الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

الأشكال الثاني :

إنّ هذا الدليل لا يثبت أكثر من العصمة فيما يمكن اطلاع الناس عليه ، ولا يثبتها مطلقا ، فيمكن بناء عليه ، أن يسهو النبي أو يخطئ أو غير ذلك ولا ينافي الغرض ، إذ لم يطّلع أحد على ما صدر منه ، ليقال بأنه يوجب البعد والتنفير عنهم.

والجواب :

أنه بناء على هذا لا تكون العصمة ملكة راسخة تمنع من الخطأ حتى المخفي منها عن الناس ، فهي على ما ذكر غير موافقة لطبع صاحبها الذي يستوي عنده الخطأ سواء أكان ظاهرا للناس أم خفيا عنهم بل هي بحسب هذا الإشكال عبارة عن أمور تكلّفها صاحبها وهذا خلاف الملكة المانعة من صدور الخطأ سرّا وجهرا.

وبعبارة : أن ملكة العصمة واقعية وليست ظاهرية ، فهي عامة تشمل كل الحالات ولا يمكننا أن نبعّض هذه الملكة فنسرّيها إلى الظاهر دون الباطن ، أو الجهر دون السر وهكذا فالملكة لا تبعّض بحال دون حال.

الإشكال الثالث :

إنّ هذا الدليل يواجه ثغرة وهي : إنّ النفور من النبي نتيجة عدم عصمته ، إنما نشأ من جهة اختلاط موارد الاتباع بموارد السهو وعدم الطمأنينة بما يقول ، وهذا يمكن دفعه بالالتزام بلزوم طاعة النبي في كل الموارد للمصلحة الأهم كما يقال ذلك في العمل بأخبار الآحاد ، مع ما في ذلك من المفاسد الجزئية والمصالح المفوّتة مع إضافة شيء آخر وهو إمكانية أن يصحّح الرسول بعد سهوه وذنبه بأن يقول إني سهوت أو أذنبت ويبقى ما لا يذكر فيه شيئا تحت القاعدة العامة وهي الاتباع المطلق رعاية للمصلحة الأهم خصوصا لو لاحظنا قلة وقوع السهو أو الخطأ أو غير ذلك ممن ناظر الأنبياء والمرسلين.

لكن يجاب عنه :

١ ـ إنّ الالتزام بإطاعة أوامر الأنبياء حتى فيما لو صدر منهم ذنب بسيط إدراجا له تحت قاعدة رعاية المصلحة الأهم قياسا له على العمل بأخبار الآحاد ، غير صحيح لأنّ ترجيح العمل بأخبار الآحاد ـ مع ما يترتب على الأخذ بها من مفاسد جزئية ومصالح مفوّتة ـ إنما هو لئلا يقع المكلّف في محذور مخالفة

٤٤١

الأحكام الواقعية الخفيّة على أكثر المكلّفين ، فيكون العمل بالأخبار ظاهرا من باب جبر الواقع المفوّت ، فالعمل بها إنما هو لتعيين الوظيفة الظاهرية ليس إلّا ، وهذا لا يقاس على سفراء الله المبينين لأحكام الواقع ، لا لتعيين الوظيفة الظاهرية التي يكشف عنها الخبر الواحد الذي ربما أصاب وربما أخطأ ، نعم في الأحيان يعيّن الأئمة عليهم‌السلام للمكلّف وظيفته الظاهرية دفعا للمحذور الأشدّ كما في حال التقية رعاية لحفظ الأنفس وهو بنظر الشارع أهم من تبيين الحكم الواقعي.

٢ ـ إنّ إمكانية تصحيح الرسول بعد سهوه وذنبه لا يصحّح توبته عرفا لأنها غير مسقطة للنفرة عنه وعدم الميل والسكون إليه كما تقدم ؛ فيبقى صدور الخطأ ـ على فرض صدوره عن النبي ـ مشمولا للزوم التنفّر بعد التوبة وسقوط محله عن القلوب.

٣ ـ هذا الإمكان المذكور إن أريد به الإمكان العقلي فغير صحيح لمنافاته لأدلة العصمة ، وإن أريد به الإمكان الشرعي فلم يرد به نصّ معتبر يدل على أن نبيا ما أذنب ثم تاب ، وما ورد من عصيان آدم فمحمول على ترك الأولى.

الدليل الثاني :

إنّ الهدف من بعثة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام هو اتباعهم والانقياد إليهم لقوله تعالى حكاية عن نبيه الأكرم : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

وإذا ثبت هذا بحق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبت بمناط واحد لبقية الأنبياء فلو لم نقل بعصمتهم للزم اتباعهم في موارد الخطأ والذنب والسهو وهذا مقطوع بعدم إرادته من الله تعالى ، لأنّ اتباع الخطأ والذنب تغرير بالحرام وهو قبيح لا يصدر من المولى.

إن قيل :

إنّ حرمة اتباع الأنبياء والأوصياء فيما لو صدر منهم خطأ أو سهو جهرا ، أما لو صدرا سرّا فلا يستدعي الاتباع ، وكذا في عهد الطفولة لأنه غير مبعوث بعد ليتبع ...

والجواب :

١ ـ ما ذكرناه في الجواب عن الإشكال الثاني يجري هنا بعينه.

٢ ـ إنّ فائدة حصول العصمة عند السفراء عليهم‌السلام ليست لمجرّد الاتباع حتى

٤٤٢

يقال إنّ صدور الخطأ سرّا لا يستدعي الاتباع ، بل العصمة نتيجة القرب منه سبحانه ولأنهعزوجل يعلم منذ الأزل أنهم لن يعصوه فعصمهم ذاتا.

