الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الثّاني

النبوة

٣٨١
٣٨٢

الباب التّاسع

عقيدتنا في النبوة

قال المصنف «قدّس سره» :

نعتقد أن النبوة وظيفة إلهية وسفارة ربانية ، يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيتهم ، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة ، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات ، وتعليمهم الحكمة والمعرفة وبيان طريق السعادة والخير ، لتبلغ الإنسانية كمالها اللائق بها ، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين. دار الدنيا ودار الآخرة.

ونعتقد أن قاعدة اللطف ـ على ما سيأتي معناها ـ توجب أن يبعث الخالق اللطيف بعباده رسله لهداية البشر وأداء الرسالة الإصلاحية وليكونوا سفراء الله وخلفائه كما نعتقد أنه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ترشيحه أو انتخابه ، وليس لهم الخيرة في ذلك ، بل أمر كل ذلك بيده تعالى لأنه (أعلم حيث يجعل رسالته).

وليس لهم أن يتحكموا فيمن يرسله هاديا ومبشرا ونذيرا ، ولا أن يتحكموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة.

* * *

نبحث في النبوة من عدة جهات :

الجهة الأولى : في معناها لغة واصطلاحا :

المعنى اللغوي : النبوة مأخوذة من «نبأ» وهو الخبر ، والجمع «أنباء» ومنه

٣٨٣

يقال : وكالة الأنباء ، ومكتب الأنباء أي الأخبار ، ونبّأ وتنبئة وتنبيئا أي خبّره وأعلمه تقول: نبأت زيدا أي أعلمته والنبوة والنباوة هو كل ما ارتفع من الأرض أو الشيء ، والنبيّ بغير همزة على وزن فعيل هو المخبر عن الله عزّ اسمه ، وأصله بهمزة «نبيء» ثم تركت الهمزة وذلك لأنّ نبيء بالهمزة بمعنى الخارج من مكان إلى آخر لذا لمّا قال الأعرابي للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا نبيء الله أنكر عليه وقال له : لا تنبز باسمي فإنما أنا نبيّ الله. وفي رواية قال : لست بنبي الله ولكني نبي الله (١).

والهمز في النبيء لغة رديئة لقلة استعمالها عند العرب ، فالأفصح كون النبي من غير همز لأنه ليس كل منبأ يعدّ رفيع القدر والمحل كما في أخبار الفسّاق حيث لا اعتبار لإخباراتهم لتطرق الكذب فيها على الغير ، لذا قد يكون إنكار النبي على الأعرابي لأجل النكتة التي ذكرت.

يتلخّص من ذلك أن للنبوة معنيين :

الأول : إن النبي هو المخبر عنه تعالى.

الثاني : أن النبي مشتق من النباوة أي المرتفع عن الأرض بمعنى المشرف على سائر الخلق.

المعنى الاصطلاحي : عرّف المتكلمون «النبي» بأنه الإنسان المخبر عنه تعالى بغير واسطة أحد من البشر (٢).

وفي التعريف قيدان :

الأول : «الإنسان المخبر» جنس يشمل النبي وغيره ، فبقيد الإنسان يخرج الملك لأنه مخبر أيضا لكنه ليس إنسانا.

الثاني : «بغير واسطة أحد من البشر» يخرج به الإمام والعالم فإنهما يخبران عنه تعالى بواسطة بشر هو النبي.

لكن يرد على التعريف المذكور أنه أعمّ من المدّعى وذلك لشموله للإمام عليه‌السلام الذي يخبر عن الله تعالى بدون واسطة بشر كما هو حاصل عن طريق الإلهام والتحديث ، فإن كان المراد ب «النبي» مطلق المخبر عنه تعالى فلا شك أنه شامل للأئمة المعصومين وسيدتنا الطاهرة فاطمة الزهراء لكونهم عليهم‌السلام محدثين وملهمين.

__________________

(١) لسان العرب مادة «نبأ».

(٢) إرشاد الطالبين : ص ٢٩٥.

٣٨٤

وإن كان المراد ب «النبي» من ألقي إليه الوحي التشريعي فإن ذلك مختص بجماعة معينين ولا يشمل الأئمة عليهم‌السلام لأن الوحي التشريعي مختص بسيدنا محمد دون العترة ، ولعلّ المقصود من التعريف هو الثاني.

إشكال :

قلتم إن النبي هو الموحى إليه فهو بهذا مرسل من قبله تعالى فلما لا يقال إن كل نبي مرسل؟.

الجواب :

صحيح أن كل نبي موحى إليه يعتبر مرسلا بالمعنى اللغوي بمعنى أن ما يستلهمه الموحى إليه من معلومات ومعارف إنما هي هبات وهدايا مرسلة من قبله تعالى لصاحبها ، لكنه بالمعنى الاصطلاحي فإنهم يفرّقون بين النبي والرسول.

فالأول : هو المبين للناس صلاح دينهم ودنياهم إلى أن طلبوا منه ذلك.

