الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

المكلّف المعاصي وإذا أمضى له ذلك فكيف يعاقبه وقد قال سبحانه :

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (طه / ١٣٥).

فقبل إرسال الرسل لا يعاقب الله عباده إلا بعد إتمام الحجة عليهم.

إذن فاللطف واجب بحكم العقل وإلّا عدّ العقاب قبيحا يتنزّه عنه المولى عزوجل.

وليس معنى الوجوب عليه تعالى أن العقل حاكم عليه سبحانه كما يحكم السيد عبده والوالد ولده فيكون تعالى ملزما بفعل اللطف ومحكوم عليه به ، فهذا المعنى قطعي البطلان ومنفي من أساسه عليه تعالى ولا أحد يقول به من الشيعة كما ربما يتوهم لأنه تعالى آمر غير مأمور لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون. بل معنى الوجوب عليه أنه تعالى لمّا كان حكيما عادلا لا يفعل إلّا الحكمة ولا يقضي إلّا بالعدل والرحمة يكشف العقل ويحكم أنه تعالى يستحيل عليه أن لا يفعل اللطف بعباده بحيث لا يرسل لهم أنبياء ولا ينصّب لهم الحجج بل حكمته وعدله يقضيان أن يفعل اللطف فيرسل وينصّب الحجج عليهم‌السلام لأنّ وجود هؤلاء لطف بهم يقرّبهم من الطاعة ويبعّدهم عن المعصية.

واستدلّ الأشاعرة على عدم وجوب اللطف بوجوه ثلاث :

الوجه الأول :

إنّ اللطف إنما يكون واجبا لو كان فيه مصلحة غير مقرونة ببعض جهات المفسدة ، لكن من قال إن اللطف خال من جهات المفسدة ، بل لعلّ فيه بعض جهات القبح والمفسدة لكننا لم نلتفت إليها ولم نعلم بها فلا يكون واجبا (١).

يجاب عنه :

إننا نجزم بعدم وجود مفسدة في وجوب اللطف لأننا مكلّفون بتركها لأنّ اللطف لا يسمى لطفا إلّا إذا كان خاليا من المفسدة فعدم المفسدة معلومة لدينا ولسنا مكلفين بما لا نعلم حتى يقال إن فيها جهة مفسدة لا نعلمها.

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٥٢ بتصرّف.

٤٠١

الوجه الثاني :

إنّ الكافر إمّا أن يكلّف بالإيمان مع وجود اللطف أو مع عدمه والأول باطل وإلّا لم يكن لطفا ، والثاني إما أن يكون عدمه لعدم القدرة عليه فيلزم تعجيز الله تعالى وهو باطل ، وإما أن يكون مع وجود القدرة فيلزم الإخلال بالواجب (أي اللطف).

وبتقرير آخر :

لو كان اللطف واجبا فلما يكفر الكافر في حين أنه كلّف بالإيمان ، وهنا هل كان اللطف موجودا فيه أو لا؟

فإذا قلنا أنه كان موجودا فغير صحيح لأنه لو كان كذلك لكان حتما مؤمنا والمفرض أنه صار كافرا ، وأما إذا قلنا أنه لم يكن موجودا فنسأل حينئذ لما ذا لم يتلطّف سبحانه في حقه ، فإذا قلنا أنه تعالى غير قادر نكون قد أثبتنا العجز له تعالى ، وإن كان قادرا على اللطف ولم يفعله يكون قد أخلّ بالواجب.

يجاب عنه :

إنّ الله سبحانه قد تلطّف بالكافر تماما كما تلطّف بالمؤمن على حدّ سواء ، وثبوت اللطف لا يستلزم ثبوت الملطوف فيه وإلّا يلزم أن يكون اللطف موجبا للاضطرار والإلجاء ، وقد قلنا في التعريف أن أحد قيود اللطف هو أن لا يصير إلى حدّ الإلجاء ، فاللطف لا يوجب الإلجاء وإنما مقرّب للطاعة ، ولكنّ الكافر بسوء اختياره لم يؤثّر فيه اللطف وذلك لوجود المعارض عنده أعني سوء الاختيار.

الوجه الثالث :

إنّ الإخبار بأن المكلّف من أهل الجنّة أو من أهل النار فيه مفسدة على المكلّف لكون الإخبار إغراء له على المعاصي وهو ينافي اللطف.

الجواب :

إنّ الإخبار بالجنة ليس إغراء مطلقا لجواز أن يقترن هذا الإخبار بإعلامه بقبح المعصية والنهي عنها فيمتنع عنده من الإقدام عليها باختياره ، وإذا انتفى كونه إغراء على هذا التقدير فيبطل كونه مفسدة على الإطلاق.

وأما الإخبار بالنار فلا يعدّ مفسدة أيضا لأن الإخبار إن كان للجاهل كأبي

٤٠٢

لهب مثلا انتفت المفسدة فيه لأنه لا يعتقد بصدق إخبار الله تعالى فلا يدعو ذلك الإخبار إلى الإصرار على الكفر ولا يستلزم إغراء لعدم اعتقاده بالله تعالى.

وإن كان عارفا بالله تعالى كإبليس اللعين لم يكن إخباره تعالى بعقابه داعيا إلى الإصرار على الكفر لأنه يعلم ، لأنّ إبليس يعرف أن إصراره على الكفر يضاعف العقوبة عليه ، فلا يصير هذا إغراء له.

وبتعبير آخر : إنّ إخبار الأنبياء للمكلفين بأنّ المطيع له الجنّة والعاصي له النار لا يعدّ إغراء وذلك لأنّ المكلّف إن كان من أهل الجنّة فإخبارهم له يكون تشجيعا منهم له على لزوم الطاعة والعبادة ، وإن كان من أهل النار يكون إخبارهم له تحذيرا له من الإقدام والاسترسال بالمعصية.

