الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وإرادته الخاصة به ، فتؤثر فيها صفاته الروحية والخلقية. فأفعالنا نحن إنما تتناسب مع روحيتنا بإرادتنا ، ويكون هذا التحديد في ذلك القالب المعيّن لكل صادرة وبادرة من قبل علتها هو ما نحن بصدده من التقدير العيني الخارجي.

وهذا التفسير هو ما أشار إليه مولانا الرضا عليه‌السلام بقوله : «التقدير هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء والفناء».

وفي رواية أخرى : «التقدير وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء» (١).

وفي بعض الروايات : «إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله ، والله يزيد في الخلق ما يشاء» (٢).

وكون القضاء والقدر مخلوقين من مخلوقات الله تبارك وتعالى باعتبار أن وجود أية ظاهرة يكون متلازما مع «القضاء» الذي هو ضرورة وجودها من قبل علتها ، وكذلك مع «القدر» الذي هو تعيّنها بشكلها الخاص من قبل علتها أيضا ، فخالقها يكون خالقا لقضائها وقدرها أيضا ، فالذي يهب هذه الظاهرة الحياة يكون قد وهبها ضرورة الوجود أيضا ، وكذلك يكون قد حدّدها بحدودها.

التفسير الثاني :

كون القضاء والقدر بمعنى الإرادة والمشيئة الإلهية.

أي أن جميع المجردات في العالم بجميع أفعالها وتصرفاتها إنّما تتقمّص لباس الوجود بإرادة الله تعالى ، فلا يوجد موجود من دون إرادته ومشيئته ولا يستطيع أن يتم فعل من دون إذنه ، وهذا مقتضى الأدلة الفلسفية القائلة بأنّ جميع الموجودات ـ ما عدا الخالق العظيم ـ حسب التقسيم الفلسفي ممكنة الوجود ، وكل ممكن الوجود فاقد للحياة وعار عن كل كمال ، وعلى هذا فهو في تقمّصه لباس الحياة يحتاج إلى الاعتماد على سند غني بالذات يكون وجوده من نفسه وهو الله تعالى علة العلل وبهذه القاعدة الفلسفية أعني الارتباط بالذات الغنيّة أكّد القرآن العظيم عليها بقوله تعالى.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) (الحشر / ٦).

__________________

(١) البحار : ج ٥ ص ١٢٢.

(٢) التوحيد : ص ٣٦٤.

٣٠١

ذكر النخلة الناشئة (اللّينة) من باب المثال ، فكل شيء بإذنه تعالى وكذا قوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (الأعراف / ٥٩) فخروج النبات الطيب والنكد كله بإذن ربه ، ومن هذا التفسير للقضاء والقدر تولّدت شبهة المجبّرة القائلين بأنهم مجبورون على أفعالهم لتعلّقها بالقدرة الإلهية إذ ما يشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وإن كان الإنسان يرى نفسه حرّا في ذلك ظاهرا ، فإنّ هذا مجرد تصوّر أجوف إذ لا يكون شيء من دون إرادته تعالى.

ويجاب عن هذه الشبهة :

أولا : ان الله تعالى حينما خلق الكون جعل فيه سلسلة من العلل الطبيعية وليس كما يتصور الأشاعرة من أنه ليس في عالم الموجودات سوى علة واحدة هي العلة الفاعلة الأولى ، ومن خلال هذه العلة توجد جميع الحوادث والظواهر المتعددة ، لأنّ هكذا تصور مخالف للعقل والفطرة والوجدان وللكتاب والسنّة ، لأنّ الفلسفة حينما تقول بنظام العلل والمعلولات والأسباب والمسببات لتعترف بنوع من التأثير الدخيل لله تعالى في جميع الموجودات الطبيعية.

إضافة إلى أن هذا التصور الخاطئ يقضي إلى التجاسر على ساحة قدسه لاستلزامه القول بأنه سبحانه خلق الأفعال القبيحة وأنه هو المسئول عن كل ظلم وجور فيبطل مبدأ الوعد والوعيد والثواب والعقاب.

ثانيا : يوجد في النظام الكوني نوعان من العلل.

الأول : علل مختارة.

الثاني : علل مضطرة.

أما العلة المختارة : هي علة شاعرة مريدة بيدها حرية الاختيار وهي في عملها حرة مطلقة كالإنسان ، والمؤثر في هذه العلة على المعلول ليس وجود الإنسان وحياته فحسب ، بل وجوده وإرادته واختياره.

أما العلة المضطرة : هي علة غير مختارة كشروق الشمس وغروبها ونمو النبات وذبوله وكذلك نمو الإنسان والحيوان ، فإن ذلك ليس باختياره ، فحركة القلب ليس باختيار الإنسان يوقفه ويحرّكه في أية ساعة شاء. فإذا عرفنا هذا التقسيم الثنائي لنوع العلل في النظام الطبيعي ، حلت لدينا مشكلة الإرادة الأزلية لأفعال العباد ، صحيح أن كل موجود في الحياة لا بد من أن يكون موردا لإرادته تعالى ، وأن الإرادة الأزلية قد تعلّقت بوجود هذه الحوادث في الحياة ، ولكن علينا

٣٠٢

أن ننظر إلى أن إرادة الله الأزلية كيف تعلّقت بهذه الأمور؟

فإنّ من المسلّم به أن الله تعالى قد أراد أن يكون لكل معلول علّة ، ولكل مسبب سبب ، فأراد سبحانه للشمس أن تشرق غير شاعرة (١) ولا مختارة (أي أنها مضطرة) وأراد للإنسان أن يقوم هو بأفعاله بملء إرادته واختياره وحريته المطلقة.

