الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

البحث الأول

عقيدتنا في النظر والمعرفة

قال المصنف (قدس‌سره) : نعتقد أن الله تعالى لمّا منحنا قوة التفكير ، ووهب لنا العقل ، أمرنا أن نتفكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه ، ونتدبّر في حكمته ، وإتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي أنفسنا ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (فصلت / ٥٣) وقد ذمّ المقلدين لآبائهم بقوله تعالى : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة / ١٧٠).

كما ذمّ من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ). وفي الحقيقة إن الذي نعتقده أن عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون ، كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدّعي النبوة وفي معجزاته. ولا يصح عندها تقليد الغير في ذلك ، مهما تكن لذلك الغير منزلة وأثر ، وما جاء في القرآن الكريم من الحثّ على التفكير واتّباع العلم والمعرفة ، فإنما جاء مقرّرا لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء ، وجاء منبّها للنفوس على ما جبلت عليها من الاستعداد للمعرفة والتفكير ، ومفتحا للأذهان وموجّها لها على ما تقتضيه طبيعة العقول.

فلا يصح ـ والحال هذه ـ أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقادية أو يتكل على تقليد المربّين أو أي أشخاص آخرين ، بل يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر

٢١

في أصول اعتقاداته (١) المسماة بأصول الدين التي أهمها التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.

ومن قلّد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الأصول فقد ارتكب شططا وزاغ عن الصراط المستقيم ، ولا يكون معذورا أبدا.

وبالاختصار عندنا هنا ادعاءان :

الأول : وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد ، ولا يجوز تقليد الغير فيها.

الثاني : إن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوبا شرعيا ، أي لا يستقي علمه من النصوص الدينية ، وإن كان يصح أن يكون مؤيدا بها بعد دلالة العقل.

وليس معنى الوجوب العقلي إلّا إدراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في أصول الاعتقادات.

* * *

قبل بيان المطالب التي تعرّض لها المصنّف (قدس‌سره) لا بدّ من توضيح مراده من «النظر والمعرفة».

وهنا لا بدّ من تبيين عدة نقاط :

النقطة الأولى :

ما المراد من النظر والمعرفة؟

«النظر» مصدر ومنه الفعلان : نظر ؛ ينظر.

ويقع في معنيين :

الأول : وقوعه على الأجسام فيأتي بمعنى «حس العين» أو تأمل الشيء بالعين

__________________

(١) قال المصنّف (قدس‌سره) في هامش الكتاب بأنه :

«ليس كل ما ذكر في هذه الرسالة هو من أصول الاعتقادات ، فإنّ كثيرا من الاعتقادات المذكورة كالقضاء والقدر والرجعة وغيرهما لا يجب فيها الاعتقاد ولا النظر ، ويجوز الرجوع فيها إلى الغير المعلوم صحة قوله كالأنبياء والأئمة ، وكثير من الاعتقادات من هذا القبيل كان اعتقادنا فيها مستندا إلى ما هو المأثور عن أئمتنا من صحيح الأثر القطعي».

٢٢

ومنه ما ورد في حديث عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«النظر إلى وجه عليّ عبادة» بمعنى أن رؤيته عليه‌السلام تحمل الرائي له على قول كلمة التوحيد (١).

الثاني : وقوعه على المعاني ، فيأتي بمعنى «البصيرة» وعلم النظر والاستدلال يقال : «في هذا الأمر نظر» أي مجال للتفكّر لعدم وضوحه (٢).

وهذا المعنى الثاني هو المقصود في علمي الكلام والفلسفة لاختصاصه في إدراك المعاني النظرية التي تحتاج إلى كسب ونظر في المطالب العلمية الدقيقة.

هذا التفسير «للنظر» بكلا معنييه إنما هو تفسير لغوي ، وهناك تفسير آخر اصطلاحي مفاده :

«ترتيب أمور ذهنية للتصور إلى أمر مجهول».

مثلا يقال : ـ إن العالم متغير ـ

وكل متغير حادث ـ

فالعالم حادث

فهنا قياس منطقي من الشكل الأول ، الصغرى والكبرى معلومة لدينا ، وبواسطتها حصلنا على النتيجة التي كنا نجهلها قبل ترتيب الكبرى على الصغرى.

و «النظر» أحد قسمي العلم ، حيث قسّم الفلاسفة العلم إلى قسمين :

(نظري) : ويقال له «الكسبي» وهو ما تحتاج معرفته إلى التفكير لأنه غير معلوم لكل أحد.

(الضروري) : ويقال له : «البديهي» وهو ما لا تحتاج معرفته إلى تفكير لأنه واضح ومعلوم.

__________________

(١) قال ابن منظور في لسان العرب مادة نظر نقلا عن ابن الأثير :

أنّ عليا كان إذا برز قال الناس : لا إله إلا الله ما أشرف هذا الفتى ، لا إله إلا الله ما أعلم هذا الفتى ، لا إله إلّا الله ما أكرم هذا الفتى ، لا إله إلّا الله ما أشجع هذا الفتى ، فكانت رؤيته تحملهم على كلمة التوحيد.

(٢) المنجد : ١٠٧٤.

٢٣

فالأول هو المراد عند الفلاسفة وفي المنطق لشدة الاحتياج إليه في العلوم الاستدلالية.

