الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

كعادتهم في مثل هذه المطالب يتناولون طرفا منها لحكمة لم نطّلع عليها.

وهذا المعنى من التفويض له معنيان :

الأول : أن نقول انهم عليهم‌السلام يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون بقدراتهم وإراداتهم فهم الفاعلون لها حقيقة من دون استعانة بالقدرة الإلهية ، وهذا واضح الفساد وهو عين الكفر وقد دلّت الأدلة العقلية على استحالته.

الثاني : إنّ الله تعالى يفعل هذه الأمور مقارنا لإرادتهم ، وقد حصره المجلسي في المعجزات كشقّ القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حية وغير ذلك من المعجزات ، قال : إن كل ذلك مما يقع بقدرته سبحانه مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم فلا يأبى العقل من أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ثم خلق كل شيء مقارنا لإرادتهم ومشيتهم ، وهذا وإن كان العقل لا يعارضه كفاحا لكن الأخبار الكثيرة مما أوردناها في كتاب بحار الأنوار يمنع من القول فيما عدا المعجزات ظاهرا بل صريحا ، مع أن القول به ـ قول بما لا يعلم ...» (١) فحمل المجلسي «قدّس سره» المعجزات الصادرة عنهم من قبيل استجابة الدعاء.

ولكن الحق أن يقال :

ليس هناك أي دليل عقلي أو نقلي ينفي هكذا معنى من التفويض ما دام الولي له السلطنة الإلهية بقدرة الله تعالى على إيجاد كل أمر كان في طي العدم ، وليس إسرافيل الموكل بالأحياء وعزرائيل الموكّل بالإماتة بأعظم من الولي الأكبر والحجة العظمى على من في الأرض والسماء ما دام عملهما بقدرة الملك العلّام.

قال العارف الكبير السيد العلّامة روح الله الخميني (قدس‌سره) :

«لا بدّ من معرفة أنه لا فرق أبدا في التفويض المستحيل المستلزم لمغلولية يد الله وفاعلية قدرة العبد وإرادته بصورة مستقلة بين الأمور العظيمة أو الحقيرة. كما أنّ أمر الإحياء والإماتة والإيجاد والإعدام ، وتحويل عنصر إلى آخر لا يمكن أن يفوّض لموجود ، حتى أن تحريك قشة أيضا لم يمكن أن يفوّض لا إلى ملك مقرّب ولا إلى نبي مرسل ولا إلى كائن ابتداء من العقول المجرّدة القاطنة في الجبروت الأعلى إلى المادة الهيولى الأولى ، وإنّ ذرات الكائنات بأسرها مسخّرة

__________________

(١) مرآة العقول : ج ٣ ص ١٤٣.

٣٤١

تحت إرادة الحق سبحانه الكاملة ولا استقلالية لها في أي عمل أبدا ، وأنّ جميع الكائنات في وجودها وكمالها وحركاتها وسكناتها وإرادتها وقدرتها وجميع شئونها محتاجة وفقيرة ، بل هي فقر خالص وخالص فقر ، كما أنه لا فرق أبدا في قيّومية الحق وعدم استقلال العباد ، وظهور إرادة الله ونفوذها وتغلغلها في كل شيء بين الأمور الكبيرة والصغيرة ، وكما أننا (العباد الضعاف) قادرون على الأعمال البسيطة مثل الحركة والسكون وأفعال أخرى صغيرة ، فإنّ العباد المخلصين لله سبحانه والملائكة المجردين قادرون على أعمال عظيمة من الإحياء والإماتة والرزق والإيجاد والإعدام ، وكما أنّ ملك الموت يقوم بالإماتة وعمله هذا لا يكون من قبيل استجابة الدعاء وإنّ اسرافيل موكّل بالإحياء ، وإحيائه لا يكون من قبيل استجابة الدعاء أو التفويض الباطل ، فكذلك الولي الكامل والنفوس الزكية القوية ، مثل نفوس الأنبياء والأولياء قادرة على الإعدام والإيجاد والإماتة والإحياء بقدرة الحق المتعال ، وليس هذا من التفويض المحال ، ويجب أن لا تعتبره باطلا ، ولا مانع من تفويض أمر العباد إلى روحانية كاملة تكون مشيئته فانية في مشيئة الحق ، وإرادته ظلال لإرادة الحق ، ولا يروم إلّا ما يريده الحق ، ولا يتحرك إلّا إذا كان موافقا للنظام الأصلح سواء كان في الخلق والتكوين أم التشريع والتربية ، وملخص الكلام أن التفويض بالمعنى الأول لا يكون جائزا في أي مجال من المجالات وأنه مخالف للبراهين القاطعة ، وأما التفويض بالمعنى الثاني فجائز في كل الأمور بل إنّ النظام العام للعالم لا يقوم إلّا على أساس الأسباب والمسببات أبى الله أن يجري الأمور إلّا بأسبابها ...» (١).

النقطة الثالثة : الأمر بين الأمرين :

بعد ما تبيّن معنا فساد النظريتين السابقتين وشناعة مقالتيهما ، ذهب الإمامية إلى نظرية الأمر بين الأمرين وهي برزخ بين تينك النظريتين حيث لا إفراط فيها ولا تفريط ، وقد غفل عنها علماء العامة قديما وحديثا ، وقد أوعز المرحوم الشيخ مرتضى المطهري عدم اعتقاد العامة بهذه النظرية إلى عدم النضوج الفكري أو العقلي لتقبّل هذه النظرية قال بما معناه :

«وغفلة العامة عن النظرية الثالثة مردّه أن تلك العصور لم تكن بالمستوى

__________________

(١) الأربعون حديثا : ص ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

٣٤٢

العقلي لفهم تلك النظرية ولعدم رواج علم الكلام والمنطق والفلسفة في تلك الآونة الزمنية»(١).

