الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

بحيرة ساوة ، وتسليم الأحجار عليه قبل البعثة وغير ذلك مما ثبت له قبل الرسالة.

وأما المعجزة المنكوسة التي يجريها سبحانه على أيدي الكاذبين المدّعين للنبوة زورا فتظهر على أيديهم عكس ما يريدون ، وهذا مما لا شك في وقوعه خارجا كما حصل لمسيلمة الكذّاب لما ادّعى النبوة ، فقيل له إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا لأعور فردّ الله تعالى عينه المنطفئة ، فدعا مسيلمة لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

إشكال :

قد يقال : إنّ إقامة المعجزة المنكوسة لغو وعبث حيث أنه يكفي في تكذيب مسيلمة ترك استجابة دعائه عقيب دعواه الكاذبة ، فيكون استجابة دعوته هنا ولو بشكل منكوس خرقا للعادة من غير فائدة فيكون عبثا.

الجواب :

قد تتضمن المصلحة الإلهية إظهار المعجزة المنكوسة لتكذيب المدّعي للنبوة زورا في الحال بحيث يزول الشك لتجويز أن يقال إن تأخر المعجزة عقيب الدعوى قد يكون لمصلحة ثم توجد بعد وقت آخر فلا يحصل الجزم التام بالتكذيب (١).

الجهة الرابعة : هل الإعجاز ينفي مبدأ العلة الفلسفي؟

طرحت شبهة مفادها :

إنّ المعجزة ـ وكما عرّفها المعتقدون بها من جميع الأديان ـ هي أمر خارق لنواميس الطبيعة ، فلا يرى للأسباب والعلل أي دخل بتحققها ، وهذا بحدّ ذاته يعدّ رفضا لقانون العلّية في النظام الكوني ، حيث إن لكل ظاهرة كونية علّة خاصة يمكن التعرّف عليها من خلال عرضها على التجارب العلمية ، وقد سعى التجريبيون في مختبراتهم بالبحث عن علل تكوّن الظواهر وموجوداتها فوجدوا أنّ لكل معلول علة ، وهذا ما حكم به العقل وشهد به الوجدان ، وليست معجزات الأنبياء خارجة عن هذا الإطار ولكن ما نلحظه منها وما يظهر على أيديهم من أمور لا تتفق بظاهرها مع أصل قانون العلّية والمعلولية حيث نسبت كتب التاريخ إلى النبي موسى عليه‌السلام أنه ألقى عصاه الخشبية فانقلبت حية تسعى بين يديه

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٨١.

٤٢١

تأتمر بأمره ، وأن المسيح عيسى عليه‌السلام كان يمسح بيده المريض فيبرأ ، وأنّ الحصى سبّحت في كف النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّ هذا يعدّ خرقا للقانون المزبور وتحققا للمعلول بدون علة وهو واضح البطلان بحكم الأدلة ، لأنّ الثعبان يتولّد من البيضة لا من عصا موسى عليه‌السلام ، وإنّ إزالة المرض رهن باستعمال الأدوية ، والتسبيح نوع تكلم يحتاج إلى حنجرة وفم ولهاة.

والجواب من وجوه أربعة :

١ ـ إنّ قانون العلّية يفرض أن يكون لكل موجود علة تفيض عليه الحياة والوجود وهو دائم الارتباط بها لا ينفك عنها وإلّا مصيره الفناء والعدم ، وهذا القانون المحكم لا يفرض علينا أن تكون كل علة قابلة للمعرفة والكشف المخبري والمجهري ولا يوجد أي دليل يثبت فرضية أن كل علة قابلة للكشف حتى إنّ التجريبيين أنفسهم يعترفون بذلك ، فميدان التجارب العلمية محدود بالأمور الطبيعية ولا يمكن أن يثبت من خلالها كشف ما وراء الطبيعة أو نفيها.

٢ ـ إنّ ما يناقض قانون العلّية هو القول إنّ المعجزة ظاهرة اتفاقية لا تستند إلى علة أبدا وهذا لا يعتقد به الإلهيون لأنّهم يسلّمون بوجود علّة ما لا يأنس بها الذهن البشري المادي إذ لعلّها من العلل المجرّدة التي لا يمكن للآلات أن تنالها ، فإنكار الماديين لهذا النوع الخاص من العلل المتعارفة لا يعتبر دليلا على نفي العام أي نفي مطلق العلل حتى العلل غير المادية.

٣ ـ إنّ إنكار وجود علة في تحقق المعجزة لا يعدّ إنكارا لقانون العلّية ما دامت المعجزة مرتبطة بعلّة العلل وهي الله سبحانه (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس / ٨٣).

٤ ـ لما لا تكون نفس النبي علة لتحقق المعجزة باعتبار قوة إشراقها وقربها من المبدأ الأول بحيث تصبح مجرّدة مستعلية على المادة مطلقا ، وهذا يسهّل لها عملية الخلق والإبداع بإذنه تعالى والشاهد عليه ما فعله النبي عيسى عليه‌السلام حينما قال : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران / ٥٠).

فهنا وضّحت الآية المباركة أن عيسى نتيجة قربه من المبدأ صار قادرا على إيجاد الخلق بإذنه تعالى في أي وقت شاء.

٤٢٢

وسيأتي مزيد تحقيق بشأن هذا الوجه في الجهة الخامسة.