فلم تتعلق إرادة الباري بصدور الفعل من العبد كيفما كان حتى ولو عن طريق الجبر ، بل إرادته تعلّقت بصدوره من العبد مختارا.

التفسير الثالث :

علمه سبحانه الأزلي بأفعال العباد.

تقريره :

ان الثابت في محلّه أنّ علمه عزوجل متعلّق بجميع الموجودات ولم يخرج شيء عن علمه سبحانه ، ومنها أفعالنا ، فكل ما يصدر منّا متعلق لعلمه فيجب وجوده وإلّا لزم كون علمه تعالى جهلا ، وإن شئت قلت : إنّ لتعلّق علمه تعالى بالفعل الخارجي له خصوصية على نحو العلة التامة بحيث لا بدّ وأن يوجد الفعل جبرا أو يتبدّل علمه بالجهل في حال لم يتحقق الفعل الخارجي ، وحيث إن الثاني محال فيتعيّن الأول.

وبتقرير آخر :

إن الله تعالى كان من الأزل مطّلعا على حركة هذا النظام وما فيه وأيضا هو تعالى عالم قبل أن يخلق هذا الخلق بأفعال المجرمين كسكر السكارى وقسوة السفّاكين بل أنه تعالى كان يعلم اللحظة التي سيقوم المجرم أو الخائن بعملهما المنحرف.

والجواب :

أولا : أن التصوّر الخاطئ للعلم الأزلي لله تعالى ، والذي أراد منه الخصم أن يكون سندا لمسألة الجبر باطل من أساسه لأنّ علمه تعالى لا يكون متعلقا بأفعالنا وحدها ، بل هو متعلّق بها وبمقدماتها وإلّا لزم كون علمه محدودا واتّصافه بمقابل العلم ، وهذا ينافي كون العلم من الصفات الذاتية ، وحيث إن من مقدمات الفعل الاختياري الاختيار والإرادة فيكون عالما بصدور الفعل عن الاختيار ، ولو

__________________

(١) «غير شاعرة» بناء على عدم الاعتقاد بالحركة الجوهرية ، لأنّ هذه النظرية نثبت كون الأشياء في حركة دائمة تسبّح بحمد ربها ، والتسبيح فرع الشعور والإدراك.

٣٠٣

التزمنا بالجبر ولزوم صدور الفعل لزم انقلاب علمه جهلا إذ المعلوم كون الفعل صادرا عن الاختيار ، والواقع صدوره جبرا (١).

ثانيا : إنّ علمه تعالى لا يعدّ علة لتحقق الفعل وإيجاده خارجا ، تماما كعلمنا بأننا سنفعل كذا وكذا فلا يكون هذا العلم علة لذلك الفعل لأنّ حقيقة العلم هي انكشاف الواقع على ما هو عليه ، ولا ربط لانكشاف الواقع بصدور ذلك الفعل ليكون علة للعلم.

وبتعبير فلسفي آخر : إن علمه تعالى فعلي لا انفعالي أي أن علمه سبحانه ليس تابعا للمعلوم بل المعلوم تابع له.

ثالثا : إن علمه تعالى لو كان علة لم يكن هناك حاجة إلى الإرادة وقد قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وغيرها من الآيات حتى جعلت الإرادة غير العلم ، لذا اتفق المتكلمون على أن من صفاته الذاتية : العلم والإرادة.

رابعا : علم الله تعالى الأزلي بضرورة وجود الحادث بخصائصه المعيّنة لا يوجب الجبر» لأنّ علمه تعالى منذ الأزل إنما تعلّق بصدور كل معلول من علته الخاصة به ، وعلمه عزوجل بأفعال الإنسان إنما تعلّقت بصدورها منه باختياره وإرادته. وهذا قد تقدم في التفسير الثاني بعينه فلا نعيد.

زبدة المخض :

انه سبحانه وهب الإنسان نعمة العقل والإرادة والاختيار وهداه إلى طريق السعادة فأرسل له السفراء والحجج تأكيدا لتلك الإرادة وإلّا لو كان مجبرا لما أرسل الرسل وأنزل الكتب ما دام الإنسان مسيرا لا مخيرا ، إذن ليس هناك أحد يقرّر للإنسان مصيره وان علم الله بمستقبلنا لا يضرّ باختيارنا وحريتنا.

التفسير الرابع :

التقدير المحتوم وغير المحتوم.

ويعبّر عنهما ب «الأجل المسمّى وغير المسمّى» كما في قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) فهما أجلان :

__________________

(١) الجبر والاختيار للروحاني : ص ٥٨.

٣٠٤

أجل موقوف يضع عزوجل ما يشاء ويؤخر ما يشاء.

وأجل محتوم لا يتغير أصلا.

فغير المسمّى : هو «القدر» وهو عبارة عن مقدّرات ستفقد بعض شرائطها أو سيعرضها ما يمانعها في خط الزمان ، وهذه متوقفة على مقتضيات وشروط إن تحققت استمرّ الموجود في البقاء وإلّا فلا.

والمسمّى : هو «القضاء» وهو عبارة عن توقف الشيء المقدّر المعلول لعلل ستحدث في ظروفها الخاصة بها من الزمان والمكان ، فإنّ وجود ذلك المقدّر مع ملاحظة وجود علله يكون حتميا وقطعيا.