والثاني : هو الحامل للرسالة الخاصة يتم بها الحجة على الناس أي يبلّغها ويبيّنها للناس من دون أن يطلبوا منه ذلك ، فمنزلة الرسالة هي إبلاغ الوحي ونشر أحكام الله وتربية الأفراد عن طريق التعليم والتوعية ، فالرسول مكلّف بالسعي في دائرة مهمته لدعوة الناس إلى الله وتبليغ رسالته وبذل الجهد لتغيير فكري عقيدي في مجتمعه.

فبذا يعرف أنه ليس كل نبي رسول بل العكس هو الصحيح فبينهما عموم وخصوص من وجه.

الجهة الثانية : في إمكان وقوع النبوة :

هنا نبحث في مقامين :

الأول : في إمكان وقوعها ثبوتا ـ (واقعا).

الثاني : في إمكان وقوعها إثباتا ـ (خارجا).

أما المقام الأول :

فلا شك أنها ممكنة ثبوتا لأنّ في تكليمه عزوجل مع الإنسان الكامل بواسطة أو بدون واسطة لا يلزم منه أحد المحالات العقلية كاجتماع النقيضين أو الضدين إذ إن تكلّمه تعالى مع الأنبياء ليس إلّا إيجاد الكلام بالأشياء ، وهذا غير مستحيل عليه تعالى إذ من المعلوم أنه لا يستلزم المحدودية لله عزوجل

٣٨٥

كالجسمية حتى يتناقض مع صرفيته وأحديته ، فلا ريب في إمكان وقوعها لأن في إرسال الرسل وإنزال الكتب إتماما الحجة على المكلّفين وسدّ العذر عليهم بعد أن كان محتجبا عنهم لا يلامسهم ولا يلامسوه ، ورد عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال : إنّا لما أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه ، يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، المعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء عليهم‌السلام وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين بها (١).

المقام الثاني :

اتفق الملّيّون وأتباع الأديان وجماعة من الفلاسفة على إمكان وقوع النبوة خارجا ، ومنعته البراهمة المنتسبين إلى «براهم» حيث مهّد لهم نفي النبوات من الأساس ، واستدلّوا على ذلك بوجوه أربعة (٢) هي :

الوجه الأول :

إنّ الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون معقولا وإما أن لا يكون معقولا.

فإن كان معقولا فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه فأي حاجة لنا إلى الرسول؟

وإن لم يكن معقولا فلا يكون مقبولا ، إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حدّ الإنسانية ودخول في حريم البهيمية.

يجاب عنه :

١ ـ إنّ إتيان الأنبياء بما يوافق العقول يكون تأكيدا لحكم العقل أو إرشادا له كقبح الظلم وضرورة شكر المنعم ووجوب رد الوديعة ، فهذه كلها أحكام عقلية ضرورية أكدها الأنبياء وفصّلوا ما أجمل منها ، فمثلا يحكم العقل بوجوب رد

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١٦٨ ح ١.

(٢) هذه الوجوه ذكرها الشهرستاني في الملل : ج ٢ ص ٢٥١.

٣٨٦

الوديعة لأصحابها ، وهذا حكم عقلي كليّ ، جاء الشرع المقدّس ففصّله وبيّن أحكامه ككيفية حفظها وضمانها في حال الإتلاف العمدي أو التقصير وما شابه ذلك.

٢ ـ إنّ الأنبياء يأتون بأمور لا يصل أو يهتدي إليه العقل من دون استعانة بهمعليهم‌السلام ككثير من المعارف والعلوم التي تتحدث عن العوالم الخفية كالجنان والنيران والسماوات العليا التي زارها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة البراق ، إضافة إلى أن كثيرا من المسائل في نظامنا الكوني لا زالت غامضة على فطاحل علماء الطبيعة مما استدعى بعضهم أن يقول : «إن جهلنا أكثر من علمنا» ، والشاهد على هذا اعترافهم وتسليمهم بالجاذبية الأرضيّة مع جهلهم بحقيقتها وماهيتها.

الوجه الثاني :

قد دلّ العقل على أنه سبحانه حكيم ، والحكيم لا يتعبّد الخلق إلّا بما تدلّ عليه عقولهم ، وقد دلّت الدلائل والبراهين على أنّ للعالم صانعا عالما قادرا حكيما ، وأنه أنعم على عباده نعما توجب الشكر ، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا ، وإذا عرفناه وشكرناه استوجبنا ثوابه ، وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه ، فما بالنا نتّبع بشرا مثلنا؟ فإنه إن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلا ظاهرا على كذبه.

يجاب عنه :

١ ـ إنّ شكر المولى إنما يتم بالطريقة التي يريدها هو لنفسه لا بما يريدها العبد ، فالله سبحانه أراد منا أن نشكره بالطرق التي دلّنا عليها السفراء والحجج ، ولو خلّي الإنسان وطبعه لشكره بالطريقة التي تحثه عليها رغبته وشهوته ، فها هم عبدة الأصنام القدامى والجدد يتصورون أن عبادة الأصنام وتقديم القرابين لها نوع شكر لله تعالى باعتبارها واسطة الفيض بينه تعالى وبينهم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (الزمر / ٤).

