الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

رأي جديد مستحيل عليه تعالى لأنه على هذا القول يعني أن المشرّع عند ما بدّل رأيه السابق إلى رأي جديد ينتج عنه ظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق عثر عليه متأخرا فأبدل رأيه إلى تشريع آخر ناسخ للأول.

هذا المعنى للنسخ إنما يختص ويقتصر على المشرعين القانونيين الآدميين ولا يشمل ربّ العالمين الذي كله علم وقدرة ولطف وحكمة ، فطبيعة الآدمي الناقص أن يتبدل رأيه لعدم إحاطته بالمصالح والمفاسد الكامنة وراء الأمور ، كل ذلك يستدعي أن تتبدل معلوماته بين الحين والآخر وهذا بخلاف الباري العليم الحكيم المحيط بالسرائر والضمائر والظواهر والبواطن ، فلديه سبحانه إحاطة تامة حضورية بالواقعيات في طول الزمن وعرضه على حد سواء ، فمثل هذا يمتنع عليه الخطأ لأنّ وقوعه في حقه تعالى دليل نقص وعجز وهو منزّه عنهما.

إذن النسخ المنسوب إليه تعالى نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ فيه أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، وأنه تعالى لم يشرّعه حين شرّعه إلا وهو يعلم أن له أمدا ينتهي إليه ، وإنما المصلحة الواقعية اقتضت هذا التشريع المؤقت وقد شرّعه تعالى وفق تلك المصلحة المحدودة من أول الأمر.

من هنا نعرف سرّ علاقة النسخ بالبداء فإنه لا فرق بينهما سوى أن الأول خاص بالتشريع والثاني خاص بالتكوين ، فالنسخ والبداء بمعناهما الباطل أعني تبدّل الرأي أو نشأة رأي جديد ممتنع بالقياس إلى علمه الأزلي ، وأما بمعناهما الثاني الصحيح وهو إخفاء الأمر على المكلفين اختبارا وامتحانا ومصلحة لهم ولطفا بهم ورحمة ، هذا المفهوم لا غبار عليه في الشريعة المقدّسة وضرورة العقل ، إذ إنه ظهور شيء بعد خفائه على الناس ، حيث يتميز النسخ عن البداء ، ان النسخ عبارة عن ظهور أمد حكم كان معلوما عنده تعالى خافيا على الناس ، والبداء ظهور أمر أو أجل من حياة كائن أو موته وما إلى ذلك كان محتّما عنده تعالى بعلمه الذاتي ولكنه كان خافيا على الناس ثم بدا لهم أي ظهرت لهم الحقيقة بعد خفائها عليهم.

ويفترق النسخ عن البداء ؛ أن النسخ شامل للأحكام التشريعية التقنينية من دون استثناء إذا اقتضت المصلحة ذلك أما البداء فلا يشمل المحتوم وما في اللوح المحفوظ.

٣٦١

وبعبارة : إنّ البداء يقتصر على ما في لوح المحو والإثبات «القدر» دون القضاء المبرم المحتوم.

إنكار اليهود للبداء :

هذا وقد أنكر اليهود البداء والنسخ مدّعين بذلك أنه تعالى قدّر الأرزاق والأشياء منذ الأزل فلا تغيير ولا تبديل فيما قدّر فقد «جف القلم».

وقد قصّ علينا القرآن الكريم معتقدهم الفاسد بقوله حكاية عنهم (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (المائدة / ٦٥).

وذكر الشهرستاني عنهم أنهم قالوا :

«إن الشريعة لا تكون إلّا واحدة ، ابتدأت بموسى وتمت فلم يكن قبله شريعة إلّا حدود عقلية وأحكام مصلحية ولم يجيزوا النسخ أصلا فلا يكون بعده شريعة أصلا لأنّ النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء عليه تعالى» (١).

ووافقهم من المسلمين أبو مسلم الخراساني من أهل أصفهان كان عالما من علماء العامة ومن أكابر مفسّريهم (٢).

والسر في إنكارهم للبداء والنسخ يرجع إلى أمرين :

الأول : إعطاء المبرّر لتصرفاتهم الرعناء وأن ما يقومون به فهو ماض عنده تعالى منذ الأزل وفي اللوح المحفوظ.

الثاني : تثبيطهم للنصارى والمسلمين عن التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، فبذلك يكونوا قد مهدوا للغزو اليهودي للعالم ، لأن الاعتراف بالنسخ يعني أن الشريعة المحمدية والعيسوية تلغيان تصرفاتهم الظالمة ، وهذا لا يرتضيه الفكر اليهودي وكذا القول بالبداء فإنه يعني بنظرهم توجه الفرد المؤمن به تعالى إلى مناهضة الظلم والاستبداد ، وهذا ما يرفضه اليهود لأنه حجر عثرة في تنفيذ مخططاتهم الاستعمارية.

استدلال اليهود على استحالة النسخ التشريعي :

استدلوا عليه بما يلي :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٢١١.

(٢) مبادي الأصول للحلي : ص ١٧٥.

٣٦٢

إنّ رفع الحكم الثابت لموضوعه إمّا أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها وهذا ينافي حكمه الجاعل مع أنه تعالى حكيم مطلق. وإمّا أن يكون من جهة البداء وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين العرفية وهو يستلزم الجهل منه تعالى ، وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لأنه يستلزم المحال.

يجاب عليه :

أولا : إن النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة كما لا يلزم منه البداء المحال في حقه تعالى ، لأن معنى النسخ ارتفاع الحكم المجعول المقيّد بزمان معلوم عند الله ومجهول عند الناس ، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لأجل انتهاء أمده الذي قيّد به ، ومن المعلوم أن للزمان دخالة في مناطات الأحكام فيمكن أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين لا يخلو عن تلك المصلحة بعد انتهائها.

