الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

وجه الدلالة : أن الكافرين قد أمروا أن يسمعوا الحق وكلّفوا به مع أنهم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ...) فدلّ ذلك على جواز التكليف بما لا يطاق ، ودلّ على أنّ من لم يقبل الحق ولم يسمعه لم يكن مستطيعا.

والجواب :

إنّ الآية بصدد عدم استطاعتهم على السمع لتماديهم في الظلم والغي وإحاطة ظلمة الذنوب على قلوبهم وأعينهم وأسماعهم ، حيث صيّر العصيان والطغيان القلوب ميتة والأسماع صمّاء ، قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ).

الآية الثانية : قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٢) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٣)) (البقرة / ٣٢ ـ ٣٣).

قالوا : انه سبحانه كلّف الملائكة بإنباء الأسماء فقالوا له (لا عِلْمَ لَنا) فأمرهم بالإنباء مع كونهم ليسوا بعالمين دليل التكليف بما لا يطاق.

يلاحظ عليه :

إنّ الأمر في قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) للتعجيز لا للتكليف والبعث نحو الإنباء حقيقة ، هذا نظير قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

إلى هنا تبيّن أن التكليف بغير المقدور مما تأباه العقول وتنكره أدلّة المنقول ، وما استدلّ به العامة فمبنيّ على المرتكزات التي يسيرون على ضوئها منها عدم تأثير قدرة العبد في فعله وليس العبد إلّا ظرفا للفعل كما تقدم.

الأمر الثالث : الجاهل المقصّر معاقب :

مرة يكون الجاهل قاصرا بمعنى أنه لم يتمكن من السؤال لمانع أو لقصور في ذاته ، فهذا معذور عند الله تعالى ولا عقاب عليه إذ إنه تعالى لا يعاقب إلا بعد البيان ووصول البرهان وحيث لا بيان واصل للمكلّف فلا عقاب. وبعبارة أخرى : انّ الجهل من الأعذار العقلية والشرعية ، فالجاهل بالحكم قصورا لا تقصيرا معذور ، أما المقصّر فهو كالعامد في عدم العذر واستحقاق العقاب ، فلا عقاب على من لم يتنجز عليه التكليف لأن المؤاخذة فرع وصول التكليف وتنجزه بحق

٢٨١

المكلّف ، فإذا ارتفع التكليف قصورا نتيجة موانع ذاتية وعرضيّة فحينئذ ترتفع المؤاخذة. ويظهر من كلام الآخوند «عليه الرحمة» في الكفاية أن استحقاق العقاب أثر عقليّ له مع أنه متفرع على المخالفة بقيد العمد ، وبما أنّ الجاهل القاصر غير متعمد لترك التكليف فلا يكون عاصيا بجهله ، لأنّ التكليف غير منجّز بحقه فلا يكون موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقوبة على المخالفة ، لأنّ موضوع حكم العقل باستحقاق العقوبة هو الظلم على المولى والخروج عن رسوم العبودية ، وذلك يتحقق بمخالفة التكليف المنجز وهو الواصل الى المكلّف دون غير الواصل ، فإنه ليس موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقوبة على مخالفته ، فلا مؤاخذة على التكليف المجهول أو غير الواصل للمكلّف لموانع ذاتية أو عرضية.

وتارة يكون مقصّرا أي قادرا على تحصيل العلم عبر السؤال من أهل الذكر ولكنه ترك عمدا وإهمالا ، فهذا مما لا ريب أنه يستحق العقاب عقلا وشرعا ، إذ المكلّف لو التفت [إلى أنّه لم يخلق هملا ولم يترك سدّى باعتباره مؤمنا بالله وبرسالاته وحججه عليهم‌السلام] ، لا بدّ أن يحصل لديه علم إجمالي بتكاليف فعلية كثيرة هو جاهل بها فعليه الفحص للحصول عليها ، ولا مجال للأخذ بالبراءة العقلية كقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ البيان موجود وإنما حصل تقصير عند المكلّف بحيث لم يرجع إليه بسؤال العلماء ، ولذا لم تقبح عقلا مؤاخذته لتقصيره.

ويستدل أيضا على عدم معذورية الجاهل المقصّر بأمور :

الأول : الإجماع القطعي الدالّ على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة ، فلا يحق للمكلّف أن يجري أصالة عدم التكليف بكل ما يشك به بل عليه أن يفحص ويسأل لئلا يقع في محذور المخالفة القطعية.

الثاني : الأدلة الدالة على وجوب التعلّم كآية النفر بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة / ١٢٢).

تثبت الآية المباركة وجوب التفقه على جماعة بحيث يتعلّمون أحكام الدين والتفقه في شريعة سيد المرسلين ثم هؤلاء بدورهم يرجعون إلى ديارهم لينذروا أهاليهم وأقوامهم ، وليس معنى هذا أنّ على المتفقّه أن يدخل بيوت المؤمنين فردا فردا ليعلّمهم أحكام دينهم ، بل المراد أنه عليه أن يبسط عليهم أحكام الدين وعليهم أن يسألوه عما يحتاجون إليه من معرفة أمور الدين ، لأنه إذا وجب على

٢٨٢

العالم أن يعلّم وينذر وجب على الجاهل أن يقبل قول العالم ويعمل به كما أنه يجب عليه أن يسأله لو جهل بعض الأحكام.

وهذا الأمر الضروري قد أكّده مولى الثقلين بقوله عليه‌السلام :

«ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» (١).