يلاحظ عليه :

إن انصراف العامة عن نظرية الأمر بين الأمرين ليس كما تصوّره المرحوم المطهري ، وإنما يرجع لأمور :

الأول : عدم اعتقادهم بإمامة العترة الطاهرة ، فقد أخذ العامة من الأشعري المتوفى عام ٢٦٠ ه‍ ـ وأبي حنيفة المتوفى عام ١٥٠ ه‍ ـ المعاصر للإمام الصادق عليه‌السلام والذي تتلمذ عنده سنتين ، حتى عرف بمخالفته للإمام الصادق عليه‌السلام ، فعدم الأخذ يرجع إلى عدم الاعتقاد بإمامة الأئمة عليهم‌السلام لا عدم النضوج العلمي.

الثاني : إنّ نظرية «الوسط» ليست بأصعب من مسألة حشر الأجساد أو القياس والإسراء والمعراج وشقّ القمر وتكلم الحصى وإنطاق الجوارح يوم القيامة وغيرها ، حتى يقال أنهم لم يكونوا بالمستوى العقلي المطلوب لفهمها.

الثالث : إنّ انصرافهم عن النظرية الثالثة كانت مقصودة في الأوساط الحاكمة يوم ذاك والسبب كما قلنا أول البحث أنّ الحكّام كانوا يروّجون لفكرة الجبر ليبرّروا شرورهم وليدعموا سلطانهم.

إضافة لذلك فإننا نسأل :

كيف يمكنهم الأخذ بنظرية الجبر أو التفويض ويتركوا غيرهما في حال أنّ المناط هو عدم رواج الفكر المنطقي أو الفلسفي كما تصوّر المطهري (عليه الرحمة) ، فإن مسألة الجبر كانت أصعب تعقيدا من نظرية «الوسط» فكيف يؤخذ بالأصعب ويترك الأسهل والأيسر؟!

حقيقة نظرية الوسط «الأمر بين الأمرين» :

نظرية الوسط التي أسس بنيانها القرآن على لسان العترة الطاهرة عديل الكتاب والمطّلعين على خفاياه وأسراره ، هذه النظرية التي بها نثبت عدالة الله وسلطنته تعالى في مقابل حد الإفراط والتفريط اللذين سلك طريقهما الأشاعرة والمعتزلة.

فالأشاعرة وإن تضمنت نظريتهم إثبات السلطنة المطلقة لله تعالى إلّا أنها

__________________

(١) بداية المعارف : ج ١ ص ١٧٠ نقلا عن أصول الفلسفة : ج ٣ ص ١٦٩.

٣٤٣

أجحفت بعدالته عزوجل وقضت عليها من الأساس ، وأما المعتزلة فعلى عكسها فهي وإن تضمنت إثبات عدالته تعالى إلا أنها نفت وبشكل قاطع سلطنته المطلقة وأسرفت في تحديدها.

وحقيقة نظرية الوسط تبتني على تفصيل مفاده :

إنّ أفعال العباد تتوقف على مقدمتين :

الأول : تحقق الحياة للموجود الفاعل.

الثانية : تحقق القدرة المنبثقة من الموجود الحي.

المقدمة الأولى :

تفيض منه سبحانه وتعالى وترتبط بذاته الأزلية ارتباطا ذاتيا وخضوعا تامّا لجناب الباري عزوجل ، وعلى هذا فلو انقطعت الإفاضة من الله تعالى في آن ما انقطعت الحياة منه حتما ، ويستدلّ على ذلك بأمرين :

الأمر الأول :

الإمكان الوجودي أي أن الموجود بعد إيجاده يبقى مرتبطا بالعلة وإلّا لصار غنيا بذاته وهو خلف كونه فقيرا محتاجا.

توضيح ذلك :

إنّ الإمكان ينقسم إلى قسمين :

إمكان ماهوي وآخر وجودي :

الإمكان الماهوي :

ما تساوى ماهية الشيء بالنسبة إلى الوجود والعدم أي أنّ الماهية واقعة في مركز الدائرة فلا تخرج عنه إلى أحد الطرفين إلّا بعامل خارجي عن حالة التساوي ويضفي عليها لزوم الاتّصاف بأحدهما.

الإمكان الوجودي : هو ما اتّصف الشيء بوصف الوجود ويعدّ فعلا للواجب تعالى ، فليس معنى إمكانه تساوي نسبته إلى الوجود والعدم ، لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع ، فمعنى توصيف الوجود بالإمكان عبارة عن كونه قائما بالعلّة بجميع شئونه وخصوصياته ، فكلما وصف الوجود بما هو وجود عار عن الماهية وصادر عن العلة الواجبة يراد منه التعلّق والقيام والعلة والارتباط لا التساوي كما في الإمكان الماهوي وحقيقة قيام المعلول بعلته تماما كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي في المراحل الثلاث :

٣٤٤

التصور ، والدلالة ، والتحقق.

مثاله كما في قولك : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فعندنا معنى حرفي هو «في» و «إلى» وعندنا معاني اسميّة هي السير والبصرة والكوفة ، فالمعنى الحرفي دائما مرتبط بالمعنى الاسمي ابتداء وانتهاء ، «فمن وإلى» فاقدان للاستقلال في مجال التصور ، فهما دائما مرتبطان بالمعاني الاسمية في الجملة في المراحل الثلاث.