وفي هذه النقطة تبحث عدة أمور :

الأمر الأول :

هل النظر يفيد العلم ، بمعنى أن كل من نظر حصل له العلم أم لا؟

اختلف الفلاسفة فيه على رأيين :

الأول :

القول بعدم الملازمة أي أنه ليس هناك ملازمة بين النظر وحصول العلم ، واستدل عليه :

أولا : بأنه إن كان حصول العلم بالنتيجة ضروريا لزم اشتراك العقلاء فيه على حدّ سواء في حين أننا نرى مخالفة بعض الناس لبعض الأحكام الضرورية مثاله : ان الناس يعتقدون بحدوث العالم ، وهذه قضية ضرورية عند العقلاء ، ولكن في نفس الوقت تجد أناسا ينكرون هذه القضية الضرورية كالسفسطائيين مثلا.

أما إن كان حصول العلم بالنتيجة نظريا فيلزم منه التسلسل لأنّ الإفادة تحتاج إلى نظر ، والنظر يحتاج إلى نظر آخر وهكذا إلى ما لا نهاية له.

ولكن ينقض عليه :

أننا نختار كون النظر مفيدا ومحصّلا للعلم بالبداهة في أكثر الأحيان ، لأنّ الوجدان حاكم بحصول العلم بالأمر البديهي لو نظر بأنصاف إلى الصغرى والكبرى أعني في المثال :

ـ إن العالم حادث.

ـ وكل حادث متغير.

ـ فالعالم متغير.

فالمقدمتان الصغرى والكبرى أمران بديهيان يترتّب عليهما صدق النتيجة التي هي أمر بديهي.

ولا يلزم اشتراك جميع الناس في الأمور البديهية ، ومردّ اختلافهم في بعض الأمور الضرورية إنما هو نتيجة عدم تصور الأطراف ، أو عدم تصوّر الموضوع

٢٤

والمحمول بشكل لازم ، فكل من يتصور الكل والجزء ، يجزم حتما بأن الكل أكبر من الجزء ، ففي مسألة استحالة اجتماع النقيضين قال بعضهم بجواز الاجتماع ، وهذا إنما كان كما قلنا نتيجة عدم تصوّر الأطراف للقضية تصورا صحيحا.

وثانيا : لو كان النظر يستلزم العلم لم يختلف الناس في آرائهم لاشتراكهم في العلوم الضرورية التي هي مباد للنظرية ، وبما أن الأمور البديهية يتفق عليها جلّ الناس يلزم منه أن الأمور النظرية الحاصلة من القضية البديهية أيضا مما يتفق جلّ العقلاء عليها ، مع أننا نجد آراء الناس متضاربة فيما بينهم.

جوابه :

إن اختلاف الناس في الاعتقاد إنما هو بسبب تركهم الترتيب الصحيح وغفلتهم عن شرائط الحمل.

والغلط في الترتيب يحصل بأمرين :

الأول : بالجزء المادي للقضية ، مثاله :

أن يعتقد : (أن العالم قديم) بدلا من كونه متغيرا.

(وكل قديم واجب).

(فالعالم واجب).

فمادة القضية هنا باطلة وغير صحيحة ، فالنتيجة سوف تكون غير صحيحة لذا قيل : إن النتيجة تتّبع أخسّ المقدمتين.

الثاني : بالجزء الصوري للقضية ، مثاله :

أن يعتقد : أن (في الحائط فأرة).

(وكل فأرة لها أذنان).

(فالحائط له أذنان).

ولو سلمت القضيتان من الخطأ لكانت النتيجة سليمة وصحيحة.

الثاني :

القول بالملازمة أي أن النظر يستلزم العلم ، وهذا ما اصطلحوا عليه بمسألة «حصول العلم عقيب النظر» واستدلوا على صحته :

بأن حصوله بعد النظر أمر بديهي لأنّ من نظر في المقدمتين مع اعتقاده بهما

٢٥

فإنه حتما يحصل له العلم بالنتيجة ، مثاله كل من نظر :

بأن (العالم حادث).

(وكل حادث متغير).

(فالعالم متغير).

إضافة إلى أن الوجدان حاكم على أن كل من نظر في المقدمات الصحيحة حصل له العلم ، وإنكار الوجدان مكابرة تتنزّه عنها النفوس الشريفة.

الأمر الثاني : في السبب الموجب لحصول العلم بالنتيجة :

عرفنا مما تقدم أن النظر يفيد العلم ، ولكن ما يجب معرفته أنه ما هو السبب في حصول هذا العلم ، هل هو نفس النظر النظر من دون وجود شيء آخر وراءه أو أن عادة الله تعالى جرت في أن يسبّب العلم لكل من نظر أو أنه سبحانه يفيض على الناظر العلم بالنتيجة؟

اختار المعتزلة ومشهور الإمامية الأول ، والأشاعرة الثاني والحكماء الثالث.

واستدلّ المعتزلة على المدّعى بأن من نظر في المقدمات مع سلامة الحواس والقياس حصل حتما على العلم بالنتيجة لشهادة الوجدان بذلك كما تقدم آنفا.

واستدلّ الأشاعرة على حصول العلم عقيب النظر بأنه على سبيل العادة أي جرت عادته تعالى أن يخلق العلم عقيب النظر بدعوى :

أن العلم الحادث أمر ممكن ، والله تعالى قادر على كل الممكنات فاعل لها طبقا لما يعتقدون من كونه تعالى خالقا للأعمال ، فيكون العلم بالنتيجة من فعله تعالى.

ثمّ ردّوا مقالة المعتزلة بدعوى :

أن النظر كالتذكر والاستذكار ، حيث يقوم الإنسان بعملية الاسترجاع في المخيّلة فلا يكون تذكره سببا لحصول العلم فكذا لا يكون النظر سببا فيه أيضا قياسا له على التذكر ، فحيث إن التذكر واقع بلا اختيار فكذا النظر.