الدليل الثالث :

لو صدرت من الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام الذنوب والخطايا وما شابه ذلك لوجب منعهم وزجرهم والإنكار عليهم لعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكنه حرام لاستلزامه إيذائه المحرّم بالإجماع ، مضافا إلى احتياجهم للرعية في التقويم والإرشاد وهذا خلف كون الرعية محتاجة إليهم فيستلزم ذلك الترجيح بلا مرجح أو تقديم المفضول على الفاضل وهما قبيحان لا يصدران من الحكيم المتعال.

الدليل الرابع :

لو صدرت منهم القبائح والذنوب لوجب لعنهم واستوجب ذلك توبيخهم وتوجه اللوم عليهم لقوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود / ١٩).

وهو باطل بالضرورة والإجماع لأنّ اللعن والتوبيخ يستدعيان النفور عن قبول دعوتهم فتسقط درجتهم من القلوب فتنتفي فائدة بعثتهم.

الدليل الخامس :

المعروف من سيرة الأنبياء أنهم يدعون الناس إلى البرّ والإحسان والتقوى فلو صدرت منهم القبائح لدخلوا تحت قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة / ٤٥) وهذا من أعظم المنفرات عن قبول دعوتهم لأنّ كل واعظ لم يعمل بما يعظ به الناس لا يرغب بالاستماع إليه.

الدليل السادس :

إنّ صدور الذنوب والقبائح نتيجة حتمية لإغواء إبليس اللعين لعباد الله تعالى ، ولو صدرت من الأنبياء والمرسلين الذنوب لدلّ ذلك على تسلّط إبليس عليهم في حين أن الله تعالى نفى أن يكون لإبليس سلطنة عليهم لقوله تعالى حكاية عنه : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٣) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٤)) (ص / ٨٣ ـ ٨٤) فلو عصى نبي ما لكان ممن أغواه إبليس ولم يكن من المخلصين لأنّ من عدا المخلص هو من التابعين لإبليس لقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً

٤٤٣

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ / ٢١) والأنبياء والأوصياء من ذلك الفريق بالاتفاق.

الدليل السابع :

لو جاز على الأنبياء والأولياء الذنوب والقبائح لكانوا ظالمين ، والظالم لا يستحق أن يكون نبيا أو إماما لأنهما عهد الله تعالى ، وعهده لا يناله الظالمون كما قرّر ذلك تعالى بقوله: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فالآية دالة على أن الظالم لا يستحق نيل المقامات العظيمة التي منها النبوة والرسالة حيث يستفاد منها أن الظلم بشتى ألوانه وصوره وأزمانه وأحواله مانع من الوصول إلى مقام الخلافة الإلهية بحكم اللام الاستغراقية في «الظالمين» الدالة على العموم سواء كان إفراديا أم أحواليا لأنّ كلمة «الظالمين» عامة لم تخصّص بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها فلا ينال الإمامة ظالم وإن تاب من بعد ظلمه ، من هنا يتبين بطلان ما ذهب إليه جمهور العامة لا سيما ما نقل عن الجصّاص في أحكام القرآن من أنّ الآية تشمل من كان مقيما على الظلم ، أما التائب عنه فلا يتعلق به الحكم أصلا.

ولو سلّمنا بما قاله الجصّاص فإنه منصرف إلى غير السفارة الإلهية ، للنكتة التي ذكرناها آنفا ولأن الإمامة عهد من الله تعالى فهو الذي يعيّن الإمام لا الناس ، ولأن العرف يعمّ الحكم لكل من تلبّس به ولو آنا ما ، وهذا بمثابة الحكم الذي يكفي فيه اتّصاف الموضوع بالوصف والعنوان ولو لحظة واحدة ، وإن انتفى بعد الاتصاف وهذا له شواهد كثيرة في فقه الشريعة مثلا :

لو أنّ رجلين تلبسا بالزنا والسرقة فيحكم عليهما بالحدّ وإن زال عنهما عنوان الزنا والسرقة بل وإن تابا وأنابا بعد ثبوت الحكم بحقهما ، فالتوبة عن الذنوب لا تسقط الآثار الوضعية عن المكلّف وإنما هي مسقطة للعقاب الأخروى فحسب ، ومن هذا القبيل تسنّم عرش الخلافة النبوية يشترط فيه أن لا يكون قد تلبّس بذنب سابق وإن تاب بعد ذلك عنه.

ومثله عنوان المستطيع ، فمن استطاع الحج يجب عليه وإن زالت عنه الاستطاعة وقصّر في أداء الحج.

وكذا عنوان «أمهات نسائكم» فمن اتّصفت بكونها أما لزوجة ولو للحظة تحرم على الزوج وإن زالت علقة الزوجية ، «وبالجملة : فالآية تستغرق جميع الظالمين وتسلب الصلاحية عن كل فرد فرد منهم ، وبالنتيجة تفيد بأن الظلم بأي

٤٤٤

شكل كان مانعا عن الارتقاء إلى الإمامة ، فالاستغراق في ناحية الأفراد يلازم الاستغراق في أقسام الظلم فتكون النتيجة أنّ من صدق عليه أنه ظالم ولو في فترة من عمره يكون ممنوعا من نيل هذا المقام الرفيع» (١).

قد يقال :

إنّ العقل يقبّح الظلم لو صدر عن عمد وعصيان أو مع مقدمات يتساهل فيها الفاعل للقبيح ، أما لو صدر الفعل عن سهو من دون تعمّد أو تساهل في المقدمات فلا يصدق على مرتكبه بأنه ظالم ، مضافا إلى أنّ العقل لا يعدّه ظلما.