٢ ـ إنّ الفائدة من إرسال الأنبياء إنما هو ترشيد العقول الضالّة التي انحرفت عن مسارها فاستحقت العقاب والعذاب ، فكثير من الأحكام العقلية تحتجب عن صاحبها نتيجة الانحراف السلوكي ، فيأتي الشرع ويوقظها ويهديها إلى الصراط السّوي فتتذكر وترجع إلى حالتها الطبيعية السويّة.

٣ ـ لا يمكن تأطير وظائف الأنبياء بما ذكره البراهمة لأنّ الهدف الذي جاءوا

٣٨٧

من أجله أسمى من ذلك فهو يشمل كل ما يسعد حياة البشر الفردية والاجتماعية.

الوجه الثالث :

قد دلّ العقل على أنّ للعالم صانعا حكيما ، والحكيم لا يتعبّد الخلق بما يقبح في عقولهم وقد ورد في الأديان أمور مستقبحة عقلا كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة والطواف حوله والسعي ورمي الجمار والإحرام والتلبية وتقبيل الحجر وذبح الحيوان وتحريم ما يمكن أن يكون غذاء للإنسان وتحليل ما ينقص من بنيته كل هذه الأشياء مخالفة للعقول.

يجاب عنه :

إنّ ما ذكروه من خلوّ هذه الأمور من المصلحة إنما تعدّ قبيحة عقلا بناء على المسلك الأشعري القائل بأنّ الأفعال الإلهية خالية من المصالح والمفاسد ، أما على المسلك الإمامي فلا يتوجه عليه الإشكال المذكور لأنّ كل فعل ـ بنظر الإمامية ـ لا يخلو من مصلحة أو مفسدة واقعية لم نطّلع عليها لقصور إدراكنا ، نعم قد تعلمنا الشريعة المقدّسة بعض أسرار أحكامها ، لذا فالمتدبر بأسرار العبادات والمعاملات يرى بوضوح الكثير من الحقائق والمصالح أو المفاسد المترتّبة على الأحكام الشرعية فمثلا التوجه إلى الكعبة المشرّفة التي هي عبارة عن أحجار أمر الباري بالتوجه إليها تمحيصا للعباد وإن كان الله عزوجل عالما بهم فامتحانهم لا لجهل عنده بل لتظهر الحقائق الكامنة في نفوسهم.

إضافة لذلك فإنّ التوجه إلى الكعبة رمز الوحدة بين المسلمين ولو تعددت وجهاتهم في أداء مراسمهم العبادية لسادت الفوضى فيهم ووقع الشقاق فيما بينهم في القطر الواحد فضلا عن سائر الأقطار.

وكذا فلسفة السعي بين الصفا والمروة هو تجسيد لعمل تلك المرأة الصالحة (هاجر زوجة النبي إبراهيم عليه‌السلام) التي سعت سبع مرات بين جبلين طالبة الماء لوليدها إسماعيل الظمآن فشكر سبحانه سعيها حيث جعل مواطئ أقدامها محلا للعبادة.

وهكذا بقية المراسم العبادية فإنّ فيها الحكم والمصالح والعبر يعرفها من اطّلع على النصوص الدالّة عليها.

الوجه الرابع :

إنّ أكبر الكبائر في الرسالة اتباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس والعقل ،

٣٨٨

يأكل مما تأكل ويشرب مما تشرب حتى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرف فيك رفعا ووضعا أو كعبد أمام مولاه لا يقدر على شيء فهو مملوك لسيده ، فإذا كان صاحب أي رسالة مثلك فأي تميّز له عليك ، وأية فضيلة أوجبت استخدامك؟

والجواب :

صحيح أن الأنبياء والرسل مثلنا في الصورة والجسم إلّا أنهم يختلفون عن بقية البشر بمميزات وخصائص روحية ونفسية عالية جدا نتيجة ارتباطهم بالمبدإ الأعلى والفيض الأكمل ، فهذا الاختلاف والتمايز بالخصائص يستدعي رفعهم على بقية البشر قال تعالى :

(وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف / ٣٣).

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...) (إبراهيم / ١٢).

وأما قوله تعالى حاكيا عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (فصلت / ٧).

ليس المراد منه نفي الخصائص والمميزات التي كان يتمتع بها النبي وإنما المراد نفي ما كان يتوهمه المشركون من عدم كون الرسل بشرا لا يأكلون الطعام ولا يمشون في الأسواق قال تعالى حاكيا عنهم :

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) (المؤمنون / ٣٤).

فقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يفيد الاتحاد في البشرية حيث لا بدّ من وجود مسانخة بين المرسل والمرسل إليه وأما ذيل الآية (يُوحى إِلَيَ) يفيد الخصيصة التي يفترق بها النبي عن غيره من سائر البشر.

وبعبارة : ان الآية تشير إلى أن النبي كغيره من البشر متحد معهم بالصورة إلّا أنه يختلف عنهم بالجوهر أي الخصائص والمميزات وما شابه ذلك.