مثال على هذين الأجلين :

لو وهب الباري عزوجل لأحدنا ولدا سليما من جميع الأمراض والأسقام ثم لو عرضناه على طبيب حاذق فأجرى عليه فحوصا دقيقة على جميع أنحاء جسمه وأخبرنا أنه يعيش مائة سنة ما دام بتلك الصحة والعافية ، أي أنه من الممكن أن يعيش مائة سنة لو حافظ على سلامة صحته بالشروط المعيّنة من المقتضي لاستمرار صحته ، وعدم المانع كعدم عروض مانع لاستمرار بقائه وهو ما يعبّر عنه ب «العلة التامة المركّبة من المقتضي وعدم المانع».

فبناء عليه يكون للطفل أجلان :

الأول : أجل غير مسمّى «أي مطلق» وهو إمكانه للبقاء بشرط محافظته على قوانين الصحة ، وهذا يقتضي أن يعيش مائة سنة وحيث إن لاستمرار البقاء سلسلة من الشرائط والمقتضيات ولا يعلم بالجزم واليقين أنه هل سوف تتحقق له جميع هذه الشرائط أو سيعرض له مانع عن البقاء؟ فهو مقدّر ولهذا يكون أجله مبهما لا محتوما أو مبرما.

الثاني : أجل مسمّى (معيّن ومحدّد) لا يتخطاه أبدا ، وهو ما علم أن هذا الوليد ستحقق له الشرائط المناسبة التي تؤهله لأن يعيش مائة سنة أو لا تتحقق فلا يعيش ، وقد يعبّر عنه ب «العلم بالنتيجة القطعية».

وهذا موكول علمه إلى الله سبحانه وأوليائه وملائكته ، وقد يعبّر عنه بالتقدير العلمي الأزلي البعيد عن الإبهام والترديد عنده تعالى وهذا التقسيم للقضاء والقدر قد أكّدت عليه نصوص القرآن والسنة المطهّرة.

قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ

٣٠٥

تَمْتَرُونَ) (الأنعام / ٣).

فعن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

الأجل الذي غير مسمّى موقوف يقدّم منه ما شاء ويؤخر منه ما شاء ، وأما الأجل المسمّى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل فذلك قول الله تعالى :

(إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١) (يونس / ٥٠) انتهى.

وفي حديث آخر مثله مع زيادة : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ...) وهو الذي سمّي لملك الموت في ليلة القدر ، والآخر له فيه المشيئة إن شاء قدّمه وإن شاء أخّره (٢). انتهى.

وهنا كلام للفخر الرازي لا بأس بعرضه قال :

إنّ لكل إنسان أجلين :

أحدهما : الآجال الطبيعية.

والثاني : الآجال الاخترامية.

أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني.

وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بالأسباب الخارجية كالغرق والحرق وغيرهما من الأمور المنفصلة (٣).

وفي الختام نقول :

ان الأجل المسمّى هو الأجل المعيّن المقطوع به الذي لا يطّلع عليه إلّا من اصطفى من عباده وهو لا يقبل التغيير والتبديل.

أما الأجل غير المسمّى فهو الأجل غير المقطوع ، بل هو قابل للتغيير والتبديل بالدعاء والصدقات والخيرات. وفيه نص عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره فيصيرها الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ ص ١١٦ ح ٤٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١١٦ ح ٤٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١١٧.

(٤) أصول الكافي : ج ٢ / ١٥٠ ح ٣.

٣٠٦

أما وجه حصر الأجل المسمّى بليلة القدر مع أنه وكما تذكر النصوص القرآنية والنبوية أنه في اللوح المحفوظ ، فوجهه أنه سبحانه يظهره على بعض عباده لحكم متعددة في ليلة القدر نازلا من اللوح المحفوظ.

إلى هنا انتهينا من الأمر الأول بشقوقه المتعددة.

الأمر الثاني : أقسام القضاء والقدر :

ينقسم كلّ منهما إلى قسمين :

علمي وعيني خارجي.

فالتقدير العلمي : عبارة عن تحديد كلّ شيء بخصوصياته في علم الله الأزلي قبل أن يخلق الخلق ، حيث كان عالما بالخصوصيات المادية والمعنوية ومقدارها قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

والقضاء العلمي : عبارة عن علمه تعالى بضرورة وجود الأشياء وإبرامها أي يعلم بوجوب تحقق أي شيء أو عدم تحققه ، فعلمه تعالى السابق بحدود الأشياء وضرورة وجودها بعد استيفاء شرائطها المقرّرة هذا القسم الأول من التقدير العلمي. أما التقدير العيني فهو ما يتحقق في عالم الخارج بعد اكتساء الشيء علله وشروطه أو عدم ذلك.

فالتقدير العيني : هو عبارة عن الخصوصيات التي يكتسبها الشيء من علله عند تحققه وتلبّسه بالوجود الخارجي.

والقضاء العيني : عبارة عن ضرورة وجود الشيء عند وجود علته التامة ضرورة عينية خارجية.

فالتقدير والقضاء العلميان مقدّمان على التقدير والقضاء العينيين الخارجيين.

وقد نصّ الكتاب الكريم على كلا القسمين العلمي والعيني.

فالآيات الدالة على التقديرين العلميين :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (فاطر / ١٢).

فالآية تدلّ على سبق علمه تعالى على تحقق الأشياء وتكوّنها وتقدّرها بمقدار

٣٠٧

معيّن وكل ما يحف بها من خصوصيات.

الآية الثانية :

قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٣) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٤)) (القمر / ٥٣ ـ ٥٤).

والزبر كتب الأعمال ، فكل شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا مسجّل في كتاب خاص.

أما الآيات الدالة على التقديرين الخارجيين :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (القمر / ٥٠).