فالمعنى الحرفي لا استقلالية له وإلّا لخرج عن كونه معنى حرفيا.

وهكذا يتبين أن الوجود الإمكاني للماهيات وزانه كوزان المعنى الحرفي لا استقلالية له البتة وذلك لأنّ الصادر من واجب الوجود لا يخلو من أمرين :

إما واجب وإما ممكن.

والأول خلف كونه واجبا لكون المفروض معلوليته وصدوره عن العلة الأولى وهي الواجب ، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه فيتعين الثاني.

ومن المعلوم أن معنى الإمكان الوجودي كونه متعلقا بالعلة وقائما بها بجميع شئونه وخصوصياته ، والإمكان نافذ فيه وراسخ في واقعه رسوخ الحياة في الموجود الحي ، وعند ذلك يكون الارتباط بالعلة والقيام بها غير خارج عن واقع الوجود الإمكاني ويكون الفقر والربط نفس ذاته وعين واقعه وإلا فلو كان في حاق الذات غنيا ثم عرض له الفقر يلزم الخلف وخروج الغني عن كونه غنيا إلى حيّز الفقر والحاجة ، وعلى هذا فلا يمكن إنكار صلة الوجودات الإمكانية به تعالى من غير فرق بين الإنسان وغيره.

الأمر الثاني :

إنّ حقيقة وحدة الوجود يلازم التأثير في جميع المراتب بدءا من الأعلى انتهاء إلى الأضعف ، فالوجود الواجب بما أنه أقوى وأشدّ يكون العلم والإدراك والحياة والتأثير فيه مثله ، وبما أن فيض الوجود والقدرة وسائر المبادي يكون بإفاضته تعالى آنا فآنا بحيث لو انقطع الفيض لما تمكّن العبد من إيجاد الفعل ، فالفعل مستند إليه تعالى وكلّ من الإسنادين حقيقي ، فالفعل مستند إلى العبد من جهة وإلى الله تعالى من جهة أخرى فكونها مستندة إليه تعالى لأنه واهب القدرة ، وكونها مستندة إلى العبد باعتبار صدورها منه على نحو الاختيار بتوسط المدد

٣٤٥

والفيض الإلهي.

المقدمة الثانية :

وهي التي تفيض من العباد عند فرض وجود المقدمة الأولى ، فهي مرتبطة بها في واقع مغزاها ومتفرّعة عليها ذاتا ، فلا يصدر أي فعل من العبد من دون تحقق المقدمتين ، فإذا انتفت إحداهما فلا يعقل صدور أي فعل ، وهذا أمر واضح وعلى هذا الأساس صحّ إسناد الفعل كما صحّ إسناده إلى العبد.

ولتوضيح ذلك نورد المثال التالي :

لو فرضنا إنسانا كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه ، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء ، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء ، وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلا ، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلا ، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ومباشرة الأعمال بها ـ والطبيب يمدّه بالقوة في كل آن ـ فلا شبهة في أن تحريك الرجل يده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين ، فلا يستند إلى الرجل مستقلا لأنه موقوف على إيصال القوة إلى يده وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلا لأنّ التحريك قد أصدره الرجل بإرادته ، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مباديه ، لأنّ المدد من غيره ، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلها من هذا النوع ، فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئا إلّا بمشيئة الله(١).

مثال آخر :

لو أنّ مولى من الموالي العرفيّة يختار عبدا من عبيده ويزوّجه إحدى بناته ثم يقطع له قطيعة ويخصّه بدار وأثاث وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمّى ، فإن قلنا أن المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى وملّكه ما ملّك فإنه لا يملك ، وأين العبد من الملك ، كان ذلك قول المجبّرة ، وإنّ قلنا أن للمولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وانعزل عن المالكية كان الملك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة ولو جمعنا بين الملكين بحفظ

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن للخوئي : ص ٨٨.

٣٤٦

المرتبتين وقلنا أن المولى مقامه في المولوية والعبد مقامه في الرقيّة وأن العبد إنما يملك في ملك المولى ، فالمولى ملك في عين أن العبد مالك ، فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وقام عليه البرهان (١).

وبهذا يتضح أنّ قدرة العبد وتمكّنه من الفعل أو الترك منضوية تحت قدرة وتملّك المولىعزوجل ، وليست ملكية العبد وقدرته عرضية حتى يوجب الشرك وإنما هما ـ التملك والقدرة ـ مفاضان على العبد بالملكية والقدرة الطولية فالأعمال الصادرة عن البشر أو المكلفين بشكل عام كالجن والشياطين ، هذه ليست مستندة إليه تعالى وحده بحيث لا يكون للمكلّف أي تأثير فيها كما يقول المجبرة ، كما أنها ليست مستندة إلى الإنسان وحده بحيث يخرج المولى عن سلطانه وقدرته كما يقول المفوّضة ، بل الأفعال في عين كونها مستندة إلى الإنسان بالحقيقة لصدورها عنه بالاختيار مستندة إليه تعالى لأنه معطي الوجود والقدرة ، فالاستناد إليه تعالى طولي وملكيته ملكية طولية كما أشار إلى ذلك مولانا الإمام الرضاعليه‌السلام حينما قال :

«... هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه» (٢) ، إذن فمشيئة العبد متفرعة من مشيئة الرب ، وسلطنة العبد فرع سلطنة المولى ، وقد أشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى في العديد من الآيات منها :

١ ـ قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (الإنسان / ٣١).