والجواب :

إن السهو وإن لم يكن اختياريا للإنسان إلّا أنّ مقدماته اختيارية يمكن للمرء أن يتجنبها ولا يتلبس بها حتى لا يقع في محذور الظلم ولو سهوا ، مضافا إلى أنّ الظلم الصادر من الساهي يتحد من حيث النتيجة مع نتائج الظلم فيكون مانعا من الارتقاء إلى مقام الإمامة.

الدليل الثامن :

لو صدرت منهم الذنوب والخطايا للزم أنّ يكونوا أقلّ درجة من عصاة الأمة ، فإنّ درجات الأنبياء والأولياء في غاية الرفعة والجلالة وسبوغ النعم الإلهية باصطفائهم على الناس وجعلهم أمناء على وحيه وخلفاء في عباده وبلاده ، فارتكابهم المعاصي والإعراض عن أوامر ربهم ونواهيه للذة فانية أفحش وأشنع من عصيان أفراد الأمة ، فصاروا بذلك تابعين لا متبوعين فيحتاجون إلى من يؤدبهم فينتفي بذلك فائدة بعثتهم.

الدليل التاسع :

إنّ عوامل الإثم والمعصية والخطأ عند الأنبياء والكمّل من أوليائه منتفية من الأساس عندهم وذلك لما حباهم به المولى من المواهب والألطاف نتيجة استعداد نفوسهم وعلو هممهم واطلاعهم على الغيوب مع مشاهدتهم للحقائق ، فمع كل هذا كيف يمكن أن نتصور أنهم يخطئون أو يذنبون في حين أننا لو لاحظنا سيرة الكاملين ممن هم دون الأنبياء والأوصياء حيث ينقل عن بعضهم أنه لم يفعل

__________________

(١) مفاهيم القرآن : ج ٥ ص ٢٥٤ ط. قم.

٤٤٥

مكروها وآخر لم يفعل إلّا مستحبا ، ويروى عن عبد الكريم بن أحمد بن طاوس أنه ما دخل سمعه شيء فكاد ينساه ، وإذا جاز على أمثال هؤلاء ما ذكرناه ، أو غيره ممن شابهه ، فكيف لا يجوز على النبي مثله وزيادة مع كمال الأنبياء وفضلهم على سائر الخلق وتأيّدهم بالوحي والكتب السماوية (١).

هذه أهم الأدلة على إثبات عصمة الأنبياء والأوصياء عن الذنوب والخطايا ، ولا بأس بعد عرض هذه الأدلة أن نقدّم بعض الآثارات التي تطرأ على العصمة ، واستجلاء الأجوبة الصحيحة عنها على ضوء أحكام العقل السليم.

السؤال الأول :

إنّ دليل العصمة عن الذنوب والخطايا قد لا يشمل حال الصغر لأنّ المعصية فرع التكليف ، وحيث لا تكليف على الصبي فلا معصية عليه ، فكيف يقول الشيعة الإمامية بعصمة الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام من حين ولادتهم إلى مماتهم؟

والجواب :

١ ـ إنّ صدور الأفعال القبيحة من الأطفال ، وإن كان لا يستدعي عقابا لرفعه عن غير المدركين تفضّلا منه تعالى إلّا أنه يستدعي أن يكون منفّرا وقبيحا ، فالكذب من الطفل قبيح تماما كما لو صدر من الكبير ، والعرف لا يفرّق في قباحته بين كونه صادرا من الصغير أو الكبير.

٢ ـ إنّ الأدلة التي سيقت على استحالة صدر والذنب والقبيح من الأنبياء لا فرق فيها بين كونها حال التبليغ أو قبله أو بعده سواء أكان صغيرا أم كبيرا المؤدي إلى عدم لياقته للأمر والنهي والوعظ والإنذار ، فلا تسكن النفوس لمن صدر منه ذنب حتى لو صدر من الصغير ، لأنّ ما يقاس على الناس ، يقاس على الأنبياء بطريق أولى لقوة نفوسهم وشدّة سلوكهم.

٣ ـ بما أنّ العصمة ملكة يؤتيها الله سبحانه لمن يعلم منه أنه لن يعصيه عند نزوله إلى دار الدنيا ، هذه الملكة لو تحققت بأي شخص لاستحال منه صدور القبيح ، والعصمة لا تختص بمورد دون آخر لأنّ الملكة لا تتبعّض ولا تتجزأ ، فيثبت بذلك عصمتهم قبل التبليغ سواء كانوا صغارا أم كبارا.

__________________

(١) عصمة الأنبياء : ص ٤٦ ، السيد علي مكي ، ط. الدار الإسلامية.

٤٤٦

السؤال الثاني :

هل العصمة اختيارية؟

بمعنى أنه كيف يكون المرسل معصوما منذ ولادته بل عند ما كان في بطن أمه ، في حين أنه لم يفعل فعلا يؤهله لنيل هذا المقام ، وإذا كان معصوما في بطن أمه يعني ذلك أنه صار مجبرا على الفعل أو الطاعة وغير قادر على المعصية.

والجواب :

١ ـ لا علاقة للعصمة بالجبر هنا ، وذلك لأنه سبحانه كما قرّرنا سابقا يعلم بسابق علمه أن جماعة من الناس سيطيعونه حقّ طاعته ، فعصمته تعالى لهم نتيجة ما سوف يحملون من مؤهّلات ومواهب تجعلهم صالحين ليكونوا مطهرين من كل سوء ودنس ، وهذا تماما كأستاذ يعلم مسبقا أن أحد تلامذته يستحق الفوز لما يعرف فيه من مؤهلات ترفعه عن مستوى أقرانه فيكافئه الأستاذ سلفا لكنه يأمره بالامتحان مجاراة لزملائه حتى لا يكون لديهم حجة على مكافأته للتلميذ الكفوء.