النقطة الرابعة : أحكام اللطف :

ذكر العلّامة المتكلم البارع الحلي (قدس‌سره) خمسة أحكام للّطف :

الأول :

لا بدّ من أن يكون اللطف والملطوف فيه مناسبة ، ومعنى المناسبة أن يكون اللطف داعيا إلى الملطوف فيه بحيث يسهّل للمكلّف تنفيذ المطلوب منه كالحكم بوجوب الصلاة فإنه لطف يدعو إلى تحقيق الصلاة خارجا ، فهنا يوجد مناسبة بين اللطف والملطوف فيه ، أما لو لم تكن هناك مناسبة فلا يعتبر لطفا فلا مناسبة مثلا بين وجوب الصلاة ودفع الزكاة ، فلم يرد في سيرة الأنبياء والأولياء أنهم دعوا إلى الصلاة وأرادوا منها الزكاة ، وهكذا بقية الموارد ، نعم الصلاة لطف في الزكاة من جهة أخرى غير جهة المناسبة بينهما بمعنى أن المصلّي الحقيقي هو الذي يؤدي حق الزكاة وإلّا فإنّ صلاته تعدّ ناقصة لا تؤهّله لأن يترقّى في عالم الكمال والفضيلة والتسامي ، وإذا لم تكن المناسبة موجودة لزم الترجيح بلا مرجّح (١).

الثاني :

ان لا يبلغ في الدعاء إلى الملطوف فيه إلى حدّ الإلجاء لأنّ الفعل الملجئ إلى فعل آخر يشبه اللطف في كون كلّ منهما داعيا إلى الفعل غير أنّ المتكلمين لا يسمّون الملجئ إلى الفعل لطفا (٢).

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٥٤ بتصرّف بالعبارة.

(٢) نفس المصدر السابق.

٤٠٣

توضيح ذلك :

أنه يوجد لدينا شيئان : لطف وشبه لطف.

فاللطف هو ما يقرّب إلى الطاعة ويساعد على تحقّقها.

وأما شبه اللطف فهو الإرغام أو الإلجاء على تنفيذ الطاعة أي يدعو للطاعة قهرا.

فالإلجاء وإن كان يشبه اللطف من جهة أنه يدعو إلى الفعل وتنفيذه لكنّ اللطف مثله يدعو إلى الفعل وتنفيذه اختيارا.

الثالث :

أن يكون وجوبه معلوما للمكلّف إمّا بالإجمال أو بالتفصيل لأنه إذا لم يعلمه ولم يعلم الملطوف فيه ولم يعلم المناسبة بينهما لم يكن داعيا له إلى فعل الملطوف فيه.

توضيحه :

أنه يشترط في اللطف العلم بثلاثة أشياء :

١ ـ العلم بأصل اللطف.

٢ ـ العلم بالملطوف فيه.

٣ ـ العلم بالمناسبة بين اللطف والملطوف فيه.

فالأول : مثل وجوب الصلاة لطف للصلاة ، فيشترط أولا العلم بوجوب الصلاة إذ من دون العلم به لا يقرّب هذا الوجوب إلى فعل الصلاة.

والثاني : كأن يعلم المكلّف بكيفية الصلاة مثلا ومقدارها ، فلو علم المكلّف بالوجوب ولم يعلم بالصلاة فلا تحصل المقربيّة.

وأما الثالث : أي شرط المناسبة كأن يعلم بأن الوجوب للصلاة لا للصوم أو الحج اللّذين هما مختلفان عن الصلاة فلا مناسبة بين الصلاة وغيرها والعلم باللطف قد يكون تفصيليا كالعلم بوجوب الصلاة المعيّنة ، وقد يكون إجماليا أي معلوما بالإجمال كالعلم بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة والعلم الإجمالي مقرّب نحو الطاعة أيضا للعلم بأصل الوجوب وهو الجامع ، ولا يلزم أن يكون العلم معلوما دائما بالعلم التفصيلي هذا فيما لو كان الإتيان بالإجمالي مقدورا ، أما لو لم يكن معذورا كدوران الأمر بين المحذورين فلا يكون حينئذ مقرّبا إلى الطاعة

٤٠٤

لعدم تمكّن المرء من الجمع بين المحذورين.

الرابع :

كون اللطف مشتملا على صفة زائدة على الحسن من كونه واجبا كالفرائض أو مندوبا كالنوافل ، هذا فيما هو من فعلنا وأما ما كان من فعله تعالى فهو واجب في الحكمة(١).

توضيحه :

طبيعة اللطف أنه حسن ولكن هل يشترط وجود زيادة على حسنه أو لا؟ والصحيح أنه لا بد من وجود زيادة على الحسن كما في المباح مثلا فإنه حسن لكنه ليس لطفا لأنّ الحسن لا يساوق اللطف لأنّ الثاني أكثر وزائد على الحسن فلا بدّ من وجود زيادة على الحسن كثبوت صفة الوجوب أو الاستحباب ، فاللطف إما واجب وهذا مختص به تعالى ، وإمّا حسن وهذا متعلق بأفعال المكلّفين.

الخامس :

لا يجب أن يكون اللطف متعيّنا بل يجوز أن يدخله التخيير بأن يكون كل واحد من الفعلين قد اشتمل على جهة من المصلحة المطلوبة من الآخر فيقوم مقامه ويسد مسدّه (٢).

توضيحه :

إنّ اللطف مرة يكون تعيينيا وأخرى تخييريا ، فالتعيين كما لو كانت المصلحة الموجودة ثابتة في شيء واحد كالنهي عن الفحشاء حيث ثبت ذلك بالصلاة لا غير ، والتخيير كأن يفرض وجود فعلين كلّ منهما يشتمل على مصلحة كما في خصال الكفارة ، فإنّ الكفارة تحصل في عتق رقبة أو في الإطعام أو الصيام.