الجهة الخامسة : في العلة المحدثة للمعجزة :

مما لا ريب فيه أنّ كل ممكن وراءه علة توجده ولا يمكن أن يوجد نفسه ، إذ فاقد الشيء لا يعطيه ، والمعجزة ليست بدعا من الأشياء فلا بدّ أن يكون وراءها من يوجدها ، وفي المسألة أربعة أقوال :

القول الأول : أنها الله سبحانه وتعالى :

أي أنه تعالى يقوم بإيجاد المعاجز والكرامات مباشرة ومن دون توسط علل وأسباب ، فعصا موسى عليه‌السلام تحوّلت إلى أفعى مباشرة ومن دون أن تخرج من البيضة ، وتفجّرت المياه من الصخور الصمّاء مباشرة من دون ينابيع وعيون قال تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) (البقرة / ٦١).

وهكذا بقية المعاجز التي قام بها الأنبياء تحققت خارجا من دون سبب طبيعي.

قال الأستاذ العلّامة جعفر السبحاني :

«هذا الوجه وإن كان أمرا ممكنا لعموم قدرته تعالى على كل شيء إلّا أنه خلاف ما عرفناه من الرب تعالى في سننه التي أجراها في الكون وهي أن يكون لكل شيء سبب وعلّة ، ومن البعيد أن يخالف تعالى سننه في مجال المعاجز (١).

لكن يرد عليه :

إنّ حصر وجود الأشياء بعللها المادية المتعارفة وغير المتعارفة وإن كان عاما شاملا لكل شيء إلّا أنه يخرج منه قسم خاص غير مرتبط بنظام السببيّة ، منه على سبيل المثال : المعاجز والكرامات ، ويؤيده من أنه سبحانه عند ما خلق المادة الأولى لهذا الكون ، لم يكن خلقه لها عبر سبب أو علة بل أوجدها من طي العدم بمجرد إرادته ذلك ، ثم منها خلق الأشياء ، فالفصل بين المادتين ـ أي الأولى التي خلقها من دون توسط سبب والثانية بتوسط المادة الأولى ـ يعدّ ترجيحا بلا مرجّح بمعنى أن نقول بجواز أن يخلق المادة الأولى من دون سبب دون المادة الثانية يكون هذا مجرّد فصل من دون دليل معتد به.

مضافا إلى أنه إذا كان أمرا ممكنا ثبوتا لعموم القدرة يكون ممكنا أيضا إثباتا

__________________

(١) الإلهيات : ج ٢ ص ٧٠.

٤٢٣

من الناحية العقلية.

القول الثاني : إنها علل مادية غير متعارفة :

أي أنّ العلة المحدثة للمعجزة هي سبب مادي خفي غير ظاهر للناس ولا متعارف عندهم ، اطّلع عليه الأنبياء في ظل اتصالهم بعالم الغيب ، ولا بدّ أن يكون للشيء علتان :

الأولى : يعرفها الناس ويطّلعون عليها.

الثانية : يعرفها جمع خاص منهم.

ويمكن تقريب ذلك بملاحظة أثمار الأشجار فإنّ لها علّة مادية يعرفها المزارع العادي فتثمر في ظل تلك العلّة بعد أعوام ، ومع هذا فإنّ تطور علم الزراعة أدّى إلى اختصار تلك المدة إلى نصفها بفعل الوقوف على خصوصيات التربة والأشجار والبيئة ، ولا يطّلع عليه غير خبراء الزراعة ، فإذا كان هذا ملموسا لنا في حياتنا العادية فلما يستبعد أن يقف الأنبياء والأولياء المتصلون بخالق الطبيعة الواقفون على أسرارها ورموزها بحيث يقدرون على إيجاد المعاجز.

لكن يرد عليه :

إنّ ما ذكر من كون العلة للمعجزة هي علة مادية غير متعارفة ما هو إلّا مجرّد تخرص لا يدعمه أيّ دليل لأنه من البعيد أنّ يكون النبي صاحب المعجزة ـ بناء على هذا الرأي ـ بمثابة خبراء الزراعة أو غيرهم من أهل الاختصاص ممن اطّلعوا على العلل المادية الخفيّة دون غيرهم ، فإنّ ذلك لا يعدّ معجزة أو كرامة يعجز عنها حتى خواص البشر إلّا من اتصل بالمبدإ الأعلى ، لأنّ العلة الخفية ـ بحسب هذا الرأي ـ تكون في معرض كل من حاول كشفها أي أنها قابلة للتوريث في حين أنّ المعجزة لا تورّث بل هي أمر موهوب من عند علّام الغيوب.

القول الثالث : إنها الموجودات المجرّدة :

إنّ العلة المحدثة للمعجزة هي اتصال النبي بواسطة الدعاء بالملائكة حيث يستعين بهم على تحقيق المعاجز والكرامات كما قصّ علينا ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (النازعات / ٦) ، فكما أن الملائكة تدبّر الأمور الكونية بأمره تعالى كذا هي تدبرها بأمر من النبي عند إرادته ذلك ، فتكون الملائكة هي العلة المحدثة للمعجزة.

٤٢٤

ومن هذا القبيل تمثل جبرائيل عليه‌السلام لمريم ليهب لها غلاما زكيا قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٧) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٨) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٩) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (٢٠)) (مريم / ١٧ ـ ٢٠).

القول الرابع : إنها نفس النبي وروحه :

إنّ روح النبي هي التي توجد المعجزة عند إرادته لها.

وقد تبنّى هذا القول جماعة من الفلاسفة كابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي (١) ، وصدر المتألهين في كتابه المبدأ والمعاد.

ويستدل عليه بأمرين :

الأمر الأول : قوة الروح الإنسانية :

حيث إن العقل حاكم على أنّ الإنسان كلّما ازداد توجها إلى باطنه وانقطاعا عن الظواهر المادية المحيطة به كلّما تفجّرت القدرات الكامنة في نفسه وتأججت طاقاتها ، وبالعكس كلما ازداد انغماسا في دركات الملذات وإشباع الغرائز كلّما خمدت طاقاتها وانطفأت قدراتها ، وأكبر شاهد على ذلك ما يشاهد عند المرتاضين في بلاد الهند والسند وما يصدر منهم من الأعاجيب التي تدهش العقول ، كل ذلك دليل قاطع على ما يحتوي الإنسان في باطنه من قوى عجيبة لا تظهر إلّا تحت شرائط خاصة.