سؤال وجواب :

هل المؤاخذة والعقاب مترتبان على ترك التعلّم أو على ترك الواقع؟

قد يقال إن المؤاخذة على ترك التعلّم لكون طلب العلم نفسيا ، لكنه مردود لأن طلب العلم وحده من دون أن يترتب عليه العمل لا يكون إلّا وبالا على صاحبه لأن العلم يدعو للعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل.

وأما لو قلنا أن المؤاخذة إنما لمخالفة الواقع فيكون التعلّم حينئذ طريقا لتحصيل الواقع ، فلو ترك التعلم يعاقب على تركه الواقع لا على تركه التعلم ، لأن التعلم يفضي إلى الواقع.

وإليه أشار الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» حيث قال :

الإنصاف ظهور أدلة وجوب العلم في كونه واجبا غيريا مضافا إلى الأخبار الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة (٢).

وعليه جرى الفقهاء المتأخرون منهم الخوئي والشهيد المظلوم آية الله العظمى الميرزا الغروي «قدس‌سره» قال الأخير في بحث تقريره للخوئي :

«ذهب جماعة منهم الأردبيلي إلى الالتزام بالوجوب النفسي في المقام وأن التعلم واجب نفسي والعقاب إنما هو على ترك التعلم نفسه لا أنه على ترك الواجب الواقعي.

وفيه أن الأدلة المستدلّ بها على وجوب التفقه والتعلم ظاهرة في أنّ التعلم واجب طريقي وأنه مقدمة لامتثال الأحكام الواقعية ولا يكاد يستفاد منها أنه واجب نفسي أبدا»(٣).

ويشهد لكون الواجب طريقيا ما ورد في قوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ

__________________

(١) نهج البلاغة بشرح عبده / ٢٦٦ قصار الحكم رقم ٤٧٨ وورد مثله في أصول الكافي : ج ٢ / ٤١ ح ١.

(٢) فرائد الأصول : ص ٣٠٣ بشيء من التصرف.

(٣) التنقيح : ج ١ ص ٢٩٥ بتصرف بسيط.

٢٨٣

فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام / ١٥٠) ورد فيها أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ، عبدي أكنت عالما؟ فإن قال : نعم ، قال الله : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلا قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصم فتلك الحجة البالغة (١).

وعليه فما ذهب إليه الأردبيلي وصاحب المدارك ومن تبعهما من أن العلم واجب نفسي ، والعقاب على تركه من حيث هو لا من حيث إفضائه إلى المعصية أي ترك الواجبات وفعل المحرّمات المجهولة تفصيلا مشكل بل غير صحيح فلا يعاقب من خالف الواقع إلا عقوبة واحدة على مخالفة الواقع (٢).

ويستظهر من عبارة المصنف أن المؤاخذة على ترك الواقع لا ترك التعلم كما استظهره بعضهم.

ومن الآيات التي استدل بها على وجوب التعلم آية الذكر بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل / ٤٤) فالآية واضحة الدلالة على أن الجاهل يفرض عليه أن يسأل العالم ، وهذا أمر جرى عليه العقلاء في كل زمن.

وما ورد من الأخبار الحاثّة والدالة على وجوب التعلم (٣) منصرفة إلى العلم المفضي للعمل ودرك الواقع.

ويشهد لهذا ما ورد من أن العلم يهتف بالعمل ، وأنه لا يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه (٤).

الثالث : الأخبار الدالة على أنّ المقصّر غير معذور ، منها :

ما ورد سابقا من قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ).

وما ورد أيضا عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام حيث سئل عن مجدور أصابته جنابة فغسّلوه فمات.

قال عليه‌السلام : قتلوه ألا سألوا فإنّ دواء العي (الجهل) السؤال (٥).

وسبب قتلهم له أنّ حكم المريض إذا أجنب ولم يقدر على الغسل أو أنه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢ ص ٢٩ وتفسير البرهان ج ١ ص ٥٦٠.

(٢) بداية المعارف : ج ١ ص ١٤٩.

(٣) منها أخبار طلب العلم فريضة لاحظ أصول الكافي : ج ١ ص ٣٠ ح ١.

(٤) أصول الكافي : ج ١ ص ٣٠ ح ٣.

(٥) أصول الكافي : ج ١ ص ٤٠ ح ١.

٢٨٤

يتضرّر به هو التيمم ، فمن غسّله أو أفتى بتغسيله فهو ضامن ، ثم إن الإمام عليه‌السلام وبّخهم لتركهم السؤال ، إذ لو سألوا عن كيفية معالجة الأمر لما وقعوا فيما وقعوا من إهلاك أنفسهم في الآخرة بإهلاك غيرهم في الدنيا.

الرابع : ان العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام كما لا يعذر الجاهل بالمكلّف به العالم به إجمالا ، ومناط عدم المعذورية هو قدرته على السؤال ولكنه لم يسأل.

الأمر الرابع : الغاية من التكليف :

بما أنه سبحانه حكيم ، والحكيم لا يصدر منه العبث أصلا ، بل كل ما يصدر منه ما هو إلّا حق وصواب لأنه سبحانه العالم بالمصالح والمفاسد ، وبما أنه سبحانه كلّف عباده بتكاليف فلا بدّ أن يكون فيها الخير والصلاح لأفراد البشرية ، وهذا ما استقرّ عليه فكر الإمامية ، وقد خالفهم جمهور العامة القائلون : بأنّ الأفعال في حدّ أنفسها ليست حسنة ولا قبيحة بل ذلك متعلق بالشرع وقد قدّمنا تفصيل ذلك.

دليل الإمامية على عدم صدور القبيح منه تعالى :

يستدل على ذلك بوجوه :

الأول : إنّ الصارف عن فعل القبيح موجود والداعي مفقود ، وكلّما وجد الصارف وانتفى الداعي امتنع الفعل.