فالآية تثبت أنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله تعالى ، فالنفي يفيد أن مشيئة العبد متوقفة في وجودها على مشيئة الله تعالى ، فلمشيئة الله تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيئة العبد ، وليست متعلقة بفعل العبد مستقلا وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبريا ، ولا أن العبد مستقل في إرادته يفعل ما يشاء ، سواء شاء الله أم لم يشأ ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد ، والدليل عليه قوله : (وَما تَشاؤُنَ) فأثبت سبحانه أن للعباد مشية وقدرة إلّا أنها طولية كما ذكرنا.

__________________

(١) تعليقة صاحب الميزان على البحار : ج ٥ ص ٨٣.

(٢) البحار : ج ٥ ص ١٦.

٣٤٧

٢ ـ ومنها قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٤) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (الكهف / ٢٤ ـ ٢٥).

فالآية المباركة في معرض أن العبد لا يكون فاعلا لفعل ما إلّا أن يشاء الله تعالى أن يبقي حياته وقدرته ونحوهما مما يتوقف عليه فعله خارجا وبدون ذلك لا يعقل كونه فاعلا له ، فليس للعبد أن يملك شيئا إلّا ما ملّكه تعالى إياه وأقدره عليه وهو المالك لما ملّكه والقادر على ما أقدره ، فالإنسان العارف بمقام ربه المسلّم له لا يرى نفسه سببا مستقلا لفعله مستغنيا فيه عن غيره بل هو مالك له بتمليك الله قادر عليه بقدرته تعالى ، لأن القوة لله جميعا ولا يتم شيء إلّا بإذنه تعالى.

٣ ـ قوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (النحل / ٩٤).

أسندت الآية المباركة مسألتي الضلال والهدى إليه سبحانه مع أنهما من أفعال العباد ، ولكنّ المراد هو غير المعنى الظاهر بل هناك شيء مقدّر ، فالمعنى :

أنه سبحانه يضل من يشاء الضلالة والسيئة باختياره ، وكذا يهدي إلى طاعته من يشاء الهداية والخير ، ففعل الهدى والضلال واقعان تحت اختيار الإنسان إلّا أن مباديهما كالحياة والقدرة منه تعالى ، فالإسناد حقيقي أعني إسناد الهدى والضلال إليه تعالى وإلى العبد من المجاز والعناية في البين.

٤ ـ ومنها قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (الحديد / ٥).

أي أنه سبحانه لم يتخلّ عن عباده بعد خلقه لهم كما يدّعي المفوّضة بل هو معهم محيط بهم لا يغيبون عنه تعالى أينما كانوا وفي أي زمان عاشوا ، فنسبته تعالى إلى الأمكنة والأزمنة والأحوال سواء ومثلها قوله تعالى :

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ).

إلى أمثال هذه الآيات الدالّة على نظرية الأمر بين الأمرين ، فهي في الواقع ليست بدعا من خارج القرآن بل إنما جاء بها أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم قرناء الكتاب وفي بيوتهم نزل جبرائيل بالتنزيل.

الأمر الرابع الأخبار المختلفة في القضاء والقدر

الأمر الرابع : وفيه نقطتان :

النقطة الأولى :

معالجة الأخبار المختلفة في القضاء والقدر.

٣٤٨

فقد وردت طائفتان من النصوص عن النبي محمد والعترة عليهم‌السلام بشأنهما ، فطائفة تمدح الخصائص بهما ، وطائفة أخرى تذمّ ، فمن هنا قد يقع المرء في حيرة فيهما.

فمن الطائفة الأولى :

الرواية الأولى :

عن النبي الأكرم محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة : حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله بعثني بالحق ، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت وحتى يؤمن بالقدر (١).

الرواية الثانية :

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

أربعة لا ينظر (٢) الله تعالى إليهم يوم القيامة : عاق ومنّان ، ومكذّب بالقدر ومدمن خمر (٣).

الرواية الثالثة :

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : قال : ستة لعنهم الله وكلّ نبي مجاب : الزائد في كتاب الله ، والمكذّب بقدر الله والتارك لسنتي والمستحيل من عترتي ما حرّم الله ، والمتسلّط بالجبروت ليذلّ من عزّه الله ، ويعزّ من أذله الله ، والمستأثر بفيء المسلمين المستحل له (٤).

الرواية الرابعة :

عن الإمام مولانا أبي الحسن الأول عليه‌السلام قال :

لا يكون شيء في السماوات والأرض إلّا بسبعة :

بقضاء وقدر ، وإرادة ، ومشية وكتاب وأجل وإذن فمن قال غير هذا فقد

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٧ ح ٢.

(٢) ليس المراد «بالنظر» ان لله تعالى عينين بل المراد منه القرب والرحمة واللطف ، لأن النظر الحسي يتنزّه عنه الخالق العظيم.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٧ ح ٣.

(٤) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٧ ح ٤.

٣٤٩

كذب على الله أو ردّ على الله عزوجل (١).

ومثلها ما ورد عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام فلاحظ أصول الكافي ج ١ ص ١٥٥ باب الجبر والتفويض.

فظاهر هذه الأخبار وجوب الاعتقاد بالقدر وأنه من مقتضيات الإيمان والمكذّب به خارج عن ربقة المؤمنين داخل في سلك الكافرين لأنه يستدعي التكذيب بعلمه تعالى ، إضافة إلى ردّ النصوص المتواترة التي من أنكرها يعدّ منكرا لضرورة الدين وما أنزل على سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن الطائفة الثانية :

الرواية الأولى :

ما ورد من النهي عن الخوض في القدر ، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لرجل قد سأله عن القدر : بحر عميق فلا تلجه ، ثم سأله ثانية : فقال عليه‌السلام : طريق مظلم فلا تسلكه ، ثم سأله ثالثة فقال : سر الله فلا تتكلفه (٢).