قدر الشيء هو مقدار ما لا يتعداه ، والحدّ الذي لا يتجاوزه من جانبي الزيادة أو النقصان.

الآية الثانية :

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر / ٢٢).

فالحدّ المعلوم للشيء هو ما لا يتخطّاه إلى غيره.

أما الآيات الدالة على القضاء العيني :

فقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (فصلت / ١٣).

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (الأنعام / ٣).

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) (سبأ / ١٥).

أما الأخبار الدالّة على القسمين أيضا عديدة منها :

الرواية الأولى :

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

سبق العلم وجفّ القلم ومضى القضاء وتمّ القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل وبالسعادة من الله لمن آمن واتّقى وبالشقاء لمن كذّب وكفر وبالولاية من الله للمؤمنين ، وبالبراءة منه للمشركين ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يقول : يا

٣٠٨

ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي وبقوتي وعصمتي وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي ، وأنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بذنبك مني ، الخير مني إليك ما أوليتك به ، والشرّ مني إليك بما جنيت جزاءا ... (١).

الرواية الثانية :

ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزوجل قدّر المقادير ودبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام (٢).

الرواية الثالثة :

عن هشام بن سالم قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله إذا أراد شيئا قدّره ، فإذا قدّره قضاه فإذا قضاه أمضاه (٣).

الرواية الرابعة :

عن يونس قال الإمام الرضا عليه‌السلام :

يا يونس لا تقل بقول القدريّة فإنّ القدريّة لم يقولوا بقول أهل الجنّة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس. فإن أهل الجنة قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) ولم يقولوا بقول أهل النار فإنّ أهل النار قالوا : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) فقلت يا سيدي : والله ما أقول بقولهم ولكني أقول : لا يكون إلّا ما شاء الله وقضى وقدّر ، فقال : ليس هكذا يا يونس ولكن لا يكون إلّا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى (٤).

يفهم من هذا النص وغيره من النصوص أنّ القدر متقدم على القضاء وذلك لما تقدم معنا من تعريفه وأنه تحديد وجود الشيء مع الخصوصيات التي يتّصف بها ، لأنّ الشيء إنما يتحدد بكل جزء من أجزاء العلّة ، فإنّ كل واحد منها يؤثر أثره في المعلول على حدا ، فحيث إن أجزاء العلّة تتحقق قبل تمامها ، وكل جزء منها يؤثر أثره في محيطه ، ويكون أثره تحديد الموجود وصبغه يجب أن يكون

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٩٣ ح ١٣ عن تفسير القمي.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٩٣ ح ١٢ عن عيون الأخبار.

(٣) نفس المصدر : ج ٥ ص ١٢١ ح ٦٥ نقلا عن المحاسن.

(٤) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١١٦ ح ٤٩ نقلا عن تفسير القمي.

٣٠٩

التقدير متقدما على القضاء ، فصانع الطاولة يهيئ لمصنوعه قطع الخشب والأدوات المعدّة لصنعها ثم تركّب هذه القطع مع بعضها البعض فيصل إلى حدّ القضاء فتكون طاولة جاهزة للاستعمال.

إشكال :

قد يقال : إنّ تقدّم القدر على القضاء يعني عدم إمكان تصور الثاني بدون الأول أو عدم تحقق الثاني دون سبق الأول؟

وجوابه :

إنه في أغلب الأحيان لا يكون قضاء من دون سبق قدر لقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (القمر / ٥٠) (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق / ٤).

وحيث إن التقدير والقضاء من شعب الخلقة فلا يوجد شيء في صفحة الوجود إلّا بهما كما أشار إلى ذلك مولى المؤمنين أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق الله ، والله يزيد في الخلق ما يشاء» (١).

وعليه يكون القضاء والقدر من صات الفعل الإلهي باعتبار تعلقهما بالموجودات الإمكانية ، لأنّ وجودهما من أجل الخلقة لا من أجل شيء آخر ، وقبل التعلق هما من لوازم العلم الذاتي التي تتصف به الذات المقدّسة.

وبما أسلفنا يتبيّن أن القضاء متأخر عن القدر لأنّ إنجاز جميع التقديرات المختلفة لا يمكن بعد تنافيها ، فالواقع منها ليس إلّا واحدا بحسب تعيّنه وفقا للشرائط والأسباب ، وهو القضاء فمرتبة القضاء بعد مرتبة التقدير ومسبوق به. هذا كله بالنسبة إلى المعنى الحقيقي فيهما ، ولكن قد يطلق القضاء بمعنى القدر ، والقدر بمعنى القضاء أو كليهما ، وبهذا المعنى لا مانع من تقسيم القضاء إلى الحتم وغير الحتم ، ولعلّه من هذا الباب ما روي عن ابن نباتة قال : «ان أمير المؤمنين عليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين : تفر من قضاء الله؟ قال : أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزوجل» (٢).

فالقضاء والقدر إذا كان علميين (بمعنى أنه تعالى قدّر الأشياء قبل خلقتها

__________________

(١) التوحيد : ص ٣٦٤ ح ١ باب القضاء والقدر.

(٢) تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٧٨.

٣١٠

وأنجز أمرها وقضاها) فهما بهذا المعنى مساوقين لعلمه الذاتي ومن المعلوم أن القضاء والقدر بالمعنى المذكور من صفاته الذاتية لأنّ ضرورة الوجود لكل موجود وتقديره ينتهي إلى علمه الذاتي وإليه ما روي عن مولى الثقلين علي عليه‌السلام في القدر حيث قال :

«إنه سابق في علم الله» (١).