فالنفس الإنسانية المعبّر عنها ب «أنا» حيث إنها المسيطرة على أعضاء الإنسان فتنقاد لإرادتها وتتحرّك قياما وقعودا بمشيئتها ، كذا هي قادرة على أن تسيطر على ما يحيط به من موجودات خارجيّة تحت ظروف خاصة فتقودها بإرادتها وتخضعها تحت مشيئتها ، وتقدر بمجرّد الإرادة على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير وغير ذلك.

قال ابن سينا :

«... قد يبلغك من العارفين أخبار يكاد تأتي بقلب العادة فتبادر إلى

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات : ج ٣ ص ٤١٣.

٤٢٥

التكذيب وذلك مثل ما يقال : إنّ عارفا استسقى للناس فسقوا أو استشفى لهم فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا بوجه آخر ، ودعا لهم فصرف عنهم الوباء والسيل والطوفان أو خشع لبعضهم سبع أو لم ينفر عنهم طائر أو مثل ذلك عمّا لا تؤخذ في طريق الممتنع الصريح فتوقّف فإنّ لأمثال هذه الأشياء أسبابا في أسرار الطبيعة ...» (١).

فالأعمال الخارقة للعادة الصادرة عن بعض النفوس القوية نتيجة قوة سيرها ورباطة جأشها ، فبمقدار ما تتوغل في انسلاخها عن جلباب البدن بمقدار ما يحصل لها الاتقاد وقوة الهيمنة من هذا المنطلق نثبت للأنبياء والأولياء (لا سيما محمد والعترة عليهم‌السلام : الولاية التكوينية التي هي عبارة عن تسخير المادة للولي وهيمنته عليها بحيث تكون قيد أمره.

قال صدر المتألهين (قدس‌سره) :

«لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية فيطيعها العنصر في العالم المادي كإطاعة بدنه إياها ، فكلّما ازدادت النفس تجرّدا وتشبها بالمبادئ القصوى ازدادت قوة وتأثيرا فيما دونها ، فإذا صار مجرّد التصور سببا لحدوث مثل هذه التغيرات (إطاعة البدن للنفس) في هيولى البدن ، لأجل علاقة طبيعية وتعلق جبلّي لها إليه لكان ينبغي أن يؤثر في هيولى العالم مثل هذا التأثير لأجل اهتزاز علوي للنفس ومحبة إلهية لها فتؤثر نفسه في الأشياء ...» (٢).

وكل نفس تبتغي وتنشد الكمال الحقيقي للحصول على أمر وجودي هو الاستعداد ، لا بدّ من إزالة الموانع المتأصلة أو العارضة على الذات والحاجبة لها عن إدراك الكمال اللائق بها ، وهذه الموانع إما خارجية وإما داخلية ، وإزالتهما بارتياضها بالمجاهدات الروحية لأنّ الرياضة موجّهة نحو ثلاثة أغراض :

الأول : تنحية ما دون الحق عن النفس المرتاضة ، والمراد من التنحية هو إزالة الموانع الخارجية.

الثاني : تطويع النفس الأمّارة للمطمئنة لينجذب التخيّل والتوهم عن الجانب السفلي إلى الجانب القدسي ويتبعها سائر القوى ضرورة ، والتطويع يعني إزالة

__________________

(١) الإشارات : ج ٣ ص ٤١٣.

(٢) المبدأ والمعاد : ص ٣٥٥ والإلهيات : ج ٢ ص ٧٣.

٤٢٦

الموانع الداخلية من الدواعي الحيوانية المذكورة.

الثالث : تلطيف السر للتنبيه وهو عبارة عن تحصيل الاستعداد لنيل الكمال فإنّ مناسبة السر مع الشيء اللطيف لا يمكن إلّا بتلطيفه ، ولطف السر عبارة عن تهيّئه واستعداده لأن تتمثل فيه الصور العقلية بسرعة.

قد تقول : ما هي الأسباب التي تساعد على هذه الرياضة بعناصرها الثلاثة؟

فالجواب :

إنّ ما يساعد على حصول الغرض الأول هو الزهد الحقيقي لا التزهد.

والغرض الثاني فمما يساعد على حصوله هو العبادة المشفوعة بالفكر وفائدة اقترانها بالفكر أن العبادة تجعل البدن تابعا للنفس ، فإن كانت النفس متوجهة إلى جانب الحق بالفكر صار الإنسان بشراشره مقبلا على الحق وإلّا صارت العبادة سببا للشقاوة كما قال سبحانه : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٥) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٦)) (الماعون / ٥ ـ ٦).

ومما يساعد على حصول الغرض الثالث أمران :

الأول : الفكر اللطيف وهو أن يكون معتدلا في الكيفية والكمية وفي أوقات لا تكون الأمور البدنية كالامتلاء والاستفراغ المفرطين وغيرهما شاغلة للنفس عن الإدراك العقلي فإنّ كثرة الاشتغال بمثل هذا الفكر تفيد النفس هيئة تعدّها لإدراك المطالب بسهولة.

الثاني : العشق العفيف.

تلخّص مما ذكرنا : أنّ للنفس الإنسانية طاقة هائلة قادرة على التصرف بما حولها بحسب ما وهبها الباري عزوجل من قدرة خلّاقة تكون الأشياء مسخّرة لها إذا ما اتصفت بالمبادئ الأولى ودخلت في أوائل عللها فأشرقت عليها الأنوار وغشّيت بنور الجبّار.