الرواية الثانية :

أيضا ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

ألا إنّ القدر سرّ من سر الله وحرز من حرز الله مرفوع في حجاب الله مطوي عن خلق الله مختوم بخاتم الله سابق في علم الله ، وضع الله عن العباد علمه ورفعه فوق شهاداتهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ولا بقدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية لأنه بحر زاخر مواج خالص لله عزوجل عمقه ما بين السماء والأرض ، عرضه ما بين المشرق والمغرب ، أسود كالليل الدامس (٣).

وجه الجمع بين هاتين الطائفتين :

قد يبدو للوهلة الأولى التعارض بين هاتين الروايتين ، وهذا يظنه من ليس له قدم راسخ في كلمات النبي والعترة لأن كلامهم ككتاب الله فيه محكم ومتشابه وعام وخاص ومطلق ومقيد فلا يحق لأي فقيه أن يأخذ بالمتشابه أو بالعام

__________________

(١) نفس المصدر : ح ٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٩٧ ح ٢٢.

(٣) نفس المصدر : ح ٢٣.

٣٥٠

والمطلق من دون الفحص عن المحكم أو الخاص والمقيّد ، إضافة إلى إعمال المرجحات الدلالية أو السندية لو وجد تعارض في النصوص كما هو ظاهر هنا مع أننا قادرون على الجمع بوجوه :

الوجه الأول :

لو سلّمنا بصحة أسانيد الطائفتين وبعضها قطعا صحيح فمع ضم الثانية إلى الأولى المجوّزة تحمل الثانية على النهي الإرشادي لأن دلالتها على الحرمة التكليفية غير واضحة ، وذلك لأنّ لسانها عدم التعمّق لئلا يؤدّي إلى مفسدة لا تحمد عقباها كما هو مفاد قوله «بأنه سر الله مطوي عن خلق الله» ، فهو مقدّر محجوب عن العباد الاطّلاع عليها إلّا للأوحدي ومن ابتغى الإشراف الكامل عليها فقد ضاد الله في حكمه ونازعه في سلطانه.

الوجه الثاني :

لو كان لحن تلك الروايات الناهية هو الحرمة التكليفية فلا بدّ من أن يكون مخصوصا بمن لا يتمكن من فهمها ودركها تفصيلا ، وأما من تمكّن من ذلك فلا نهي متوجه إليه ، لعدم وجود شرطه.

الوجه الثالث :

أن يكون النهي عن الكلام فيهما محمولا على النهي عن الخوض فيما خلق الله تعالى وعن علله وأسبابه وعمّا أمر به ، وعن القول في علل ذلك لأنه سبحانه سترها عن أكثر خلقه ألا ترى أنه لا يجوز لأحد أن يطلب لخلقه جميع ما خلق عللا مفصّلات فيقول لم خلق كذا وكذا؟ (١).

بل على الإنسان المؤمن بالقضاء والقدر أن ينظر إلى كل ما قدّره له الباري وقضاه بعين الحكمة والمصلحة ، إذ لا يصدر منه سبحانه إلّا الصواب والخير وإن لم يظهر وجهه لأحد إلّا لخلّص عباده ، فإذا أراد سبحانه الصحة لأحد كانت هي مصلحته ، وإذا أراد لآخر المرض كان هو مصلحته وهكذا في سائر الأحوال من الفقر والجوع وغير ذلك مما يستتبع وراءه المصلحة والحكمة حتى ينتهي الفرد المؤمن المعتقد بهما إلى مقام الرضا والتسليم لكل ما اختاره له الباري وهو مقام شامخ لا يناله إلّا وحيد دهره وفريد عصره.

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ص ٥٧ والبحار : ج ٥ ص ٩٩.

٣٥١

فالمؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يزيده قضاؤه وقدره إلّا إيمانا وتصديقا وفضيلة وعلوا ، لذا ورد ذكره في الزيارات الصحيحة بقوله عليه‌السلام : في زيارة أمين الله :

«اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك ...».

النقطة الثانية :

إن المصنّف (قدس‌سره) أفاد أن الاعتقاد الإجمالي بالقضاء والقدر واجب وكاف وهو الحق وذلك لورود النصوص عنهم عليهم‌السلام بأنه أمر بين أمرين ، ولا يجب تحصيل الاعتقاد التفصيلي بهما ، واستدلّ المصنف على ذلك بأمرين :

الأول : عدم التمكّن منه لكون الاعتقاد التفصيلي فوق مستوى مقدور الرجل العادي.

الثاني : إن القضاء والقدر ليس من الأصول الاعتقادية حتى يجب الاعتقاد التفصيلي به.

لكن يلاحظ عليه :

أولا : إن عدم تمكن البعض من تحصيل الاعتقاد التفصيلي به لكونه فوق مستوى الرجل العادي لا يرفع التكليف عن البعض الآخر القادر على التحصيل.

ثانيا : إن حصره (رضوان الله تعالى عليه) الاعتقاد به إجمالا لقول الأئمة عليهم‌السلام ليس سديدا ، وذلك لأنّ لسان النصوص الآمرة بالاعتقاد به ليس مفادها الأمر التعبدي حتى يقال بوجوب الاعتقاد بها اتباعا لقول الأئمة عليهم‌السلام ، لأنّ المسألة ليست من الأمور التعبدية بل هي من الاعتقادات المندرجة تحت أحكام العقل.

* * *

٣٥٢

الباب السابع

عقيدتنا في البداء

قال المصنّف (قدس‌سره) :

البداء في الإنسان أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقا ، بأن يتبدل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه إذ يحدث عنده ما يغيّر رأيه وعلمه به ، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله ، وذلك عن جهل بالمصالح وندامة على ما سبق منه.