وإذا كانا ـ أي القضاء والقدر ـ فعليين فمن المعلوم أنهما بهذا المعنى (أي كونهما في لوح المحو والإثبات) من صفاته الفعلية لأنهما منتزعان عن مقام الفعل ، لأنّ كل فعل مقدّر بالمقادير ومستند إلى علته التامة الموجبة له ومنه قوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

إذن القدر متقدم على القضاء ، نعم قد يتأخر القدر عن القضاء في حالة واحدة هي [فيما لو فرضنا أنّ (التقدير والقضاء) على مرحلتين مختلفتين : إحداهما : مجرّدة. والأخرى: مادية مركّبة ... فلا بد لنا من أنّ نقول : ان (القضاء) هنا في مرحلة «التحقق» مقدم على (التقدير) في مرحلة «التكوين».

وللتوضيح نقول : بناء على البراهين الفلسفية التي تؤيدها آيات من القرآن الحكيم ، يجب أن نقول : إن مجموع العالم المادي : وجود تفصيلي محدد لعالم إجمالي سابق ، وأن جميع هذه الموجودات في هذا العالم كانت موجودة بصورة إجمالية في ذلك العالم السابق.

وللتقريب نضرب هذا المثال : نحضر عشر مسائل فيزياوية ، نقدّمها إلى عالم في الفيزياء العامة ، وهو يجيب عليها بصورة مفصلة ومبسوطة ، فيكون لهذه الأجوبة نوعان من الوجود :

إجمالي : وذلك قبل أن نطرح عليه تلك الأسئلة ، فقد كانت تلك الأجوبة موجودة في ذهنه العملاق بصورة إجمالية غير مفصلة ، هي التي تسمّى في المصطلح العلمي : (ملكة العلم).

وتفصيلي : وذلك بعد أن عرضنا عليه أسئلتنا العشرة فقد ظهرت منه تلك الأجوبة من عالم (الإجمال) إلى صورة تفصيلية محددة المعالم والخصائص.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٩٧ ح ٢٣.

(٢) بداية المعارف : ج ١ ص ١٨٩.

٣١١

ونقول بنفس هذا المعنى ـ تقريبا ـ في هذا العالم :

فإنّ هذه الموجودات الآن موجودة (بالوجود التفصيلي) ، معلولة في النهاية (لعلل بسيطة) خارجة عن عالم (المادة والطاقة) وعلى هذا :

فيما أن العلة لا بدّ من أن تكون مشتملة على جميع الكمالات الأصلية في معلولها ، وأصل وجود المعلول يجب أن يكون موجودا في علته ، بحكم قاعدة : (فاقد الشيء لا يعطيه).

على هذا : يجب أن نقول : إن (القضاء) بمعنى وجود أصل المعلول في العلة من دون أي حد ، ورسم : مقدم على (التقدير) بمعنى وجود المعلول محدودا مقيدا بخصائصه الوجودية في عالم المادة.

ومن وجهة النظر هذه يكون بإمكاننا أن ندّعي : أن القرآن الكريم أيضا قد أشار إلى هذا المعنى إشارة دقيقة حيث يقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فقد عبّر عن (الوجود الإجمالي) للأشياء ب (الخزائن) كما عبّر عن (الوجود التفصيلي) لها ب (القدر المعلوم).

وعلى وجهة النظر هذه يتخذ (القضاء والقدر) معنى آخر ، يتقدم به (القضاء) بمعنى (الوجود الإجمالي) على (القدر) بمعنى (الوجود التفصيلي) ، ويكون (القضاء) حينئذ مصدرا لوجود (القدر)] (١).

إنّ ما ذكره العلّامة السبحاني في دعواه المتقدّمة (من أن مجموع العالم المادي وجود تفصيلي لعالم إجمالي سابق ، وأن جميع هذه الموجودات في هذا العالم كانت موجودة بصورة إجمالية في العالم السابق) غير سديد بإطلاقه ، وذلك لأنه إن كان المراد من الوجود الإجمالي في الماديات المركبة الوجود المثالي دون الحقيقي فهذا صحيح وهذا لا يفرق في تعلق القضاء فيه بين كونه ماديا أو مجرّدا ، وإن كان المراد من الوجود الإجمالي تعلّق العلم الإلهي التفصيلي فإنه شامل للمجرّد والمادي معا.

وأما قياسه العلم الإجمالي التابع للبشر بالعلم الإلهي فقياس مع الفارق إذ إن علم الباري إحاطي أما علم المخلوق فموهوبي وكسبي ، وكيف يقاس الإحاطي الذاتي بالموهوبي العرضي؟!

__________________

(١) القضاء والقدر للسبحاني : ص ٩٢ ـ ٩٤.

٣١٢

إضافة إلى أننا لا يمكننا أن نفرّق العلم الإلهي إلى إجمالي وتفصيلي ، بل علمه تعالى تفصيلي دائما لإحاطته بمن خلق إحاطة تامّة تفصيلية (قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

الأمر الثالث : هل يغيّر الدعاء القضاء؟

مسألة تغيير القضاء غير المحتوم بواسطة الدعاء وأعمال البرّ والإحسان من المسائل الحيوية عند الشيعة الإمامية ، وهي موضع خلاف عند الديانات الأخرى ، فالمسيحيون يعتقدون بمشروعية الدعاء بل أساس ديانتهم مبنيّة على التضرّع والاستغاثة بالنبي عيسى وأمّه مريم بنت عمران عليهما‌السلام بل إن مريم نفسها إنما لقّبت بالبتول لكثرة عبادتها وانقطاعها بالدعاء إليه تعالى ، فأكثر توسّل النصارى بهما وانقطاعهم إليهما في الكنائس والخلوات.