الجهة الثالثة : فوائد البعثة وحسنها :

اختلف الناس في حسنها وفوائدها ، فذهب المسلمون وجميع أرباب الملل

٣٨٩

وجمع من الفلاسفة إلى حسن البعثة ، ومنعت منه البراهمة كما تقدم ، ويستدلّ على حسنها أنها قد اشتملت على فوائد وخلت عن المفاسد فكانت حسنة قطعا ، أما فوائدها فكثيرة أهمها :

الفائدة الأولى :

إن الأنبياء يبيّنون لنا ما يراد من العبادة كما أنهم يبيّنون كيفيتها ومقدارها ، فلو سلّمنا بوجوب الطاعة عقلا ليس إلا كما يقول البراهمة ، فكيفيتها غير معلومة لنا ، لذا بعث سبحانه الرسل لقطع هذا العذر.

الفائدة الثانية :

في الإنسان شهوات تنازعه وأهواء تصده ، فالبعثة إمداد له فيما لو سها نبّهته ، وإذ انحرف عن الصواب منعته ، ولو ترك وهواه ونفسه لكان ذلك إغراء له لفعل القبيح ، وهذا لا يجوز عليه تعالى لأنه عادل فالبعثة لازمة.

الفائدة الثالثة :

إنّا لا نعلم بعقولنا من صفاته تعالى إلّا التي يستدل عليها من أفعاله ، وأما سائر صفاته فلا سبيل إلى معرفتها إلّا بأخبار الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

الفائدة الرابعة :

يحكم العقل بعدم جواز التصرّف بملك الغير إلّا بإذنه ، وحيث إننا عبيده تعالى فلا يحق لنا التصرف إلّا بإذنه وحيث لا طريق لنا لذلك إلّا بواسطة أنبيائه ، فهم عليهم‌السلام وسائط إذنه وأبواب فضله فيزول الخوف عند العبيد فتكون البعثة ذات فائدة ، حينئذ تكون واجبة.

الفائدة الخامسة :

إنّ أفراد البشر متفاوتون في إدراك الكمالات وتحصيل المعارف واقتناء الفضائل ، فبعضهم مستغن عن معاون لقوة نفسه وكمال إدراكه وشدة استعداده للاتصال بالمبادئ العالية كالملائكة العظام وهذا لا يحصل إلّا للأوحدي ، وبعضهم عاجز بالكلية وبعضهم متوسط الحال ، وفائدة بعثة الأنبياء أنهم يكمّلون الناقص ليصل إلى الكمال المنشود.

الفائدة السادسة :

إنّ البعثة تبيّن حال الواقع كما هو ، فرب شيء يكون مستحسنا لدينا ولا

٣٩٠

يكون مستحسنا في نفس الأمر والواقع ، وقد يكون مستقبحا لدينا لنقصان عقولنا ولا يكون هذا في الواقع والبعثة مبنية لواقع الأمر كما هو.

الفائدة السابعة :

بالبعثة ينتظم أمر العباد لأنّ من مهام الأنبياء تنظيم حياة البشر وسنّ القوانين لهم لتمنعهم من الانفلات وعدم الانضباط ، ولو فوّض هذا إليهم ـ كأنّ يفوّض إليهم تشريع الأحكام ـ لأتى كل قوم بدستور يخالف دستور الأقوام الآخرين مما يفضي إلى الفتنة والهلاك.

الجهة الرابعة : حقيقة الوحي :

لا مجال لإنكار الوحي كما فعل البراهمة الهنود ، وقد تجدّد هذا الإنكار في عصرنا الحاضر بثوب الحضارة البرّاقة حيث ساد أوروبا هذا الإنكار في عصر نشوء الحركة المادية المحضة التي تقدمت شوطا واسعا في مجالات العلوم الصناعية والتقنية وغيرها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، مما أدّى إلى تدهور بقية العلوم التي لها ارتباط وثيق بالروح وما وراءها ، إلى أن أعيد النظر بشأنها في السنين الأخيرة.

قال وجدي في دائرة المعارف :

«كان الغربيون إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم المتديّنة يقولون بالوحي وكانت كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء ، فلمّا جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته ذهبت الفلسفة الغربية إلى أن مسألة الوحي هي من بقايا الخرافات القديمة ، وغالت حتى أنكرت الخالق والروح معا وعلّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنه إمّا اختلاق من المتنبأة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم ، وإمّا هذيان مرضى يعتري بعض العصبيين فيخيّل إليهم أنهم يرون أشباحا تكلمهم وهم لا يرون في الواقع شيئا» (١).

وعلى هذا الأساس ابتدع سلمان رشدي (صاحب كتاب آيات شيطانية) مقالة أنّ القرآن الكريم ليس من وحي السماء إنما هو عبارة عن إيحاءات هبط بها إبليس اللعين فألقاها على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعالى الله ورسوله عن ذلك علوّا كبيرا وخسر رشدي وجنوده.

__________________

(١) التمهيد في علوم القرآن : ج ١ ص ١٠.

