء ، ويجعل مبتدئا في المنطق مقدّما على أرسطو ، أو مبتدئا في النحو مقدّما على سيبويه والخليل ، وكذا في كل فن من الفنون.

٤٧٢

وأمّا سمعا فما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي ...) (١).

وقال الخواجة نصير الدين الطوسي (قدّس سره) :

يجب أن يتّصف النبي بكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكلّما ينفّر عنه من دناءة الآباء وعهر الأمهات والفظاظة والأبنة (العيب) وشبهها ، والأكل على الطريق وشبهه (٢).

... وقد استدلّ المظفر (قدس‌سره) على تنزيه الأنبياء عن المعايب الجسدية والنفسية بدليلين مختصرين :

الأول : التنفير الدالّ على أنّ هذه الأمور مما توجب تنفير الناس عنهم ، ومعه لا يحصل الانقياد التامّ وهو نقض للغرض الذي من أجله بعث الله سبحانه الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام.

وهذا الدليل اعتمده أكثر المتكلمين لذا قال المحقق اللاهيجي :

«نزاهة النبي عن الصفات المنقّصة والأخلاق الرذيلة والعيوب والأمراض المنفّرة ، معتبرة لكون ذلك داعيا إلى قبول أوامره ونواهيه ، والانقياد له والتأسي به فيكون أقرب إلى الغرض المقصود من البعثة ، فيكون لطفا لا محالة واجبا لا يجوز على الله تركه (٣).

وهذا الدليل اعتمده السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء وإثبات عصمتهم قبل النبوة وبعدها من الصغائر والكبائر وتبعه الآخرون.

وحيث إن الدليل عام لا يختص بالعصمة عن الذنوب ، استدلّوا به على نزاهة الأنبياء من المنفّرات ولو لا لم تكن من الذنوب كالعيوب والأمراض المنفّرة ودناءة الآباء وعهر الأمهات والفظاظة والاشتغال بالصنائع الموهنة والمبتذلة وغير ذلك والمصنّف لم يتعرّض إلى المنفّرات الجسدية أو الخلقيّة ، وإنما اقتصر على المذكرات النفسية والعقلية التي لا بدّ أن يتصف بها مطلق نبي ، وكان عليه أن يذكر تنزه النبي عن الأمراض المنفّرة والعيوب الخلقيّة ، وكل ما ينفّر عنه ، وبدليل التنفير ننفي ما روي عن النبي أيوب عليه‌السلام من أنه أصيب بجسده حتى أصابته

__________________

(١) شرح الباب : ص ٨٥ ط. دار الأضواء.

(٢) كشف المراد : ص ٣٧٦.

(٣) بداية المعارف الإلهية : ج ١ ص ٢٧١.

٤٧٣

القرح واختلفت الدواب فيه حتى قذفوه على كناسة لبني إسرائيل ، فإن كلّ ذلك غير صحيح (والله أعلم) لأن أغلب هذه الروايات ضعاف الأسانيد وموافقة لأخبار العامة ولما ورد في التوراة أخبار الملوك الإصحاح الثاني : ص ٧٩٥ :

«فخرج الشيطان من حضرة الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته» لذا استنكرها السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء ص ٦٠ فلاحظ.

فالصحيح أن النبي أيوب ابتلي بأسقام موجعة جدا ولم يبتل بقيح أو نتن ريح وما شابه ذلك.

وهذا مضافا إلى أنّ المصنّف قدّس سره خلط الأمانة أو الصدق (وهما صفتان نفسيتان) مع طهارة المولد (وهي صفة خلقية) ، فالأولى أن لا يخلط بينهما لعدم وجود ربط أو ملازمة بين الصدق أو الأمانة وطهارة المولد. هذا مضافا إلى أنّ ذكر الأمانة والصدق لا يناسب المقام ، لأنّ عدم الأمانة خيانة وعدم الصدق كذب ، وهما من المعاصي التي قد فرغنا عن عصمتهم فيها ، فلا وجه لتكرارهما هنا عند ذكر اتّصافهم بالكمالات وتنزههم عن المنقصات الخلقية والخلقية.

الثاني : إنّ مقام السفارة الإلهية لا يمكن أن تناله أيدي الناس ، لأنّ تعيينه بيد الله تعالى علّام الغيوب ، المطّلع على سرائر القلوب ، فلا يناله إلّا المقرّبون المخلصون المعصومون ، وكل هذه الصفات من التقرب والإخلاص والعصمة أمور خفية لا يعلمها إلّا هو ، لأنّ مقام السفارة يستدعي أن يكون صاحبها منزّها طاهرا من كل رجس وإلّا كيف يأمر بالطهارة والعفة من كان رجسا نجسا ومشينا؟!