الأمر الثاني :

ومما يستدل على أن خوارق العادات نتيجة قوة روح النبي ما أشار إليه القرآن المجيد ضمن طائفتين من الآيات :

الطائفة الأولى : تنسب بعض الأعمال غير العادية لبعض نفوس السحرة ، وقد اختلف في مصدر سحرهم ، فمنهم من يقول أنه ناتج عن الجن وآخر يقول أنه

٤٢٧

ناتج عن الطلسمات وثالث أنه ناتج عن نفوسهم القوية ورابع أنه ناتج عن الأفلاك.

الطائفة الثانية : تنسب أعمالا خارقة للعادة لنفوس الأنبياء والأولياء.

فمن الطائفة الأولى :

قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف / ١١٧).

وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١)) (يونس / ٨٢).

فالآيتان تشيران إلى حقيقة واقعة هي أن أصحاب السحر يؤثرون حقيقة أو تخييلا على نفس الناظر ـ هذا بناء على المبنى القائل أنّ السحر ناتج عن النفوس القوية ـ فلنفس الساحر قوة تأثير في إيجاد السحر ، ولا شك ـ كما تثبته التجربة ـ أن لنفسه مدخلا في ذلك عن طريق فرض الإرادة (١).

مضافا إلى أن الآيتين تؤكدان عملية التأثير ولو لا ذلك لما قال سبحانه أنه سيبطل سحرهم لأنّ إبطال ما لا تأثير له يعدّ لغوا والله تعالى منزّه عنه ، فبهذا تعرف أنّ السحر يؤثر والرب جلّ جلاله يبطل سحرهم إذا ما تمسك العبد به متوكلا عليه عز اسمه.

ومن الطائفة الثانية :

١ ـ قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (الأنبياء / ٨٢).

فالريح هي إحدى مصاديق الكون التي سخّرت للنبي سليمان حيث كانت تأتمر بأمره الذي هو أمر الله تعالى ، فإرادته عليه‌السلام كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون وهذه الإرادة هي التي نسمّيها بالإرادة التكوينية.

٢ ـ قوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ...) (آل عمران / ٥٠).

فنفخ الروح في الطين على يد النبي عيسى عليه‌السلام إنما هو نتيجة قدرات

__________________

(١) لاحظ ما وراء الفقه : ج ٣ ص ٥٩ للعلّامة الكبير الشهيد السيد محمد الصدر (قدّس سره).

٤٢٨

ربّانية وهبها سبحانه لعبده عيسى عليه‌السلام ومن اصطفى من عباده المكرمين.

زبدة المقال :

أقول : لا يبعد صحة القول الرابع لدخوله في الولاية التكوينية للأولياء عليهم‌السلام ، ومما لا ريب فيه أن المؤمن التقي قد يحصل على شيء من هذه الولاية إذا ما اتصف بصفات الله وتخلّق بأخلاق النبيين فيظهر له ما كان مخفيا ، ويطيعه كل شيء «عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون» «ومن أحبّ الله أحبّه كل شيء» «وما يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت عينه التي ينظر بها ويده التي يبطش بها ...».

فإذا أحب العبد ربّه أحبه كل شيء في عالم الطبيعة ، وعلامة محبتها له أنها دائمة الارتباط به لقربه من المبدأ الفيّاض.

الجهة السادسة : معجزة كل عصر :

ذكر المصنف (قدس‌سره) أن كل معجزة مقرونة بالتحدي لا بدّ أن تناسب ما اشتهر في عصر كل نبي بحيث يؤمن أفراده بصاحب المعجزة ، ففي عصر موسى عليه‌السلام اشتهر السحر فجاءهم بالعصا لتلقف سحرهم المتمثل بالحبال وغيرها فكانت معجزته إبطال السحر بعصاه المباركة ، وكذا عيسى عليه‌السلام كان الغالب في زمانه الأمراض والعاهات فجاءهم بما يناسب ما اشتهر وهي إبراء الأكمه والأبرص وغيرها من الأمراض المزمنة والمستعصية ، وكذا نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان الغالب في زمانه الشعر والأدب والبلاغة والفصاحة الخ ...

لكن ما ذكره المصنف ليس جامعا وشاملا لكل الأنبياء بل هو مختص ببعضهم ، إضافة إلى ما يرد عليه :

أولا : إننا لا نعلم بوجود معجزة لكل نبي لاحتمال أن يكون التعريف في بعض الأنبياء بالبشارة أو التنصيص.

ثانيا : لو سلّمنا بوجود معجزة لكل نبي ، فهذه المناسبة (أي كون المعجزة يجب أن تناسب ما اشتهر) التي أطلقها المصنف غير سديدة وذلك لأنّ اللازم كون المعجزة ظاهرة الإعجاز ، ويشهد له ما ورد عن النبي نوح عليه‌السلام حيث كانت معجزته الطوفان وهذا لم يكن مشتهرا بينهم حتى يقال إنّ معجزته لا بدّ تكون مما يناسب ما اشتهر في عصره.

٤٢٩

الباب الثاني عشر

عقيدتنا في عصمة الأنبياء

قال المصنّف (قدّس سره) :

ونعتقد أن الأنبياء معصومون قاطبة ، وكذلك الأئمة ، عليهم جميعا التحيّات الزاكيّات ، وخالفنا في ذلك بعض المسلمين ، فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء فضلا عن الأئمة.

والعصمة هي : التنزّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها وعن الخطأ والنسيان ، وإن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك ، بل يجب أن يكون منزّها حتى عما ينافي المروءة ، كالتبذل بين الناس من أكل في الطريق أو ضحك عال ، وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام.