لكن أورد عليهم :

إن قياس النظر مع الاستذكار قياس مع الفارق لأنّ الاستذكار هو نفس العلم

٢٦

المسبوق بالنظر ، فالتذكر هو استرجاع المعلومات المخزونة في جهة ما في العقل ، وهذا يختلف تماما عن العلم عقيب النظر حيث لم يكن مخزونا في العقل حتى يقال أنه كالتذكر.

وأما دليل الأشاعرة فهو باطل بوجهين :

الأول : أن ما استدلوا به على المدّعى مبنيّ على قواعد الجبر التي قام الدليل على بطلانها.

الثاني : أنه سبحانه ربط المسبّبات بأسبابها ، وهذا قانون كلي ينطبق حتى على الكيفيات ومنها العلوم المسبّبة عن النظر فيكون لزومها عقليا لا عاديا.

واستدلّ الحكماء على نظريتهم القائلة : بأن المبدأ الفيّاض لوجود الحوادث موجب بالذات ، وأن فيضانها منه موقوف على الاستعداد التام ، ولا شك أن العلم الحاصل عقيب النظر أمر حادث فيندرج تحت تلك القاعدة.

فنظريتهم حدّ وسط بين المعتزلة والأشاعرة ، فالنظر عندهم عامل معدّ للإنسان لكي يفيض عليه المبدأ الفيّاض (١) العلم بالنتيجة بعد تمام الاستعداد عند النفس البشرية.

الأمر الثالث : كفاية النظر في حصول المعارف :

اختلف في هذه المسألة على قولين :

الأول : أن النظر غير كاف في حصول المعارف بل لا بدّ من معونة معلّم يرشد إلى النظر ، فمن دون المعلّم يتعذّر حصول العلم.

الثاني : أن النظر كاف في تحصيل العلوم لأنّه متى حصلت المقدمتان لنا على الترتيب المخصوص حصل لنا الجزم بالنتيجة سواء كان هناك معلّم أو لا ، وصعوبة تحصيل المعرفة بأظهر الأشياء لا يدلّ على امتناعها مطلقا من دون معلّم.

والأول لفرقة إسماعيلية تسمى ب «الملاحدة» ، واستدلّوا عليه : بأن أبسط الأشياء التي هي قريبة من الحسّ تحتاج إلى معلّم ، فمثلا : الحياكة والتجارة والصياغة والطبابة ونحوها ، أمور يحتاج المرء في تعلّمها إلى معلّم ، فمن دونه لا

__________________

(١) المبدأ الفيّاض عند الحكماء هو العقل الفعّال.

٢٧

يمكن للإنسان أن يصير حيّاكا أو نجّارا أو صائغا أو طبيبا ، وهذه أمور حسّية فكيف بغيرها من غير الحسية مما يكون الاحتياج إلى معلّم لها بطريق أولى.

ينقض عليهم :

أولا : أن ما أفادوه مخالف للوجدان ولطريقة العقلاء القاضيين بحصول العلم في كثير من الأمور من دون استناد أو توقّف على وجود معلّم ، فإننا في حياتنا اليومية نحصل على كثير من العلوم عن طريق تفكيرنا من دون استعانة بمعلّم خارجي ، نعم من دون معلّم يصعب حصول العلم ، ولكن كلمة «يصعب» شيء ، وما ادّعوه من أنه «متعذر» شيء آخر.

ثانيا : أنه متى ما روعي ترتيب المقدّمتين في القياس بجزئيه الصوري والمادي في الذهن ، فيحصل لنا الجزم بالنتيجة سواء كان هناك معلّم أو لا ؛ فما ادّعاه بعض الاسماعيلية مخالف لطريقة العقلاء عامة.

الأمر الرابع : شروط النظر :

متى يكون النظر صحيحا ، ويؤتي ثماره لا بدّ فيه من شروط ثلاثة :

الشرط الأول : عدم الحصول على الغاية ، بمعنى أن الإنسان إذا أراد النظر في مقدمات ما لا بدّ أن يحصل على غاية وهي الاطّلاع على النتيجة هل هي صحيحة أم لا بعد تركيب القياس بأن العالم متغير ـ وكل متغير حادث ، فالعالم حادث ، فإذا كانت الغاية حاصلة لديه ، ومع هذا نظر فيها فإنه أشبه شيء بتحصيل الحاصل وهو قبيح ، لأنه بعد تحصيل الغاية يكون قد أراد تحصيلها من جديد.

الشرط الثاني : ألّا يعتقد بضد النتيجة التي يريد الاطّلاع عليها ، فإذا كان معتقدا بضدها أي «عدم حدوث العالم» فسوف يكون جاهلا بالجهل المركب ككثير من الناس الذين يعتقدون الوصول للواقع مع أنهم بعيدون عنه.

الشرط الثالث : حضور المطلوب لدى الناظر ، إذ الغافل عن الشيء لا يطلبه ، والنظر نوع من الطلب.

الأمر الخامس : في رتبة النظر :

والمراد منه : أنه ما هي أول الواجبات على المكلّف؟

اختلف المتكلمون في ذلك على ثلاثة وجوه :

الأول : أنه الشك.

٢٨

الثاني : أنه النظر.

الثالث : المعرفة بالله تعالى.

ـ الوجه الأول لأبي هاشم ودليله :

أن النظر يجب أن يكون مسبوقا بالشك.

ـ الوجه الثاني لأبي إسحاق الأسفرائيني والسيد المرتضى وابن نوبخت.

ـ والوجه الثالث للأشاعرة وبعض المعتزلة ، وفيه إشارة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام كما في قوله في النهج : «أول الدين معرفته».