النقطة الثانية : ولا يتهم العامة على العالم بأسره :

لا شك أنّ للأنبياء والأولياء الكاملين عليهم‌السلام الولاية والسلطنة التشريعية ، والرئاسة العامة في كل الأمور على جميع الخلق بدون استثناء وإلّا لاختلّ نظام العالم إن لم يكن له راع يحفظ مصالح الناس ويدير شئونهم وأحوالهم ، والاعتناء بهم وبمصالحهم وهذا لا يتم إلّا عبر إجراء أحكام وقوانين شاملة وواقية لاحتياجاتهم ، ليس فيها أي نقص أو زيادة ، بل هي معتدلة على مراسيم الفطرة التي خلق الناس عليها ، وهذه منحصرة بمن بيده الاطّلاع على السرائر والضمائر ، حيث أجرى هذه الأحكام طبقا لموازين الفطرة الإلهية ، ولا تكون هذه الأحكام منجزة بحقهم ما لم تصل إلى مرحلة الفعلية والبلاغ ، فلا بدّ من واسطة عبرها يتم

٤٧٤

إيصال الأحكام لأنه لا تصل إلى كل فرد فرد من دون واسطة فيض لعدم توفر القابليات عند بني البشر حتى يتلقوا الأحكام مباشرة من الله تعالى ، لذا اقتضت الحكمة وجود وسيط إليه أو سفير رباني يكون نافذة اللطف الإلهي عليهم فيخبرهم ما يتوجب عليهم من أحكام وسنن ، والعقل يفرض حينئذ وجوب إطاعته وحرمة معصيته ، ولا تنحصر طاعتهم ببيان الأحكام بل تتعدى إلى أوامرهم الشخصية التي ترجع إلى جهات أشخاصهم كوجوب إطاعة الولد لأبيه ، بل إنّ إطاعة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام أوجب من إطاعة الأب ، وذلك لأنّ إطاعة الأب ليست بواجبة في جميع الأمور إلّا في الجملة ، إذ ربما يأمر الأب ولده بالمعصية ، وعلى تفصيل في المباحات ، وهذا بخلاف الأنبياء حيث طاعتهم مطلقة لأنهم لا يأمرون إلّا بما فيه سعادة الإنسان في الدارين ، بل هم بالعباد أرأف من الأم الحنون على ولدها ، قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (التوبة / ١٢٨) والمناط الذي من أجله وجبت طاعة الأب هي مبادلته الإحسان لإحسانه على الولد لخروجه من صلبه وبالحفاظ عليه والسهر على مصالحه ، فإن هذا المناط يقتضي أن يجري بعينه وبطريق الأولوية إلى مقام النبوة والإمامة باعتبار كون الحق بهما أعظم بمراتب ، لأنّ الأب أوجب الحياة الجسدية ، والأولياء عليهم‌السلام أوجبوا الحياة الأبدية ، ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنا وعلي أبوا هذه الأمة» فكل من ربّى شخصا على مجموعة مفاهيم وعلوم فقد ولده بالولادة النفسية والروحية.

فمن هنا يجب أن تكون لهم الولاية والسلطنة على الأشياء ، سواء كانت تشريعية أم تكوينية لقوة أرواحهم وقربهم من المبدأ الفيّاض.

وسيأتي مزيد كلام في ولايتهم التكوينية في باب وجوب طاعة الأئمة عليهم‌السلام.

النقطة الثالثة :

يجب أن يكون الأولياء عليهم‌السلام طاهري الولادة ، بمعنى أن لا يكونوا أولاد زنا وإلّا لنفّر ذلك من قبول الدعوة وهو خلاف الغرض كما قلنا مرارا وتكرارا ؛ مضافا إلى ما يحمله كل وليد من صفات وراثية لها تأثير كبير ـ على نحو جزء العلة أي المقتضي ـ في تكوين الشخصية الإنسانية وما تحمله من خصال ومزايا.

٤٧٥

ويستدل على طهارة آباء الأنبياء والأوصياء (ع) بوجوه :

الدليل الأول :

قوله تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٩) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢٢٠)) (الشعراء / ٢١٩ ـ ٢٢٠).

تقرّر الآية أن الله سبحانه كان يرى نطفة النبي النورانية عند ما كانت تتقلّب في أصلاب أجداده الطاهرين ، كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت رعاية الله تعالى عند ما كان يقوم بالعبادة في مكة والمدينة. وفي الآية تقديم وتأخير لوجود الواو التي لا تفيد الترتيب بنظر النحويين.

قال الطبرسي «قدّس سره» : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) معناه ؛ تقلّبك في الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبينا عن ابن عبّاس في رواية عطا وعكرمة وهو المروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم‌السلام قالا : في أصلاب النبيين ، نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه‌السلام (١).