بيان ذلك :

إنّ الصارف عن فعل القبيح هو العلم بقبحه والغنى عنه ، وبما أنه تعالى عالم بكل المعلومات كلّيها وجزئيّها والتي من جملتها القبائح ، وكونه تعالى غنيا بذاته وصفاته ، والمستغني عن الشيء العالم بقبحه وبغناه عنه لا يفعله إذا كان حكيما.

وأما انتفاء الداعي فلأنه على قسمين :

إمّا الحاجة وإمّا الحكمة.

أما داعي الحاجة ـ أي داعي الطبع ـ فهو مستحيل عليه تعالى لما ثبت من كونه غنيا ، وليس له طبع كالمخلوقات.

وأما داعي الحكمة ـ أي داعي العقل ـ فهو أيضا مفقود لأنّ القبيح لا حكمة فيه.

الثاني : لو جاز منه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده ووعيده لإمكان تطرق الكذب عليه ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب

٢٨٥

وذلك يفضي إلى الشك في صدق الأنبياء ويمتنع الاستدلال بالمعجزة عليه.

دليل الأشاعرة على صدور القبيح منه تعالى (حاشاه عزوجل):

استدلّوا عليه بوجهين :

الأول : أنه تعالى كلّف الكافر بالإيمان وهو تعالى يعلم أنه سيموت على كفره ، وتكليفه بالإيمان قبيح لعلمه تعالى أن الكافر سيموت على الكفر فيكون تكليفه بالإيمان قبيحا مما يعني صدور القبيح منه تعالى وهو المطلوب.

والجواب :

إنّ تكليف الكافر كان من أجل تعريضه بما يوجب له الثواب الأخروي ، وذلك حسن ، فمع مخالفته التي هي بسوء اختياره النابع عن إرادته استحق الضرر والعذاب الأخروي ومع استحقاقه للعذاب لا يصير ذلك الحسن قبيحا كما لو أنّ طبيبا أخبر إنسانا بما هو سم ومفني للحياة ، وما هو ملائم ومبقي لحياته وأمره باجتناب الأول ونهاه عن ترك الثاني ، فإنه يكون محسنا في حقه بذلك ، فإذا خالف المريض الطبيب وفعل عكس ما أمره به فلا يكون حينئذ الطبيب مهلكا للمريض بل الهلاك نتيجة مخالفته لأمر الطبيب.

الثاني : إنّ تكليفه إمّا لفائدة أو لا ، والثاني أي تكليفه لغير فائدة عبث مستحيل عليه تعالى عند الفريقين ، فلا بدّ أن يكون تكليفه لفائدة ، وهذه الفائدة إما للنفع وإما للضرر ، والثاني قبيح ، والأول إما أن يعود النفع إليه تعالى وهو محال ، أو يعود إلى الكافر وهو باطل لأنه يعلم عدم وصوله إليه فيكون عبثا وهو قبيح أو أن النفع يعود إلى غيره وهو قبيح أيضا لأنّ تعذيب زيد لنفع عمرو قبيح ، فقد بان وظهر أن تكليفه قبيح على كل تقدير.

والجواب :

ليس الغرض (كما قلنا) من التكليف حصول النفع لمن علم الله سبحانه أنه يؤمن به دون الكافر ، وإنما الغرض من التكليف هو التعريض لإيصال الثواب بالفعل ، وحصول الثواب بالفعل مشروط باكتساب موجب الاستحقاق الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، وكفره من قبل نفسه لا من جهة الله تعالى.

وبعبارة : لو كان الغرض من التكليف هو نفس الثواب فإنه باطل لأنّ الكافر لا يصله نفع ، فيتبين أن الغرض من التكليف هو جعل المكلّف في معرض الثواب وهو كما يثبت بحق المسلم يثبت بحق الكافر.

٢٨٦

ومن هنا تعلم أن التكليف حسن لأنّ أفعاله تعالى معلّلة بالأعراض إذ لو لم يكن التكليف حسنا ولغرض وفائدة ما لم نطّلع عليها لكان ذلك عبثا وهو محال ، ولو كان لغرض [وهو كذلك] فإن كان عائدا إليه تعالى لزم المحال لأنه يستلزم الحاجة والنقص في ذاته تعالى وإن كان الغرض عائدا إلى غير المكلّف كان قبيحا أيضا لأنّ تعذيب شخص لنفع غيره قبيح ، فلا بدّ من أن يكون الغرض عائدا إلى نفس المكلّف وهو المطلوب.

إشكال :

قد تقول : لما ذا لا يعطي الله سبحانه الثواب من دون تكليف أليس ذلك أحسن من التكليف بالمشاق؟

والجواب :

أولا : إن الثواب الذي يعطيه عزوجل للعبد ، يعطيه مع التعظيم ، والتعظيم يستدعي التكليف ، إذ كيف يعظّم من لم يجد طعم المشقة والعناء ، لذا يقبح عندنا تعظيم الأراذل والأطفال لعدم القابلية على التكليف المستدعي لما ذكرنا. فثبت أن التعظيم إنما يحسن للمستحق له دون غيره.

ثانيا : ان الله سبحانه خلق الجن والإنس ليعبدوه (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فإذا عبدوه استحقوا الثواب ، والعبادة لا تكون إلّا بأداء ما أمروا به والانتهاء عما زجروا عنه وليس هذا إلّا التكليف المترتّب عليه نوع مشقة التي تستدعي ترتب الثواب أو التعريض له.