ثانيا : إنّ النسخ وإن أنكره اليهود في الظاهر تلبيسا على غيرهم من بقية الأمم إلّا أن كتاب التوراة مشحون بموارد النسخ منها ما جاء فيه : ان الله تعالى قال لنوح عليه‌السلام عند خروجه من الفلك (أي السفينة) إني جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريّتك وأطلقت لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه (١).

ثم حرّم الله تعالى على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.

وجاء فيه : أن الله تعالى أمر آدم عليه‌السلام أن يزوّج بناته من بنيه ثم حرّم ذلك في شريعة من بعده.

وأيضا كان العمل يوم السبت مباحا ثم حرّمه عليهم (٢).

وكان الختان في شرع إبراهيم جائزا بعد الكبر ثم صار واجبا يوم ولادة الطفل في شرع موسى (٣).

ولعلّ إنكارهم للنسخ مع وجوده في التوراة راجع إلى عدم جواز نسخ الشريعة اللاحقة لشريعة موسى ـ كشريعة النبيّين الكريمين عيسى ومحمد عليهما‌السلام ـ فشريعة موسى بنظرهم ناسخة غير منسوخة. ومع هذا فالإشكال وارد عليهم وهو

__________________

(١) سفر التكوين : الإصحاح ٩.

(٢) سفر التثنية : إصحاح ٥.

(٣) مبادي الأصول للحلي : ص ١٧٧.

٣٦٣

اعترافهم واعتقادهم بوجود نسخ سواء أكان ذلك في الشرائع المتقدمة على شريعتهم أم كان في شريعتهم الناسخة.

استدلال اليهود على استحالة البداء التكويني :

قالوا إنّ الله سبحانه فرغ من الأمر. فلا يحدث غير ما قدّره في التقدير الأول ، وجفّ القلم بما كان ولا يمكن التغيير ولا التبديل فيما قدّر ، وقالوا إن يده سبحانه مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والإعطاء.

والجواب :

أولا : إنّ اعترافهم بأنه تعالى فرغ من الأمر يعني التسليم بفكرة الجبر وقد تقدم بطلانها.

ثانيا : من الغرابة التزامهم بسلب القدرة عن الله تعالى فلا يقدر على القبض والبسط في حين لم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد. مع أن الملاك في كليهما واحد ، فقد تعلّق العلم الأزلي بأفعال الله تعالى وبأفعال العبيد على حدّ سواء (١).

النقطة الثالثة : حقيقة البداء :

قد عرفنا أن البداء يقع في القضاء غير المحتوم «القدر» وأما المحتوم منه فلا يتخلّف ، وقد ثبت في الآيات والأخبار أن لله تعالى لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات.

فاللوح الأول : لوح المحو والإثبات المعبّر عنه بالقدر وقد كتب فيه الآجال والأرزاق وجميع ما يكون واقعا في العالم وهذه الأمور معلّقة على الأسباب والشروط وفي هذا اللوح يقع التغيير والتبديل مثلا : كتب أنّ عمر زيد عشرون سنة إن لم يصل رحمه ، وإن وصل رحمه فعمره ثلاثون سنة ، وإنّ رزق زيد في هذه السنة مائة ألف درهم إن لم يسع السعي الفلاني وإن سعى فيه فرزقه ألف ألف درهم ، وكذلك جميع الكائنات في العسر واليسر ، فهذا اللوح هو نفسه الذي وصف سبحانه به نفسه بأنّه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن / ٣٠).

اللوح الثاني : اللوح المحفوظ المعبّر عنه ب القضاء المحتوم. وكتب فيه الكائنات مع علمه بها منذ الأزل ، وهذا العلم المكتوب مطابق لما يقع ولا يتغير

__________________

(١) البيان للخوئي : ص ٣٨٧.

٣٦٤

ولا يتبدل بوجه من الوجوه لأنّ علمه مربوط بالأسباب والمسببات وهو عالم بوقوع الأسباب أو عدم وقوعها لأنه قد علم أنّ زيدا مثلا يصل رحمه فيكون عمره كذا ، ويعلم أيضا أنّ زيدا لن يصل رحمه فعمره كذا في اللوح المحفوظ ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الكائنات فهو عالم بمصيرها منذ الأزل وهذا العلم كتبه في اللوح المحفوظ.

وهذا ما ورد في بعض الأخبار لو صحت نسبته من أنه تعالى أمر القلم أن يكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وجفّ القلم بما فيه فلن يكتب بعد أبدا.

وقد وردت النصوص على أن لله علمين ، علما علّمه الله ملائكته ورسله ، فما علّمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذّب نفسه. ولا ملائكته ولا رسله ، وعلما مخزونا لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء.

وقد أجاب علماء الإمامية «رضوان الله تعالى عليهم أجمعين» بالجواب الروتيني حيث حملوا البداء على الأمور الموقوفة على أمره عزّ اسمه ، وقالوا إن الرسل والأئمة عليهم‌السلام يعلمون ما في لوح القضاء دون لوح القدر بمعنى أن روح النبي أو الولي تتصل بلوح المحو والإثبات فتقف على المقتضي دون الشرط أو المانع ، فيخبر عن وقوع شيء ما ولكنه لا يتحقق لأجل عدم تحقق شرطه أو عدم وجود مانعه. وبعبارة أن النبي أو الولي عالم بالمقتضي دون الشرط أو المانع ، ويمثّلون على ذلك بما ورد من حديث العروس التي زارها النبي عيسىعليه‌السلام. وقال لحوارييه أنها تموت من غد ثم لم تمت لأجل صدقة تصدقت بها العروس في ليلتها (١) ، وما ورد في قصة الحطّاب اليهودي الذي أخبر عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سيموت نتيجة عضة الأفعى له ثم لم يمت (٢).