٣٩١

ويمكن الجواب عمّا ذكره هؤلاء بما يلي :

أولا : إنّ الأنبياء حينما ادّعوا تلقي الوحي منه تعالى ، كان ادّعاؤهم مقرونا في أغلب الأحيان بكشف المغيبات وإظهار المعجزات والكرامات مما يستحيل على غيرهم الإتيان بمثلها ، إضافة إلى أنهم ما كانوا يسعون إلى الشهرة والجاه بل كانوا في كل حالاتهم يدعون إلى الزهد والتبتل إليه تعالى ولم نجد واحدا منهم دعا إلى زخارف الحياة الفانية بل كانت سيرتهم دائما التقشف والبساطة ، وكانوا محاربين ومطاردين ومشردين.

ثانيا : إنّ التخييل دائما لا ينتج الاطّلاع على الواقع بل هو محض اللاواقع لأنّ الخيال هو مخزن الصور المحسوسة المأخوذة من الحس المشترك الذي هو عبارة عن القوة المدركة للصور الآتية من الحواس الظاهرة ، فأغلب الصور المدّخرة في الخيال هي صور باطلة لا سيما التي تتعلق بالمستقبل ، فإذا كان التخييل مقتصرا على الصور المحسوسة الواردة على العقل فأين هذا من التنبؤ الذي هو عبارة عن الإخبار عن الماضي والحاضر والمستقبل والصور المحسوسة والغائبة عن الحس أيضا.

ثالثا : إنّ الوحي عبارة عن انسلاخ البدن عن الروح ، والانسلاخ يعني التجرّد عن المادة تجرّدا تاما ليشاهد من آيات ربّه الكبرى ، وهذا بعكس التخييل فإنه لا يشترط فيه التجرّد عن المادة فقياس التخييل على التنبؤ قياس مع الفارق ، إضافة إلى أنّ الموحى إليه عند نزول الوحي يرى الملك واسطة الوحي ويشاهده ويسمع الصوت ، وأين هذا من التخييل الخارج عن النفس.

قال صدر المتألهين (قدس‌سره) : «إنّ سبب إنزال الكلام وتنزيل الكتاب هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن ، مهاجرة إلى ربها لمشاهدة آياته الكبرى وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى ، وهذا النور إذا تأكد وتجوهر ، كان جوهرا قدسيّا يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسيّ.

وبهذا النور الشديد العقلي ، يتلألأ فيها (أي الروح الإنسانية) أسرار ما في الأرض والسماء ، ويتراءى منها حقائق الأشياء ، كما يتراءى بالنور الحسّي البصري الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب ، والحجاب هاهنا هو آثار

٣٩٢

الطبيعة وشواغل هذا الأدنى. وذلك لأنّ القلوب والأرواح ـ بحسب أصل فطرتها ـ صالحة لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرأ عليها ظلمة تفسدها كالكفر أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها.

وبعبارة أخرى : إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة وظلمات الهوى والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحسّ والخيال وولّت بوجهها شطر الحق ، وتلقاء عالم الملكوت ، اتّصلت بالسعادة القصوى فلاح لها سرّ الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ورأت عجائب آيات الله الكبرى.

ثمّ إنّ هذه الروح ، إذا كانت قدسية شديدة القوى قوية الإنارة لما تحتها ، لقوة اتصالها بما فوقها ، فلا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها ، فتضبط الطرفين ، وتسع قوتها الجانبين ، لشدة تمكنها في الحدّ المشترك بين الملك والملكوت ، لا كالأرواح الضعيفة ، التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر ، وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ، ذهلت عن المشعر الآخر.

فإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن ولا يصرفها نشأة عن نشأة ، وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري ، بل من الله يتعدى تأثيرها إلى قواها ، ويتمثل لروحه البشري ، صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون ، فيتمثل للحواس الظاهرة ، سيّما السمع والبصر ، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة ، فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن والصباحة ويسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة ، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله ، الحامل للوحي الإلهي والكلام هو كلام الله تعالى ، وبيده لوح فيه كتاب هو كتاب الله. وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيل ، كما يقوله من لا حظّ له من علم الباطن ، ولا قدم له في أسرار الوحي والكتاب ، كبعض أتباع المشائين ، معاذ الله عن هذه العقيدة الناشئة عن الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل» (١).

إذن فظاهرة الوحي ليست عملية تخيلية عند النبي بل هي تجربة حيّة يعيشها النبي مع الملك (ناقل الوحي) ، فهي واقع محسوس لا يدركه أي إنسان.

وهناك نظرية أخرى بشأن ظاهرة الوحي نطلق عليها اسم «التكشف الذاتي» مفادها :

__________________

(١) الأسفار : ج ٣ ص ٢٣ ـ ٢٤.

٣٩٣

إن الوحي عند الأنبياء يرجع في واقعه إلى تجلّي وتكشّف الشخصية الباطنة للإنسان الموحى إليه بحيث تظهر آثارها إذا تعطّلت القوى الظاهرية وتخدّرت فعاليتها كما يحصل للنائمين ، فما دامت الروح الإنسانية منشغلة بالبدن ولوازمه فهي منصرفة عمّا وراءه ، فكلما قلّ الانشغال كلّما كثر الاطلاع على عالم الغيب.