إذن فعصمة الله تعالى لهؤلاء الكرام ليس اعتباطيا لقبحه على الحكيم ، وليس ترجيحا من دون مرجّح لقبحه أيضا على المولى ، بل إنّ اختياره تعالى لهم لاستعدادات تفوق ما عند غيرهم بحيث لو وصل إلى مرتبتهم غيرهم لمنح أيضا ملكة العصمة بمقتضى عدله وحكمته إذ إن جوده عام على كل المكلّفين لكنّ المانع من جهتهم ؛ فبذا تكون عصمتهم وهم في بطون أمهاتهم نحو إكرام ومكافأة لهم سلفا ، ولو كانوا مجبرين على الطاعة وعدم المعصية لما أوجب ذلك مزية لهم على غيرهم.

٢ ـ لو لم تكن العصمة اختيارية لكانت جبرية ، فهنا نسأل لما ذا خصّهم تعالى بهذه المزيّة دون غيرهم من أنّ الملاك في إجبارهم على الطاعة هو تبليغ الرسالة ـ لو قلنا به ـ فيكون تخصيصهم بها دوننا يعدّ ترجيحا بلا مرجح وهو قبيح «ولو كانوا مجبرين لما استحقوا المدح على ترك المعصية ولا الثواب ، ولبطل الثواب والعقاب في حقهم فكانوا خارجين عن التكليف وذلك باطل بالإجماع» ولقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) (١) (الكهف / ١١١).

٣ ـ إن الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام قادرون على المعاصي ، لكنهم يعفّون

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٩٢ ط. الأعلمي.

٤٤٧

أنفسهم عن التلوث بها باختيارهم تماما كالطبيب الحاذق ، الذي لا يتناول مطلقا مادة سميّة جدا وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها مع أنه قادر على تناولها إلّا أنّ علومه واطلاعه ومباديه تدفعه إلى الامتناع إراديا واختياريا عن هذا العمل ، أو كإنسان يرى النار ولا يرمي نفسه فيها ، مع أنه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه حالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

* * *

٤٤٨

(ب)

العصمة عن السهو والنسيان

عصمة الأنبياء والأوصياء عن السهو والنسيان من الواضحات عند الشيعة الإمامية ، وما أطبقت عليه إجماعاتهم المركّبة ، مع ضرورة حكم العقل بتنزيههم عن كل موارد الخطأ والجهل والنسيان وما شابه ذلك ، وإثبات السهو للأنبياء ينافي ما اتفق عليه المسلمون من حجية أقوالهم وتصرفاتهم مما يبطل الوثوق بهم والاعتماد عليهم وهو مناف لحكمة النبوة والرسالة.

ويوجد طريقان لإثبات عصمتهم عن السهو والنسيان هما :

الأول : عقلي.

الثاني : نقلي.

أما الأول : فمن وجوه :

الأول : بعد أن ثبت عصمتهم عن الذنب والخطأ لا بدّ أن تثبت في غيره كالسهو والنسيان وذلك بناء على أنّ العصمة ملكة نفسية لا تتبعض وتتجزأ ، فحيث ثبتت في الأولين فاللازم ثبوتها في الأخيرين أيضا بدون فصل ، لأنّ العصمة كما مرّ معنا سابقا عبارة عن القوة الذاتية في التركيب النفسي لصاحبها ، فبناء عليه لا يمكن تصوّر اختصاصها في مورد دون مورد كأن يكون صاحبها معصوما من الذنب عمدا دونه سهوا أو نسيانا ، أو في التبليغ دون غيره ، لأنّ هذه القوة أو

٤٤٩

الملكة سارية في جميع أقواله وأفعاله وتروكه في شتى أنحاء حياته العامة والخاصة.

الثاني :

إنّ دليل التنفير لا يقتصر على مورد الذنب والخطأ ، بل يتعداهما إلى موردي السهو والنسيان أيضا لوحدة الملاك في الجميع حيث يبطل الوثوق بهم عليهم‌السلام والاعتماد عليهم ، وهذا شامل لجميع الحالات والموارد ، فلا يفرّق العقل والعرف بقبح الخطأ الصادر سواء كان عمدا أم سهوا ونسيانا ، والتنفير عن قبول الدعوة وعدم الإصغاء إلى صاحبها نقض للغرض من نصبه ، ونقض الغرض قبيح.

الثالث :

لو جاز عليهم السهو والنسيان لأمكن ارتكابهم المظالم ، مما يستدعي ذلك احتياجهم إلى الرعية لتقويم ما يصدر عنهم من اعوجاج فيتساوى حينئذ النبي مع أحد أفراد رعيته في ملاك عدم العصمة مما يستوجب الترجيح بلا مرجح ، مضافا إلى أفضلية المقوّمين له ، فلا يصح تقديم النبي عليه حينئذ لأنّ ذلك يستلزم تقديم المفضول على الفاضل وهو قبيح.

الرابع :

إنّ وجه الحاجة إلى الأنبياء والأوصياء هي جواز الخطأ والنسيان على الأمة ، فلو جاز عليهم ما ذكر لاحتاجوا إلى أنبياء وأوصياء آخرين يقوّمون اعوجاجهم مما يستدعي الدور أو التسلسل وهما باطلان بالضرورة.

الخامس :

لو جاز عليهم السهو والنسيان للزم تغرير المكلّفين بالمخالفة الظاهرية والواقعية ، وقد قامت الأدلة على خلاف ذلك لأنّ الأنبياء والأوصياء قدوة حسنة لأفراد الرعية فلا بدّ من تنزههم عن الوقوع في السهو والنسيان دفعا لمحذور المخالفة.