وأمّا اليهود فلا يعتقدون بمشروعية الدعاء بحجة أنه لا يتطرّق أي تغيير أو تبديل في عالم الواقع لأنه سبحانه ـ بزعمهم ـ حينما خلق الخلق قدّر الأمور ثم فرغ من الأمر فلا يغيّر ولا يبدّل بل إنه إنما قضى بذلك قضاء قاطعا ، ومقتضى ذلك خروج أمرها من يده ويؤكد ما نسب إليهم من عدم مشروعية الدعاء ما ورد في الأخبار المتكثرة منها ما ورد عن يعقوب بن شعيب قال :

سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) قال عليه‌السلام : ليس كذا ، ومال بيده إلى عنقه ولكنهم قالوا : فرغ من الأشياء.

وفي تعبير آخر : فرغ مما هو كائن لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان (١).

وقد سرت هذه الشبهة اليهودية إلى أكثر شبابنا حيث نفوا تأثير الدعاء في تغيير الأوضاع من الأسوأ إلى الأحسن والأفضل ، فما نفع أو فائدة الدعاء في شفاء مريض أو هطول مطر أو ردّ بلاء فالمريض إذا كان قابلا للشفاء فسيشفى بتناول الدواء وكذا هطول المطر لا يتم إلّا إذا كانت الأجواء مناسبة ، وهكذا بقية الأمور قاسوها بمقياس مادي يهودي محض.

قد تقول : ما هي الأمور القابلة للتغيير؟

والجواب : إن الأشياء المقدّرة في علمه تعالى على نوعين :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١١٧ ح ٤٨ ـ ٤٩.

٣١٣

النوع الأول :

القدر المحتوم الذي لا يتغير قطّ مهما تضرّع الفرد المؤمن ومهما بلغ من الكمال الروحي والنفسي ، فإنّ مشية الله تعالى اقتضت أن لا يستجيب لتغييره لأنه أمر قطعي حتمي لا مفرّ منه وهو الموت المفروض على كل ممكن ، فمهما عاش الفرد من السنين فإنّ مصيره الموت المحتم قال سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فكل شيء سيموت ولا يبقى إلّا وجه الرب ذو الجلال والإكرام (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٧) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٨)) إذن هذه المقدّرات التي كتب عليها الفناء لا يمكن أن يغيّرها دعاء البتة.

النوع الثاني :

القدر غير المحتوم ويشمل كل المقدّرات غير الموت وطلب المحال فإنه قد يتغير بالدعاء أو الصدقة أو العمل الصالح الخ ...

ومنه على سبيل المثال لا الحصر ، ما لو قدّر سبحانه لعبد ما ـ بتقدير قابل للتغيير ـ أن يكون سفيها أو مريضا بشرط عدم سعي الفرد لإصلاح أمره أو جسده ، فهذا التقدير المتغير المشروط باستمرار حالته العادية التي هو عليها من دون إثابة أو توبة أو تضرّع وابتهال وخشوع وخضوع وصدقة وصلة رحم الخ ... فمثل هكذا شخص إن بقي على ما هو عليه فلا بدّ من إبقاء القضاء الأول عليه وهو أن يبقى مريضا أو سفيها حتى يدعو أو يتضرع أو يسعى إلى تحسين وضعه ويكون هذا بدوره من القضاء المحتوم ، والله جلّ جلاله يعلم منذ الأزل أيّ مصير سيحكم هذا الرجل هل أنه سيتوب أو يتوسل بالدعاء أو الصدقة أو غيرهما من وجوه البرّ والإحسان أو أنه سيبقى على وضعه الأول ، فالمسألة تدخل في علم الله الأزلي وعلى المرء أن يسعى إلى الكمال عن طريق الأمور المذكورة لعلّ القضاء المحتوم بإتيان إحداها.

شبهة وحل :

قد تثار شبهة مفادها : أنه لا داعي للدعاء للمريض ما دام الأمر لا يخلو من شيئين:

الأول : إمّا أن يكون في علمه تعالى الأزلي مكتوب له الشفاء فحينئذ لا داعي ولا فائدة لدعائه بالشفاء.

٣١٤

الثاني : وإما أن يكون قد كتب عليه الموت فحينئذ لا يكون للدعاء أي أثر لأنه محكوم عليه بالقضاء المبرم وهو الموت.

والجواب : عن الشق الأول من الشبهة فنقول :

إن المريض وإن كتب له الشفاء في علمه تعالى ولكن إثبات الشفاء له في علمه الأزلي ليس مطلقا بل لعله معلق ومشروط بسلسلة من العلل ومنها الدعاء ، وعلينا أن نحصل على هذه العلل التي منها الدعاء وأعمال البرّ ومراجعة المداوي وإلّا لاختلّ النظام ، فحيث هناك المرض والجهل والفقر وعدم التداوي وعدم رفع المستوى المعيشي بالسعي نحو العمل فإن كل ذلك يؤدي إلى الإخلال بالنظام التكويني واضطراب في البنية الاجتماعية والاقتصادية وهذا عين ما أراده لنا الأعداء لا سيما اليهود المؤسسون لشبهة أنه تعالى فرغ من الأمر ولا حاجة بنا للدعاء ، لذا ورد الحثّ الشديد على التكافل الاجتماعي والاقتصادي ورفع المستوى المعيشي عند الطبقة الكادحة ، فعن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

خمسة لا يستجاب لهم : رجل جعل الله بيده طلاق امرأته فهي تؤذيه وعنده ما يعطيها ولم يخل سبيلها. ورجل أبق مملوكه ثلاث مرات ولم يبعه. ورجل مرّ بحائط مائل وهو يقبل إليه ولم يسرع المشي حتى سقط عليه ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يشهد عليه ، ورجل جلس في بيته وقال : اللهم ارزقني ولم يطلب (١).