يرد على هذه النظرية :

١ ـ ليس كل من تعطّلت قواه الظاهرية بقادر عن تلقّي الوحي الإلهي وإلّا لأصبح عدد الأنبياء هائلا ، مع أننا نسمع الكثير عن المرتاضين الذين انسلخوا عن قواهم الظاهرية بشكل تامّ لكنهم لم يدّعوا أنهم أنبياء يوحى إليهم ، ولا أحد ادّعى أنهم أنبياء.

٢ ـ إنّ المعلومات القيّمة والمعارف الخلقية السامية والقوانين الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء ليست نتاج التكشّف الذاتي لدى الأفراد المنسلخين عن المادة ، وكيف يكون ذلك في حين أن المصدر الوحيد للمعارف الموجودة عند هؤلاء المرتاضين هو الشخصية الظاهرية أو الإيحاءات الجنيّة أو الشيطانية وهي لا تعدو كونها معارف ظاهرية في حين أن ما يأخذه الأنبياء من معارف عبر الوحي يختلف تماما عمّا يأخذه المرتاضون ، والقرآن الكريم أكبر شاهد على أن ما جاء به الأنبياء ليس نابعا من ذواتهم المتكشّفة ، وان ما نزل على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هو إلّا وحي السماء فاض على روحه المباركة.

٣ ـ إنّ أقصى ما تفيده نظرية التكشّف الذاتي هو ظهور بعض المعلومات عند تعطّل القوى الظاهرية كما عند المرتاضين المنعزلين عن صخب المدينة وضوضائها ، فلا يحصل التجلّي عندهم إلّا ضمن شروط معينة وحالة خاصة ولا يحصل في غيرها من الحالات ، في حين أن الأنبياء تظهر لديهم المعلومات من دون الخضوع إلى شروط معينة كما هو معتاد عند المرتاضين ، فظهور المعلومات عند الأنبياء عن طريق الوحي تكون في أقصى حالات تنبههم واشتغالهم بالأمور الاجتماعية والسياسية وغيرها حتى في حال الحرب فإنّ جبرائيل ينزل على النبي ليبلغه أوامر الله تعالى الملقاة عليه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهاتان النظريتان ـ أي نظرية التخيل والتكشف الذاتي ـ من أهم النظريات التي يتشدق بهما الجاهليون القدامى والجدد في مقابل ما هو الحق الصريح في أن ظاهرة تلقي الوحي تعتمد على اتصال النفوس الصافية القوية بعالم المجرّدات

٣٩٤

العالية وتتلقى منها المعارف والعلوم وهي إحدى الطرق لمعرفة عالم ما وراء الطبيعة ـ الميتافيزيقيا ـ وكشف أسراره وخفاياه.

الجهة الخامسة : تعيين النبي :

إنّ النبوة سفارة إلهية تعكس الصفات والأسماء الربانية للعباد لكي يوحّدوه ويطيعوه فيهتدوا ، ولا بدّ في النبي أو السفير عنه تعالى أن يتحلى بالحكمة التامة والعلم الوفير والإحاطة المطلقة ليعبّر ـ من دون نقص أو خلل ـ ما يريد المولى جلّ جلاله وهذا ما يطلق عليه ـ كما سوف يأتي ـ بالعصمة الّتي هي عبارة عن تنزّهه عن كل ما يوجب خللا في القول والفعل والسلوك ، وبما أن العصمة أمرها خفي ليس بمقدور العباد الاطّلاع عليها ولا يمكن للبشر أن يهبوا العصمة لمن شاءوا لأنهم بحاجة لمن يهبهم العصمة والعلم والكمال ، فيكون تعيينها بيده تعالى ، كما أنه لا يحق لأحد أن يرشّح أحدا أو ينتخبه ليكون نبيا أو سفيرا لأنّ التعيين أو الترشيح فرع علم المعيّن بوجود من يصلح للنبوة أو السفارة الإلهية مع أنه لا علم لأحد بذلك إلّا بتعيينه سبحانه وتعالى ؛ وليست السفارة في عصرنا كما هو جار في بلدان العالم اليوم بأعظم من السفارة الإلهية ، فحيث إن تعيين السفير في البلدان إنما يكون بيد حكومته دون استشارة أحد من حكومات العالم كذا السفير الإلهي لا بدّ أن يكون تعيينه بيده تعالى العالم بمن يستحق هذا المنصب الخطير والأمر العظيم ، وبعد أن يعيّن الله سبحانه النبي أو السفير لا خيرة لغيره فيما اختاره تعالى لأنه سبحانه لا يختار القبيح أو الجاهل وليس بحاجة لأن يختار غيره عنه لأنّ ذلك من علائم النقص والحاجة ، فهو عزوجل لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، ولا يحق لأحد أن يختار غير ما اختاره الله تعالى :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب / ٣٧).

وقد مرّ معنا وجه الحكمة في إرسال الأنبياء والرسل والأولياء عليهم‌السلام فبتلك الحكمة يعلم أن الأنبياء والسفراء عباد مخصوصون ومصطفّون بعلمه تعالى يعبّرون عنه ويدلون عليه وعلى العباد أن يسمعوا ويطيعوا ويحرّم عليهم الاعتراض عليهم والتحكّم بهم وبما جاءوا به من أحكام وشرائع وسنن.