ولكننا نجيب بجواب آخر غير مألوف عندهم به ننزّه الرسل أولي العزم لا سيما نبينا محمد وعترته الطاهرة فنقول :

إنّ النبي والأئمة عليهم‌السلام معادن علم الله تعالى ، فعندهم الإحاطة العلمية التامة بقدرة الملك العلّام ، فإذا كان غيرهم من الأنبياء يجهلون ما في لوح القدر

__________________

(١) البحار : ج ٤ ص ٩٤.

(٢) البحار : ج ٤ ص ١٢٢.

٣٦٥

فلا يعني هذا قياس النبي والأئمة عليهم.

فما ورد «من أن عنده العلم المخزون الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه» وإن كان ظاهره الإطلاق أو الشمول لكنه لا يشمل النبي والأئمة إذ ما من عام إلّا وقد خصّ ، وما من مطلق إلّا وله مقيّد.

فالولي عليه‌السلام يقف على المقتضي والشرط وأجزاء العلة التامة ولكنه غير مأمور بالكشف عن الشرط لحكمة الدعاء أو لدفع شبهة الغلوّ إذ لو أخبر بشيء بكل تفاصيله لاتخذوه ربّا من دون الله تعالى.

وبعبارة أخرى : إن الأمور الموقوفة عنده تعالى التي يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، فهو عزوجل عالم به وقد أعلم وليّه بذلك إلّا أن الولي أخبر بالمقتضى دون شرطه لمصلحة هم أعلم بها منا ، وإن شئت قلت : إنهم عليهم‌السلام أخبروا عن الأمر بحسب علته الناقصة مع العلم بعلته التامة ووقوعها أو عدم وقوعها ، وخبر المروزي المتقدم وإن كان ظاهره الإطلاق بعدم الاطّلاع على علمه المخزون إلّا أنه يستثنى منه المعصومون عليهم‌السلام الذين اختصهم تعالى بمعدن علمه ، إضافة إلى معارضته بنصوص كثيرة دالّة على أن ما قدّره تعالى من الآجال والأرزاق والخير والشر وكل ما هو قابل للتغيير والتبديل أنزله تعالى على إمام كل عصر في ليلة القدر من كل سنة ، ويشهد له ما ورد بالمستفيض من أنهم عليهم‌السلام لو لا آية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ...) لأخبروا الناس بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي صريحة في عدم الإذن والرخصة لهم في بروزها كلية للناس لوجود مصلحة في سترها أو مفسدة في كشفها لهم لذا ورد عنهم عليهم‌السلام أنهم قالوا :

«لو كانت لألسنتكم أوكية لحدّثت كلّ امرئ بما له وعليه» (١).

علاوة على ذلك فإنّ الخبرين المتقدّمين عن النبي محمد وعيسى عليهما‌السلام وقصتهما مع الحطّاب والعروس ينسبان الجهل للنبي بالموضوعات الصرفة ، فالأخذ بهما بناء على عدم حضورية علم النبي وشموليته للموضوعات الصرفة ، أما بناء على حضورية وشمولية علوم النبي والأئمة عليهم‌السلام والأنبياء أولي العزم فلا يتم ما ذكروه أصلا.

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٦٤ ح ١ وبصائر الدرجات.

٣٦٦

فإذا وقفت على معنى البداء الصحيح الذي تعتقده الإمامية فسوف تدرك ضعف ما نسبه الرازي للشيعة الإمامية في تلخيص المحصّل (١) : قال : إنّ أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظفر معهما أحد عليهم :

الأولى : البداء ـ فإذا قالوا : أنه سيكون لهم قوة وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا : بدا لله تعالى فيه.

الثانية : التقية ـ فكلما أرادوا شيئا تكلموا به ، فإذا قيل لهم هذا خطأ أو ظهر لهم بطلانه ، قالوا : إنما قلناه تقية.

ينقض عليه :

أولا : لا ندري من أين أخذ الرازي هذا التفسير للبداء مع أن كتب علماء الإمامية لا سيما المتقدمين منهم كالصدوق والمفيد والطوسي (هؤلاء الثلاثة كانوا متقدمين على الرازي) كتبهم مشحونة بالتبري من البداء المستحيل عليه تعالى ، وكان الأحرى بالرازي أن ينظر هو وأمثاله بعين الإنصاف لا الاعتساف إلى ما قاله الإمامية في عصره أو ما قبله لا سيما مع وجود عالم (٢) من علماء الإمامية كان معاصرا للرازي في بلدته الري ، إضافة إلى أن المسافة بين مدنية الري (التي كان يقطنها الرازي) وقم حدود ١٧٠ كيلومترا فلم لم يتباحث المذكور مع علماء قم قبل أن يصدّر اتهاماته البغيضة على الشيعة.

ثانيا : ليس الشيعة هم المتفردين بالقول بالبداء الصحيح فقد ورد في أخبار العامة ما يدلّ على البداء بالمعنى الذي قالت به الشيعة ، فقد رووا أن النبي قال بشأن الأقرع والأبرص والأعمى : بدا لله عزوجل أن يبتليهم أي قضى بذلك (٣) ، وهو معنى البداء هاهنا لأن القضاء سابق.

ثالثا : ادعاؤه أنّ الشيعة يأخذون بالتقية مطلقا ، هذا غير صحيح بل كذب وافتراء لأن الشيعة كغيرهم من الشعوب والأمم التي تعمل بالتقية حال خوف الضرر على النفس أو العرض حتى الرزي نفسه يعمل بالتقية حال الخوف ، والعمل بها قد شرّعه الله سبحانه في كتابه الكريم وقامت عليه الأدلة العقلية

__________________

(١) ص ٤٢١.