والحق أن يقال : إن النظر أول الواجبات ، لأنّ الشك متقدم على النظر ، والنظر متقدم على المعرفة ، وهي حالة متأخرة بعد الشك والنظر ، وذلك كالطارق على الباب ، فمن كان داخل الدار شاكّا يكون الطارق رجلا أم امرأة ، هنا عليه أن يبحث وينظر حتى يتبيّن له معرفة الطارق بالتفصيل.

وما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «في أن أول الدين معرفته» فإن أريد بالأوليّة ما كان أولا بالذات وبالقصد الأول فلا شك أنه هو المعرفة بالله سبحانه ، فإن النظر إنما يطلب لأجلها ؛ وإن أريد به ما كان أولا كيف كان ، فهو القصد إلى النظر لأنه شرط ، والشرط مقدّم على المشروط (١).

فتلخص من هذا أن المعرفة حالة حاصلة بعد الشك والنظر ، ولا بأس هنا من الإشارة إلى تنبيهات عدة :

التنبيه الأول : في الفرق بين المعرفة والعلم :

وقبل بيان الفرق بينهما لا بدّ من الإجابة على سؤال مفاده :

هل يعرّف العلم؟

فذهب جماعة : إلى عدم إمكان الوقوف على حد للعلم وذلك بوجهين :

الأول : إن المعرّف (بالكسر) لا بدّ أن يكون أجلى وأوضح من المعرّف (بالفتح) ومن الواضح أنه لا يوجد شيء أوضح من العلم.

__________________

(١) نهج المسترشدين : ١١٣.

٢٩

الثاني : إن العلم من الصفات الوجدانية فلا يفتقر إلى تعريف وذلك :

أولا : لأن الإنسان الذي لم تكن المسألة ظاهرة له لم تنكشف له ، حيث يجد في نفسه حالة لم تكن حاصلة له من قبل ، وتلك الحالة هي العلم بالمسألة.

ثانيا : إن الوجدانيات من الضروريات ، والضروري لا يفتقر إلى نظر وكسب.

وذهب آخرون : إلى أن العلم له حدّ لذا عرّفوه بتعريفين :

الأول : إنه الاعتقاد بأن الشيء على صفة كذا مع اعتقاد أنّه لا يكون إلّا كذا (١).

الثاني : إنه اعتقاد يقتضي سكون النفس ، وكلاهما غير ما نعيّن (٢).

أمّا بيان الفرق بين المعرفة والعلم فقيل :

إنّ المعرفة أخصّ من العلم ، لأنها علم بعين الشيء مفصّلا عمّا سواه ، والعلم تارة يكون مجملا وأخرى مفصّلا (٣).

فإذا كان كذلك فلا يصحّ أن يقال : «بأن الله عارف» بل الله عالم ، لأنّ علمه محيط بالجزئيات والكليات على حدّ سواء ؛ وحيث إنّ المعرفة قسم من العلم وجزء منه فلا يصح حينئذ إطلاقها عليه عزوجل إلّا بقرينة تحدّد سعة معرفته سبحانه بشئون خلقه.

والمفهوم العام للمعرفة يساوي مطلق العلم والاطّلاع ، وأحيانا تخصّص المعرفة بالإدراكات الجزئية.

وقد يقال في تعريف لفظ المعرفة بأنها :

«العلم الذي بواسطته يقوّم المرء تصوراته ويعيّن بها الملاك لتمييز الصحيح من الخطأ من تلك التصورات».

ومفهوم المعرفة واضح تماما كمفهوم العلم فليس بحاجة إلى تعريف ، لذا يعرّف الاسم كما هو آنفا ، لأنه ليس هناك مفهوم أوضح من مفهوم العلم حتى

__________________

(١) كشف المراد : ٢٤١ ط الأعلمي.

(٢) نفس المصدر.

(٣) الفروق اللغوية : ٦٢.

٣٠

يعرّف به ، كذلك المعرفة هي من المفاهيم الواضحة التي تستغني عن التعريف ، وإن عرّفت فهو ليس تعريفا حقيقيا وإنما هو تعيين المصداق منها.

التنبيه الثاني : الغاية من المعرفة :

إنّ كلّ ممكن يرتكز على غاية وهدف ، لأجل هذه الغاية أو الهدف خلقه بارئ الوجود وإلّا يعدّ خلقه عبثا يتنزه عنه الخالق العظيم والمكوّن الحكيم ، فهذه الممكنات من الذرّة إلى المجرّة تسير نحو هدف رسمه لها البارئ عزّ اسمه لتنال سعادتها وكمالها اللّذين أرادهما سبحانه بمقتضى رحمته لكي يسعد بهما الممكن كلّ بحسبه واستعداده ، فهذه المادة الصمّاء بنظرنا هي في الواقع حيّة ذات شعور تسبّح خالقها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (الإسراء / ٤٤) ، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (التغابن / ١) وتسبيحها يعني تكاملها نحو الهدف المنشود لها وهي حبّ خالقها ومدبّرها. وتسبيح الكائنات لربّها دليل معرفتها به سبحانه وإلّا فما معنى تسبيحها لمجهول؟!

والإنسان هذا الكائن المركّب من روح ومادة ، سعى دائما ويسعى نحو معرفة خالقه ومدبره إلّا القليل ممن لم يتجرّد عن جلباب المادة فوقع أسيرا لها تتقاذفه يمينا وشمالا ، من هذا المنطلق كانت البشرية منذ نشأتها تربط وجودها بمن أوجدها ، فحاولت التعرّف عليه عن طريق ما أودعه سبحانه فيها من هبة العقول التي بها يصل الحائر إلى شاطئ الرحمة الإلهية.