قال الطوسي «قدّس سره» :

(الَّذِي يَراكَ) يا محمّد (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي أنه أخرجك من نبي إلى نبي حين أخرجك نبيّا ، قيل : معناه يراك حين تصلي وحدك ، وحين تصلي في جماعة ، وقال قوم من أصحابنا : إنه أراد تقلّبه من آدم إلى أبيه عبد الله في ظهور الموحدين ، لم يكن فيهم من يسجد لغير الله» (٢).

قال علي بن إبراهيم القمي «قدّس سره» :

حدثني محمد بن الوليد عن محمد بن الفرات عن أبي جعفر عليه‌السلام : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٩) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢٢٠)) أصلاب النبيين (٣).

قال المجلسي (قدّس سره) :

اتفقت الإمامية (رضوان الله عليهم) على أنّ والديّ الرسول ، وكلّ أجداده

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ص ٢٠٧.

(٢) التبيان في تفسير القرآن : ج ٨ ص ٦٨.

(٣) تفسير القمي : ج ٣ ص ٢٥ وورد بطريق آخر في كنز الفوائد ، لاحظ البحار : ج ١٥ ص ٣ ح ٢.

٤٧٦

إلى آدم عليه‌السلام كانوا مسلمين ، بل كانوا من الصدّيقين : إمّا أنبياء مرسلين ، أو أوصياء معصومين ، ولعلّ بعضهم لم يظهر الإسلام لتقية أو لمصلحة دينية (١).

وما روي : أنّ عبد المطلب كان حجة ، وأبو طالب كان وصيّه (٢).

قال الصدوق (قدّس سره) : اعتقادنا في آباء النبي أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله وأنّ أبا طالب كان مسلما وأمه آمنة بنت وهب كانت مسلمة ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم (٣).

وقال المفيد (قدّس سره) : (آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آدم عليه‌السلام كانوا موحدين على الإيمان بالله حسب ما ذكره أبو جعفر (رحمه‌الله) وعليه إجماع عصابة الحق ، قال تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ...) الآية ، يريد به : تنقّله في أصلاب الموحدين.

وقال نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما زلت أتنقّل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا» ، فدلّ على أنّ آباءه كانوا مؤمنين ، إذ لو كان فيهم كافر لما استحق الوصف بالطهارة لقول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) فحكم على الكفّار بالنجاسة ، فلمّا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك ، دلّ على أنهم كانوا مؤمنين (٤)).

قد يقال :

إنّ كلمة (السَّاجِدِينَ) أعم من كون آباء النبي أنبياء ، بمعنى أن آباءه موحّدون ، أو على الأقل لم يكن بعضهم أنبياء ، فكيف يدّعى أنهم جميعا أنبياء؟

والجواب :

أولا : صحيح أنّ كلمة (السَّاجِدِينَ) جمع محلّى باللام المفيدة للاستغراق الدالّ على كونهم موحدين وهو أعمّ من كونهم أنبياء إلّا أنه مخصص بالأخبار الدالّة على أنّ المراد من (السَّاجِدِينَ) أصلاب النبيين الذين تسلسل النور المحمدي في أصلابهم كما ورد في رواية الطبرسي والقمي والطوسي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ١١٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ١١٧ واعتقادات الصدوق : ص ١١٠.

(٣) الاعتقادات : ص ١١٠ ط دار المفيد.

(٤) تصحيح الاعتقاد : ص ١٣٩.

٤٧٧

والمجلسي (١) ، وقد روى البحراني في تفسير البرهان عن ابن بابويه معنعن عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين كنت وآدم في الجنة؟

قال : كنت في صلبه وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه ، وركبت السفينة في صلب نوحعليه‌السلام وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم عليه‌السلام ، لم يلتق أبوان على سفاح قطّ ، لم يزل الله ينقلني في الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة هاديا مهديا ... قال ابن بابويه : ورويت هذا الحديث من طرق كثيرة (٢).

وروى نفس الحديث بسند آخر عن أبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد نسبّح الله تعالى عند العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام فلما أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه ، ولقد سكن الجنة ونحن في صلبه ...» (٣) ، وروى العامة عن البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني تقلّبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبيا (٤).

ثانيا : لو لم يكن النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلب نبيّ لكان لإبليس سلطة على نطفته النورانية باعتباره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلب غير معصوم لأنّ إبليس لعنه الله يجري في الإنسان كجريان الدم في العروق وهو نوع تسلّط لإبليس على العنصر المادي المحمدي وهو منفي بإذهاب الرجس عن جسده وروحه ولا أحد قائل بالفصل.