(٢) هو الشيخ سديد الدين الحمصي مؤلف كتاب «المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد».

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٢٤ نقلا عن النهاية لابن الأثير.

٣٦٧

المحكمة ، فإنكار مبدأ التقية يعدّ مكابرة واضحة وتمردا على الحق بمحض التقليد والعصبية ، واتهامه أئمة الشيعة أنهم أطلقوا لشيعتهم العنان بالأخذ بالتقية ما هو إلّا افتراء واضح وكذب صريح اجترحه المذكور على أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، فالشيعة مجمعة على عدم جواز العمل بالتقية في غير حالات الضرر المتوجه على الأنفس والأعراض.

شبهة وجواب :

قلتم إن الشيعة ينكرون البداء المستحيل عليه تعالى ولكن ما ذا تفعلون بما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال :

«ما بدا لله بداء أعظم من بداء له في إسماعيل ابني» (١).

لكن يقال :

أولا : إن هذا الخبر من الآحاد التي لا تصلح لمعارضة أخبار كثيرة نافية للبداء المستحيل عليه تعالى ، والخبر الواحد لا سيما في باب الاعتقاديات لا يفيد علما ولا عملا.

ثانيا : إنّ هذا الخبر منقول من كتاب زيد النرسي وهو مختلف فيه عند علماء الرجال ولم يثبت صحة اعتبار الكتاب عندهم لما فيه من أمور تنكره الإمامية كنزوله تعالى إلى السماء الدنيا (تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا).

ثالثا : على فرض صحة الحديث المزبور فمعناه : أنّ الإمامة في علمه تعالى هي للإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ولكنه تعالى أمر بإخفاء هذا الأمر لأحد أمرين :

إما خوفا عليه من بني أميّة وبني العبّاس فاقتضت المصلحة أن تتوجه الأنظار نحو إسماعيل من أجل حفظ الإمام الكاظم عليه‌السلام من الأخطار المحدقة به.

وإما لأنّ البعض كان يعتقد بأنّ الإمامة لا تكون إلّا للابن الأكبر ، فلمّا توفي إسماعيل في حياة أبيه ظهر أنه ليس بإمام من الله سبحانه أظهر بموته بطلان ما كان يظنه أو يعتقده بعض الناس بأنه الإمام دون مولانا الكاظم عليه‌السلام.

رابعا : إن هذه الرواية منافية لما استفاض في الأخبار بين الفريقين من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على خلفائه الاثني عشر واحدا بعد واحد بأسمائهم وأنّ جبرائيل عليه‌السلام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٢٢ ح ٦٩.

٣٦٨

نزل بصحيفة من السماء فيها أسماؤهم واحدا بعد واحد فكيف تصحّ هذه الرواية؟ وما حملة التشنيع على الشيعة الإمامية بالأكاذيب والافتراءات إلّا لأنهم أتباع العترة الطاهرة التي أمر الله سبحانه باتباعها ، ومن المشنعين صاحب كتاب بذل الجهود في مشابهة الرافضة لليهود حيث تجرأ على الله ورسوله وأوليائه عليهم‌السلام بافتراءاته على الإمامية بهتانا وزورا ، وما تهكّم هذا الكاذب المنافق سوى أراجيف أوحى بها إليه ساداته من اليهود والنصارى الذين يكيدون للإسلام والمسلمين ويفرّقون شعثهم ، فويل له مما كتبت يداه ، وويل له من عذاب يوم عظيم ، ونفوّض أمورنا الى الله ، إن الله بصير بالعباد. (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت / ١٤) (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٧) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٨)) (العنكبوت / ١٧ ـ ١٨) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء / ٢٢٨).

النقطة الرابعة : الحكمة من البداء :

للبداء حكم كثيرة منها :

١ ـ أن يراد من تشريعه أنه سبحانه أراد من خلقه أن يعيشوا الجهل بالحوادث المستقبلية ليقوموا بواجب حياتهم بهداية من الأسباب العادية ، وليكونوا دائما بين حالتي الخوف والرجاء ، وظهور الحوادث المستقبلية بتمام ظهورها يفسد هذه الغاية الإلهية ، لذا قال مولانا الإمام زين العابدين عليه‌السلام : لو لا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة وهي قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

فسبب الكف عن التحديث هو ما ذكرناه آنفا لا الخوف من أن يكذّبه الله فإنه مأمون منه. هذا الوجه اختاره العلّامة الطباطبائي في تفسيره (١) وبه نقول أيضا :

٢ ـ إنّ القول بالبداء يترتّب عليه أثر تربوي كبير هو بعث الرجاء والأمل في

__________________

(١) ج ١١ / ٣٨١.

٣٦٩

القلوب فيحثهم ذلك على العمل الدءوب الجاد ، فإنكار البداء الصحيح والالتزام بنقيضه يترتب عليه اليأس والقنوط وهذا مما لا يرتضيه المولى جل وعلا.

٣ ـ كون البداء ردا على اليهود الذين يقولون : إن الله تعالى قد فرغ من الأمر وردّا على بعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده ، والتقدم إنما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها. وردا على الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية وبأن الله تعالى لم يؤثر حقيقة إلّا في العقل الأول فهم يعزلونه تعالى عن ملكه وهذا شبيه بمقالة المفوضة الذين يعتقدون أن الله تعالى فوّض أعمال العباد إلى أنفسهم وهو في شغل عنهم تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا وما قدروه حقّ قدره ، فردّ الله تعالى على كلا الطائفتين بقوله عزّ اسمه : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن / ٣٠).