السادس :

لو جاز عليهم ذلك لما قبلت شهاداتهم منفردة فضلا عن ادعاء ذلك لأنفسهم لاحتمال ورود السهو فيها ، ولجاز تكذيبهم وهو مقطوع الحرمة.

٤٥٠

السابع :

لو جاز عليهم شيء من ذلك لأدّى إلى إضعاف هيبتهم وتنزيل مقامهم لا سيما عند أولئك الذين يتربصون بهم شرّا ويحاولون إظهار مثلبة واحدة للطعن عليهم والتشكيك بهم ، مع أنه خلاف هدف وغرض الحكيم من إرادة توقيرهم وتعظيمهم وفرض طاعتهم.

هذه أهم الأدلة العقلية على نفي صدور السهو والنسيان عن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام.

وأما الثاني :

الطريق الثاني لإثبات عصمتهم عن السهو والنسيان مبتن على الآيات والروايات ، مع التأكيد على مسألة عدم وجود محذور عقلي في ثبوت العصمة عن السهو والنسيان ، فيكون ثبوتها من الممكنات ، بل إنّ القول بعدم العصمة عنهما يترتب عليه المحاذير المتقدمة ، إضافة إلى عدم تحقق إجماع على وقوع السهو والنسيان مما يعطي المسألة عنصرا إضافيا يؤكد عدم صدورهما ـ أي السهو والنسيان ـ من السفراء عليهم‌السلام.

والآيات التي أكّدت على لزوم العصمة الكاملة عديدة منها :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (آل عمران / ٣٤).

والاصطفاء افتعال من الصفوة ، والصفوة والصفاء بمعنى الخلوص من شوائب الكدر والأدناس ، ولا شك أن الخطأ والسهو والنسيان مصاديق حقيقية للكدر والنسيان ، فلو لم يكونوا مطهّرين من هذه الأدناس فلا معنى لأنّ يجعلهم أخيارا ظاهرا وباطنا ، سرّا وجهرا ، إضافة إلى أن الاصطفاء إذا لم يكن بمعنى إذهاب الشك والسهو والنسيان فأي شيء حينئذ يكون هذا الاصطفاء؟! مضافا إلى أن الله تعالى لا يمكن أن يصطفي المذنبين الملوثين بجميع أنواع المعاصي والبعد عن جنابه ومن مصاديقه السهو والنسيان بل لا بد أن يقع اختياره على المطهرين المعصومين.

٤٥١

فالآية تقرّر :

«إنّ الله اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعا ، وهذا الاختيار تكويني لأنه تعالى قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقا متميّزا ، وإن لم يكن في هذا الامتياز ما يجبرهم على اختيار طريق الحق ، بل إنهم بملء اختيارهم وحرية إرادتهم اختاروه ، غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثم على أثر إطاعتهم أوامر الله ، والتقوى والسعي في سبيل هداية الناس نالوا نوعا من التميّز الاكتسابي ، الذي امتزج بتميّزهم الذاتي فكانوا من المصطفين» (١).

قال العلّامة الشيخ الجليل محمد بن الحسن الحرّ العاملي :

الاستدلال بالآية من وجوه :

أحدها : دلالتها على العصمة التي يلزمها وجوب اتباعهم في أقوالهم وأفعالهم.

ثانيها : استلزامها لاستحالة الخطأ عليهم مطلقا.

ثالثها : دلالتها على طهارة ظاهرهم وباطنهم وصفائهم عن جميع شوائب الكدر ، فلا يتطرق إليهم سهو ولا نسيان لعدم سببه وموجبه.

رابعها : إنّ الاستقامة في الأقوال والأفعال التي تستفاد من الآية حيث ينافيه تجويز السهو لأنه يستلزم عدم استقامته في الأفعال والأقوال ... (٢).

قد يقال :

إنّ السهو والنسيان حالتان طبيعتان في الإنسان ، فإذا كانتا كذلك فلما لا نقول بصدورهما من الأنبياء والأوصياء؟

والجواب :

إن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وصدور السهو والنسيان ليسا بأمرين تكوينيين حتى يلازما الجبلّة الإنسانية وإلّا لكانت كل البشرية مجبولة عليهما ، في حين أننا نشاهد أناسا هم القمة في الحفظ والضبط والتدقيق ، كل هذا يجعلنا نعتقد أنهما أمران اختياريان فبإمكان المرء أن لا ينسى فإنّ القدرة على

__________________

(١) تفسير الأمثل : ج ٢ ص ٣٤٦.

(٢) التنبيه بالمعلوم على تنزيه المعصوم : ص ٢٠ ط. قم.

٤٥٢

السبب قدرة على المسبب ، فإن العقل يحكم بأنّ السهو يمكن التحرّز منه ويؤيده سيرة العقلاء والمتدينين حيث يتحرزون عنه بالأعمال والرياضات النفسية والروحية وغيرها الصادرة من الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

وللسهو والنسيان أسبابهما هي :

أ ـ ضياع العقل بين الشهوة والغضب ، لأنّ الغرائز الجامحة تفقد حاكمية العقل فيختلّ التوازن فيسبّب السهو والنسيان ، وهذا مما لا ريب في عدم تحققه عند السفراء الإلهيين ، لأنّ من لم يغلب عقله شهوته وغضبه عدّ من أصناف البهائم.

ب ـ كثرة الهموم والأحزان وأكل الجبن والكزبرة وكثرة شرب الماء إلى غير ذلك مما يسبّب زيادة الرطوبة في الدماغ ، التي تعدّ من الأسباب الداعية إلى النسيان وتوابعه ، وقد وردت نصوص في كل ذلك.