أو أنه تعالى يخلق ولدا بوصف معيّن بحسب ما يرتئى من المصلحة ، ونفس تلك المصلحة تحصل بأن يخلق ولدا آخر بشكل آخر.

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٥٥.

(٢) كشف المراد : ص ٣٥٥.

٤٠٥

دفع وهم :

توهم بعض المعتزلة أن اللطف إذا كان ثابتا في أحد الفعلين على سبيل التخيير لا يلزم كونهما حسنين بل يجوز أن يتصف أحدهما بالحسن والآخر يتصف بالقبح ، وهذا بخلاف ما قال به الإمامية من اشتراط كونهما حسنين ومثّل المعتزلة على مدّعاهم بأن الظالم عند ما يظلم الناس ، وبسبب ظلمه يصير الناس متضرعين إلى الله تعالى ، فاللطف هنا ثبت بين الظلم وبين التوجه إليه تعالى ، وتصوروا أن الظلم نظير الأمراض التي يصيبها الله بعض عباده حيث يسبّب الألم مزيد التوجه إليه تعالى.

ولكنه باطل لوجهين :

الأول : إنّ اللطف واجب كما قرّر آنفا ، والظلم ليس واجبا فكيف يدّعى أن القبيح لطف؟! الثاني : الظلم لا يصير لطفا كما قالوا بل اللطف هو أن يعلم المظلوم أنّ الظالم يظلم ، فاللطف في علم المظلوم بالظلم لا في نفس الظلم كما تقول إن العلم بحسن ذبح البهيمة لطف لنا وإن لم يكن الذبح نفسه لطفا (١).

وفي الختام نوجز القول :

بأنّ اللطف المحصّل هو تهيئة المبادي والمقدمات التي يتوقف عليها غرض الخلقة وصونها عن العبث واللغو بحيث لو لا هذه المقدمات والمبادي لصار فعله تعالى خاليا من الحكمة والهدف ، ويمثّل له ببيان تكاليف الإنسان وإعطائه القدرة على امتثالها ، والذي يقوم بهذه المهمة هم الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام لضعف الإنسان من أن ينال المعارف الحقة أو يهتدي إلى طريق الآخرة وحده وبعقله من دون استعانة بسفراء الله تعالى.

واللطف المحصّل مما لا نزاع فيه بين جميع من قال بتنزّه الباري عن الخطأ والعبث ، وإنما النزاع في اللطف المقرّب الذي هو عبارة عمّا يكون محصّلا لغرض التكليف حيث لولاه لما حصل الغرض منه وذلك كالبشارات والإنذارات السماوية على لسان السفراء حيث تستتبع بشاراتهم وإنذاراتهم رغبة عند العبد وبعده عن المعصية.

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٥٦.

٤٠٦

واللطف المقرّب ليس دخيلا في تمكين العبد من الطاعة لأنه قادر على الطاعة وترك المخالفة سواء كان هناك وعد أم لا ، لأنّ القدرة على امتثال التكاليف مرهون بالتعرّف على التكليف الوارد والحاصل من طريق تبليغ الأنبياء والحجج عليهم‌السلام وإمداد العبد بالطاقة ، كل هذا قد حصل وقد أعطاه الباري للعبد ، ومع هذا فإن كثيرا من العباد لا يقومون بواجبهم بمجرد الوقوف على التكليف ما لم يكن هناك وعد ووعيد وترغيب وترهيب ، وهذا النوع من اللطف هو مورد النزاع عند بعض المتكلمين من غير الشيعة في حين قد قام الدليل العقلي على إثباته وأكده القرآن المجيد في مواضع منها قوله تعالى :

(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف / ١٦٩).

والابتلاء بالحسنات والسيئات عبارة عن نعماء الدنيا وضرّائها وهو نوع وعد ووعيد وهما نفس اللطف المقرّب.

وقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء / ١٦٦).

* * *

٤٠٧

الباب الحادي عشر

عقيدتنا في معجزة الأنبياء

قال المصنف (قدّس سره) :

نعتقد أنّه تعالى أن ينصب لخلقه هاديا ورسولا أن يعرّفهم بشخصه ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين ، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلا وحجة يقيمها لهم ، إتماما للطف واستكمالا للرحمة ، وذلك الدليل لا بدّ أن يكون من نوع لا يصدر إلّا من خالق الكائنات ومدبّر الموجودات (أي فوق مستوى مقدور البشر) ، فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي ليكون معرفا به ومرشدا إليه ، وذلك الدليل هو المسمّى ب (المعجز أو المعجزة) لأنه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والإتيان بمثله.

وكما أنه لا بدّ للنبي من معجزة يظهر بها للناس لإقامة الحجة عليهم ، فلا بدّ أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الإعجاز بين الناس على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته فضلا عن غيرهم من سائر الناس ، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوة منه لتكون دليلا على مدّعاه وحجة بين يديه. فإذا عجز عنها أمثال أولئك علم أنها فوق مقدر البشر وخارقة للعادة ، فيعلم أن صاحبها فوق مستوى البشر بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبّر الكائنات. وإذا تمّ ذلك لشخص من ظهور المعجز الخارق للعادة ، وادّعى مع ذلك النبوة والرسالة ، يكون حينئذ موضعا لتصديق الناس بدعواه والإيمان برسالته والخضوع لقوله وأمره فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر.

٤٠٨

ولأجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون ، فكانت معجزة موسى عليه‌السلام وهي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون ، إذ كان السحر في عصره فنّا شائعا ، فلما جاءت العصا بطل ما كانوا يعملون وعلموا أنها فوق مقدورهم ، وأعلى من فنهم وأنها مما يعجز عن مثله البشر ، ويتضاءل عندها الفن والعلم.