٤ ـ ليرتبط العباد بواجب الوجود عن طريق التضرّع والدعاء والذلّة والمسكنة أمامه سبحانه ، ولو لا أنه تعالى كل يوم في شأن من إعدام وإحداث آخر ، إماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك لتركوا التضرّع إلى الله تعالى ومسألته وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح أمورهم.

٥ ـ ليطلع ملائكته العظام الكاتبين في اللوح المحفوظ والمطلعين على لطفه تعالى بعباده وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقونه فيزدادوا به معرفة.

٦ ـ ليعلم عباده بأخبار رسله وحججه عليهم‌السلام أن لأفعالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح أمورهم ولأعمالهم السيئة تأثيرا في فسادها فيكون داعيا لهم إلى الخيرات صارفا لهم عن السيئات.

٧ ـ أن يكون تشديدا على العباد في التكليف وتسبيبا لمزيد الأجر لهم كما في سائر ما يبتلي الله تعالى عباده من التكاليف الشاقّة ، لأنّه عزّ اسمه إذا أخبر عباده على لسان أنبيائه وأوليائه من كتاب المحو والإثبات بأمر ثم أخبروا بخلافه يجب على العباد الإذعان بالحكم الثاني وترك الحكم الأول كما في قضايا النسخ وما شابه ذلك وهذا كاف لمزيد الثواب والأجر.

٨ ـ أن تكون أخبار البداء مسلّية للمؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله وغلبة الحق وأهله كما روي في قصة النبي نوح عليه‌السلام حين أخبر بهلاك القوم ثم أخبر ذلك مرارا. وكما روي في فرج أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وغلبتهم ، لأنهم عليهم‌السلام لو كانوا أخبروا الشيعة في أول ابتلائهم باستيلاء المخالفين وشدّة محنتهم أنه ليس

٣٧٠

فرجهم إلّا بعد ألف سنة ليئسوا ورجعوا عن الدين ، ولكنهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج ، وربما أخبروهم بأنه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة ليثبتوا على الدين ويثابوا بانتظار الفرج. هذه أهم الوجوه في حكمة البداء فظهر بذلك أهمية وتأثير لوح المحو والإثبات في حصول بعض الأعمال خيرها وشرّها.

النقطة الخامسة : أقوال علماء الإمامية في مسألة البداء :

١ ـ قال الشيخ المفيد (قدس‌سره) :

قول الإمامية في البداءة طريقه السمع دون العقل ، وقد جاءت الأخبار به عن أئمة الهدى عليهم‌السلام ، والأصل في البداء هو الظهور ، قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر / ٤٨) ، يعني به ظهر لهم من أفعال الله تعالى بهم ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم وقال : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ) (الزمر / ٤٩) يعني ظهر لهم جزاء كسبهم وبان لهم ذلك ، وتقول العرب قد بدا لفلان عمل حسن وبدا له كلام فصيح كما يقولون بدا من فلان كذا فيجعلون اللام قائمة مقامه ، فالمعنى في قول الإمامية ، بدا لله في كذا أي ظهر له فيه ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه ، وليس المراد منه تعقب الرأي ووضوح أمر كان قد خفي عنه وجميع أفعاله تعالى الظاهرة في خلقه بعد أن لم تكن فهي معلومة فيما لم ينزل ، وإنما يوصف منها بالبداء ما لم يكن في الاحتساب ظهوره ولا في غالب الظن وقوعه ، فأما ما علم كونه وغلب في الظن حصوله فلا يستعمل فيه البداء ، وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ، فإنما أراد به ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفا عليه من ذلك مظنونا به فلطف له في دفعه عنه وقد جاء الخبر بذلك عن الصادق عليه‌السلام فروي عنه أنه قال : كان القتل قد كتب على إسماعيل مرتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه ، وقد يكون الشيء مكتوبا بشرط فيتغير الحال فيه قال الله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).

فتبين أن الآجال على ضربين :

ضرب منها مشترط فيه الزيادة والنقصان ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (فاطر / ١٢) وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف / ٩٧) ، فبيّن أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع بالفسوق ، وقال تعالى فيما خبّر به عن نوح عليه‌السلام في خطابه لقومه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١١) يُرْسِلِ السَّماءَ

٣٧١

عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١٢)) (نوح / ١١ ـ ١٢) ، فاشترط لهم في مدّ الأجل وسبوغ النعم الاستغفار فلمّا لم يفعلوه قطع آجالهم وبتر أعمارهم واستأصلهم بالعذاب ، فالبداء من الله تعالى يختص بما كان مشترطا في التقدير وليس هو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة ولا من تعقب الرأي ، تعالى الله عمّا يقول المبطلون علوّا كثيرا وقد قال بعض أصحابنا أن لفظ البداء أطلق في أصل اللغة على تعقب الرأي والانتقال من عزيمة إلى عزيمة ، وإنما أطلق على الله تعالى على وجه الاستعارة كما يطلق عليه الغضب والرضا مجازا ، وإن هذا القول لم يضر بالمذهب إذ المجاز من القول يطلق على الله تعالى فيما ورد به السمع ، وقد ورد السمع بالبداء على ما بيّنا الخ ... (١).

٢ ـ قال الشيخ الصدوق (قدس‌سره) :

ليس البداء كما يظن جهّال الناس بأنه بداء «ندامة تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا» ، ولكن يجب علينا أن نقرّ لله عزوجل بأن له البداء ، معناه أن له أن يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل شيء ثم يعدم ذلك الشيء ، ويبدأ بخلق غيره أو يأمر بأمر ثم ينهى عن مثله أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه ، وذلك مثل نسخ الشرائع وتحويل القبلة وعدة المتوفى عنها زوجها ، ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت ما إلّا وهو يعلم أن الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك الخ (٢) ...