وحيث إنّ الإدراكات العقلية عند البشر متفاوتة قوة وضعفا ، طرأت شكوك عند بعضهم جرّت إلى طرح وإهمال كثير من المسائل التي هي موضع اهتمام واطمئنان لدى أفرادها ، مما دعا ثلة من المؤمنين بخط الأنبياء إلى وضع أسس فكرية يمكن بواسطتها الذبّ والدفاع عن الأصول التوحيدية لخالق الكون الذي لا يمكن معرفته بالحسّ ، فلا بدّ من الاستدلال على وجوده (وإن كان سبحانه موجودا إذا عميت عين لا تراه عليها رقيبا) بشيء غير حسّي أعني العقل أو المعرفة الحصولية المبتناة على الأسس العقلية الفلسفية.

لذا نقول : إن للمعرفة غايتين :

الأولى : غاية تثقيفية إشراقية ؛ والمراد منها تثقيف وإشراق الفكر عند المرء

٣١

المعتقد بوجوده سبحانه لتعميق فكره بمفاهيم الخالق كإثبات وجوده عزوجل وتثبيت صفاته وأفعاله.

الثانية : غاية هجومية ؛ ولا يراد منها الدفاع عن مفاهيم واجب الوجود فحسب بل تتعداها إلى ما هو أهم وهو صدّ الهجمات التي تطرأ من قبل المشككين والسوفسطائيين والملحدين ، وترشيد الضالين ، وإزاحة الشبه عن نفوس المشكّكين.

التنبيه الثالث : أنواع المعرفة :

إن الفائدة المتوخاة من الخوض في المعرفة هي إيجاد العلاج الناجع للمسائل الأساسية التي تعترض معتنقي الرؤية التوحيدية من قبل أصحاب المدرسة المادية بالتعبير العصري ، أو أصحاب المدرسة الدهرية بتعبير القدماء.

وأول الأسئلة التي تواجه الموحّد :

ما هي الطرق التي لا بدّ أن يسلكها لعلاج تلك الشبهات التي تعترض طريقه؟

الجواب :

أن هناك طرقا يمكن بواسطتها أن تعطى الأجوبة التفصيلية عن كل ما يرد في خاطر الفكر المادي ، والوقوف بوجهه بمنطق الحجة والبرهان ، وهذا ما تتكفل به الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وهما قسمان من المعرفة الإلهية.

وملخّص القول : أن المعرفة نوعان :

ـ المعرفة الحصولية.

ـ المعرفة الحضورية.

إن هذا التقسيم لأنواع المعرفة هو لون من ألوان التقسيم العقلي الدائر بين السلب والإيجاب ، ولهذا لا يمكن أن يفرض قسم ثالث في عرض هذين القسمين ، أي أن المعرفة لا تخرج عن أحد هذين القسمين.

نعم هناك أنواع أخر من المعرفة كالمعرفة التجريبية والتعبدية إلّا أنهما يندرجان تحت أحد القسمين المتقدمين أعني المعرفة الحصولية ؛ لأن المعرفة التجريبية تعني أنها تعتمد على الحس والتطبيق للوصول إلى المجهول ، وهذه بدورها تستند على العقل في تجريد المدركات الحسية وتعميمها وأما المعرفة

٣٢

التعبدية ، فتعني أنها تعتمد على خبر المخبر الصادق وهو النبي والوصي فلا بدّ من السعي لتحصيلها.

ولتحقيق هذين النوعين من المعرفة نوضّحهما تباعا.

المعرفة الحصولية :

ويراد منها :

المعرفة التي يحصل عليها الإنسان عن طريق الاستدلال الفكري النظري المحض كسعي الإنسان لمعرفة أن الله سبحانه قادر على كل شيء ، فإنه بواسطة مفاهيم كليّة يتوصل من خلالها أنه سبحانه قادر فعلا على كل شيء ، فيصبح عنده الغيب شهادة وحضورا.

ويعبر عنها بالمعرفة العقلية القائمة على أسس العقل واستنتاجاته ؛ وفي هذه المعرفة حاول بعض المشككين الماديين إنكارها لكونهم لا يعتمدون في كل شيء على غير الحس (١) والتجربة ، وأن المدركات العقلية بنظرهم لا يمكن لها استكشاف المجهول ، واستدلّوا على ذلك :

بأنّ العقليات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميّز به الصواب من الخطأ ؛ يعنون بذلك الحسّ والتجربة المماسّين للجزئيات بخلاف الإدراكات الحسية لأننا إذا أدركنا شيئا بالحواس اتبعنا ذلك بالتجربة والتكرار.

وقد تجرأ أصحاب نظرية أصالة الحسّ إلى إنكار ما وراء الطبيعة ، فأنكروا خالق الكون بدعوى أنه سبحانه لا تناله يد الحسّ والتجربة ، فقالوا : كيف نؤمن بوجود كائن لا تراه حواسنا.

وشبهتهم داحضة بوجوه :

الأول : إن كلامهم المتقدم مبتن على مقدمات عقلية ، فكيف يمكن الاعتماد على مقدمات عقلية لبطلان الاعتماد على مقدمات غير حسية؟

الثاني : إن الحسّ والتجربة ليسا منزّهين عن الخطأ ، بل إنّ الغلط والخطأ في الحواس لا يقصر عددا عن الخطأ في العقليات ، فلو كان مجرّد وقوع الخطأ في

__________________

(١) وأنصار هذه النظرية يطلق عليهم مصطلح «الحسيّون» لأن الأصالة عندهم للمادة (الحس) دون الماهية.