وكذلك كانت معجزة عيسى عليه‌السلام هي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، إذ جاءت في وقت كان فن الطب هو السائد بين الناس ، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا ، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى عليه‌السلام ، ومعجزة نبيّنا الخالدة هي القرآن الكريم المعجز ببلاغته وفصاحته ، في وقت كان فن البلاغة معروفا ، وكان البلغاء هم المقدّمون عند الناس بحسن بيانهم وسموّ فصاحتهم ، فجاء القرآن كالصاعقة أذلهم وأدهشهم وأفهمهم أنهم لا قبل لهم به ، فخنعوا له مطيعين عند ما عجزوا عن مجاراته وقصروا عن اللحاق بغباره. ويدلّ على عجزهم أنه تحداهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا ، ثم تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله فنكصوا ، ولمّا علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحدّيه لهم ، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان ، علمنا أن القرآن من نوع المعجز وقد جاء به محمد بن عبد الله مقرونا بدعوى الرسالة ، فعلمنا أنه رسول الله جاء بالحق وصدق بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

مقام النبوة يعدّ مقاما روحيا ساميا تطمح إليه النفوس ، لذا ادعاه جماعة من غير الأنبياء الحقيقيين ، وحتى لا يكون هذا المقام مسرحا للمدّعين وهدفا للرامين يوجد طريق خاص لمعرفة المدّعي من غيره ، هو :

الإتيان بالمعجزة الخارقة للعادة. وبهذا استدلّ المصنف (قدّس سره) على إثبات النبوة تبعا لغيره من متكلمي الإمامية.

وهناك طريقان حديثان لتمييز الصادق عن غيره هما :

الأول : جمع الدلائل والمؤشرات والقرائن المؤدية إلى الاطمئنان والأمانة والاستقامة ، وهذا الطريق لا يتحقق كاملا إلّا في جماعة مخصوصين كالأنبياء حيث أفنوا أعمارهم بالطاعة والصدق والإخلاص ، وكانوا معروفين بذلك بين

٤٠٩

أقوامهم مما يؤكد صحة ما يدّعون فيكون طريقا للتمييز (١) ، وهذا الطريق من أقوى الطرق الحديثة اليوم في المحاكم القانونية في البلدان النامية والمتطورة ، حيث يعتمدون عليه في حل الدعاوى والنزاعات ويسلكه القضاة في إصدار أحكامهم ويستند إليه المحامون في إبراء موكليهم ، وهذا الطريق يمكن تطبيقه بعينه في مورد دعوى النبوة بالتحري عن جملة من القرائن والشواهد يمكن بواسطتها القطع بصدق الدعوى ، من هذه القرائن :

١ ـ البحث عن الصفات النفسية التي يتحلى بها مدّعي النبوة.

٢ ـ صدق مضمون الدعوة التي يدعو إليها المدعي.

٣ ـ نفسيات المؤمنين بمدّعي النبوة.

الثاني : أن يعرّف ويبشّر بالنبي اللاحق نبي سابق عليه أو معاصر له كما حصل للأنبياء المتقدمين على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث بشّروا به قبل مجيئه وهذا مثبت في التوراة والإنجيل والزبور ، لأنّ نبوة السابق إذا ثبتت بالدلائل المفيدة للعلم كالمعجزة مثلا ثم نص على نبوة آخر يأتي بعده كان ذلك حجة قطعية على نبوة اللاحق (٢).

هذان الطريقان وإن اختارهما بعض الأعلام (٣) أيدهم الله تعالى إلّا أنهما ليسا تامّين وذلك :

أما الطريق الأول :

فلأنه ليس دليلا برأسه على صدق مدّعي النبوة لأنه خاص بطبقة وشريحة معيّنة في المجتمعات المتطورة ثقافيا والمنفتحة على العلوم ، ولا يشمل كل الأفراد الذين يتفاوتون في قوة الذكاء وضعفه ، فهو أصلح أن يكون مؤيدا لا طريقا لإثبات النبوة.

وأمّا الطريق الثاني :

أولا : فلوضوح عدم ثبوت نبوة آدم عليه‌السلام بنبي سابق عليه حتى ينص عليه

__________________

(١) الإلهيات : ج ٢ ص ١٠٩.

(٢) دروس في العقيدة : ج ٢ ص ٢٦.

(٣) هم : شيخنا الحجة المدقق جعفر السبحاني دام ظله. والشيخ محمد تقي مصباح. والسيد محسن خرازي.

٤١٠

أو يعرّف عنه ، نعم ثبتت نبوته بتعريف وتنصيص الله تعالى له ، وهذا خارج عن مورد الخلاف ، إذ المورد هو تنصيص نبي على نبي آخر لا تنصيص الله تعالى على نبي كآدمعليه‌السلام.

ثانيا : لم يرد أن الأنبياء عليهم‌السلام غير أولي العزم (الذين يتراوح عددهم مائة وأربع وعشرين ألف نبي) كان ينص كل واحد منهم على الآخر ، نعم ورد عن بعضهم أنهم نصّوا على بعض ، مع التأكيد على أنّ التنصيص يفيد المتمسكين بالأنبياء عليهم‌السلام لو كانوا مأمورين كلهم بتبليغ ما أخذوه من الوحي وليسوا كذلك بل كان بعضهم مأمورا بالتبليغ كالرسل ، فعلى هذا لا يكون التنصيص ذا فائدة للذين لم يؤمروا بالتبليغ.