٣ ـ قال الشيخ الطوسي :

البداء حقيقة في اللغة هو الظهور ولذلك يقال : بدا لنا سور المدينة وبدا لنا وجه الرأي وقال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (الجاثية / ٣٤) ، (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) (الزمر / ٤٩).

ويراد بذلك كلّه «ظهر» وقد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا وكذلك في الظن ، فأما إذا أضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز ، فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه ويكون إطلاق ذلك عليه ضربا من التوسع وعلى هذا يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهم‌السلام من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى الله تعالى دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن الخ (٣) ...

__________________

(١) شرح عقائد الصدوق : ص ١٩٩ ـ ٢٠٠ ط تبريز ، وج ٥ / ٦٥ من مجموعة الشيخ المفيد.

(٢) راجع كتاب التوحيد : ص ٣٣٥ للصدوق (قدس‌سره).

(٣) لاحظ : العدة : ج ٢ ص ٢٩ وهامش البحار : ج ٤ ص ١٢٥.

٣٧٢

الباب الثّامن

عقيدتنا في أحكام الدين

قال المصنف المظفر (قدس‌سره) :

«نعتقد أنه تعالى جعل أحكامه من الواجبات والمحرّمات وغيرهما طبقا لمصالح العباد في نفس أفعالهم. فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجبا ، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه ، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه .. وهكذا في باقي الأحكام ، وهذا من عدله ولطفه بعباده. ولا بدّ أن يكون له في كل واقعة حكم ، ولا يخلو شيء من الأشياء من حكم واقعي لله فيه وان انسد علينا طريق علمه ونقول أيضا أنه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة أو ينهي عمّا فيه المصلحة ، غير أن بعض الفرق من المسلمين يقولون : إن القبيح ما نهى الله تعالى عنه والحسن ما أمر به ، فليس في نفس الأفعال مصالح أو مفاسد ذاتية ولا حسن أو قبح ذاتيان.

وهذا قول مخالف للضرورة العقليّة ، كما أنهم جوّزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بما فيه المفسدة أو ينهى عمّا فيه المصلحة. وقد تقدم أن هذا القول فيه مجازفة عظيمة ، وذلك لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز إليه سبحانه وتعالى علوّا كبيرا.

والخلاصة : أن الصحيح في الاعتقاد أن نقول : أنه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكاليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرّمه ، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف ، ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهيّ عنها ، فإنّه تعالى لا يأمر عبثا ولا ينهي جزافا وهو الغنيّ عن عباده».

* * *

٣٧٣

قسّم العلامة المظفر عليه الرحمة بحثه في هذا الباب إلى نقطتين :

الأولى : إن كل حادثة أو واقعة تبتلى بها الأمة لها حكم شرعي.

الثاني : إن التكاليف معلّلة بالأغراض.

أما النقطة الأولى : فيستدل عليها من الكتاب :

١ ـ قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل / ٩٠).

«فكل» من أدوات العموم فما من شيء إلّا وله حكم في كتابه المجيد وإدراكه بحسب إشراق القلوب وتنوير العقول والاتكال عليه تعالى والغوص في كلمات العترة الذين هم ألسنة الكتاب المبين.

٢ ـ قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء / ٨٤).

فما من أمر أو موضوع في حالتي العسر أو اليسر أو الشدة والضيق وفي كل حال إلّا وله حكم مترتب عليه ، وهذا الحكم موجود في كتاب الله تعالى يعلمه الرسول وعترته الطاهرة ومن دونهم ممن تمسك بذيلهم واقتبس من وهجهم ، وإذا وجد فقيه يفتي بالاحتياط أو لا رأى له في مسألة معيّنة فلا يعني هذا أنه لا حكم لها في الكتاب أو السنة وإنما لم يصل إليه فهم الفقيه وفراسته. فتأمل.

ومن السنة المطهرة :

١ ـ عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أيها الناس ان الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنزل إليه الكتاب بالحقّ وأنتم أميّون عن الكتاب ومن أنزله ، وعن الرسول ومن أرسله على حين فترة من الرسل. وطول هجعة من الأمم وانبساط من الجهل ...» ، إلى أن قال عليه‌السلام : «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخبركم عنه ، ان فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلّمتكم (١).

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة بن

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٦٠.

٣٧٤

ميمون ، عمّن حدثه عن المعلّى بن خنيس قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزوجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال (١).

والمراد من «لا تبلغه عقول الرجال» أن كل الأحكام موجودة ، يهتدي إليها من وفّقه الله سبحانه وإلّا فهي موجودة يعلمها الذين يعرفون الكتاب كما يعرفون أبناءهم ، فعقول الرجال متفاوتة بحسب تفاوت المدارك والدرجات العلمية والروحية.

٣ ـ عن عبد الأعلى بن أعين قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قد ولدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وفيه خبر السّماء وخبر الأرض ، وخبر الجنّة وخبر النار ، وخبر ما كان وما هو كائن ، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي ، إنّ الله يقول : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢).

٤ ـ وعن مرازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء ، حتى والله ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد أن يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلّا وقد أنزله الله فيه (٣).

٥ ـ وعن سليمان بن هارون قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ما خلق الله حلالا ولا حراما إلّا وله حدّ كحدّ الدار فما كان من الطريق فهو من الطريق ، وما كان من الدار فهو من الدار ، حتى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف الجلدة (٤).

٦ ـ وعن حمّاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة(٥).

إلى غيرها من النصوص الواضحة والصريحة ، إضافة إلى أن ضرورة العقل

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ ص ٦١.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ٦١.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ٥٩ ح ١.

(٤) أصول الكافي : ج ١ ص ٥٩ ح ٣.