٣٣

باب موجبا لسدّه وسقوط الاعتماد عليه لكان سدّ باب الحسّ أوجب وألزم ، وذلك لتبدّل النظريات المعتمدة على الحسّ ، حيث إن هناك نظريات علمية طبيعية جاء بها أصحابها معتقدين بصحتها ثم تبين بعد ذلك بطلانها ، فمثلا : جاء آنشتاين بنظرية النسبية فعارضه كثير من علماء الطبيعة في بدء الأمر ، ثم صارت عندهم من مسلّمات العلم الحديث ، فإذا كان احتمال الخطأ قائما في كل تجربة حسيّة فكيف تكون حينئذ يقينية الصدق كما ادعى أصحابها؟!

الثالث : لو سلّمنا جدلا بقبول جميع العلوم الحسية للتجربة ، لكن من الواضح أنّ نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أخرى ، وهكذا إلى ما لا نهاية ، بل العلم بصحتها إنما يكون عبر الطريق العقلي لا الحسي ، فالاعتماد على الحسّ والتجربة هو بنفسه اعتماد على العلم العقلي اضطرارا.

الرابع : ثبت بالوجدان والحس وجود أنواع من الكائنات لا يبلغها الإحصاء ومع هذا لا تجري عليها يد التجربة بحال ولا ترى بالمنظار المكبّر منها : الجاذبية الأرضية والملكات والغرائز النفسانية والتصورات الخيالية.

المعرفة الحضورية :

ويراد منها : المعرفة الحاصلة للإنسان عن طريق الشهود القلبي الباطني من دون توسّط مفاهيم ذهنية ، وينالها المرتاض بالرياضات الشرعية المعبّر عنها ب «التخلية والتحلية» فتخليتها بتصفيتها من رذائل الأخلاق ، وتحليتها بأشراق الأنوار ومعالي الصفات.

وهذه المعرفة مطلوبة بالذات إلّا أن تحصيلها صعب عند أكثر الأفراد ، ولها مصاديق متفاوتة قوة وضعفا بحسب شدة التوجه وقلته ، وأقلّ مراتبها علم الإنسان بذاته ، فمن منّا لا يعلم بوجود نفسه؟!

فشعور الإنسان بوجوده المعبّر عنه ب «الأنا» دليل على علمه الحضوري وشهوده الداخلي بذاته ، فلا ينال العلم بذاته عن طريق التجربة والصور والمفاهيم الذهنية ، وفي هذا العلم لا يوجد تعدد وتغاير بين العلم والمعلوم أو كما قيل هناك وحدة بين العالم والمعلوم ، بعكس النوع الأول من المعرفة حيث يوجد واسطة بين العالم والمعلوم وبفضل تلك الواسطة يحصل العلم.

ومن يملك هذه المعرفة الشهودية ، والتي يمكن تسميتها «بقوة الحدس»

٣٤

تسابق للحصول عليها العرفاء الكبار بعد قطعهم لمراحل السلوك والسير إليه تعالى بالأسفار المعنوية الأربعة المقرونة بالإخلاص إلى المبدأ الفيّاض.

ومن مراتب هذه المعرفة هناك «المعرفة الفطرية». الكامنة بداخل الكيان الإنساني بدون استثناء وقد وردت في القرآن المجيد مرارا (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (الروم / ٣١) والمعرفة الفطرية المركوزة في الخلقة الإنسانية لا تحتاج إلى تعلم وتعليم لأنها تولد مع الإنسان كما ورد في الحديث : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه ...» (١).

وأما المعرفة الحضورية فلا تقبل الخطأ ، والسر في ذلك أن نفس الواقع العيني الحاصل في هذين الموردين (الحضوري والفطري) يكون واضح الشهود بخلاف موارد العلم الحصولي حيث إن المفاهيم والصور الذهنية تؤدي فيها دور الواسطة وقد لا تتطابق بشكل كامل مع الأشخاص والأشياء الخارجية.

لكن لا يعني هذا الاستغناء عن العلم الحصولي فإنه لولاه لما أمكن اشتداد العلم الحضوري لدى الفرد ، لأن المعرفة الحصولية مرافقة دائما للحضوري فمثلا عند ما تصاب بحالة خوف فإن ذهننا يلتقط صورة لحالة الخوف هذه بحيث يستطيع أن يستعيدها بعد انتهائها كما أنه يدرك المفهوم الكلي للخوف ويضم إليه مفاهيم أخرى ويخرجها بصورة جملة معينة «كأنا خائف» أو «لدي خوف» وبسرعة غريبة أيضا يفسّر طروء هذه الحالة النفسية على أساس معلوماته السابقة ويعيّن علة ظهورها.

إنّ كلّ هذه الأفعال والانفعالات الذهنية التي تتمّ بسرعة فائقة هي غير إدراك حالة الخوف والعلم الحضوري به.

والمعرفة الحضورية الحاصلة عند بعض الأفراد لا تكفي لأن تكون مقياسا يمكن بواسطته إقامة الحجة عند الخصم ، إذ ما يراه العارف بالشهود يحتاج إلى ما يصدّقه برهانا واستدلالا ، عدا عن إقامة البرهان لمن لا يعتقد بما اعتقد به أهل الحضور والشهود.

إلى هنا انتهينا من بيان ما يتفرّع على المعرفة التي بحث فيها الشيخ المظفر (قدس‌سره) بشكل مجمل ، وقد أراد من المعرفة القسم الأول منها أي المعرفة الحصولية.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٨١ ح ٢٢.

٣٥

النقطة الثانية :

وفي هذه النقطة بحث المصنف (قدس‌سره) في هبة العقول وأنه سبحانه تفضّل على البشرية بهذه النعمة التي بواسطتها تتم الحجة وتكتمل المحجة ، وعليها يثاب أو يعاقب المرء على ما قدّمت يداه.