ثالثا : أراد سبحانه من العباد أن يعرفوه مختارين لا ملجئين ، والاختيار يستدعي التكليف لتركب الإنسان من العقل والشهوة المقتضيين للمنازعة ، والتكليف يستتبع التمحيص والتسابق إلى الرحمة والتفاضل في الجنة. جاء في الحديث القدسي : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف».

عرفنا أن التكليف حسن لكن هل هو واجب على الحكيم؟

قال الأشاعرة : إنّ التكليف تفضّل يفعله الباري أو يتركه.

وقالت الإمامية : إن التكليف واجب على الحكيم من باب اللطف أي أن حكمته سبحانه اقتضت أن يكلّف العبد ليحصل الغرض به.

واستدلوا عليه بوجهين :

الأول : لو لم يجب التكليف لزم الإغراء بالقبيح وهو محال عليه تعالى.

٢٨٧

بيان ذلك :

أن الله سبحانه لما خلق الإنسان خلق فيه مجموعة من الشهوات تنازع العقل ، فإذا كان كذلك لا بدّ من ضبط ميوله ولا يمكن ضبطها إلّا بتكليف حيث ينهاه عن الظلم والرذيلة ، ولا يمكن الاعتماد على العقل لمزاحمة الشهوة له لذا قيل «السمعيات ألطاف في العقليات» فمن أجل أن لا يرتكب الإنسان الخطايا والقبائح لا بدّ له من وجود تكليف يردعه عن القبائح والمفاسد.

اللهم إلّا أن يقال : أنه سبحانه يمكن أن يخلق ولا يكلّف ثم يدخل الجنة.

يقال في الجواب : أنه على هذا فما الفائدة من خلقهم في الدنيا ، بل كان المتعين أن يخلقهم في الجنة منعمين دون أن يكونوا في دار الناسوت.

الثاني : قد تبين أن الغرض من الخلق هو المعرفة أو العبادة ، ولا يحصل الغرض إلّا باللطف وإلّا لزم نقض الغرض.

بيان ذلك :

أن المكلّف (بالكسر) إذا علم أنّ المكلّف (بالفتح) لا يطيع إلّا باللطف ، فلو كلّفه من دونه كان ناقضا لغرضه كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه إلّا أن يستعمل معه نوعا من التأدب ، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه ، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض (١).

فتحصّل مما ذكر : أن العقل من باب اللطف يحكم بوجوب التكليف وليس معنى الوجوب ـ كما توهم جماعة ـ أن العقل يحكم عليه تعالى أن يلزمنا بتكاليف فيستدعي ذلك حاكمية العقل عليه تعالى ، وإنما المراد من الوجوب العقلي أن صدور ذلك الفعل منه تعالى واجب نظرا إلى حكمته المطابقة للطفه بالعباد.

وللّطف معنيان :

الأول : هو كل ما يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية يسمى لطفا.

الثاني : أن مقتضى كمال الذات الإلهية تستوجب لزوم إفاضة اللطف منه للعباد ، فلطفه رحمته المطلقة.

ومن اللطف التكليف ، إذ عدم التكليف إما من جهة الجهل أو من جهة

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٥١ بتصرّف.

٢٨٨

النقص في الجود والكرم أو من جهة العجز أو البخل ، وكل ذلك مفقود من الذات المقدّسة وإلّا لزم الخلف من حيث كونه تعالى صرف العلم والكمال والقدرة الخ ...

فالغاية من التكليف وصول الإنسان إلى السعادة الحقّة ونيل المقامات العليا بالسير والسلوك إليه تعالى وإلّا فهو غني عن العالمين لا تزيده طاعة من أطاعه غنىّ ولا تضرّه معصية من عصاه.

قال الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام :

«إن الله عزوجل بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه بل رحمة منه ، لا إله إلّا هو ، ليميّز الخبيث من الطيب وليبتلي ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم ، ولتتسابقوا إلى رحمته ولتتفاضل منازلكم في جنته» (١).

وما ورد في صحف موسى بن عمران عليه‌السلام قال الله سبحانه :

يا عبادي إني لم أخلق الخلق لأستكثر بهم من قلة ولا لآنس بهم من وحشة ولا لأستعين بهم على شيء عجزت عنه ، ولا لجر منفعة ولا لدفع مضرة ، ولو أن جميع خلقي من أهل السماوات والأرض اجتمعوا على طاعتي وعبادتي لا يفترون عن ذلك ليلا ولا نهارا ما زاد ذلك في ملكي شيئا سبحاني وتعاليت عن ذلك (٢).

* * *

__________________

(١) البحار : ج ٥ ص ٣١٥ ح ١٠.

(٢) البحار : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤.

٢٨٩

الباب السادس

عقيدتنا في القضاء والقدر

قال المصنف (قدس‌سره) :

ذهب قوم وهم (المجبّرة) إلى أنه تعالى هو الفاعل لأفعال المخلوقين فيكون قد أجبر الناس على فعل المعاصي وهو مع ذلك يعذّبهم عليها ، وأجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها ، لأنّهم يقولون أن أفعالهم في الحقيقة أفعاله وإنّما تنسب إليهم على سبيل التجوز لأنهم محلها. ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء ، وأنه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد أنكروا السببية الطبيعية بين الأشياء إذ ظنوا أن ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له. ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه تعالى عن ذلك.

وذهب قوم آخرون وهم المفوّضة إلى أنه تعالى فوّض الأفعال إلى المخلوقين ، ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها ، باعتبار أن نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه ، وأن للموجودات أسبابها الخاصة وان انتهت كلها إلى مسبّب الأسباب والسبب الأول ، وهو الله تعالى. ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه ، وأشرك غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار عليهم‌السلام من الأمر بين الأمرين ، والطريق الوسط بين القولين ، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام. ففرّط منهم قوم ، وأفرط آخرون. ولم يكتشفه

٢٩٠

العلم والفلسفة إلّا بعد عدّة قرون.