وبهذا يصلح أن يكون هذان الطريقان مؤيّدين لا دليلين منفردين ، فيتعيّن طريق الإعجاز في صحة دعوى النبوة وهو أفضل الطرق وقد اتفق على صحته المتكلمون قاطبة لمتانته وخلوه عن أي إشكال ولأنه يقطع عذر كل مشكّك بصدق الأنبياء عليهم‌السلام ، وبما أن الإعجاز من أمهات مسائل النبوة يقع البحث فيه ضمن جهات :

الجهة الأولى : حقيقة المعجزة :

سمعنا ونسمع دائما أناسا ادّعوا النبوة خداعا وكذبا ، مستغلين نفوس البسطاء وإيمانهم الفطري ، لذا حتى يميّز النبي الصادق عن مدّعي النبوة جعل الله سبحانه المعجزة إحدى الطرق الدالّة على صحة الدعوى ، لأنه سبحانه يستحيل بحكمته أن يزوّد الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة لأنّ في تزويد الكاذب تغريرا للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلا على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبي (١) ، وإلى هذا أشار الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله في جواب من سأله عن علة إعطاء الله المعجزة لأنبيائه ورسله «ليكون دليلا على صدق من أتى به ، والمعجزة علامة لله لا يعطيها إلّا أنبياءه ورسله وحججه ، ليعرف به صدق الصادق من كذب الكاذب» (٢).

والآن نسأل : ما هي المعجزة؟

__________________

(١) سيد المرسلين : ج ١ ص ١٧٩.

(٢) علل الشرائع : ج ١ ص ١٢٢.

٤١١

هي الإتيان بأمر خارق للعادة مطابق للدعوى ، مقرون بالتحدي يتعذّر على الخلق الإتيان بمثله (١).

والمعجزة لغة من الإعجاز والأصل «عجز» وهي على وزن مفعلة بمعنى عدم القدرة ، يقال : أعجزت فلانا إذا ألفيته عاجزا ، وأعجزه الشيء : ضعف عن القيام به ، والإعجاز الفوت والسبق وهو أن يأتي الإنسان بشيء يعجز خصمه ويقصر دونه (٢).

والملاحظ في التعريف المزبور اشتماله على قيود أربعة :

القيد الأول : كون المعجز خارقا للعادة :

أي أن المعجزة التي يأتي بها النبي أو الإمام أو الإمام يشترط أن تكون على خلاف النواميس الطبيعية عادة لا عقلا ، كصيرورة عصا موسى عليه‌السلام ثعبانا بين يديه تسعى ، وكانشقاق القمر لرسول الله وغيرها من المعاجز التي لا يمكن للبشر مهما قويت شوكتهم المادية والعلمية أن يأتوا بمثلها لأنها خارقة لقانون الارتباط العام بين الظواهر الكونية.

توضيح ذلك :

إنّ الظواهر الطبيعية الكونية تنقسم إلى قسمين :

١ ـ ظواهر كونية توجد غالبا نتيجة أسباب وعلل يمكن التعرّف عليها من خلال التجارب العلمية المختلفة كأكثر الظواهر الفيزيائية والكيميائية ، فمثلا الماء ظاهرة كونية هامة وهو مؤلف من عنصرين مهمّين هما : الهيدروجين والأوكسجين ، حيث يشكّلان المادة السيّالة «الماء» فعند تحليله عرف العلماء أنه مؤلف منهما عند اتحادهما ، أما لو افترقا فلا يصدق على أحدهما أنه ماء ، بل إما غاز الأوكسجين أو غاز الهيدروجين.

٢ ـ ظواهر أخرى لا يمكن التعرّف على عللها وأسبابها من خلال التجارب الحسيّة ، نعم يمكن معرفة عللها بواسطة الأعمال الروحيّة والرياضية الشاقة كما هو مشاهد عند المرتاضين ، وفي بعض الأحيان لا يمكن الاطّلاع على العلل والأسباب الخفية لأنّ معرفة أسبابها وعللها مناط بإذن خاص منه تعالى كالحاصل

__________________

(١) إرشاد الطالبيين : ص ٣٠٦.

(٢) لسان العرب : مادة عجز.

٤١٢

عند الأنبياء من الأفعال الغريبة الخارقة للنظام الكوني لكنها ليست خارقة للقانون العقلي التام بمعنى أنها تعدّ من المستحيلات العادية وبحسب الأدوات والأجهزة المتوافرة لدى البشر لا أنها من المستحيلات العقلية كاجتماع النقيضين ووجود المعلول بلا علة وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين.

مثال ذلك : أن العادة جرت منذ القدم أن كل جسم حاولنا نقله من مكان إلى آخر يتم ذلك عبر أطر وعوامل طبيعية كرفعه أو نقله بالأيدي أو الجرّارات الصناعية مثلا ، ولكنّ العادة لم تجر أبدا أن يتحرك جسم كبير من مكان لآخر بعيد عنه مسافة مسير أيام وفي فترة زمانية بسيطة أقل من طرفة عين وبلا وسائط عادية كما جرى لآصف بن برخيا حيث أحضر عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين بأقل من طرفة عين. فهذا أمر ممكن ولا يعدّ من المحالات العقلية ، لأنها لو كانت من المحالات لما تحقق وجودها أبدا ، نعم هي بحاجة إلى علة لكي تتحقق ، وهل يشترط في العلة أن تكون دائما مادية محضة أو لا يشترط ذلك؟ سيجاب عنه في الجهة الخامسة.

القيد الثاني : كون المعجز مطابقا للدعوى :

يجب أن يكون الإعجاز مطابقا لدعوى النبوة وإلّا لا يعتبر دليلا على مدّعاه ، فلو خالف المدّعي دعواه لا يسمّى معجزة وإن كان أمرا خارقا للعادة وذلك مثل ما حصل لمسيلمة الكذّاب حيث طلب منه أن يدعو على ماء بئر ليزداد ماؤها فغار وجفّ ، وأمرّ يده على رءوس صبيان بني حنيفة فأصابهم القرع ، فكلاهما خارق للعادة لكنه غير مطابق (١).

فلا بدّ للإعجاز أن يطابق الدعوى لأنّ من يدّعي النبوة ويسند معجزته إلى إبراء الأعمى فيحصل الصمم مع عدم برء الأعمى ، مثل هذا لا يكون صادقا في دعواه.

