الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

كلامية هامة كوجوب معرفة المنعم وشكره ، ولزوم البعثة وحسن الهداية وقبح الضلال ، وقبح العقاب بلا بيان ، وقبح التكليف بما لا يطاق الخ ...

والسبب أو الحكمة التي استدعت المظفّر إلى أن يستدل على عدله سبحانه بقاعدة الكمال المحض دون تلك القاعدة المشهورة لما في القاعدة الثانية من تعيين التكليف وتحديد وظيفة المولى عزّ ذكره دون القاعدة الأولى حيث إنها أقرب إلى لطفه تعالى وكونها بعيدة عن النقض والإبرام ، لذا قال المطهري :

«إن الحكماء يعتقدون بأنه تعالى عادل في أفعاله ولكن لا يستندون فيه إلى قاعدة الحسن والقبح التي يكون فيها نوع من تعيين التكليف والوظيفة لله تعالى» (١).

لكن يرد على ما قالاه :

إن معنى الوجوب العقلي في أمثال القاعدة ليس إلّا إدراك العقل للضرورة وكشف المناسبات ، فالقاعدة لا تشتمل على تعيين التكليف والوظيفة حتى يقال إنه لا يليق بشأنه تعالى وإلّا لو لم يكن للعقل دخل في حسن الإحسان وقبح الظلم عليه تعالى لتعطّل العقل وأصبح وجوده لغوا ، [فالاعتراف بعقلية حسن الإحسان وممدوحية فاعله عند العقل بمعنى صفة الكمال أو موافقة الغرض يلزمه الاعتراف بممدوحية فاعله عند الله إذ كل ما هو ممدوح أو مذموم عند العقل الصحيح بالضرورة أو بالبرهان الصحيح فهو ممدوح أو مذموم في نفس الأمر وإلّا لتعطّل العقل ، وكل ما هو ممدوح أو مذموم في نفس الأمر فهو ممدوح أو مذموم عند الله وإلّا لزم جهله بما في نفس الأمر تعالى عن ذلك علوّا كبيرا] (٢).

وقد استدلّ كل فريق على مدعاه بأدلة نذكرها تباعا ضمن نقطتين :

النقطة الأولى : استدلال الأشاعرة على نفي الحسن والقبح العقليين :

استدلوا على النفي بأدلة أهمها ثلاث :

الدليل الأول :

لو كان التحسين والتقبيح ضروريا ـ أي بحكم ضرورة العقل ـ لما وقع الاختلاف بين هذا الحكم وحكم أن الواحد نصف الاثنين وبما أن الثاني لم يقع

__________________

(١) العدل الإلهي.

(٢) شرح الأسماء للسبزواري : ص ١٠٧ وبداية المعارف : ص ١٠٤.

٢٦١

فيه اختلاف فهو ضروري بعكس الأول حيث وقع فيه نزاع فيثبت أنه غير ضروري.

والجواب :

أولا : يجوز التفاوت في العلوم لتفاوت الصور (١) على حد تعبير العلّامة الخواجة نصير الدين الطوسي «قدس‌سره».

توضيح مراده : أن العلوم الضرورية قد تتفاوت بوقوع التفاوت في التصورات وقد قال أهل صناعة المنطق إن للبديهيات مراتب في التصور فالأوليات (٢) أكثر بداهة من المشاهدات بمراتب ودرجات ، والمشاهدات أكثر بداهة من التجريبيات ، وهي أبده من الحدسيات وهي أبده من المتواترات ، وهذه أبده من الفطريات.

فلو صح ما ذكره الأشاعرة من الملازمة بين الضروريات لزم أن لا تكون الحدسيات من اليقينيات ، وبعبارة :

إنّ العلوم اليقينية مع كثرتها ليست على نمط واحد بل لها مراتب ودرجات وهذا شيء يلمسه الإنسان إذا مارس علومه ويقينياته وعلى ذلك فلا مانع من أن يقع الاختلاف في بعض العلوم الضرورية لدوافع خاصة وهي في المقام تصوّر أن الحكم بالحسن والقبح تحديد لسلطة الله تعالى فلأجل ذلك رفضت الأشاعرة هذا العلم الضروري للحفاظ على عموم سلطته تعالى.

ثانيا : إنّ قياس الأشاعرة مسألة الحسن والقبح على مسألة أن الكل أعظم من الجزء قياس مع الفارق. وكأنهم ظنّوا أن كل ما حكم به العقل فهو من الضروريات مع أنّ قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعنى الأخص ، ومن قسم المحمودات خاصة ، والحاكم بها هو العقل العملي ، وأما قضية الكل أعظم من الجزء فهو من الضروريات الأولية والحاكم بها العقل النظري (٣) لا محالة.