وليس من الغريب ممن لم يطّلع على حكمة الأئمة عليهم‌السلام وأقوالهم ، أن يحسب أن هذا القول ـ وهو الأمر بين الأمرين ـ من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين. وقد سبقهم إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادق عليه‌السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة (لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين).

ما أجلّ هذا المغزى وما أدقّ معناه. وخلاصته : أن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن أسبابها الطبيعية. وهي تحت قدرتنا واختيارنا ، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه ، لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه. فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي ، لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل ، ولم يفوّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه ، بل له الخلق والحكم والأمر ، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد.

وعلى كل حال ، فعقيدتنا إن القضاء والقدر سرّ من أسرار الله تعالى ، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك ، وإلّا فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه لئلا يضل وتفسد عليه عقيدته ، لأنه من دقائق الأمور بل من أدقّ مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلا الأوحدي من الناس ، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلمين. فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي ، ويكفي أن يعتقد به الإنسان على الإجمال اتباعا لقول الأئمة الأطهار من أنه أمر بين الأمرين ليس فيه جبر وتفويض. وليس هو من الأصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل لاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق.

* * *

تمهيد :

مسألتا القضاء والقدر من أمّهات العقائد الكبرى الواردة في الكتاب والسنة المطهّرة ، حيث يعدّ منكرهما كافرا بما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أخذ حيّزا هاما في بحوث مفكري الإسلام مما أدّى إلى تشعّب الآراء بشأنهما إلى ثلاثة.

٢٩١

الجبر ـ التفويض ـ الأمر بين أمرين.

فالثالث هو الحق وزبدة المخض حيث قامت الأدلة المحكمة على إثباته وتثبيت قواعده ، وأما الأولان فدونهما خرط القتاد ، وأحدهما أشنع من الآخر ، أعني الجبر الذي نسب إلى الذات الإلهية ما لا يليق بها.

والالتزام بمبدإ الجبر قال به جمهور العامة مما استدعى ذلك تطفّل بعض الغربيين بأقلامهم السامة إلى الاعتقاد بأنّ العلّة الأساس لانحطاط المسلمين سببه الاعتقاد بالجبر وأن نبيّ الإسلام كان يستفيد من فكرة الجبر في تسيير حركته العسكرية ، قال واشنطن أرونك في تعداده للمبادىء التي اعتمدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإنجاح دعوته.

[... الإيمان بالله والملائكة والكتب الإسلامية والأنبياء ويوم القيامة ... إلى أن قال: وآخر القواعد في صف مبادي الإسلام هي عقيدة الجبر وكان محمّد يستفيد منها في شئونه العسكرية لأنه بموجب هذه القاعدة تكون كل حادثة في العالم قد قدّرت في علم الله قبل وجود العالم وفي اللوح المحفوظ وقد عيّن فيها مصير كل شخص وأجله بشكل لا يقبل التغيير ولا يمكن تقديمه أو تأخيره أبدا ، ولمّا كان المسلمون يؤمنون تماما بهذه الأمور ويسلّمون بها ، فقد كانوا أثناء الحرب وبدون وجل وخوف يلقون بأنفسهم في صفوف العدو ، فإنّ الموت في الحرب في نظرهم يعني الشهادة ويوصلهم إلى الجنة ...] (١).

يورد عليه :

أولا : إن كلامه الآنف الذكر دعوى بلا دليل وبرهان ، إذ من أين أثبت أن نبي الرحمة عليه‌السلام كان يقول بالجبر ويدعو المؤمنين للحرب باسم الجبر.

ثانيا : كيف يدعوهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عقيدة الجبر في حين أن القرآن الكريم بنصوصه الصريحة الكثيرة ينبذ هذه العقيدة الفاسدة ، ويؤكد على اختيار الإنسان وحريته من دون قسر أو ضغط على أفعاله وتصرفاته ، فلو صحّ ما زعم هذا الكاتب لكان النبي (وحاشاه أن يدعو إلى ما زعم المذكور) داعيا إلى مخالفة ما دعا إليه الله سبحانه في كتابه الكريم.

__________________

(١) حياة محمّد : ص ٥٤٩.

القضاء والقدر للمطهري : ص ١٧.

٢٩٢

ثالثا : هناك فرق بين القضاء والقدر وبين العقيدة الجبرية كما سوف يأتي بإذن الله ، فإذا كان المرء مجبرا على عمل معيّن فلا معنى لأن يدفع النبي أتباعه نحو سوح القتال لينالوا الشهادة ، لأنّ المجبر على فعل من قبله تعالى لا يحتاج إلى أحد حتى يدفعه إلى تصرّف أو عمل معيّن بل ينقاد إليه برغبة وشوق واندفاع.

عود على ذي بدء :

إنّ مسألة القضاء والقدر المعبّر عنها بلغتنا المعاصرة ب «تقرير المصير» هي من المعارف القرآنية العالية بحيث إذا لم يتعمّق بها الباحث فيها لأودت به إلى إحدى هوّتين سحيقتين هما : الجبر أو التفويض.

الأسباب التي أدّت إلى تبني المستشرقين للجبر :

يمكن إرجاع الأسباب المؤدية إلى تبني هؤلاء لعقيدة الجبر إلى أمور هي :

الأول : الحقد الدفين الذي أبطنه المستشرقون على عقيدة الإسلام نظاما ومنهجا مما حدا بهم الأمر إلى ضرب معالم توحيده وإبعاده الناس عنه كدين يدعو إلى سلامة الفطرة وتركيز الشخصية الإنسانية.