القيد الثالث : أن يكون المعجز مقرونا بالتحدّي :

والتحدي هو المنازعة والمماراة يقال : تحدّيت فلانا إذا ماريته ونازعته في الغلبة ، ويراد منه هنا أن يقول لأمته :

__________________

(١) إرشاد الطالبيين : ص ٣٠٧.

٤١٣

إن لم تتبعوني فأتوا بمثل ما أتيت به ، وذلك يخرج به الإرهاص (١) وهو الإتيان بخارق العادة إنذارا بقرب بعثة نبي تمهيدا لقاعدته فإنه غير مقرون بالتحدي ، وكذا الكرامات الصادرة على أيدي المخلصين هي غير مقرونة بالتحدي (٢) كالمعجزة.

القيد الرابع : كونه يتعذّر على الخلق الإتيان بمثله :

وذلك لأنّ المعجزة لو لم يتعذّر على الخلق الإتيان بمثلها بحيث كانت في متناول أيدي الجميع لم يعلم أنها من فعله تعالى فلا تكون حينئذ دالّة على التصديق بالنبي الذي صدرت على يديه المعجزة فعجز الناس عن المعارضة والإتيان بمثل ما جاء به النبي دلالة صدق على أن النبي يعتمد على قوة إلهية غير متناهية ، هذه القوة خارجة عن حوزة البشر.

الجهة الثانية : شروط المعجزة :

لا بدّ من توفّر شروط في المعجزة هي :

الشرط الأول :

أن يعجز عن مثلها أو عمّا يقاربها أحد من الناس سواء أكانوا في زمن الأمة المبعوث إليها أم ممن سوف يولد في المستقبل ، لأنه لا خصوصية للأمة المبعوث إليها في تحقق مفهوم الإعجاز وعدم قدرة البشر على الإتيان بمثلها كما تحدّى القرآن المجيد الأجيال عبر العصور كلها في أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لاشتماله على الإعجاز العلمي والغيبي المطلق ، ولو تمكن الناس منها فلا تسمّى حينئذ معجزة.

الشرط الثاني :

أن تكون المعجزة من قبله تعالى من دون تدخّل النبي أو الولي بمعنى ليس لنفس النبي أو روحه أي تأثير في إيجاد المعجزة خارجا بل يجريها الله تعالى على يديه من دون طلب من النبي مثاله : القرآن الكريم حيث أجراه تعالى على يديه من دون أن يطلب النبي منه تعالى أن ينزّل قرآنا على الناس وقد تكون المعجزة بطلب من النبي أو الولي بإذنه تعالى بحيث يكون لنفسيهما (أي النبي والولي) تأثير في

__________________

(١) الإرهاص : التأسيس والتمهيد.

(٢) إرشاد الطالبيين : ص ٣٠٧.

٤١٤

إيجاد المعجزة كما سوف يأتي تعليل ذلك بعد أسطر.

الشرط الثالث :

أن تكون المعجزة في زمان التكليف وقبل قيام الساعة بمدة غير يسيرة ، أما لو كانت المدة قريبة كما في الفترة التي يغلق فيها باب التوبة قبل أيام من قيام الساعة فلا معجزة حينئذ لقرب فناء وتبدّل القوانين الطبيعية لدلالة ذلك على انقطاع زمن التكليف.

الشرط الرابع :

أن يكون قيام المعجزة بعد دعوى النبوة مباشرة أو بحكم المباشرة كأن يقيم المعجزة بعد ادعائه النبوة بحيث تكون المعجزة مقارنة زمانا للدعوة ، فلو تقدمت الخوارق على الدعوى فلا تسمّى معجزة بل كرامة أو إرهاص ، فيكونان بمثابة إشعار وإعلام بقرب مجيء نبي وحصول معجزة له ، وليس دائما تكون الكرامة إرهاصا أو مقدمة لظهور نبي بل هي أعم من ذلك إذ قد تصدر الكرامة بعد ادّعاء النبوة فتارة تصدر من نفس النبي وأخرى من الأولياء والصلحاء العبّاد.

الشرط الخامس :

أن لا توجب المعجزة تكذيبا لمدّعيها كما لو نطق الضب فقال أنه كاذب فلا يعلم صدقه بل يزداد اعتقاد كذبه.

الجهة الثالثة : في الفرق بين الكرامة والإرهاص والمعجزة المعكوسة :

الكرامة نوع إعجاز خارق للعادة أيضا تماما كما في المعجزة لكنّ الكرامة غير مقرونة بالتحدّي بعكس المعجزة كما تقدم آنفا ، فيصح أن يقال للكرامة معجزة بالمعنى اللغوي العام لأنها مما يعجز عن الإتيان بمثلها أغلب البشر ، وقد وقع النزاع بين المعتزلة والأشاعرة في جواز إظهارها على أيدي الصالحين ، فذهب جمهور العامة والشيعة كافة وبعض المعتزلة إلى الجواز ، والمشهور عندهم عدم الجواز.

استدلال الإمامية والأشاعرة :

استدلّوا على صحة حصول المعجزة إكراما للأولياء وإظهارا لعلوّ شأنهم بثلاثة وجوه :

الأول : ظهورها على يد السيدة مريم عليها‌السلام حيث كانت تأكل من فاكهة

٤١٥

الصيف بالشتاء وبالعكس (١) ، وكذا ظهور معجزة الحمل بعيسى عليه‌السلام من دون أب حيث حملته في بطنها عدّة ساعات ، إضافة إلى طي الأرض لها بعد الولادة حيث ذهبت بوليدها المبارك إلى أرض العراق ودارت به فيها.

وأيضا ظهرت الكرامات على يد وزير النبي سليمان آصف بن برخيا الذي جاء بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين بأقل من طرفة عين ، وكذا ما ظهر من المعجزات الباهرات على أيدي الأئمة الهداة والصدّيقة الطاهرة روحي فداها.

وقد حمل المانعون كلّ ذلك على الإرهاص لا غير.