وهناك أسباب عديدة للنسيان ذكرها المختصون بعلم الأعصاب منها :

١ ـ ضعف عملية التعلّم والاكتساب.

فالتعلم الناقص يضعف من عملية التحصيل ويعيق الاحتفاظ والخزن ، والمقصود بالتعلّم الناقص هو ذلك التعلّم الذي لا ينتهي بالقدرة على الاسترجاع الصحيح لموضوع التعلّم.

٢ ـ ضعف الرغبة الشخصية في تعلّم المادة ، وافتقارها إلى العناصر التشويقية.

٣ ـ الحالة الذهنية والنفسية غير الملائمة كالخمول وتشتت الانتباه وضعف التركيز أثناء التعلّم.

٤ ـ عامل الوقت ، حيث إنّ عدم اختيار الوقت المناسب للتعلّم واختزال الوقت اللازم للتعلم ، يضعف من ثبات مادة التعلّم ويجعلها أكثر تعرّضا للنسيان.

٥ ـ الكف السابق (الكف العكسي) : أي إشغال الفترة التي تعقب تعلّم المادة بتعلّم لمادة مشابهة أو منافسة.

٦ ـ التقادم الزمني : أي التباطؤ في استرجاع المعلومات التي اختزنها.

٧ ـ الإرهاق واضطراب النوم (كمّا ونوعا) إذ يضعفان كثيرا ، إذا أعقبا التعلّم ، القدرة على الاحتفاظ بالمادة المكتسبة (١).

__________________

(١) الذاكرة أمراضها وعلاجها : ص ١٠٠ للدكتور أحمد آل موسى.

٤٥٣

ثم إنّ الأطباء عالجوا بدقة موضوع التغلّب على مشكلات النسيان وطرق معالجته بالوسائل المادية والنفسية :

فمن الأولى :

الأدوية والعقاقير ، إضافة إلى نوع الغذاء الحاوي على مادة الفسفور المتواجدة بالسمك وغير ذلك (١).

ومن الثانية :

١ ـ تعزيز الفاعل الوجداني والتشويقي : وذلك بإيجاد ميل قوي نحو موضوع التعلم والاكتساب ، لذلك لا يمكن للمرء أن يحفظ موضوعا وهو كاره له أو متضرر منه أو لا يعتقد بأهميته.

٢ ـ تركيز الانتباه ، وإقصاء المؤثرات الأخرى سواء أثناء التعلّم أم أثناء التذكّر.

٣ ـ بتعزيز الثقة بالنفس : فعدم ثقة الشخص بقدرته على التذكّر يدخل كعامل إعاقة للتذكّر من خلال تأثيره على الوضع الانفعالي له ، ويظهر تأثير هذا العامل خصوصا أثناء الامتحانات الشفهية أو إلقاء الخطب أو المساهمة في الاجتماعات العامة ، لذلك يفضّل في هذه الأحوال التركيز على موضوع التذكّر وتجنّب ملاحظة ردود أفعال الحضور وأثر الموضوع عليهم.

٤ ـ تجنّب الإرهاق النفسي : لأنه يساهم كثيرا في استنزاف الجهاز العصبي ويربك عمليات التسجيل والاحتفاظ بالمعلومات (٢).

كما أنّ بعض الأطباء ذكر فوق المائة نصيحة لتطوير الذاكرة (٣).

ولا يفوتني أن أنوّه بما ذكرته مروياتنا من أنّ لقراءة القرآن أثرا بالغا في زيادة الحفظ وهو من المجريات عندي ، وكذا أكل الزبيب واللوبان الذكر والعسل والسواك والصوم وغير ذلك.

إذن لا يعتبر النسيان وتوابعه أمرا ذاتيا ملازما للإنسان لا يمكن تغييره أو تبديله ، بل هو أمر طارئ يمكن معالجته والتغلّب على أسبابه «لأنّ القدرة على

__________________

(١) نفس المصدر : ص ١٣٧ ـ ١٤٢.

(٢) نفس المصدر : ص ١٣٢.

(٣) مائة نصيحة ونصيحة الدكتور فيليب بومكارتيز.

٤٥٤

السبب تعتبر قدرة على مسببه ، فيمكن أن يكلّف الإنسان بأن لا ينسى الشيء الفلاني ، أو أن يزيد من نسبة حفظه وضبطه ، باعتبار قدرته على سبب ذلك» (١).

الآية الثانية :

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران / ٣٢).

تقرّر الآية المباركة : أنّ من يدعي حبّ الله ، فعليه اتباع رسوله وأهل بيته لأنّه أمر باتباعهم ، لأنّ من آثار الحب الطبيعية انجذاب المحب نحو المحبوب والاستجابة له ، والمراد من الحب الدافع نحو المحبوب هو الحب القوي ، إذ كلما قويت المحبة كلما انجذب المحب نحو محبوبه ، فمن هنا نعلم أن من لم ينجذب نحو محبوبه دلّ ذلك على أن حبّه كان ضعيفا ، وهذا لا يمكن أن نعتبره حبّا حقيقيا ، لأنّ للحب الحقيقي آثارا علمية ، تربط المحب بالحبيب وتدفعه للسعي في تحقيق طلباته.

إشكال :

قلتم إنّ المراد من المحبة هي المحبة الحقيقية التي تعني الإطاعة التامة للمحبوب ، فإذا كان كذلك فأيّ معنى لغفران الذنوب ما دام المحب دائم الإطاعة لأوامر المحبوب ، ولهذا فقوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ليست ذات موضوع.

والجواب :

أولا : إن جملة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) تعني مغفرة الذنوب السابقة.

ثانيا : إن المحب لا يستمر في عصيان المحبوب ، ولكن قد يزلّ أحيانا بسبب طغيان الشهوات.