الثاني : تجاهلهم ـ لا جهلهم ـ لمعتقدات غير الأشاعرة لا سيما الإمامية حفظهم المولى ، لأسباب باتت معروفة منها استعبادهم للشعوب تحت عنوان أن تسلّطهم رحمة من الله أهبطها على الأمم المستضعفة.

الثالث : عدم تعمّقهم بمفاهيم القرآن الكريم ـ هذا لو أحسنّا الظن بهم ـ الذي يحتوي على كثير من المحكمات والمتشابهات والعمومات والمقيدات إلى غير ذلك من أحكام ومفاهيم يتطلب فهمها بذل المزيد من الجهد والمشقة وسعة الاطّلاع على النصوص الواردة عن النبي والعترة الطاهرة.

فلم نسمع أن مستشرقا غاص في أعماق القرآن وتتلمذ على أيدي أمينة تؤهّله لفهم الكتاب كما يفهم دساتير كنيسته أو جهاز أمن دولته التي تخرّج منها لكي يدسّ السم في معتقدات المسلمين.

الرابع : انبهار المستشرقين بسيطرة الأشاعرة على بلاد العرب والمسلمين منذ مئات السنين ، وضعف الشيعة الإمامية بالمقابل مما حدا بالمستشرق الذي لا يؤمن إلّا بالكثرة والقوة والمحسوس أن يغضّ الطرف عن معتقدات الإمامية.

الخامس : تقوية عقائد غير الإمامية لا سيما عقائد الأشاعرة (دون المعتزلة مثلا) في مقابل عقائد الإمامية المقتبسة من الكتاب والعترة بما يسهّل النيل منهم

٢٩٣

والسيطرة على مقدّراتهم الطبيعية والفكرية.

والمتصفح للتاريخ الإسلامي يرى طائفتين من النصوص غير النبوية الكاشفة عن تصرفات متناقضة لبعض صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

الطائفة الأولى : تنبذ وترفض فكرة الجبر.

الطائفة الثانية : تثبت وتتبنّى هذه الفكرة الفاسدة.

فمن الأولى : ما روي أنّ عمر بن الخطاب خرج إلى الشام غازيا عام ١٧ للهجرة حتى إذا كان بسرغ لقيه الأمراء ، فأخبروه أن الأرض سقيمة ، فأرجع بالناس فإنه بلاء وفناء.

فقال : أيها الناس إني راجع فارجعوا.

فقال له أبو عبيدة الجرّاح : أفرارا من قدر الله؟

قال نعم ... فرارا من قدر الله إلى قدر الله ... أرأيت لو أنّ رجلا هبط واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله ثم قال : لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة ، فبينا الناس على ذلك إذ أتى عبد الرحمن بن عوف ، وقال : سمعت رسول الله يقول :

إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه ولا يخرجنّكم إلّا ذلك ثم انصرف عمر وانصرفوا (١).

ومن الثانية : ما رواه الواقدي عن أم الحارث الأنصارية أنها رأت عمر بن الخطّاب في وقعة حنين عند ما انهزم المسلمون ، فقالت له ما هذا؟ قال عمر : أمر الله (٢).

وروي من أن عائشة قالت عند ما تعرّض الخوارج للإمام على عليه‌السلام في النهروان :

«ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق ، سمعت النبي يقول : تفترق أمتي على فرقتين ، تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم يحفون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبّهم إليّ وأحبّهم

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٣ ص ١٥٩ باختصار.

(٢) المغازي للواقدي : ج ٣ ص ٩٠٤.

٢٩٤

إلى الله ، فقال لها قتادة يا أم المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟

قالت : يا قتادة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) وللقدر أسباب ...» (١).

ولمّا اعترض عبد الله بن عمر على معاوية عند ما نصّب ولده يزيد خليفة من بعده قال له :

«إني أحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دماءهم وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم» (٢).

وكلا الطائفتين يعبّران عن المصلحة السلوكية والازدواجية الشخصية التي كان يسلكها بعض الصحابة لتبرير أفعالهم الشريرة ، فابتدعوا نصوصا حلّلوا من خلالها الحرام ، وحرّموا الحلال تحقيقا لأغراضهم وإشباعا لرغباتهم ، ويكفينا ما فعله ابن الخطاب وصاحبه من اجتهادات واستحسانات قلبت موازين الشرع المبين وشريعة سيد المرسلين ، ويكفينا ما فعلاه يوم السقيفة وغصبهما للخلافة ولنحلة سيدة نساء العالمين واتهامهما إيّاها بالكذب وقد طهّرها سبحانه في محكم آية التطهير ، والدخول عليها جهرة أمام المسلمين وتوهينهم لها بضربها وكسر ضلعها وتسويد متنها إلى ما هنالك من مخازي يخجل القلم عن سردها.

سؤال :

مفاده : أنكم نفيتم من أن يكون النبي مصدر الجبر ، فمتى حصل لدى بعض الصحابة العلم بالجبر حتى جعلوه مبرّرا لتصرفاتهم؟

والجواب :

إنّ فكرة الجبر من الناحية التاريخية متقدمة على مسألتي القضاء والقدر بمعنى أن جبر العباد على المعاصي كانت رائجة في فترة ما قبل الإسلام ثم تطوّرت شيئا فشيئا حتى ألبسوها ثوب القضاء والقدر باعتبار كونهما ـ أي القضاء والقدر ـ داخلين في علم الله الأزلي حيث قدّر وقضي كل ما يجري في هذا الكون فيستحيل أن يتخلّف ما قدّره وقضاه تعالى عن علمهعزوجل.