(٥) نفس المصدر : ح ٤.

٣٧٥

حاكمة على كل دين لا يلبّي حاجات أتباعه ومريديه هو ناقص ، وحيث إن الإسلام دين متكامل بقوانينه ودساتيره ونظمه وأحكامه فهو ناسخ لكل الشرائع المتقدمة عليه ، فبحكم هذا كله لا بدّ أن يكون الإسلام حاضرا للجواب عن كل مسألة ، وأن يعطي لكل شبهة حلّا ، ولكل واقعة حكما وإلّا اعتبر ناقصا بحاجة إلى من يكمله فيكون منسوخا لا ناسخا ومحكوما لا حاكما ، ومحتاجا لا غنيا.

وفي هذه النقطة لا بدّ من توضيح أمرين :

الأمر الأول : ماهية الحكم :

إن الحكم هو الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال المكلّفين ، وهو حاجة ملحّة لتعيين الوظيفة السلوكية للفرد والجماعة لئلا ينغمر كليا بمشتهيات الطبيعة ناسيا لذكره تعالى والفوز بلقائه.

وبعبارة : الحكم هو التقنين الصادر منه تعالى لتنظيم حياة البشر ، وقد تنبّه الإنسان إلى نوع تحقق من هذا القبيل في الوظائف المولوية والحقوق الدائرة بين الناس ، فإنّ الموالي والرؤساء إذا أمروا بشيء فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين ويقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل وتقييدا لا يسعهم معه الانطلاق ، وكذلك مالك سلعة معيّنة أو ذو حقّ معين كأنّ بينه وبين سلعته نوع التئام واتصال بحيث يمنع أن يتخلل غيره بينه وبين سلعته بالتصرف فيها ، فلو نازعه أحد ما عليها ليتملّكها كأنّ يدعيها لنفسه دون صاحبها الأصلي ، فهو بعمله يكون قد استوهن هذا العقد والإحكام لأنّ الحكم لغة العلم والفقه والقضاء بالعدل ، فالحكم يولّد هذه الأمور الثلاثة بحيث يربط المكلّفين المتمسكين به من أن يسترسلوا بمشتهياتهم كيفما كان ، لذا فالحكم منه الحكمة وهي علم يرفع الإنسان عن فعل القبيح مستعار من حكمة اللجام وهي ما أحاط بحنك الدابة يمنعها الخروج.

فبذا يعرف أن الحكم هو قيد يمنع الإنسان من الانفلات والاسترسال في الشهوة ، لذا ترى كل العقلاء يسنّون أحكاما وضعية يقيّدون بها الإطلاق في تصرفاتهم التي ربما تؤدي إلى اختلال في نظم حياتهم ومعاشهم ، لذا لا تخلو أمة من تقييد نفسها بقوانين معيّنة حذرا من الانفلات والاختلال ، لتكون أمة منظّمة العلائق والسنن ، وهذا أمر فطري جرى عليه المخلوق الأرضي ، فالمتدبر بتصرفات بعض الحشرات يرى بوضوح العلاقة الغريزية المستحكمة فيما بينها ،

٣٧٦

فالنمل مثلا بخططه الهندسية الرائعة في كيفية سيره بانتظام وقانون محكم تجعل الفرد مدهوشا ، وكذا ما نعلمه عن النحل حيث تحكمهم علاقات وقوانين خلّاقة يسيرون على وفقها بما هداهم الله تعالى من الفهم والإدراك كلّ بحسبه.

وقس عليه الأحكام المنظّمة الدائرة بين الطيور حيث تبهر العقول والألباب.

الأمر الثاني : هل الحكم منحصر به تعالى.

قد قلنا ان الحكم هو التقنين والتشريع الصادر منه تعالى إلى العباد وهذا بالنظر الأولي وبالأصالة منحصر به تعالى إذ لا يحق لأي كان أن يشرّع للبشرية قوانين تسير على وفقها إذ لا نجد بين كل الأقوام التي سنّت لمجتمعاتها قوانين اتفقت فيما بينها على حكم أو قانون واحد ، بل إنك تجد التفاوت والتهافت في قانون كل بلد يختلف عن قوانين البلد الآخر ، مما يجعل من القانون أو الحكم مجرّد أداة للحكّام يلعبون به كما يشاءون بل الحكم أو القانون الذي يحفظ أفراده هو القانون النازل من عند علّام الغيوب فتكون البشرية كلها على نسق واحد في أحكامها وقوانينها مما يجعل من الأفراد في كل عصر ومصر أمة واحدة يعبدونه لا يشركون به شيئا.

والتدبّر في كلامه تعالى يدفع بنا أن نعتقد أن القرآن يرى أن الحكم مختص به تعالى وليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم ووضعه في المجتمع الإنساني قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (يوسف / ٤١) ، والحكم لا بدّ أن يكون جاريا على مقتضى الخلقة والفطرة قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم / ٣١).

وذلك لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (المؤمنون / ١١٦) بل خلقهم لأغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها بحسب فطرتهم ، ويسيرون إليها بحسب ما جهّزهم به من الأسباب والأدوات وهداهم إليه من السبيل الميسّر لهم قال تعالى : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (عبس / ٢١).

فالذي يتعيّن للإنسان من الأحكام والسنن هو الذي يدعوه إليه الكون العالمي الذي هو جزء حقير منه ، وقد جهّز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال ، فهذا الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض ، هو مركب إرادة الله تعالى والحامل للشريعة الفطرية الإنسانية.

فالدين الحق هو حكم الله تعالى وما وراءه من حكم يعدّ باطلا لا يسوق

٣٧٧

الإنسان إلّا إلى الشقاء والهلاك ولا يهديه إلّا إلى عذاب السعير.