ونحن بدورنا نبحث فيها ضمن أمور :

الأمر الأول : ماهية العقل :

العقل لغة : بمعنى التمييز والإدراك والفهم ، وسمي العقل عقلا : لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك ، وعقل الشيء يعقله عقلا : فهمه (١).

والعقل اصطلاحا : ما اصطلح إطلاقه على أمور :

الأول : قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما والتمكن من معرفة أسباب الأمور ، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والعقاب.

الثاني : ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع واجتناب الشرور والمضار ، أو ما يقال عنه أنه «نور روحاني تدرك النفس به العلوم الضرورية والنظرية».

الثالث : قوة تستعمل في نظام المعاش ، فتارة توافق الشرع وأخرى تخالفه ، فإن كانت الأولى فحسنة ، وإن كانت الثانية فمذمومة وهي المعبّر عنها بالشيطنة الموجودة عند معاوية وأمثاله حيث ورد أن شخصا سأل مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام عن العقل؟ فأجاب عليه‌السلام :

ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان.

قال الراوي : فالذي كان في معاوية؟

قال عليه‌السلام : تلك النكراء! تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل (٢).

الرابع : هو مرتبة من مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريات.

الخامس : النفس الناطقة الإنسانية التي بها يميّز الآدمي عن سائر البهائم.

__________________

(١) لسان العرب : مادة عقل.

(٢) أصول الكافي الشريف : ج ١ ص ١١ باب العقل والجهل.

٣٦

السادس : جوهر قديم لا تعلّق له بالمادة ذاتا أو فعلا.

والأخير من أسخف الأقوال ، وهو مردود جملة وتفصيلا وذلك لأنّ قدميته تستلزم تعدد القدماء وهو واضح البطلان ، أضف إلى أنه يؤدي إلى إنكار قيام الضرورة عند المسلمين كافة على حدوث العالم وإمكانه ومنه العقل ، فالقول بقدمه يستلزم ذينك المحذورين.

أما بقية الأقوال في تفسير العقل ففيها إشارات في إخبارات العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، وأصح تلك المعاني ، المعنيان الأولان ، وهما أكثر انطباقا على الأخبار من غيرهما.

وهذه المعاني المتعددة في تفسير العقل تدخل في تقسيمات العقل النظري ومراتبه ؛ وأما مراتب العقل العملي فتذكر عادة في كتب الأخلاق والعرفان ، وهي أربعة :

المرتبة الأولى : تهذيب الظاهر بإتيان الواجبات والاجتناب عن المنهيات ، ولا يقتصر فيها على الواجب وحده بل بتعداده إلى المستحب والمكروه.

المرتبة الثانية : تطهير الباطن عن رذائل الأخلاق حتى تصير النفس كالمرآة مجلوّة ، من شأنها أن يتجلّى فيها حقائق العلوم اليقينية.

المرتبة الثالثة : أن تشاهد المعلومات جلّها أو بعضها حسب توجهها لمبدإ الفيض.

المرتبة الرابعة : أن يفنى عن نفسه ويرى الأشياء كلّها صادرة عن الحق المتعال ، وراجعة إليه حيث يتخلق بأخلاق الله سبحانه ، لأن كثرة عكوف النفوس المتألهة على باب الله ومواظبتها على أفعال تشبه أفعال الله تعالى من الشفقة والعطف والرحمة على خلق الباري عزوجل ، ودعاء الخير على كل ذي روح ، والترفع عن الجسميات ، والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، كل ذلك يعدّ تشبها به وتخلقا بأخلاقه تعالى كما ورد عن رسول الرحمة «تخلقوا بأخلاق الله» حتى يحصل للمتخلقين بكثرة التعلقات الروحانية والصفات الربوبية بتكرر المشاهدات مبدأ صوري في نفوسهم ، وقوة عقلية مشرقة بنور الله هي مبدأ أنوار المعقولات لأن كل جوهر له في كينونته قوة واستعداد لحصول أشياء مختلفة ، فبحسب كثرة الانفعالات تحصل الصور والمدركات الجوهرية هي مبدأ تلك الكثرة ، فإذا كانت الانفعالات نحو النور القدسي ، فلا بدّ أن تتلبس

٣٧

الذات بصورة نورانية وكذا العكس ، ألا ترى أن كثرة مجاورة النار وتكرر التسخينات توجب للحطب وغيره صورة نارية تفعل فعلها ، وكذا كثرة مجاورة الأرض يجعل الشيء ترابا صرفا يفعل فعل التراب ، وهكذا فلا عجب من نفس حصل فيها إشراق لكثرة التشبهات بالمبادئ الإلهية والأفعال الربانية.

وهذه المرتبة هي آخر الدرجات في الفناء عن الذات ، فهي منتهى المقصود وليس وراء عبادان قرية.