والجواب :

أولا : إنّ قيام المعجزة على يديها ليست تمهيدا لمجيء عيسى عليه‌السلام وإنما نتيجة طاعتها وانقيادها للمولى عزوجل وقد صرّح القرآن الكريم بعصمتها وتسديدها بقوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ...) فليس تطهيره وعصمته لها من باب كونه إرهاصا لمجيء عيسى عليه‌السلام ويكفي ما ورد في شأنها أنها سيدة نساء عالمها ، وهذا لا يعتبر إرهاصا لإنجاب عيسى عليه‌السلام بل لشدة ارتباطها بالمولى وقربها منه.

فصدور الكرامة عن يديها تماما كصدورها على أيدي بعض العباد الصالحين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ ذلك ليس إرهاصا لنبي الإسلام إذ لا نبي بعده بل هو كرامة منه تعالى لبعض عباده الأخيار ، كيف لا والمرء إذا اتّصف بأخلاق المولى انقادت له الكائنات بأسرها ففي الحديث القدسي : «عبدي أطعني تكن مثلي ، تقول للشيء كن فيكون».

وما ورد عن بعضهم عليه‌السلام أنه سبحانه قال :

«ما يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وعينه التي يرى بها ويده التي يبطش بها».

ثانيا : إنّ الله تعالى طهّرها وعصمها قبل مجيء عيسى عليه‌السلام وقبل بلوغها مكافأة لها سلفا على حسن سلوكها وانقيادها للباري عزوجل ، لأنه سبحانه يعلم قبل أن تخرج مريم إلى عالم الوجود أنها لن تعصيه وكذا بقية المعصومين عليهم‌السلام

__________________

(١) نور الثقلين : ج ١ ص ٣٣٢ وتفسير الصافي : ج ١ ص ٣٣٢.

٤١٦

حينما عصمهم منذ ولادتهم باعتبار علمه عزوجل بهم وأنهم لن يعصوه عند ما يكبرون ، وبطبيعة الحال فإن الكرامات والمعاجز إنما هي نتيجة حتمية للسلوك المستقيم لا أنها إرهاص وتمهيد لنبوة نبي أو رسول ، فما صدر من الأئمة من الكرامات إنما هو نتيجة علوّ قدرهم وعظمة شأنهم وليس تمهيدا لنبوة نبي غير النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لا نبي بعده أبدا.

هذا فيما يتعلّق بالسيدة المباركة مريم ، وأما بالنسبة إلى آصف بن برخيا فيجاب عنه : إنّ ما صدر عنه من كرامات إنما هو للدلالة على وصايته عن النبي سليمان عليه‌السلام وأنه الحجة على الأمة من بعده ، فتكون المعجزة حينئذ إظهارا لفضله لا إرهاصا لسليمان عليه‌السلام لأنّ نبوة الثاني كانت حاصلة قبل وبعد معاجز آصف. فتأمل.

وكذا ما ورد عن أئمتنا المعصومين عليهم‌السلام من معاجز وكرامات إنما هو للدلالة على وصايتهم وإمامتهم وولايتهم من قبل الله تعالى لا لإثبات نبوة رسول الله لأنها كانت ثابتة عند المسلمين جميعا ولم يقع خلاف بين أحد من المسلمين على نبوته عليه‌السلام ، وإنما الخلاف على الإمامة والخلافة التي يعتقد الإمامية أنها أمر منه تعالى ولا دخل للناس في تعيين الإمام أو الخليفة ، وحيث إن وظيفة الإمام تماما كوظيفة النبي وجب أن يكون مسددا بالمعاجز للبرهنة على صدق قوله وعظمة شأنه.

استدلال المعتزلة :

استدلّ جمهور المعتزلة على عدم جواز حصول المعجزة على يد غير الأنبياء بوجوه :

الأول :

لو جاز ظهور المعجزة على أيدي غير الأنبياء لجاز ظهورها على أيدي الكثير من الناس مرات متتالية لأنّ الغرض من صدورها على أيدي غير الأنبياء هو سرورهم وإنعاش قلوبهم بالألطاف الإلهية ، وإذا صدرت كثيرا منهم تصير ـ أي هذه الكرامات ـ مبتذلة فلا تكون حينئذ خارقة للعادة فلا تعدّ إعجازا مثاله :

ما لو فرضنا أنّ كثيرين غير عيسى عليه‌السلام أمكنهم أن يبرءوا الأبرص والأكمه فلا يعدّ هذا شيئا خارقا للعادة لكثرة حصوله لدى الأفراد فلأجل أن يبقى هذا

٤١٧

الشيء معجزة لا بدّ أن تكون المعجزة مخصوصة (١).

وقد أجاب العلّامة الحلي (قدس‌سره) :

بالمنع عن الملازمة (أي كثرة وقوعها من غير الأنبياء وبين خروجها عن حدّ الإعجاز) لأنّ خروجها عن حدّ الإعجاز وجه قبيح ، ونحن إنما نجوّز ظهور المعجزة إذا خلا عن جهات القبح فيجوز ظهورها ما لم تبلغ في الكثرة إلى حدّ خروجها عن الإعجاز (٢).

توضيح ذلك :

إنّ العلامة (رضوان الله تعالى عليه) يجوّز ظهور المعجزة على أيدي غير الأنبياء بشرط ألّا يخرج هذا الشيء عن كونه معجزة ، وعلامة خروجها عن الإعجاز هي أن تتكرر مئات المرات.

لكن يرد على هذا :

إنّ العرف لا يفرّق ولا ينفي العقل حجية المعجزة ولو أدّت إلى التكرار مئات المرات ما دامت لم تخرج عن كونها أمرا خارقا للعادة ليس بمقدور البشر أنّ يأتوا بمثلها لأنّ صدور الإعجاز بكثرة فرع تحقق مقتضاه وكونه أمرا خارقا للعادة ولنواميس الطبيعة ، نعم هي قبيحة لو بلغت حدّا لا يترتب عليها الغرض المطلوب ، فإذا صارت قبيحة بهذا الشكل فإنه يستحيل أن يجريها تعالى على أيدي الأولياء.