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى لأنه من الجهل والنقص ، وذلك محال عليه تعالى ولا تقول به الإمامية. قال الصادق عليه‌السلام : «من زعم أن الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم» ، وقال أيضا : «من زعم أن الله بدا له شيء ولم يعلمه أمس فابرأ منه».

غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار عليهم‌السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدم ، كما ورد عن الصادق عليه‌السلام : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني» ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعنا في المذهب وطريق آل البيت ، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). ومعنى ذلك أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيّه أو وليّه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار ، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولا ، مع سبق علمه تعالى بذلك ،

٣٥٣

كما في قصة إسماعيل لمّا رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه ، فيكون معنى قول الإمام عليه‌السلام أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء ، كما ظهر له في إسماعيل ولده إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنه ليس بإمام ، وقد كان ظاهر الحال أنه الإمام بعده لأنه أكبر ولده.

وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

أقول : إنّ البداء من العقائد الجليلة عند الشيعة الإمامية الذين أغنوا مكتبة الإسلام بعقائدهم التي ورثوها بالمنطق والدليل عن العترة الطاهرة ، ويكفيك للتدليل على ذلك أن المعتزلة قوم أخذوا جلّ عقائدهم من تلامذة أمير المؤمنين عليه‌السلام. أما الترهات التي آمن بها المعتزلة فلا علاقة للإمامية بها أصلا.

ومسألة البداء المرتكزة على أسس فكرية متينة لم تستأهل أن يتقبلها العامة مع ما لها من جذور قرآنية وما لأهميتها على الصعيدين النظري والعملي لدى الفرد المسلم ، لذا نرى الإنكار الشديد من قبل مفكري العامة على القائلين بها واتهامهم الشيعة أنهم ـ بقولهم بالبداء ـ ينسبون الجهل إليه تعالى في حين أن كتب المتقدمين منهم كالصدوق والمفيد والطوسي وغيرهم واضحة البيان في تبيين مراد الشيعة من مسألة البداء ، وما ذاك الإنكار إلّا حصيلة التّعصب الأعمى والبغض الذي يبيتون للإمامية ، ولو أنهم وقفوا على ما نقول في هذه المسألة بعين الإنصاف لتجلّي لهم الحق بأجلى مظاهره ولدعوا إلى البداء كما تدعو إليه الإمامية.

يروي العلّامة السبحاني دام حفظه أنّ أحد علماء السنّة سأله عن حقيقة البداء فأجابه الشيخ بإجمال فتعجب ذلك العامي عن اتقان معناه غير أنه زعم أن ما ذكره السبحاني ما هو إلّا نظرية شخصية لا صلة لها بنظرية البداء عند الإمامية فطلب منه كتابا لقدماء علماء الإمامية فدفع إليه كتاب أوائل المقالات وشرح عقائد الصدوق فقرأهما بدقة وجاء بعد أيام وقال :

لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة (١).

__________________

(١) الشيعة الإمامية في عقائدهم للسبحاني : ص ١٠١.

٣٥٤

ولكنني أعجب من مقالته مدّعيا أنّ البداء من صميم عقيدة أهل السنّة إذ كيف تكون من عقائد أهل السنّة وهم يعتقدون بالجبر وينكرون الحسن والقبح العقليين ويشبّهون الله بمخلوقاته؟! بل إنّ إنكار البداء من صلب عقائد الأشاعرة كما يلوح ذلك في كلمات كبار علمائهم أمثال الرازي ـ كما سوف ترى ـ بل إنّهم يستنكرون على الإمامية لاعتقادهم بالبداء.

أقول كما علّمنا الله عزوجل أن نقول :

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (الأعراف / ٩٠).

وفي هذا الباب نقاط عدّة :

النقطة الأولى : معنى البداء :

البداء لغة : على وزن نداء مشتق من الفعل «بدا» من دون همزة فهو بعنى «ظهر» أو «بان» أو «تجلّى». ويأتي بمعنى خطور الرأي أو استصواب شيء غير الأول ، ومنه قولهم : فلان ذو بداوة أي لا يزال يبدو له رأي جديد (١).

أما بحسب الاصطلاح : فله معنيان :

الأول : الظهور والوضوح والتجلّي.

الثاني : العلم بعد الجهل أو خطور الرأي في شيء ما.

الأول موافق للذات الإلهية دون الثاني لدلالته على نسبة النقص إلى الباري جلّ وعلا وهو منزّه عنه.

فتحصّل من هذا أن للبداء معنيين :

الأول : الظهور والعلم بعد الجهل ، أو العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا ، وهذا المعنى للبداء مستحيل عليه تعالى عقلا ونقلا وهو ما رفضته الشيعة جملة وتفصيلا.

الثاني : الإظهار بعد الإخفاء أي إظهار ما كان مخفيّا عن العباد لا عنه تعالى فهو محيط بكل شيء ، ولأن هذا المعنى قبيح في حقه تعالى لاستلزامه الجهل المنزّه عنه تعالى.

فيكون الإظهار منه تعالى لا الظهور له ، فالإظهار منه يعني القضاء الإلهي

__________________

(١) المنجد : ص ١٩٤ ومجمع البحرين للطريحي : ج ١ ص ٤٥.