والدليل على وجوب العصمة : أنه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى ، وصدر منه شيء من هذا القبيل فأما أن يجب اتباعه في فعله الصادر منه عصيانا أو خطأ أو لا يجب ، فإن وجب اتباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى بل أوجبنا ذلك ، وهذا باطل بضرورة الدين والعقل ، وإن لم يجب اتباعه فذلك ينافي النبوة التي لا بدّ أن تقترن بوجوب الطاعة أبدا.

على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ ، فلا يجب اتباعه في شيء من الأشياء فتذهب فائدة البعثة ، بل يصبح النبي كسائر الناس ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائما كما لا تبقى طاعة حتمية ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله.

٤٣٠

وهذا الدليل على العصمة يجري عينا في الإمام ، لأنّ المفروض في أنه منصوب من الله تعالى لهداية البشر خليفة للنبي ، على ما سيأتي في فصل الإمامة.

* * *

تمهيد :

الشيعة الإمامية هم الوحيدون من بين المسلمين يعتقدون بمسألة العصمة المطلقة للأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، ونعني بالعصمة المطلقة كونهم منزّهين عن كل خطأ وذنب وسهو ونسيان وما يخل بالمروءة أي لا يمكن ـ بحكم ضرورة العقل ـ أن يصدر منهم كل ما يبعّد الناس عن الطاعة وينفّر عن الدعوة إلى الله تعالى لأنّ النبوة سفارة ، والسفير يجب أن يكون بأعلى مستوى من العلم والعرفان والتقوى مما يؤهله لقيادة البشرية إلى كمالها المنشود.

فالنبي لا بدّ أن يكون موضع ثقة الناس بحيث لا يجدون في كلامه أي احتمال للكذب أو الخطأ والتناقض ، ولو صدر منه شيء من هذا القبيل لتعرّضت سفارته للتزلزل والانهيار مما يؤدي إلى عدم قبول آرائه ومعتقداته التي جاء مبشّرا بها ، وهذا خلف ما جاء لأجله ، مضافا إلى أنّ صدور الأخطاء من السفراء يعرّض إيمان الباحثين عن الحقيقة لأن ذلك يزعزع إيمانهم بصحة محتوى دعوة هؤلاء السفراء الربانيين مما يجر إلى رفض دعوتهم وهذا خلاف الحكمة من إرسالهم.

لذا تفرّدت الإمامية بعصمة هؤلاء مطلقا سواء قبل البعثة أم بعدها ، حال الطفولة أو الشباب بل إنهم يعتقدون بعصمتهم وهم في بطون أمهاتهم ـ كما سوف يأتي إن شاء الله ـ ولكن ليس معنى ذلك أنهم عليهم‌السلام مقهورون على الطاعة ، أو عاجزون عن المعصية كما توهم بعض.

ولا بأس هنا أن نبحث في عدة نقاط :

النقطة الأولى : تعريف العصمة :

أما لغة : فقد ورد في تفسيرها معنيان : المنع والحفظ ، ويرجع الثاني إلى الأول عند التأمل ، فيكون موضّحا للمعنى الأول ، ويشهد له ما ذكره أئمة اللغة.

قال ابن منظور :

«العصمة في كلام العرب : المنع ، وعصمة الله عبده : أن يعصمه مما يوبقه ، وعصمه يعصمه عصما : منعه ووقاه ، واعتصم فلان بالله : إذا امتنع به من

٤٣١

المعصية ، وعصمه الطعام : منعه من الجوع واستعصم : امتنع وأبى ؛ قال تعالى حكاية عن امرأة العزيز حين راودته عن نفسه فاستعصم أي تأبّى عليها ولم يجبها إلى ما طلبت ؛ والعصمة المنعة ، والعاصم : المانع الحامي ، والاعتصام الامتساك بالشيء ، افتعال منه ومنه شعر أبي طالب عليه‌السلام : «ثمال اليتامى عصمة للأرامل» أي يمنعهم من الضياع والحاجة(١).

وقال الطريحي :

«عصمة الله للعبد : منعه من المعصية ، وعصمه الله من المكروه : حفظه ووقاه ؛ وفي الحديث : ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي إلّا قطعت أسباب السماوات من يديه وأسخت الأرض من تحته» (٢).

وفي دعاء كميل (رضي الله تعالى عنه) : اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم ، أي الوقايات الإلهية لعبده ؛ والعصم : جمع عصمة وهي الحفظ كما قلنا وتأتي بمعنى القلادة ومنه معصم اليد وهو موضع السوار من الساعد.

هذه نبذة من كلمات بعض أعلام اللغة العربية بشأن معنى «العصمة» عندهم.

أما اصطلاحا : قد اختلفت تعبيرات أعلام الشيعة بتعريف «العصمة» إلّا أن المحتوى واحد هو عبارة عن :

قوة علم ويقين تمنع صاحبها عن اقتراف الخطايا والأفعال التي تخلّ بمقام صاحبها.

قال الشيخ المفيد :

«العصمة لطف يفعله الله سبحانه بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما» (٣).

قال الخواجة نصير الدين الطوسي :

«إنها لطف منه تعالى لصاحبها بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك» (٤).

__________________

(١) لسان العرب : ج ١٢ ص ٤٠٢ مادة عصم.

(٢) مجمع البحرين : ج ٦ ص ١١٦.

(٣) النكت الاعتقادية : ص ٣٧ ط المفيد.

(٤) نقد المحصّل : ص ٣٦٩ ط. قم. بتصرف بسيط.