٣٩٥

الباب العاشر

النبوة لطف

قال المصنّف (قدس‌سره) :

«إنّ الإنسان مخلوق غريب الأطوار ، معقد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيته وفي عقله ، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة ، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى فمن جهة قد جبل على العواطف والغرائز من حب النفس والهوى والأثرة وإطاعة الشهوات ، وفطر على حبّ التغلب والاستطالة والاستيلاء على ما سواه ، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) و (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)) و (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) إلى غير من الآيات المصرّحة والمشيرة إلى ما جبلت عليه النفس الإنسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية ، خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشده إلى الصلاح وموطن الخير ، وضميرا وازعا يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الإنسانية مستعرا بين العاطفة والعقل ، فمن يتغلّب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاما ، والراشدين في إنسانيتهم ، والكاملين في روحانيتهم ، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة والمتردين إنسانية.

وأشد هذين المتخاصمين مراسا على النفس هي العاطفة وجنودها فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة ومبتعدين عن الهداية ، بإطاعة الشهوات وتلبية نداء العواطف (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين). على

٣٩٦

أن الإنسان لقصوره وعدم اطّلاعه على جميع الحقائق وأسرار الأشياء المحيطة به والمنبثقة من نفسه ، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضره وينفعه ، ولا كل ما يسعده ويشقيه ، لا فيما يتعلق بخاصة نفسه ، ولا فيما يتعلق بالنوع الإنساني ومجتمعه ومحيطه ، بل لا يزال جاهلا بنفسه ، ويزيد جهلا أو إدراكا لجهله بنفسه ، كلما تقدم العلم عنده بالأشياء الطبيعية والكائنات الماديّة.

وعلى هذا فالإنسان في أشدّ الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب والنهج الواضح إلى الرشاد واتباع الهدى ، لتقوى بذلك جنود العقل حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللدود اللجوج عند ما يهيئ الإنسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة. وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عند ما تخادعه العاطفة وتراوغه ـ وكثيرا ما تفعل ـ فتزين له أعماله وتحسّن لنفسه انحرافاتها ، إذ تريه ما هو حسن قبيحا أو ما هو قبيح حسنا ، وتلبّس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم ، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميّز له كل ما هو حسن ونافع ، وكل ما هو قبيح وضارّ ، وكل واحد منا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري إلّا من عصمه الله.

ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدن المثقف ، فضلا عن الوحشي الجاهل ، أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح ومعرفة جميع ما ينفعه ويضرّه في دنياه وآخرته فيما يتعلق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممّن هو على شاكلته وتكاشف معهم ، ومهما أقام ـ بالاشتراك معهم ـ المؤتمرات والمجالس والاستشارات.

فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفا بهم (رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، وينذرهم عما فيه فسادهم ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

إنما كان اللطف من الله تعالى واجبا ، فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم ، فإذا كان المحلّ قابلا ومستعدا

٣٩٧

لفيض الجود واللطف فإنه تعالى لا بدّ أن يفيض لطفه ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه.

وليس معنى الوجوب هنا أن أحدا يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع ... تعالى عن ذلك ، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك : إنه واجب الوجود «أي اللزوم واستحالة الانفكاك».

* * *

من الأدلة على لزوم بعثة الأنبياء قاعدة اللطف ، أي أنّ مقتضى لطفه ورحمته وعدله وحكمته عزوجل وتبارك اسمه أن يبعث للناس رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وينذرهم عمّا فيه فسادهم ويبشّرهم بما فيه صلاحهم ، وقد أشار المصنف إلى فلسفة اللطف ومغزاه بشكل إجمالي وعلينا التفصيل ، لذا لا بدّ من الإشارة إلى عدة نقاط :

النقطة الأولى : معنى اللطف وماهيته :

عرّفه المتكلمون بأنه شيء يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن المعصية ، ولم يكن للمكلّف حظ في التمكين ولم يبلغ حدّ الإلجاء.

فقد اشتمل التعريف على قيود ثلاثة :

الأول : أنّ اللطف مقرّب للطاعة ومبعّد عن المعصية.

الثاني : أن لا يستوجب اللطف حصول التمكين.

الثالث : أن لا يستوجب الإلجاء.

أما القيد الأول :

فيمثّل له ببعثة الأنبياء ونصب الحجج عليهم‌السلام فإنّ بعثتهم وتنصيبهم من قبله تعالى واجب لأنهم مقرّبون إلى الطاعة ومبعدون عن المعصية.

وأما القيد الثاني :

فمعناه : أن يكون المكلّف بدون اللطف متمكّنا من فعل الطاعة وترك المعصية ، وبهذا القيد تخرج القدرة والآلات التي يتمكّن بها من إيقاع الفعل فإنّ هذه جميعها لها حظ في التمكين إذ بدونها لا يمكن إيقاع الفعل ، والمراد من الآلة هي المقدمة التي يتوقف عليها حصول الواجب كالسفر إلى الحج ، فإن السفر مقدمة لحصول الواجب وهو الحج ، فالسفر لا يسمّى لطفا لأنّ له حظا في تمكين

٣٩٨

المكلّف من الحج ، إذ لو لا السفر لما أمكن تحقق الحج خارجا ، هذا بعكس اللطف إذ من دونه يمكن للمكلّف أن يأتي بالتكليف.