وعن الشق الثاني من الشبهة :

من ذا الذي حصل له القطع واليقين أنه سوف يموت بالوقت المحدّد حتى يكون ذلك مبرّرا له إلى ترك الدعاء أو التداوي؟ فهذه الدعوى على مدّعيها بل الأمر بالعكس حيث شجّعت الشريعة على الإلحاح في الدعاء والتداوي حال المرض والسعي حال الفقر أو الفشل والسقوط ، بل إن ترك السعي نحو الأفضل يستدعي عادة وبنظر العرف إحالة تبعات وآثار هذه الأفعال المشينة إليه تعالى مما يعني الجبر المنهي عنه عقلا وشرعا قال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة / ٢٦٩).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٠ ص ٢٥٦ ح ١٠.

٣١٥

عود على بدء :

بعد تمهيدنا للأمور الثلاثة الآنفة الذكر لا بدّ من العودة إلى النقاط التي تعرّض لها المصنف (قدس‌سره) وهي ثلاث :

نظرية الجبر الأشعرية.

نظرية التفويض المعتزلية.

نظرية الأمر بين الأمرين الإمامية.

النقطة الأولى : الجبر الأشعري :

قبل بيان أدلتهم المقرّرة ، نودّ التعرّف على الطوائف المنتسبة للإسلام من غير الأشاعرة ، ممن يقول بالجبر ، مع إهمالنا لبيان الجبر المادي والفلسفي اللذين يعتقد بهما أصحاب المدرسة المادية الإلحادية ، فإن لهذا مجالا آخر.

وقد عرفنا في بادئ الأمر أنّ هناك جماعة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمثال عمر بن الخطاب ومعاوية وغيرهما كانوا يروّجون لفكرة الجبر ، ويرجع الفضل في تثبيت دعائم فكرة الجبر إلى معاوية بن أبي سفيان لتدعيم حكمهم كما أسلفنا سابقا حتى بالغوا في ترويجها مما ألجأهم الأمر إلى قتل من يرفضها ، فيروى أن معبد الجهني وغيلان الدمشقي اللذان رفضا فكرة الجبر قتلا على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي وهشام بن عبد الملك.

ثم تسلسلت فكرة الجبر إلى أن تسلّمها أبو الحسن الأشعري وقلّده فيها جمهور العامة لذا ينسبون إليه بالعقائد فيقال إنهم أشعريون أصولا وأحناف أو مالكون أو حنبليون فروعا.

أما المنكرون منهم لمسألة الجبر هم جماعة قليلون نذكر منهم :

١ ـ أبو المعالي الجويني الشافعي المتوفى سنة ٤٧٨ ه‍ ، كان من المعتقدين بتأثير قدرة العباد في أفعالهم ، وأنّ قدرتهم تنتهي إلى قدرة الله ؛ وقال بوجود الأسباب والمسبّبات في النظام الكوني.

وهذا نص عبارته : «أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس ، وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلا ، وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير خصوصا والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم فلا بدّ إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه

٣١٦

الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحسّ من نفسه الاقتدار يحس من نفسه أيضا عدم الاستقلال ، فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبّب الأسباب فهو الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني على الإطلاق فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر» (١).

٢ ـ الشيخ الشعراني المتوفى عام ٩٧٣ ه‍.

قال : «اعلم يا أخي إنّ هذه المسألة من أدق مسائل الأصول وأغمضها ولا يزيل إشكالها إلّا الكشف الصوفي ، أما أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها ، وآراؤهم فيها مضطربة إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول : ليس للقدرة الحادثة (يقصد قدرة العبد) أثر ، وإنما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير» (٢) ثم قال : ملخّص الأمر إنّ من زعم أنه لا عمل للعبد فقد عاند ، ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك ، فلا بدّ أنه مضطر على الاختيار (٣).

٣ ـ الشيخ محمّد عبده توفي عام ١٣٢٣ ه‍.

وقد عرف الشيخ عبده بمخالفته للسائد عند قومه ووافق الإمامية القائلين بتأثير قدرة العبد في فعله ولم يبال بالترهات وبما كان يردده القوم على الألسن :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة فذاك كفر عند أهل الملّة (٤).

الفرق الجبرية :

«الجبر» كما عرّفه الشهرستاني : هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى (٥).

ثم إنّ الجبريّة على أقسام :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) الملل والنحل للسبحاني : ج ٢ ص ١٥٢.

(٣) اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر للشعراني : ص ١٣٩ ـ ١٤١.

(٤) الملل والنحل للسبحاني : ج ٢ ص ١٥٤.

(٥) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٨٥.

٣١٧

الأولى : خالصة في الجبريّة.

الثانية : متوسطة فيها.

الثالثة : كسبيّة.

فالخالصة : هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا.

المتوسطة : هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا.

الكسبيّة : هي التي أثبتت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل (أي أن أعمال العباد مخلوقة له تعالى وهم فاعلون لها).

وأهم فرق الجبر ثلاث :

الفرقة الأولى : «الجهمية» أصحاب جهم بن صفوان ، ظهرت بدعته بترمذ ، وقتله مسلم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أميّة وكان المذكور يخرج بأصحابه فيوقفهم على المجذومين ويقول : انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا منه لرحمة الله تعالى كما أنكر حكمته ، وقد وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أشياء ، من جملتها أنه لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأنّ ذلك يقضي تشبيها ، فنفى كونه حيا عالما ، وأثبت كونه قادرا فاعلا خالقا لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل والخلق.