وقد قصّ لنا القرآن الكريم في بعض آياته كيف أنّ المشركين كانوا ينسبون أفعالهم الشريرة إلى خالقهم وأنه تعالى أمرهم بها قال سبحانه حاكيا عنهم :

__________________

(١) الإلهيات : ج ١ ص ٥١٠ نقلا عن الأوائل : ج ٢ ص ١٢٥.

(٢) الإمامة والسياسة : ج ١ ص ٢١٠.

٢٩٥

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف / ٢٩).

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الزخرف / ٢١).

إذن مبدأ الجبر له جذور تاريخية قبل الإسلام ثم بعده بقي معششا في عقول كثير من المسلمين الذين لم يتعمّقوا بمبادىء روحية الدين الحنيف.

فالحافز عند المشركين وبعض المسلمين في تلك الحقبة الزمنية لنشر فكرة الجبر هو تدعيم شرورهم بمنطق الدين والأمر الإلهي لهم بذلك لا سيما بنو أميّة حيث شيّدوا بنيان عقائد الجبر بشتى أنواعه لإعطاء الشرعية على سلطنتهم وملكهم ولإخماد كل ثورة تطلّ عليهم بين الحين والآخر.

هذه نظرة وجيزة على مسألة التقدير ومساوقتها للجبر عند الجاهلين (سواء كانوا في عهد الرسالة أم من المتأخرين عنها) الذين لم يتربّوا على الاعتقادات الحقة المقتبسة من مشكاة العترة الطاهرة ، بحيث لم ترتو أحشاؤهم من مفاهيم الإسلام الأصيل المتمثل بقرين الكتاب على رأسهم بطل الإنسانية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب روحي فداه وعليه‌السلام ، مما جعل تصرفاتهم حجة عند المستشرقين والمستعمرين.

وقبل بيان ما أفاده المصنف (قدس‌سره) لا بدّ من توضيح أمور :

الأمر الأول : في معاني القضاء والقدر :

أما لغة «فالقضاء» : هو فصل الأمر والفراغ منه.

قال الراغب الأصفهاني :

«القضاء» فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا ، وكلّ واحد منهما على وجهين : إلهي وبشري. فمن القول الإلهي (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء / ٢٤) أي أمر بذلك.

وقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم أي أعملناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما.

ومن الفعل الإلهي قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) وقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) إشارة إلى إيجاده

٢٩٦

الإبداعي والفراغ منه.

ومن القول البشري : نحو قضى الحاكم بكذا ، فإنّ حكم الحاكم يكون بالقول ومن الفعل البشري : قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أي أديتموها (١).

وللقضاء معان متعددة ذكرها المفيد في بحث القضاء قال :

القضاء على أربعة ضروب :

أحدها : الخلق.

ثانيها : الأمر.

ثالثها : الإعلام.

رابعها : الفصل في الحكم.

خامسها : الفراغ من الأمر.

فمن الأول : قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١٢) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (فصلت / ١٢ ـ ١٣).

أي خلقهنّ سبع سماوات في يومين.

ومن الثاني : قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (الإسراء / ٢٤).

يريد أمر ربك.

ومن الثالث : قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (الإسراء / ٥) يعني أعلمناهم ذلك وأخبرناهم به قبل كونه.

ومن الرابع : قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) يعني يفصل بالحكم.

وقوله تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) (الزمر / ٧٠) يريد وحكم بينهم بالحق وفصل.

ومن الخامس : قوله تعالى : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (يوسف / ٤٢) يعني فرغ منه (٢). انتهى.

__________________

(١) المفردات : ص ٤٠٦.

(٢) تصحيح الاعتقاد : ص ٥٤ ط دار المفيد.

٢٩٧

هذه المعاني المتعددة للفظ القضاء تجمعها حقيقة واحدة سارية في الجميع هي «اتقان العمل واستحكامه» وحيث إنّه تعالى بنى السماوات والأرض بحكمة تامة عبّر عنه ب «قضى» في قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وبما أنه سبحانه حاكم ومنه صدر الحكم الشرعي بإتقان عبّر عنه ب «القضاء والقاضي» بقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الخ ...

وأمّا القدر : فهو بفتح القاف وسكون الدال «قدر» ما يقدّره الله من القضاء في الليلة القدر.

وبفتح القاف والدال «قدر» مقدار كلّ شيء وحده.

قال الراغب الأصفهاني.

القدر والتقدير تبيين كمية الشيء ، يقال : قدرته وقدّرته.

وقدّره : أعطاه القدرة ... فتقدير الله الأشياء على وجهين :

أحدهما : بإعطاء القدرة.

الثاني : بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة. وذلك أنّ فعل الله تعالى ضربان :

ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أن أبدعه كاملا دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يفنيه أو يبدّله كالسماوات وما فيها. ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالقوة وقدّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدّره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح والزيتون ، وتقدير منيّ الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات.

وضرب بإعطاء القدرة عليه ومنه قوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (١).

وقد أشار القرآن إلى حقيقة القدر هذه بقوله تعالى :

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي أنه سبحانه تعالى قدّر المخلوقات بمقادير معيّنة بعلمه تعالى ثم خلقها وهداها إلى غاياتها.

والقضاء والقدر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، وأحدهما أسبق من الآخر ، فالقدر متقدم على القضاء ، لأنّ القدر بمثابة الهندسة ووضع الحدود

__________________

(١) المفردات : ص ٣٩٥ بتصرّف.