٣٥٥

على الشيء بحسب ما يستتبعه من مقتضيات وأسباب تحتم بروزه وظهوره خارجا ، ومنه ما ورد عنهم عليهم‌السلام حيث قالوا :

«ما بعث الله نبيا حتى يقرّ له بالبداء» أي يقرّ له بقضاء مجدّد في كل يوم يظهره للعباد بعد أن كان مخفيا عنهم ، وإظهاره لهم بحسب ما يستتبع ذلك من المصالح التي لم تكن ظاهرة لديهم.

ويستدل على المعنى الثاني بوجهين :

الوجه الأول : العقل :

حيث يحكم بأنه تعالى لو كان عالما بالشيء بعد أن كان جاهلا به لدلّ ذلك على النقص في ذاته فتصير محلا للحوادث والتغيرات فيخرج من حظيرة الوجوب إلى مكانة الإمكان ، إضافة إلى أن العلم من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الذات ، فإذا قلنا أنه كان جاهلا (حاشاه عزّ ذكره) لخلت ذاته من العلم مما يستلزم انفكاك الصفة الذاتية عن الذات وهو مستحيل لأنّ الانفكاك علامة الفقر والحاجة وخلو الذات عن العلم.

الوجه الثاني : النقل :

حيث ثبت بالبراهين العقلية والقرآنية أنه تعالى محيط بكل شيء فإن قلنا أنه سبحانه غير عالم ثم علم لكان خلاف ما ورد أنه محيط بكل شيء.

والآيات الدالّة على إحاطة علمه تعالى كثيرة منها :

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (آل عمران / ٦).

(وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (إبراهيم / ٣٩).

هذا إذا فسرنا البداء بمعنى القدر ، وإن فسرناه بمعنى الإظهار بعد الخفاء فلقوله تعالى:

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ) (التحريم / ٤).

سواء أظهره تعالى عليه في عالم الأرواح أم بعده ، فالمهم أنه سبحانه أطلع نبيه على أمر كان خافيا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(الم (٢) غُلِبَتِ الرُّومُ (٣) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٤) فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم / ٢ ـ ٥) هنا أطلع نبيه أن الروم سيغلبون بعد سنين.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (محمد / ٣٢)

٣٥٦

سواء فسّرنا كلمة «نعلم» بمعنى نظهر لكم أو نحقّق خارجا ما علمناه سابقا فالمراد والمعنى واحد هو أننا سنظهر لكم ما كان مخفيا عنكم. كذا قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

ومن النصوص ما ورد :

١ ـ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

«ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه ، علم غير قاصر وكتاب غير مغادر ، ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ووقف على الموعود» (١).

٢ ـ ما ورد عن مولانا الباقر عليه‌السلام قال :

«كان الله ولا شيء غيره ولم يزل الله عالما بما كوّن ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كونه» (٢).

٣ ـ وما ورد عن منصور بن حازم قال :

سألت أبا عبد الله عليه‌السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى بالأمس؟

قال : لا. من قال هذا فأخزاه الله.

قلت : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟

قال : بلى قبل أن يخلق الخلق (٣).

٤ ـ ما ورد عن مولانا الكاظم عليه‌السلام :

لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء(٤).

والبداء لا يكون إلّا في لوح القدر القابل للتغيير والمحو بالأسباب والمقتضيات لحث العباد على التكامل الروحي والنفسي ، وقد استفاضت النصوص على أن القدر أو لوح المحو والإثبات ـ الذي دلّ عليه قوله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت ـ متعلق به تعالى في مقام الفعل الإلهي ، فكل أمر يريده الله تعالى فهو في علمه قبل أن يظهره ، والبداء في مقام الفعل لا يستلزم الجهل عند

__________________

(١) نهج البلاغة ـ محمد عبده ـ ج ١ ص ٢٢٣ ط الأعلمي.

(٢) البحار : ج ٤ ص ٨٦ ح ٢٣.

(٣) التوحيد : ص ٣٣٤ باب ٥٤ ح ٨.

(٤) أصول الكافي : ج ١ ص ١٠٧ ح ٢ باب صفات الذات.

٣٥٧

الباري عزّ شأنه وليس مستحيلا وإنما المستحيل هو القائم في مقام الذات الإلهية لاستلزامه النقص في الذات كما أسلفنا فيما تقدم.

فالبداء الممكن وقوعه هو ظهور الأشياء بالنسبة إلينا لا إليه تعالى ، وكما قلنا إنه ظهور منه لنا لا ظهور له تعالى ، فالثاني ينكره الشيعة الإمامية أشد الإنكار ، وإنما يقولون بالأول حيث هو عبارة عن التغير في الفعل الإلهي سواء كان تكوينيا أم تشريعيا فلا مانع منه بعد كونه معلوما له تعالى بأطرافه.

النقطة الثانية : أنواع البداء :

قد عرفت أنّ البداء الذي تقول به الشيعة هو «الإظهار» أي إظهار ما كان مقدّرا ومخفيا عن العباد ، بل يظهر لهم ما لم يكونوا يتوقعون كما قال تعالى (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) «فبدا لهم» أي ظهر للعباد من الله ما كان مخفيا عنهم. فتأمل.

فظهور الأشياء لهم إنما يكون على خلاف المقتضيات والمعدات مثاله : كموت شخص صحيح المزاج بحيث لم يكن متوقعا موته ، وشفاء مريض لا يتوقع برؤه ، فهذا ظهور بالنسبة إلينا ، وأما بالنسبة إليه تعالى فلا خفاء بل علمه به منذ الأزل.