ومنا هنا يقال : إنّ الحكم لمّا كان لله سبحانه وحده كان كل حكم دائر بين الناس إما حكما حقيقة مأخوذا من لدنه بوحي أو رسالة ، وإما حكما مفترى عليه تعالى ولا ثالث للقسمين ، لذا قال سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (المائدة / ٤٥) وقد أجاز الله تعالى لأنبيائه أن يسنّوا أحكاما بإذنه تعالى وهذه الأحكام نوع قضاء وهو من المناصب الإلهية التي أكرمهم الله تعالى بها قال تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) (المائدة / ٤٩).

وقال أيضا : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) (الأنعام / ٩٠) وقد ذكرت لنا النصوص عن عترة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الله تعالى فوّض نبيّه في تشريع بعض الأحكام التشريعية كما مرّ سابقا فلاحظ.

إذن تشريع الأحكام وإن كان لله تعالى أصالة لكنه تعالى جعله لبعض أوليائه تبعا ، والحكم أو التكليف مما يقتضي لطفه ورحمته ، هذا مع ما في الأفعال من المصالح والمفاسد ولا يمكن للإنسان السلوك نحو الكمال إلا بتكليف به تقيّد نزواته وغرائزه مما يجعلها مصفّاه غاية التصفية ومعتدلة غاية الاعتدال ، فالإخلال حينئذ بهذا التكليف ينافي اللطف والرحمة والحكمة ، كما أن الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله لأنه عبث يتنزّه عنه الباري عزوجل.

النقطة الثانية :

ذهب الشيعة والمعتزلة إلى أنه سبحانه يفعل لغرض ولا يشرّع حكما من دون فائدة أي أنه لا يفعل فعلا إلّا لأمر لا يخلو فعله عن غرض هو الداعي إلى ذلك الفعل وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح وهو محال (١).

وذهب الأشاعرة : إلى أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض والمقاصد.

وقد استدلّ الشيعة على كون أفعاله معلّلة بالأغراض : ان كل فعل لا يقع لغرض فهو عبث ، والعبث قبيح وهو منزّه عنه سبحانه ويستحيل صدوره منه.

واستدلّ الأشاعرة على أن أفعاله غير معلّلة بالأغراض.

__________________

(١) قواعد المرام : ص ١١٠ ونهاية الحكمة : ص ١٦٣.

٣٧٨

إن كل فاعل لغرض وقصد فإنه ناقص بذاته مستكمل بذلك الغرض ، والله سبحانه يستحيل عليه النقصان (١).

يجاب عليه :

أولا : إن النقص يعدّ مستحيلا عليه تعالى لو كان الغرض والنّفع راجعين إليه تعالى ، أما إذا كان الغرض عائدا إلى غيره فلا ، بل الغرض يعود إلى مصلحة العبد ونظام الموجودات بما يرجع نفعه إلى المكلّفين المحتاجين إلى غناه تعالى ، فيكون الغرض كمالا للفعل ودليلا على كمال ذات الفاعل لأنه يشهد بحكمته وإحسانه ، ولو فعل لا لغرض لكان ناقصا عابثا وهو تعالى منزّه عن ذلك (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (الأنبياء / ١٧).

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٩) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)) (الدخان / ٣٩ ـ ٤٠).

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩٢)) (آل عمران / ١٩٢).

ثانيا : يلزم على مقالتهم أن لا يكون الله سبحانه محسنا إلى العباد ولا منعما عليهم ولا راضيا عنهم ولا كريما في حق عباده ، فصفاته المذكورة من الإنعام والرضا والكرم كلها صفات حقيقية لا مجازية وذلك لأن الإحسان إنما يصدق لو فعل المحسن نفعا لغرض الإحسان إلى المنتفع ، فلو فعله لغير ذلك لم يكن محسنا ولهذا لا يوصف مطعم الدابة لتسمن حتى يذبحها بأنه محسن إليها أو منعم عليها بالرحمة لأنّ التعطف والشفقة إنما يثبتان مع قصد الإحسان إلى الغير لأجل نفسه لا لغرض آخر يرجع إليه سبحانه.

ثالثا : تستدعي مقالتهم تلك أن تكون جميع المنافع التي جعلها سبحانه منوطة بأشياء غير مقصودة ولا مطلوبة لله تعالى بل يكون قد خلقها عبثا ، فلا يكون خلقه لأعضاء الإنسان لفائدة وكذا إعطاء الحيوان بل تكون بزعمهم عبثا في عبث تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

رابعا : يلزم من مقالتهم إبطال النبوات بأسرها وعدم الجزم بصدق أحد منهم

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٣١.

٣٧٩

بل يحصل الجزم بكذبهم أجمعين لأنّ النبوة تتم بمقدمتين.

الأولى : إن الله تعالى خلق المعجزة على يد مدّعي النبوة لغرض التصديق.

الثانية : إنّ كل من صدّقه الله تعالى فهو صادق.

ومع عدم القول بأحدهما لا يتم دليل النبوة فإنه تعالى لو خلق المعجزة لغير غرض التصديق لم تدل على صدق المدّعي ، إذ لا فرق بين النبي وغيره فإنّ خلق المعجزة لو لم يكن لأجل التصديق لكان لكل أحد أن يدّعي النبوة ويقول إنه تعالى صدّقني لأنه خلق هذه المعجزة ويكون نسبة النبي وغيره إلى هذه المعجزة على السواء ، ولأنه لو خلقها لا للتصديق لزم الإغراء بالجهل لأنه دالّ عليه ، والإغراء بالجهل قبيح لا يصدر منه تعالى.

فإذا استحال عند الأشاعرة أن يفعل لغرض كيف يجوز للنبي هذه الدعوى؟

* * *

٣٨٠