والآية واضحة الدلالة على وجوب متابعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ باعتباره أعظم الأنبياء ـ في أفعاله وأوامره وأقواله مطلقا ، ولو جاز عليه ـ كنبي ـ السهو لوجبت متابعته فيه وهو باطل قطعا ، لأنه لو جاز السهو عليه لاحتمل كل من أفعاله وأقواله ذلك ، فلا يكون حجة أصلا وهو ظاهر الفساد اتفاقا وخلاف مدلول الآية قطعا ، ومناف لوجوب العصمة في النبي والإمام.

__________________

(١) الصحيح من السيرة : ج ٥ ص ١٨٤.

٤٥٥

الآية الثالثة :

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (الأحزاب / ٢٢).

تقرر الآية : وجوب كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة وقدوة للآخرين في كل حركاته وأفعاله ، وليس المراد من «الأسوة الحسنة» كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدوة في التبليغ فحسب لأنّ فعله كله نوع من التبليغ ، فإنّ عبادته لا يتميّز منها ما هو تبليغ عن غيره بل ينبغي الجزم بأنّ جميعها تبليغ وإلّا لما علم دوام التكليف (١).

مضافا إلى أنّ التأسي بالنبي في الآية (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) جاء بصورة مطلقة مما يعني وجوب التأسي به في جميع المجالات ، ولا يصح تقييدها بوظيفة التبليغ دون غيرها لعدم قائل بالفصل ، ولوجود إجماعات ونقولات تفيد وجوب التأسي به في كل شيء.

ووجوب الاقتداء به يفيد العصمة الكاملة من جميع الجهات.

الآية الرابعة :

قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر / ٨).

دلّت الآية المباركة على وجوب التسليم والانقياد لأقوال النبي وأفعاله على وجه العموم والإطلاق والانتهاء عمّا نهى عنه ، ولو جاز السهو لاحتملنا أنه يسهو في كل فعل وقول ، فتبطل حجية اتباعه في كل ما يأمر أو ينهى ، وهذا خلف ما أراده الباري من عباده أن يأتمروا بأوامر نبيه والانزجار بزواجره ونواهيه.

الآية الخامسة :

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب / ٣٤).

الآية واضحة الدلالة على إذهاب الرجس عن النبي والعترة الطاهرة ، وإذهاب الرجس دليل العصمة وهو غير منحصر بهم عليهم‌السلام بل يشمل الأنبياء والمرسلين ، والمراد منه تطهيرهم من كل عيب ونقص وقذر تشمئز منه الطباع أو العقول أو الشرائع ، ومما ريب فيه أن السهو والنسيان مما تستقبحه الطباع والعقول وغير

__________________

(١) رسالة التنبيه بالمعلوم : ص ٢٢.

٤٥٦

ذلك فلا بدّ أن يكون مرفوعا عنهم وإلّا عدّ الرفع خلاف التطهير والعصمة الواردين في الآيةرلب شئرؤشئشؤبئبلائةئش ئرءئءرلا ، وبآية التطهير نحكم بحضورية علم النبي والأئمة عليهم‌السلام لأنّ الجهل ببعض المسائل خلاف التطهير ، ولأنّه من أوضح مصاديق الرجس ، فعجبا لقوم ينزّهون النبي والعترة ثم ينسبون إليهم الجهل بالموضوعات!

هذه باقة مباركة من الآيات الدالّة على تنزيه الأنبياء والأوصياء عن السهو والنسيان والذنوب والقبائح وكل ما ينفّر من قبول الدعوة والإرشاد ، ويخل بمقام القرب والوصال.

وأمّا الروايات الدالّة على تنزيههم عن المعاصي والسهو وغير ذلك ، والتي هي في مقام بيان فضائلهم وعلوّ درجاتهم ، وهي كثيرة تفيد الوثوق والاطمئنان ، إن لم يكن القطع ، ولو سلّم معارضتها بأخبار تفيد العكس فمحمولة على التقيّة ، مضافا إلى مخالفتها لظواهر القرآن الكريم حيث أمرنا بعرض كل خبر عليه والعمل بما يوافقه وترك ما يخالفه ، مع التأكيد على أنّ قبول أي خبر مشروط بإمكانه عقلا وإلّا عمل على تأويله ، لئلا يصادم إدراكات العقل القطعية ، فمثلا لو ورد في آية أو خبر أنّ الله تعالى جسم فلا يمكننا قبول ذلك لمناهضتهما لمدركات العقل القطعية التي تنصّ على عدم جواز التجسيم عليه تعالى لاستلزامه المحدودية والكيفية وهو تعالى منزّه عنهما فهنا لا بدّ من تأويل الآية أو الخبر بما يتوافق والأدلة العقلية المحكمة.

وثمة أخبار كثيرة نذكر بعضا منها :

١ ـ ما ورد عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبتّ الأنبياء والرسل؟

قال عليه‌السلام : إنّا لما أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه ، يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثب الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه جلّ وعزّ وهم الأنبياء عليهم‌السلام وصفوته من خلقه (أي العترة الطاهرة عليهم‌السلام) حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم ،

٤٥٧

مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة (١).

فقوله عليه‌السلام : مؤدبين بالحكمة ، غير مشاركين للناس في أحوالهم إشارة واضحة إلى عدم مشاركتهم الناس فيما يسهون وينسون ويجهلون ويتحامقون.

٢ ـ ما رواه ثقة الإسلام أيضا الكليني في كتاب العقل والجهل عن سماعة بن مهران قال :

كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده جماعة من مواليه ، فقال : اعرفوا العقل وجنوده ، والجهل وجنوده تهتدوا.