مما يؤكد أن آباء النبي كلهم معصومون مطهّرون مسدّدون ، ما ورد بالصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات لم يدنسني بدنس الجاهلية.

فقوله «لم يدنسني» تأكيد لما قلنا.

ثالثا : يدور الأمر بين أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أصلاب الأنبياء وبين أن يكون في أصلاب غيرهم ، والله سبحانه لا يعجزه أن يجعل نطفة نبيه في أصلاب النبيين ، بل إنّ القول بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في أصلاب النبيين أحوط للدين باعتباره مؤيدا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ٣٣.

(٢) تفسير البرهان : ج ٣ ص ١٩٣ ط. دار الهادي بيروت.

(٣) نفس المصدر.

(٤) تفسير ابن كثير : ج ٣ ص ٣٠٣ سورة الشعراء.

٤٧٨

ببعض النصوص. بل إن تقلّبه بأصلاب النبيين يكون مقطوعا به لما ورد من نزوله في صلب آدم ، وتقلّبه بغيرهم مشكوك ، ولا يعدل عن المقطوع إلى المشكوك ، فالأصل عدمه.

الدليل الثاني :

ومما يستدلّ به على إيمان آبائه عليهم‌السلام إلى إبراهيم بقوله تعالى حكاية لقول إبراهيم وإسماعيل : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة / ١٢٨).

مع قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (الزخرف / ٢٩).

أي في عقب إبراهيم ، فيدلّ على أنه لا بدّ أن تبقى كلمة الله في ذريّة إبراهيم ، ولا يزال ناس منهم على الفطرة يعبدون الله تعالى حتى تقوم الساعة (١).

وأحاديث في تفسير قوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

تدلّ على أنّ الله استجاب لإبراهيم عليه‌السلام دعوته في ولده فلم يعبد بعض من ولده صنما بعد دعوته ، والدليل عليه «من» التبعيضية في قوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي أن إبراهيم عليه‌السلام طلب من الله تعالى أن يقيم الصلاة بكل حدودها وأحكامها هو وبعض من ذريته لا كل ذرّيّته التي فيها المؤمن والكافر.

الدليل الثالث :

الحكم العقلي القاضي بوجوب تنزّه مطلق نبي عن دناءة الآباء كالكفر أو البدعة أو الفسق ، وعهر الأمهات (أي زناهنّ) فيسقط محله من القلوب ، والمطلوب خلافه وهو الانقياد للنبي وإقبال النفوس عليه.

الدليل الرابع :

إجماع الطائفة على أنّ آباء النبي كانوا موحّدين ، وقد تقدم دعوى الاجماع من مشايخ الطائفة كالمفيد والطوسي والطبرسي والمجلسي وأضرابهم ، فالمسألة مورد اتفاق عند القدامى الذين عليهم المعوّل في انعقاد الإجماعات لقربهم من عصر النص مع دلالة بعض الأخبار على المسألة.

__________________

(١) الصحيح من السيرة : ج ٢ ص ١٨٨.

٤٧٩

ما ذا قال العامة؟

ذهب أكثر الأشاعرة إلى أنه لا يشترط في آباء الأنبياء أن يكونوا موحّدين ، حتى قالوا بكفر والديّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفسّروا قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتصفّح أحوال المجتهدين ليطّلع على أسرارهم لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات ، فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله ، وحملوا (السَّاجِدِينَ) على المصلّين (١).

ثم استدلوا بأمور :

١ ـ إنّ القرآن الكريم نصّ على كفر آزر والد إبراهيم عليه‌السلام حيث قال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة / ١١٤).

وقال أيضا : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأنعام / ٧٥).

مفاد الآيتين المباركتين :

أنه ليس للنبي وغيره من المؤمنين أن يستغفروا للمشركين بعد علمهم أنّ هؤلاء لا يستحقون الرحمة والمغفرة لإنكارهم وحدانية الباري عزوجل وهذا بنفسه يستوجب الخلود في النار ، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا من أجل وعد قطعه إبراهيم لأبيه.

والجواب :

١ ـ هناك تفسيران «للموعدة» :

أحدهما : إنّ الموعدة كانت من المستغفر له للنبي إبراهيم عليه‌السلام أنه سيؤمن إن استغفر له لذلك ، فلما تبيّن له بعد ذلك «أنه عدوّ لله تبرّأ منه».

ثانيهما : إنّ الوعد كان من إبراهيم عليه‌السلام بالاستغفار ما دام يطمع في

__________________

(١) تفسير الرازي : ج ٢٤ ص ١٧٣ وتفسير البيضاوي : ج ٢ ص ١٦٨ ط. دار الكتب العلمية.

٤٨٠