وبعبارة أخرى : إن وقوع الفعل الملطوف فيه بدون اللطف ممكن لكن معه يكون الفعل إلى الوقوع أقرب بعد إمكانه الصرف.

أما القيد الثالث :

وشرط عدم استيجاب اللطف الإلجاء ، أنّ الإلجاء ينافي التكليف فيكون اللطف أيضا منافيا له ، لأنّ التكليف عبارة عن إتيان المكلّف للفعل أو الترك له على سبيل الاختيار مع تمكنه من الأمرين ، فالتكليف أخصّ من اللطف لأنّ اللطف أمر زائد على التكليف ، فالمكلّف من دون اللطف يمكنه الإطاعة وعدمها وهذا بخلاف التكليف حيث إذا وجد يتمكن المكلّف من الإطاعة ومن دونه لا يمكنه الإطاعة لأن امتثال التكليف فرع وجوده لذا لا يؤاخذ الجاهل بالحكم قصورا أو كان التكليف غير منجّز في حقه.

وهناك توضيح آخر للفرق بين التكليف واللطف هو :

انّ التكليف إذا تحقق فالعبد يمكن أن يطيع أو لا يطيع وبدون التكليف لا يتمكن من الإطاعة لأن مناط الامتثال وعدمه هو وجود التكليف سواء كان مع اللطف أم لا ، وأما اللطف فلا يناط به الطاعة وعدمها فمن الممكن أن يتمكن العبد منها بدونه لكنه معه يقرب من الامتثال.

النقطة الثانية : أقسام اللطف :

قسّم المتكلمون الشيعة (أيدهم الله تعالى) اللطف إلى قسمين :

الأول : اللطف المقرّب.

الثاني : اللطف المحصّل.

أما الأول :

هو ما أشرت إليه في القيد الأول من التعريف أي هو عبارة عن القيام بما يكون محصّلا لغرض التكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه وذلك كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب بما يستتبع رغبة العبد إلى العمل وبعده عن المعصية ، وهذا داخل ضمن إطار منهج الأنبياء والحجج عليهم‌السلام ، فهم المقرّبون إلى الطاعة والمبعّدون عن المعصية بإرشاداتهم ونصائحهم وزواجرهم ونواهيهم ،

٣٩٩

والفعل أو الترك يوكّلان إلى نفس المكلف ، فله أن يفعل وله أن يترك وإنما هم عليهم‌السلام مشوّقون مقرّبون إلى المبدأ المتعال.

أما الثاني :

وهو ما يحصل بواسطته الطاعة من المكلّف على سبيل الاختيار وهو عبارة عن نفس التكليف ، لأنّ التكليف هو حصوله لا تحصل الطاعة فالصلاة قبل أن يكلّف بها العبد لا يمكن حصول الامتثال ، فباللطف المحصّل تتحقق الطاعة عند العبد ، لأنّ التكليف قبل حصوله لا يمكن أن تحصل الطاعة ، فمن هنا قيل عنه أنه محصّل أي محقق للطاعة ، فقبل التكليف لا يتحقق الإطاعة لأنها فرع التكليف.

النقطة الثالثة : هل اللطف واجب على الله تعالى؟

في المسألة خلاف ، فذهب الشيعة وتبعهم المعتزلة إلى وجوبه وأنكره الأشاعرة.

واستدلّ الشيعة الإمامية بما يلي :

إنّ اللطف يحصّل غرض المكلّف (بالكسر) فيكون واجبا وإلّا لزم نقض الغرض.

بيان الملازمة :

إنّ المكلّف (بالكسر) إذا علم أنّ المكلّف (بالفتح) لا يطيع إلّا باللطف بحيث لو كلّفه من دونه كان ناقضا لغرضه كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه إلّا أن يستعمل معه نوعا من التأدب ، فإذا لم يفعل الداعي إلى ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه ، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض ، وبما أن الغرض من إيجاد الخلق هو وصول الإنسان إلى كماله اللائق به وهو المعرفة كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) كان اللازم بحكمته ورحمته أن يرسل سبحانه لخلقه أناسا مطهّرين يرشدونهم إلى عبادة الله تعالى إذ العقل لا يكفي وحده في السير إليه تعالى ، نعم هو كاف في حجية وجوده عزوجل ، من هنا تجب بعثة الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام بمناط واحد.

ولو لم يفعل الله سبحانه ما يقرّب العباد إليه تعالى كما لو لم يرسل الرسل والسفراءعليهم‌السلام فلا يستحق المكلّف العقوبة لو عصى أوامر المولى ، لأنه لو أراد منه التكليف (أي اللطف المحصّل) ثم لم يبيّنه له كأنه بذلك قد أمضى أن يرتكب

٤٠٠