فالبداء الذي تقرّ به الشيعة هو بمعنى الإبداء والإظهار حقيقة ، وإطلاق لفظ «البداء» عليه مبني على التنزيل والمشاكلة ، حيث ورد هذا المعنى في مرويات البداء من طرق العامة ، فقد روى البخاري بإسناده إلى أبي عمرة أنّ أبا هريرة حدّثه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ ثلاثة في بني إسرائيل ـ أبرص ـ وأعمى ـ وأقرع ـ بدا الله عزوجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال : لون حسن وجلد حسن ، قد قذرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ...» (١).

إشكال :

قد يشكل أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بدا الله» أي ظهر لله كما ورد في الخبر المتقدم وغيره كخبر عبيدة بن زرارة عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام ما بدا الله بداء

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٤ ص ٥٠١ ح ٣٤٦٤ ط دار الكتب.

٣٥٨

أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني (١).

فيكون مفاد الروايتين : أنه ما ظهر لله ظهورا بيّنا كما ظهر له في كذا وكذا ، وهذا دليل على ظهور الأمر لله تعالى بعد خفائه عنه «تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا» فكيف يمكن توجيه هذه النصوص التي وردت فيها كلمة «بدا لله» والتي تقول الشيعة أن البداء عبارة عن الإظهار لا الظهور؟

والجواب :

أولا : «بدا» بمعنى أظهر مبني كما قلنا آنفا على التنزيل والمشاكلة.

ثانيا : أن لفظة «بدا» الواردة في النصين الآنفين قد تستعملان بمعنى : تحقيق ما علم في عالم الكون والوجود نظير كلمة «علم» في قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

والمقصود : ليتحقق معلومنا ويتجسد في عالم الوجود (٢).

ولكن سواء فسّرنا «بدا» بمعنى التحقق أو الإظهار فالمعنى واحد والخلاف لفظي ، فبدا أي بمعنى أظهر للناس خارجا أي تحقق لديهم ما لم يكونوا يحتسبون.

ولنرجع إلى ما كنّا بصدد بيانه في هذه النقطة فنقول :

إنّ البداء نوعان :

تكويني وتشريعي :

فالبداء التكويني : هو تكشّف أمر مادي للعباد لم يكن مكشوفا لهم من قبل ، فالبداء التكويني متعلق بعالم الوجود الخارجي ومتعلقاته كالصحة والمرض والفقر والغنى والجوع والعطش والحوادث الكونية الخارجية.

البداء التشريعي : هو إظهار حكم شرعي لاحق على حكم سابق انتهى حكمه بانتهاء أمده وزمانه.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٢٢ ح ٦٨ رواه عن كتاب زيد النرسي المجهول.

(٢) الصحيح من السيرة للسيد جعفر مرتضى : ج ٢ ص ٥٩.

٣٥٩

والبداء التشريعي تماما كالبداء التكويني ، غاية الأمر أن الثاني إبداء منه تعالى لغيره في عوالم التكوين ، كذلك الثاني إبداء تشريعي منه تعالى لغيره لمصلحة اقتضت أن يلغي الحكم الأول ويثبت حكما آخر محله تخفيفا وتسهيلا على المكلفين ، وهذا المعنى من البداء التشريعي يعبّر عنه بالنسخ التشريعي ولا بأس أن نذكر شيئا من حقيقة النسخ التشريعي.

فأقول :

«النسخ» لغة : بمعنى الإزالة ومنه الحديث المشهور :

«شهر رمضان نسخ كلّ صوم» أي أزاله ، ويقال نسخت الشمس الظلّ أي أزالته ، ونسخت الكتاب أن نقلته ، ونسخ الآية بالآية : إزالة حكمها بها ، فالأولى منسوخة ، والثانية : ناسخة.

«النسخ» اصطلاحا : رفع التشريع السابق ـ كان يقتضي الدوام حسب ظاهره ـ بتشريع لاحق حيث لا يمكن اجتماعهما معا ، إما ذاتا إذا كان التنافي بينهما بيّنا واضحا وإما بدليل خاص من إجماع أو نص صريح ، أو بعبارة : أن النسخ هو رفع الحكم الثابت السابق الظاهر في الدوام بتشريع لاحق بحيث لولاه لكان ثابتا ويظن أبديته مطلقا سواء كان الحكم الناسخ والمنسوخ في شريعة واحدة أم في شرائع عدة كما أن كل شريعة لا حقة تنسخ الشريعة السابقة عليها.

فرفع التشريع السابق الذي كان بحسب منظور المكلّفين يقتضي الدوام والاستمرار بتشريع حكم لاحق كان معلوما عنده سبحانه من أول الأمر ، فمثلا حينما رفع تشريع الاتجاه من بيت المقدس إلى اتجاه الكعبة المشرّفة ، هذا التحويل كان معلوما منذ الأزل عند الله سبحانه ، وإنما شرّع الصلاة إلى بيت المقدس لفترة زمنية معيّنة امتحانا للعباد واختبارا لهم حسب ما تقتضيه المصلحة ، وهذا تماما كما لو رأى الطبيب أن من مصلحة المريض الامتناع عن شرب الدخان لمدة أسبوع واحد ، وأيضا رأى أن من المصلحة أن لا يعلم المريض بتحديد الوقت ، فنهاه عن شرب الدخان على هذا الأساس من غير قيد ، وبعد مضي أسبوع أذن له في شرب الدخان ، فالمصلحة حينئذ تقتضي أن يرفع المنع من شرب الدخان. وعلى هذا الأساس ينحصر معنى النسخ في إمحاء ما ظهر من إرادة الدوام ، لا إمحاء الإرادة الواقعية مما يستلزم البداء المستحيل عليه تعالى ، لأنّ النسخ بمعناه الباطل أي «الإزالة» الناتجة عن حالة التبدّل في الرأي ونشوء

٣٦٠