ومن جملة ما زاد : قوله في القدرة الحادثة حيث رأى أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار ، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات ... والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر ، وإذا ثبت الجبر فالتكليف كان أيضا جبرا (١).

الفرقة الثانية : «النجارية» أصحاب حسين بن محمد النجّار قال بخلق الأعمال خيرها وشرها ، حسنها وقبحها ، والعبد مكتسب لها ، وأثبت تأثيرا للقدرة الحادثة وسمى ذلك كسبا على حسب ما يثبته الأشعري (٢).

الفرقة الثالثة : «الضّرارية» أصحاب ضرار بن عمرو وحفص الفرد حيث قالا :

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٨٦.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٨٦.

٣١٨

إنّ أفعال العباد مخلوقة للباري حقيقة ، والعبد مكتسبها حقيقة (١).

فالفرقتان الأخيرتان تقران بالكسب ، وحقيقة الكسب راجع إليهما وتبعهم على ذلك أبو الحسن الأشعري ، لتقدّمهما على الأخير المتوفي سنة ٣٢٤ ه‍.

والحافز الذي دعاهم للقول بنظرية الكسب المضافة إلى الجبر هو هروبهم من الإشكالات المتوجهة إلى عقيدة الجبر.

أما ما هو الكسب الذي اضطربت عبارات القوم في تفسيره حتى صار من الألغاز التي يعسر فهمها إلّا على الأوحدي؟

أقول : قد عرّفه القوم بأنّه عبارة عن قيام الباري بإيجاد الفعل مقارنا لإرادة العبد وقدرته من دون أن يكون لقدرة العبد تأثير.

قال القوشجي أحد علماء العامة في شرحه على كشف المراد ص ٤٤٥ ط قم :

«المراد بكسبه إياه ، مقارنته لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له».

توضيح ذلك بالتقرير التالي :

لا شك أن الكسب عند الأشاعرة ما هو إلّا عبارة عن قدرة الإنسان على الفعل ، حيث نرى بالوجدان فرقا بين المتكلم والأخرس وفي نفس الوقت توجد إلى جانب قدرة الإنسان هذه قدرة الله تعالى لأنه قادر على كل مقدور ، وبما أنه لا يجتمع قادران على مقدور واحد فلا بدّ أن يستند الفعل إلى إحدى القدرتين ، إما إلى قدرة الله تعالى ، وإمّا قدرة العبد وحدها ، ولمّا كانت قدرة الله أقدم وأعمّ وأقوى أسند إليها الفعل ، وإسناد الفعل إلى قدرة الله لا يستلزم انتفاء قدرة العبد عليه ، بل هي موجودة ومقارنة لقدرته تعالى ، وهذا الاقتران بالذات يقال له الكسب وبه يصح التكليف والثواب والعقاب والمدح والذم وبه ينزّه الله تعالى عن الظلم لأنّ قدرة العبد على الفعل متحققة في نفس الأمر والواقع.

ينقض على نظرية الكسب :

أولا : إنّ ما ادّعاه أصحاب الكسب من أنّ قدرة العبد مقارنة لقدرة الرب يستدعي أن يكون وجود القدرة عند العبد وعدم وجودها سيّان ما دامت غير

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ ص ٩١.

٣١٩

صالحة للتأثير ومغلوبة بقدرة الرب ، لذا قال ابن رشد :

لا فرق بين القول بالكسب وقول الجبرية إلّا باللفظ ، والاختلاف باللفظ لا يوجب الاختلاف في المعنى (١).

ثانيا : إنّ تحقق الفعل منه تعالى مقارنا لقدرة العبد لا يصحّح نسبة الفعل إلى العبد ، ومعه كيف يتحمّل مسئوليته إن لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه ، وعلى هذا تكون الحركات الاختيارية تماما كالحركات الجبرية.

ثالثا : دعوى الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله تعالى وهو ظلم عظيم لأنّ الاعتقاد بالمقارنة عين الشرك وخلاف التوحيد الافعالي لله سبحانه وتعالى.

استدلال الأشاعرة على صحة الجبر :

استدلّوا على المدّعى بأدلة عقلية ونقلية ، والمرء يعجب كيف أنهم يستدلّون بالعقل على صحة ما يزعمون وقد أنكروا حجّيته؟! بعد ما عرفت إنكارهم للحسن والقبح العقليين ، أليس هذا عين التهافت والتناقض؟! ولكن صدق الرب العظيم إذ يقول في كتابه : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ...).

الأدلة العقلية :

الدليل الأول :

إن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء لعموم قدرته (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) بلا فرق في هذا الخلق بين الذوات الخارجية وأفعال العباد فلا مؤثر في الوجود إلّا الله ، فحينئذ تكون أفعالنا مخلوقة لله تعالى إبداعا وإحداثا ، فكل ما يصدق عليه اسم شيء ـ ومن ذلك الأفعال الاختيارية ـ فهو مخلوق لله تعالى منسوب إليه ، وما نراه من بعض العلل والمعاليل ما هي إلّا عادة أجراها سبحانه على ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه علة من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة ، فالنار التي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة والبرودة على السواء ، فالنار لا تحرق بل عادة الله جرت على إحراق الشيء المماس لها من دون مدخلية للنار في الإحراق (٢).

__________________

(١) معالم الفلسفة الإسلامية.

(٢) الإبانة وشرح المواقف.

٣٢٠