٤٣٢

وقال في موضع آخر :

«العصمة هي كون المكلّف بحيث لا يمكن أن يصدر عنه المعاصي من غير إجبار له على ذلك» (١).

وقال السّيوري :

«العصمة عبارة عن لطف يفعله تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة» (٢).

وقال العلامة الطباطبائي :

«إنها قوة تمنع الإنسان من الوقوع في الخطأ وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة» (٣).

وقال العلامة البحراني :

«العصمة صفة للإنسان يمتنع بسببها من فعل المعاصي ولا يمتنع منه بدونها» (٤).

هذه نبذة من تعاريف علماء الإمامية للعصمة ، وهي مقتصرة على ألّا يرتكب المعصوم حراما أو يترك طاعة ، لكنها لا تشمل كل ما ينافي المروّة أو يخل بفائدة البعثة حتى ولو لم يكن طاعة أو معصية كأغلب الأفعال الخارجة عن حدود الحلال والحرام المعبّر عنهما ب «المعصية والطاعة».

فالتعاريف التي أجمعوا عليها أخص من المدّعى لأن مسألة النبوة أو الإمامة لا تقتصر على تبيين الحلال والحرام بل تشمل جميع الأفعال والأقوال المتعلقة بأفعال النبي أو الإمام لذا قد أجاد المصنف (قدس‌سره) بتعريفها بأحسن التعاريف الجامعة المانعة بقوله :

«العصمة هي : التنزّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها وعن الخطأ والنسيان بل يجب أن يكون منزّها حتى عمّا ينافي المروّة كالتبذل بين الناس من أكل في الطريق أو ضحك عال وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام».

__________________

(١) قواعد العقائد : ص ٤٥٥ ط. قم.

(٢) إرشاد الطالبيين : ص ٣٠١ ط. قم.

(٣) تفسير الميزان : ج ٢ ص ١٣٨ ط. الأعلمي.

(٤) قواعد المرام : ص ١٢٥ ط. قم.

٤٣٣

فيتلخّص مما قالوا ما يلي :

ألف : إنّ العصمة عبارة عن قوة علم ويقين يهبه الباري عزوجل لبعض عباده المخلصين.

باء : إنّ العصمة لا تلجئ على الفعل أو الترك.

تاء : إنّ العصمة ليست مقتصرة على فعل الطاعات أو ترك المعاصي والمحرمات بل تشمل كل ما ينافي تبليغ الدعوة وقبولها حتى لو كان المنفّر مباحا بالعنوان الأولي.

النقطة الثانية : ماهية العصمة :

حقيقة وماهية العصمة أو السبب الداعي إليها ما هو إلّا عبارة عن برهان إلهي يهبه لمستحقه من الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ، وهناك رأيان يوضّحان ماهيتها أو السبب الداعي إليها :

الرأي الأول :

إنّ حقيقة أو سبب العصمة هي عبارة عن تقوى يتحلّى بها صاحبها من أن يقترف ما نهاه عنه سبحانه أو أن يترك ما أمره به ، لذا ترى التقي إنسانا يحمل شعورا عظيما من الخوف من رب الخلائق حيث يصبح هذا الخوف ملكة تمنعه من الفجور والمعصية حتى يصبح إنسانا يحب الخير للخير ويكره الشر لأنه شر.

وبعبارة : إنّ العصمة على هذا الرأي هي عبارة عن الطمع في السعادة والخوف من المعصية لأنّ المتقي هو الطامع في السعادة الأخروية وفي نفس الوقت يعدّ خائفا من معاصيه التي تبعّد عن جناب الحق المتعال.

يرد عليه :

إنّ العصمة ـ بناء على هذا الرأي ـ لا تكون على مقتضى طبع صاحبها بل بالتكلّف بادئ الأمر حتى تصبح ملكة ، فبذا تكون العصمة كسبيّة لا هبة ، وأمرا عرضيا لا ذاتيا وهذا خلف ما يجمع عليه الإمامية من أنها أمر ذاتي تلازم المتحلي بها وهو في بطن أمه ، ولا يلزم من ذلك الجبر كما سوف يأتي.

الرأي الثاني :

إنّ حقيقة العصمة هي أن يحصل لصاحبها العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.

٤٣٤

وهذا العلم لا بدّ أن يكون قطعيا ويقينيا حيث يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية والخطأ ويمنعه عن الضلال تماما كسائر الأخلاق التي تبحث عن العفة والشجاعة والإيثار الخ. حيث إن لكل واحدة صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها ، مانعة عن التلبّس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل الخ ...

وهذا العلم ـ كما قلنا ـ شعور يقيني غير مغلوب البتة ، وليس من قبيل الشعور والإدراك الظنيين ، ولو كان كذلك لتسرّب إليه التخلف ، فهو من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب والتعلّم.

فالعلم اليقيني بعواقب ومثالب الأعمال الخطيرة يخلق في نفس الإنسان وازعا قويا يصدّه عن ارتكابها ، وأمثاله في حياتنا كثير ، كما لو وقف أحد على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسها فإنه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والاقتراب منها ، تماما كمن يعلم أن النار تحرق فلا يمكنه أن يضع نفسه في النار لعلمه القطعي أنه لو فعل لاحترق ، ونظير هذا في وقتنا الحاضر لو أن إنسانا يعلم أنّ المرأة التي أحبها حبّا جمّا مصابة بمرض السيدا فإنه لا يقربها خوفا من الإصابة والعدوى.