واعلم أن العقل خلق قبل البدن والأجسام ، والمراد بالقبلية هنا القبلية الرتبية ، فالمعنى أن العقل مخلوق فوق البدن والأجسام قائم فوقها وهو أقرب إلى المبدأ من البدن ، وكل فيض يصل إلى البدن يصل إلى العقل أولا ثمّ إلى البدن ، وبالعقل قوامه وتدبيره ، وقد خلقه تعالى حين خلقه وأمره بالإقبال (كما ورد في الأخبار الصحاح) لقبول الإيجاد ثم أمره بالإدبار فنزل إلى الجسد ولم يكن تنزّله بتخلية مكانه بل بظهور فعله وتدبيره في البدن كما تنزل الشمس إلى المرآة ، فكلما كان البدن أعدل وأصفى يحكي نوره أحسن وأضوأ ، وكلما كان منحرفا عن الاعتدال كدرا ذا كثافة كلما كان الظهور أكثر اعوجاجا وأشدّ فسادا إلى أن يبلغ انحرافه وكدورته مبلغا لا يظهر عليه نور العقل تماما كالنطفة في الرحم فلشدة رطوبتها ولزوجتها وعدم اعتدالها مما يحجب نور العقل عنها ، وهكذا كلما صعدت النطفة بحسب استعدادها شيئا فشيئا فاعتدلت وتصفت فإنه يظهر عليها آثار العقل رويدا رويدا ، فيظهر فيها النمو أولا ثم تترقى حتى تظهر فيها الحياة الإنسانية إلى أن يخرج إلى خارج الأرحام فيترقى بحيث تظهر فيه آثار النمو والترقي بواسطة الأفلاك وتربية أرباب العقول والألباب إلى ما شاء الله حتى يبلغ الحلم فظهر فيه العقل لذا ورد «ثلاثة مرفوع عنهم القلم : المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يحتلم» ، وكلما تصفّى وكثر اعتداله وصفاؤه ونضجه قوى الظهور شيئا فشيئا إلى أن يبلغ خمسا وثلاثين كما في حديث عن مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «يرفّ الصبي سبعا ويؤدّب سبعا ويستخدم سبعا ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة ، وعقله في خمس وثلاثين وما كان بعد ذلك فبالتجارب» (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٧ / ١٩٥ ح ٥ باب النكاح.

٣٨

وبعض الناس من يكمل في سن الأربعين ، فإذا بلغه كمل عقله وازداد كمالا إلى أن يبلغ الخمسين أو الستين ، وذلك باختلاف الأفراد ، وإذا انحدر عن الستين وضعفت البنية وعجزت الطبيعة عن تحليل الرطوبات ، غلبت الرطوبات في رأسه وحجبت ظهور العقل فشرع في النقصان بحيث يبلغ مبلغا لا يعلم بعد علم شيئا فلا يميّز بين الأشياء ولا يعرف الأوقات والأشخاص إلى أن يغلب عليه البرد فتنطفئ حرارته ويموت ، وهذا الاختلاف في كل هذه الحالات في البدن ، والعقل باق على ما كان أول مرة فوق البدن لا يتفاوت كما إذا كانت الشمس ظاهرة ووضع تحتها جسم كثيف فصقّلته إلى أن صار مرآة صافية ثم غلب عليها الصدأ إلى أن حجبت الشمس بالكليّة ؛ فالشمس دائما على حالها ، وإنما حصل الاختلاف في المرآة المصدئة فلم تعد تحكي نور الشمس ، فلأجل ذلك يزداد العقل بتعديل البدن ، بالآداب الشرعية وتصفيته بالرياضات والمجاهدات المأمور بها شرعا إلى أن يصل إلى حالة كتبت له ، فمن ذلك يعلم أن العقل في مقامه على ما هو عليه ، وإنما الاختلاف في الظهور والخفاء وكمال الظهور ونقصانه.

ويعلم مما مرّ أنّ لكلّ امرئ ما ظهر فيه من العقل الجزئي المقتبس من العقل الكلي الذي لا يختص بأحد دون أحد إلّا بحسب سيره نحوه ، والمقصود من العقل الكلي نبي الرحمة محمّد بن عبد الله وعترته الطاهرة المطهّرة ، وسائر الناس لهم منهم عليهم‌السلام ما ظهر فيهم من الكمال المحمدي ، كما أنّ النار الكلّية في محلها ، وما للشعلة المخصوصة منها ما ظهر فيها وما اشتعلت به ؛ فكذلك عقل زيد هو ما ظهر فيه من نور العقل وانصبغ فيه وتخصّص به ، وهو يتفاوت بحسب أعماله وأحواله.

ومن هنا قيل : إن العقل عبارة عن قوة يعرف بها الحق كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (الزمر / ١٩).

حيث يستفاد من الآية المباركة أن العقل به يهتدى إلى الحق المطلق والإعراض عن العقل سفه نزّه الباري عزوجل أتباع دينه عنه بقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة / ١٣١) حيث عدّ المولى عزّ ذكره الإعراض عن ملّة إبراهيم من حماقة النفس وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرّها ، ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث : أن «العقل ما عبد به

٣٩

الرحمن ، واكتسب به الجنان».

شبهة وتوضيح :

قد يقول قائل : إذا كان بالعقل يعرف الحق ، حينئذ كفى في الدعوة إليه سبحانه ما يدعو إليه العقل من سلوك طريق الفضيلة والتقوى من دون حاجة إلى إرسال رسل وإنزال كتب؟!

والجواب :

إنّ العقل الذي يدعو إلى الفضيلة والتقوى إنما هو العقل العملي دون النظري المدرك لحقائق الأشياء ، والعقل العملي هذا يأخذ مقدمات حكمه من الإحساسات الباطنة ، والإحساسات التي هي بالفعل في الإنسان في بادئ حاله هي إحساسات القوى الشهوية والغضبية ، وأما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة ، والتي بالفعل لا تدع الإنسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الإنسان ، فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عمّا قليل إلى التوحش والبربرية مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم ، فلا غنى عن تأييد العقل بالنبوة والإمامة.

الأمر الثاني : فضل العقل وذم الجهل :

قد ورد في شأنه الفضل الكثير في القرآن المجيد ونصوص السنة المطهّرة فمن الكتاب العزيز :

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ...) (البقرة / ١٦٥).

وقوله تعالى : (... قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران / ١١٩).

وقوله تعالى : (... وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (المائدة / ١٠٤).

ومن السنّة النبوية المطهّرة.

منها :

٤٠