قال سماعة ، قلت : جعلت فداك لا نعرف إلّا ما علّمتنا ، فقال عليه‌السلام : إنّ الله خلق العقل ... إلى أن قال :

ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جندا ، فقال الجهل يا رب هذا خلق مثلي فأعطني من الجند مثل ما أعطيته فقال : نعم فأعطاه خمسة وسبعين جندا ، فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين الجند : الخير وجعل ضده الشر إلى أن قال : والعلم وضده الجهل ، والتسليم وضده الشك ، والتذكّر وضده السهو ، والحفظ وضده النسيان (٢).

والخبر ـ كما ترى ـ جامع للصفات التي لا بدّ أن يتحلى بها الأنبياء والصفوة ، وهذه الصفات الجمالية هي جنود العقل وضدها جنود الجهل التي منها السهو والنسيان والشكّ وغير ذلك.

٣ ـ ما روي عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث أنه قال لهشام بن الحكم :

ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟

قال : ... قلت له : ألك عين؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص ، قلت : فلك أنف؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أشمّ به الرائحة ، وقلت : ألك فم؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أذوق به الطعم ، قلت : فلك أذن؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها؟ قال : أسمع بها الصوت ، قلت : ألك قلب؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به؟ قال : أميّز به

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١٦٨ ح ١ باب الحجة.

(٢) نفس المصدر : ج ١ ص ٢٠ ح ١٤.

٤٥٨

كلما ورد على هذه الجوارح والحواس ، قلت : أو ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال : لا ، قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ، قال : يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ، ردّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك ، قال هشام : فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال : نعم قلت : لا بدّ من القلب وإلّا لم تستيقن الجوارح؟ قال : نعم ، قلت له : يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحّح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماما لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكك ...» (١).

والحديث دالّ على أن علة الاحتياج إلى النبي والإمام هي إزالة الشك فلو جاز الشكّ أو السهو عليهما لاحتاجا إلى الرعية وهو باطل.

... وأخيرا أقول : إنّ مسألة عصمة الأنبياء والأوصياء عن السهو والنسيان باتت من ضرورات الإمامية ، ومما قام عليها الإجماع القطعي ، ومن شذّ عنهم كالصدوق وأستاذه ابن الوليد من المتقدمين ، والطبرسي في المجمع (٢) من المتأخرين فهؤلاء لا يعبأ بما قالوه بشأن النسيان.

وقد جاهر ابن الوليد بعبارة خطيرة بشأن النافين لمسألة السهو عن النبي ، بأن من قال بالنفي يعد من الغلاة ، قال :

«أول درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي» (٣).

وقد تمسّك ابن الوليد وتلميذه الصدوق عليه الرحمة بأخبار ضعاف توافق أخبار العامة.

وقد حاول بعض (٤) تبرئة ساحتهما بأن الوجه في تشبثهما بأخبار السهو دفعا لحركة الغلو التي كانت سائدة في عصرهما ، إلّا أنها محاولة عقيمة إذ إن الذي يريد دفع الغلوّ لا يدفعه بإثبات محذور عقلي يخل بعصمة النبي ، إضافة لمعارضة

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١٦٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٣ ص ٣١٧ ط. قم.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٣٥ ط. قم.

(٤) سبيل النجاة في علم الكلام : ص ١٦٤.

٤٥٩

ما استدلا به للأخبار الصحاح والإجماعات وظواهر الآيات.

وحينما استدلا على صحة وقوع السهو ، أرادا منه السهو الرباني لا الشيطاني بمعنى أن الله تعالى أسهى نبيه لمصلحة معيّنة ، ويعبّر عنه ب «الإسهاء».

وقد تطرّق إلى هذه المسألة ، العامة في كتبهم طبقا للأصول التي يسيرون عليها ويعتقدون بها من عدم اشتراطهم العصمة قبل البعثة وبعدها على تفصيل فيها ، وقد أورد البخاري جملة من هذه الأخبار في صحيحه : ج ١ ص ١٥٣ وكذا صاحب كنز العمال : ج ٤ ص ٢٣٠ والبيهقي ومسند أحمد : ج ١ ص ٦٣ ، من هذه الأخبار ما رووه عن النبي قال : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون».

وأيضا عنه : «إن نسيت شيئا من صلاتي فليسبّح القوم ولتصفّق النساء».

بما ذا استدلّ الشيخ الصدوق؟

استدلّ الصدوق (قدس‌سره) على مطلبه بالأمور التالية :

١ ـ ما روي عن الحسن بن محبوب عن الرباطي عن سعيد الأعرج ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

إنّ الله تبارك وتعالى أنام رسول الله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ثم قام فبدأ بصلاة الركعتين اللّتين قبل الفجر ثم صلّى الفجر ، وأسهاه في صلاته ، فسلّم في ركعتين ثم وصف ما قاله ذو الشمالين ، وإنما فعل ذلك به رحمة لهذه الأمة لئلا يعيّر الرجل المسلم إذا هو نام عن صلاته أو سها فيها ، فيقال قد أصاب ذلك رسول الله (١).

٢ ـ ألقى سبحانه على نبيه النوم عند صلاة الصبح وأسهاه في الصلاة ، ليعلم أنه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّا معبودا من دون الله ، فلا يغالوا فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ قال (عليه الرحمة) :

«... وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزوجل من غير إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبية عنه ، لأنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحي القيوم وليس سهو النبي كسهونا لأنّ سهوه من الله عزوجل ، وإنما أسهاه ليعلم أنه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّا معبودا دونه ، وليعلّم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا ...» (٢).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٣٣ ح ٤٨ وفروع الكافي : ج ٣ ص ٣٥٧ ح ٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٢٣٣.

٤٦٠