الثاني :

إنّ ظهور المعجزة على أيدي غير الأنبياء يستلزم نفور الناس عن الأنبياء وعدم إطاعتهم لهم وتصديقهم إياهم ، لأنّ المقتضي أو العلّة لوجوب إطاعتهم والأخذ بهديهم هو ظهور المعجزة على أيديهم ، فإذا شاركهم في هذه العلة غيرهم من الصلحاء والأولياء هان موقعهم في نفوس الناس وقد مثّلوا له بملك ساوى بين إكرام رجل عظيم ببقية أفراد مملكته ، فإن ذلك يعدّ إهانة لذلك العظيم ، فحينئذ لا بدّ أن يفرد هدية قيّمة يتميّز بها العظيم عن غيره ، ومسألتنا من

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٧٨ بتصرّف.

(٢) نفس المصدر.

٤١٨

هذا القبيل فلا يمكن أن يتساوى الأنبياء بغيرهم بل لا بدّ من تمييزهم بالمعاجز عن غيرهم.

والجواب :

١ ـ إن شركة الصالحين مع الأنبياء في إظهار المعجزة لا يستلزم سلب مقتضى المعجزة أي سلب طاعتهم والانقياد إليهم عليهم‌السلام بل العكس هو الصحيح أي أن الشراكة تستلزم ثبوت مقتضى المعجزة في كل مورد تتحقق فيه تلك المعجزة ، فأينما وجدت يقبل مدّعى صاحبها إن ادّعى شيئا من قبل السماء سواء أكان نبيا أم وصيّا أم وليّا لأنّ العقل يحكم بوجوب تصديقه إذا ظهرت على يديه بعض الكرامات.

٢ ـ لو قلنا بعدم جواز الشراكة لازمه عدم جواز أن يأتي النبي اللاحق مثل ما أتى به النبي السابق ، مثاله : قلب العصا حيّة لموسى عليه‌السلام فعلى هذا المبنى لا يحق لغيره من الأنبياء أن يقلب العصا حيّة ، مع أن ذلك باطل جزما لأنه إذا ظهرت المعجزة على أيدي بعض الأنبياء جاز إظهارها على أيدي أنبياء آخرين لخصوصية موجودة عند الجميع ، فإذا جاء إظهارها على الأنبياء الآخرين جاز أيضا إظهارها لنفس الخصوصية على أيدي الأولياء والصالحين.

الثالث :

إنّ المعجزة التي تصدر من الأنبياء تدلّ على الإبانة والتخصيص أي أنها تميّزهم عن غيرهم لأنّ أفراد الأمة مشاركون للنبي في الإنسانية ولوازمها ، فلولا المعجزة لما تميّزوا عن غيرهم ، فلو شاركهم غيرهم بما تميّزوا به لم يحصل الامتياز.

والجواب :

١ ـ إنّ امتياز النبي عن غيره من أفراد البشر ليس محصورا بالمعجزة حتى يقال بتساويه مع غيره من أفراد الرعيّة بل الامتياز حاصل بغيرها مثل الوحي وقوة العلم وشدّة الحلم ، إذ لا يلزم من مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته في كل شيء.

٢ ـ إنّ المعجزة الصادرة من الأنبياء دائما مقرونة بدعوى النبوة وهذه من مختصاته لا يمكن لغيره مشاركته فيها ولا يمكن للصالحين أن يأتوا بكل معجزة تطلب منهم.

٤١٩

الرابع :

لو جاز إظهار المعجزة على أيدي غير الأنبياء لما دلّت المعجزة على النبوة أي لنفى اختصاص المعجزة بالنبوة بحيث لا يظهر الفرق بين مدّعي النبوة وغيرها بالمعجزة (١).

والجواب :

إنّ ذات المعجزة بنفسها لا تدلّ على النبوة بل ما يدلّ على النبوة هو المعجزة المقرونة بالدعوى وهي من مختصات الأنبياء والحجج عليهم‌السلام فإذا ظهرت المعجزة على يد شخص فإما أن يدّعي النبوة أو لا ، فإن ادّعاها علمنا صدقه ، إذ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا ، وإن لم يدّع النبوة لم يحكم بنبوته أصلا ، فالحاصل أن المعجزة لا تدلّ على النبوة ابتداء ـ أي من دون دعوى النبوة ـ بل تدلّ على صدق الدعوى فإن تضمنت الدعوى النبوة دلّت المعجزة على تصديق المدّعي في دعواه ويستلزم ذلك ثبوت النبوة (٢).

الخامس :

لو جاز إظهار المعجزة على صادق ليس بنبي لجاز إظهارها على كل صادق يخبرنا بخبر أو يحدّثنا بحديث لكي نصدّقه ونعتقد بما يقول.

والجواب :

إنه لا يعتبر إظهار المعجزة على كل صادق بما يقول لأن إظهار المعجزة على مدّعي النبوة صدقا أو الصالح إنما هو إكرام لهما وتعظيم لشأنهما وذلك لا يحصل لكل مخبر صادق.

هذا فيما يتعلّق بالكرامة.

وأما الإرهاص والمعجزة المنكوسة : فقد وقع الخلاف في صحة وقوعهما على رأيين والأصح الوقوع لإمكانهما وتحققهما خارجا.

أما الإرهاص فلوقوع معجزات عدة قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمهيدا وتوطيدا لنبوته ورسالته ، منها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسير وفوقه غمامة تظلله من الشمس ، وكانشقاق إيوان كسرى عام ولادته عليه‌السلام وانطفاء نار فارس حيث كانوا يعبدونها وغور ماء

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٧٩.

(٢) كشف المراد : ص ٣٨٠ بتصرّف.

٤٢٠