وهكذا يقاس عليه سائر العواقب الخطيرة ، فإذا كان العلم اليقيني القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية المانعة من ارتكاب الخطأ في نفس العالم بها ، فكيف بالعلم القطعي بالعواقب الأخروية للمعاصي ورذائل الأفعال ، علما لا يداخله ريب ولا يعتريه شكّ بحيث تسقط دونه الحجب فيرى صاحبه رأي العين تبعات المعاصي ولوازمها وآثارها في النشأة الأخرى وهو العلم الذي عبّر عنه تعالى بقوله :

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٦) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٧)) (التكاثر / ٦ ـ ٧).

فمثل هذا العلم يجعل من صاحبه إنسانا مثاليا لا يخالف قول ربّه قيد أنملة ، فهو إضافة إلى أنه لا يرتكب معصية بتاتا فإنه لا يفكر بها على الإطلاق ، فأمثال هذا مصداق قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب روحي فداه واصفا المتقين :

«هم والجنّة كمن رآها فهم فيها منعّمون» حيث إن هؤلاء يمتلكون عيونا برزخية يرون بها عوالم الملكوت في حين أن غيرهم يغطّ في سبات عميق في عوالم المادة وحجب الظلمة.

٤٣٥

يرد عليه :

١ ـ إن كان إفاضة هذا العلم (بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات) قبل نزولهم إلى دار الدنيا فهذا مما لا ريب فيه أنه جزء علة لعدم ارتكابهم المعاصي لا أنه علة تامة ؛ وإن كان بعد نزولهم إلى هذه الدار فيترتب عليه محذور عدم كونهم معصومين ذاتا وحال الصغر وهذا قد أجمعت عليه الشيعة الإمامية.

٢ ـ بناء على هذا الرأي يكون المتحلي بها معصوما خوفا من العقاب وطمعا في الثواب وقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) ، لأنه لو لا العلم بعواقب المعصية لكان كغيره من بقية المكلفين ، بل لعلّ المكلّف المتقي أفضل حالا من النبي أو الإمام لأنّ المتقي لم يصل إلى مرحلة الشهود العلمي بعواقب المعاصي ومع هذا فقد أطاع الله ، إذن ما ميزة الثاني عليه؟ بهذا يتبين ضعف الرأي الأول وعدم شمولية الرأي الثاني.

والصحيح :

إنّ حقيقة عصمتهم هي الحب والأنس به تعالى ، وإنما عصمهم سلفا في بطون أمهاتهم لعلمه عزوجل بأنهم عند نزولهم إلى دار الناسوت سوف يطيعونه حبّا به لا خوفا من عقابه ورجاء ثوابه ، فعصمتهم الذاتية نتيجة علمه تعالى الأزلي المتعلق بتصرفاتهم بعد نزولهم إلى عالم التكليف ، فعلى هذا تكون العصمة قوة ذاتية في التكوين النفسي لصاحبها من دون أن تلغي اختياره وقدرته على الفعل والترك.

فيكون الحب لله تعالى سببا في إفاضة المعارف والعلوم على قلوبهم وهذه المعارف سببا لابتعادهم عن كل ما يخالف رضاه والقرب منه ، فعليه يكون الرأي الثاني أخصّ مما ذكرنا.

النقطة الثالثة : موارد العصمة :

في الواقع لا يوجد موقع معين يجب أن يكون فيه الأنبياء والأوصياء معصومين لأنّ كل حركاتهم وسكناتهم هي تشريع وتقنين وسلوك وعرفان تعلّم البشرية طرق الفضيلة والهداية والعروج إليه تعالى ، فهم قدوة وأسوة للبشرية تسير على خطاهم وتنهج نهجهم ، فكل ما يصدر من أولئك الأبرار الميامين ناتج عن عصمتهم وطهارتهم ، وإنني لأعجب ممن قسّم عصمة الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام

٤٣٦

فجعلها في موارد دون أخرى ، فبعضهم حصرها في الذنوب الكبيرة وبعضهم في الصغائر إلّا الخسيسة المنفّرة كسرقة حبة قمح أو كسرة خبز وكل ما ينسب فاعله إلى الدناءة والضعة ، ومنهم جوّز الإتيان بالصغائر والكبائر على جهة السهو لا العمد ، وبعضهم جوّز صدور الذنوب منهم سهوا وخطأ مع مؤاخذتهم بما يقع منهم سهوا لشدة معرفتهم وعلوّ مرتبتهم وكثرة دلائلهم وأنهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدرون على التحفظ أكثر من رعيتهم ، الموضوع عنهم كل ذلك لضعف معرفتهم ودنو مراتبهم.

من هنا يضطر الباحث الغيور أن يناقش تلك الآراء ليسفر الصبح لذي عينين ، لذا سنقسّم العصمة المختلف فيها بين المسلمين ضمن موارد هي :

أ ـ العصمة عن الذنوب والقبائح.

ب ـ العصمة عن السهو والنسيان.

ج ـ العصمة عن الخطأ في الرأي.

د ـ العصمة عن الإخلال بالمروءات والإتيان بالمنفّرات.

* * *

٤٣٧

(أ)

العصمة عن الذنوب والقبائح

قد تصافقت الشيعة الإمامية على عصمة الأنبياء والأوصياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الذنوب والقبائح (١) ، سواء كانت الذنوب صغيرة أم كبيرة قبل البعثة وبعدها منذ صغرهم حتى وفاتهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا أحد من الشيعة الإمامية خالف ذلك ، قال المجلسي (قدس‌سره) : وهو مذهب أصحابنا.

وأمّا المعتزلة فقد جوّزوا عليهم الكبيرة والكفر قبل النبوة ، ومنع الأشاعرة عنهم المعاصي والذنوب وقت التبليغ وهو خيرة أكثر الأشاعرة منهم المفسّر فخر الدين الرازي.