٢٩٨

للبناء ، والقضاء بمنزلة وجود البناء خارجا.

وهذا المعنى هو نفس ما أشار إليه مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام فيما رواه يونس بن عبد الرحمن عند ما سأله الإمام عليه‌السلام معلّما إيّاه بقوله :

أتعلم ما القدر؟ قال يونس : لا.

قال عليه‌السلام : هي الهندسة ووضع الحدود في البقاء والفناء ، ثم قال عليه‌السلام والقضاء هو الإبرام وإقامة العين (١).

قال العلّامة محمد حسين الطباطبائي (قدس‌سره) :

«القدر كمية الشيء وهندسته وحدّه ، وتقديره تعيين حدوده وخصوصيات وجوده ، وأكثر ما يقصد ويعمل إنما هو في الصناعات كما أنّ الخيّاط يقدّر الثوب قبل أن يبزّه ويخيّطه ، والنّجار يقدّر الخشب ليصنع منه مثلا كرسيّا بصفة كذا وكذا ، والقالب يقدّر المادة المقلوبة على ما يعطيها من الكم والشكل والهيئة وغيرها (٢).

وأما اصطلاحا : فقد ذكر لهما ـ أي القضاء والقدر ـ عدّة تفسيرات أهمها :

التفسير الأول :

كونهما بمعنى التحديد والإبرام. فالتقدير نوع تحديد للموجود في خصائص وجوده ، والقضاء لزوم وجوده بعد تقديره لو تمت شرائطه تماما كلزوم وجود المعلول بواسطة علته.

وهذا التفسير لهما لا يختلف عن معناهما اللغوي.

توضيح ذلك :

إنّ كل موجود لا يتحقق خارجا حتى يكون وجوده ضروريا مقطوعا به من ناحية علته الوجودية ، وهكذا لا يوجد أي معلول في الخارج حتى تتحدّد خصائص وجوده ، بل لا يكون المعلول معلولا لعلته حتى تتحدّد كميته وكيفيته وجميع خصائصه الزمانية والمكانية فيكون وجوده واجبا وعدمه ممتنعا.

مثاله : لو تصوّرنا حجرا أصاب زجاجة بشدّة ، فإنّ الزجاجة حينئذ لا بدّ وأن تنكسر ، وأيضا لا بدّ أن يكون الانكسار بكيفيّة خاصة ، فبما أنّ الزجاجة لا تقاوم

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١٥٨.

(٢) هامش الأسفار : ج ٨ ص ٢٩٢.

٢٩٩

الحجر يكون انكسارها ضروريا لا يتخلّف ، وهذا ما يعبّر عنه ب (القضاء العيني الخارجي) وبما أن الانكسار لا بدّ أن يكون بكيفيّة خاصة تميّزه عن سائر الكيفيات الأخرى فيسمّى ب (القدر) المعيّن لهذه الزجاجة.

وبالنتيجة ، فقد تحقق الانكسار للزجاجة بضرورة وخصوصية.

أما ما هو مصدر هذه الضرورة أو هذه الخصوصية ، فهذا ما تبحثه هذه النظرية التي تفرض على «القدر» أن لا يكون له واقعية سوى نظام العلة والمعلول في هذا الوجود الخارجي أي أن كل شيء في النظام الكوني هذا مرتبط بقانون العلّة والمعلول ، وأن مصير أي موجود لا يتحقق إلّا ضمن سلسلة العلل والمعلولات في عالمنا الخارجي ، بمعنى أن سلسلة علل الشيء المترابطة (حتى تصل إلى العلّة الأولى) هي التي تعطي ضرورته الوجودية ، وهي التي تحدّد خصائصه في الوجود ، وأن جميع الموجودات إنما تجد ضرورتها الوجودية وخصائصها الوجودية من مقتضيات سلسلة عللها السابقة ، فعالم الحياة سلسلة من «القضاء التكويني الخارجي» حيث إنّ فصل إحدى هذه العلل عن معلولاتها يؤدي إلى تلاشي الكون بما فيه ولاستلزم أن تتحطم جميع الكائنات من صفحة الوجود. هذا كله فيما يتعلق بالقضاء التكويني الخارجي.

أما التقدير التكويني الخارجي ، فحيث يقال أنه تلك الخصائص الوجودية للموجودات الخارجية فمن المسلّم به أنّ كل معلول إنما يتحدد في جميع مشخصاته وكيفياته الظاهرية والباطنية وشرائطه الزمانية قبل علته الوجودية ، فمثلا : إذا كانت العلة الوجودية للمعلول زمانية ومكانية فلا بدّ أن يكون معلولها زمانيا ومكانيا أيضا ، وإذا كانت هذه العلة محدودة في وجودها بزمان ومكان خاص ، فلا بدّ أن يتحدد معلولها أيضا بين حدّي الزمان والمكان.

بالإضافة إلى أن أصل لزوم السنخية بين المعلول والعلة أيضا يوضّح لنا ما نحن بصدده من التقدير التكويني الخارجي ، إذ إنه بناء على هذا الأصل يكون بين النار والحرارة ، والماء والبرودة سنخية خاصة لا توجب إلّا أثرها الخاص فحسب ، وعلى هذا : فكل معلول إنما يكسب سلسلة صفاته الخاصة به والتي يحدّد بها حقيقة وجوده ومقداره من قبل علته الوجودية.

ويحكم هذا الأصل (أي الترابط السنخي بين العلة والمعلول) في أفعال الإنسان الاختيارية بشكل واضح ، حيث إن جميع أفعال الإنسان معلولة لاختياره

٣٠٠