والحق ما ذهب إليه أصحابنا الإمامية ويستدل عليه بأمور :

الدليل الأول :

إنّ تجويز الكبائر والصغائر على الأنبياء سواء قبل النبوة أم بعدها يعدّ منفّرا من قبول دعوتهم ولا تسكن النفوس إلى قبول أقوالهم لأنّ الهدف والغرض من بعثة الأنبياء إنما هو إيصال الأحكام والهدايات والإنذارات إلى من أرسلوا إليهم وهم الخلق ، وهذا أمر متوقف على إمكانية قبول الناس ما يصدر منهم بحيث لا يحمل معه مقتضيات الابتعاد عنه وإلّا كان خلاف الهدف والغرض ، والله سبحانه

__________________

(١) والفرق بين الذنوب والقبائح أن الأولى هي كل ما حرّمه الشارع المقدّس ، وأما الثانية فهي كل ما حرّم العقل ارتكابه حتى لو لم ينص عليه حكم شرعي كعدم اللياقة كأن يأكل النبي لما يستقبح أكله فإنه قبيح ولكنه ليس ظلما إذ ليس كل قبيح يعتبر ظلما.

٤٣٨

حكيم لا ينقض غرضه ، وحيث إن تجويز الذنب ينفّر الناس عن المرسل ويمنع من الوثوق به مما يستدعي سقوط محله من القلوب وهو نقض للغرض ، فلا يصح صدوره عن الحكيم بل سيد الحكماء.

إشكال :

ما المانع من تجويز الذنوب عليهم قبل البعثة ، فتكون البعثة حينئذ مسقطة للعقاب والذم ولم يبق وجه يقتضي التنفير؟

والجواب :

إنّ العرف لا يفرّق في التنفير بين كونه قبل البعثة وبعدها ، تاب صاحب المعصية عنها أم لم يتب لأنّ المناط واحد وهو عدم سكون النفس إلى من صدرت منه الذنوب وإن تاب منها لهذا لا يكون حال الواعظ للناس ، الداعي لهم إلى الله تعالى وإن تاب من جرائره وذنوبه كحال من لم يعهد منه إلّا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا نجد كثيرا من الناس يعيّرون من يعهدون منه القبائح وإن وقعت التوبة منهم بعد ارتكابها ، حيث يجعلون ذلك عيبا ونقصا وشيئا مؤثرا قادحا في كمالات من عيّروه ، فمناط التنفير عند العرف واحد وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه ألا ترى أنّ كثير السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيه منفر لا محالة ، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلّا في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضا وإن فارق الأول في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه عن الأول من أن يكون منفّرا في نفسه.

قد يقال :

كيف تنفّر الصغائر والحال حظها تقليل الثواب وتنقيصه لأن معنى كونها صغائر يعني خروجها من اقتضاء الذم والعقاب ، ومعلوم أنّ قلة الثواب غير منفّرة ألا ترى أن الأنبياء عليهم‌السلام قد تركوا كثيرا من المستحبات ولو فعلوها لاستحقوا كثيرا من الثواب ولا يكون تركهم للمستحب منفّرا عنهم؟

قلنا :

إنّ الصغائر لم تكن منفّرة من حيث قلة الثواب معها بل إنما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى ، ولا يفرّق العرف بقبح المعصية والتنفير

٤٣٩

عنها بين كونها صغيرة أو كبيرة ؛ وهذا بخلاف النوافل أو المستحبات فإنّ تركها لا يعتبر قبيحا ، لأنّ ترك النافلة يؤدّي إلى تنقيص الثواب ، وتنقيص الثواب لا يعتبر منفّرا وقبيحا.

وقد أثار بعض الفضلاء إشكالات على الدليل الأول هي :

الإشكال الأول :

إنّ هذا الدليل لا يحل لنا ما نجده بالتتبع التاريخي ، وما يلاحظ في عصورنا من طواعية الناس لبعض القيادات الدينية وبشكل أعمى في بعض الحالات رغم ما يصدر منهم من سهو وخطأ بل وذنب في بعض الحالات ، خصوصا ما كان من الاحترام والإجلال وحسن المحل في القلوب لأمثال المرجعيات وأصحاب الولايات.

يجاب عنه :

١ ـ أنه لا يمكننا اعتبار وظيفة المراجع وأصحاب الولايات كوظيفة الأنبياء والأوصياء ، لأنّ تبليغ المراجع لرسالة الإسلام يختلف بالجوهر والمضمون عن تبليغ الأنبياء والأوصياء مع وجود فارق نسبي بينهما هو أن تبليغ المراجع لا يكتسي صفة السفارة الإلهية وأنهم خلفاء الله بل هم مجرّد أداة لنقل الفتوى والأحكام إلى المكلّفين مع عدم إدراكهم للأحكام الواقعية الموجودة في اللوح المحفوظ ، وهذا بخلاف سيرة الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام حيث يكتسي تبليغهم صفة السفارة والخلافة ، ولا بدّ للسفير أو الخليفة أن يكون منزّها عن كل صغيرة أو سهو أو خطأ.

٢ ـ إن دعوى إطاعة الناس لبعض المرجعيات مع صدور بعض الذنوب من تلك المرجعيات لا ينافي غرض اتباعها ، هذه الدعوى مخدوشة باتباع الناس الأعمى المرتكز على المصالح الشخصية النفعية وحب الدنيا ولا يعتمد على حسن الانقياد والحمل على الصحة ، مضافا إلى ما أنّ ما ذكر لا يعتبر قاعدة كليّة حتى يقاس بها كل مراجع الدين وأصحاب الولايات ، بل ما نراه بالوجدان أن الناس يتربّصون الدوائر بأصحاب الولايات وغيرهم ممن يمتلك سلطة تشريعية ويحصون عليهم أنفاسهم وتصرفاتهم.

٤٤٠