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٢٩ ونهج المسترشدين : ص ٢٥٩.

(٢) القضية الأولية هي ما حكم بها العقل من دون توسط شيء آخر معها كحكمه بأن الاثنين نصف الأربعة ، والقضية المشاهدة هي التي يحكم بها العقل بواسطة الحس ، والقضية الحدسية هي التي يكون مبدأ الحكم بها حدس في النفس يزول معه الشك ويذعن الذهن بمضمونها. أما القضية المتواترة فهي التي تسكن إليها النفس سكونا يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع وذلك بواسطة أخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب.

(٣) الفرق بين العقل النظري والعملي ، أن التفاوت بينهما إنما هو بتفاوت المدركات ، فإن كان ـ

٢٦٢

الدليل الثاني :

أنه سبحانه مالك الملك يفعل ما يشاء في ملكه تعالى قال الأشعري :

«والدليل على أن كل ما فعله فله فعله ، أنه المالك ، القاهر ، الذي ليس بمملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر ولا زاجر ولا حاظر ولا من رسم له الرسوم ، وحدّ له الحدود ، فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء ، إذ كان الشيء إنما يقبح منّا لأنّا تجاوزنا ما حدّ ورسم لنا ، وأتينا ما لم نملك إتيانه ، فلمّا لم يكن الباري مملوكا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء ، فإن قال : إنما يقبح الكذب لأنه قبّحه ، قيل له أجل ، ولو حسّنه لكان حسنا ، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض ، فإن قالوا : تجوزوا عليه أن يكذب كما جوّزتم أن يأمر بالكذب ، قيل لهم : ليس كل ما جاز أن يأمر به جاز أن يوصف به (١).

يجاب عنه :

أولا : أننا لا ننكر كونه تعالى مالك الملك يقدر على كل أمر ممكن ، وهذا مما لا شبهة فيه ، ولكن حكم العقل بأنّ الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم ليس معناه تحديد ملكه وقدرته ، وهذا تماما كمن كشف عن قانون طبيعي أو رياضي بحكم العقل القائل : إن كل زوج ينقسم إلى متساويين أو أن كل من رمى بنفسه إلى الأرض من مرتفع عال سوف تتكسر عظامه ويموت ، فهل يحتمل أن العقل بذلك فرض حكمه على الطبيعة أو على القانون الرياضي؟ أو أن الإنصاف أن يقال : إنّ الطبيعة كانت تحتمل ذلك القانون والعقل كشفه وبيّنه؟ والحق هو الثاني ، وكذلك في مفروض المسألة فليس العقل هنا حاكما وفارضا حكمه على الله سبحانه بل إن العقل بالنظر إلى الله تعالى وصفاته التي منها الحكمة والغنى يكشف ويبيّن عن أن الموصوف بمثل هذه الصفات لا يمكن أن يصدر منه القبيح ولا الإخلال بما هو حسن.

ثانيا : كما أنه تعالى مالك لكل شيء ومع هذا فوّض أمر التدبير والخلق

__________________

ـ المدرك مما ينبغي أن يعلم مثل قولهم «الكل أعظم من الجزء» الذي لا علاقة له بالعمل ي سمى إدراكه عقلا نظريا وإن كان المدرك مما ينبغي أن يفعل ويؤتى به أو لا يفعل مثل حسن العدل وقبح الظلم يسمى إدراكه عقلا عمليا.

(١) الإلهيات : ج ١ ص ٢٤٩ نقلا عن اللمع : ص ١١٦.

٢٦٣

لبعض من اصطفى بإذنه تعالى كما في تقسيم الملائكة إلى المدبرات للأمر والحاملات للوقر والجاريات لليسر والمقسمات والذاريات وكذا رخّص سبحانه أمر التوفي إلى بعض ملائكته (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) وكذا أناط تسجيل الأعمال ومراقبتها بيد بعض الملائكة (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ).

فكما أن الرسل من ملائكة الموت أو تسجيل الأعمال موكلين من قبله تعالى كذلك العقل موكل من قبله تعالى في كشف وتبيين الحقائق التي من جملتها مسألة حكم العقل بالقبح والحسن ، فأيّ إشكال في ذلك؟!

هذا إضافة إلى الآيات التي تأمر بالتدبر والعقل وهي في إطلاقها تعم المسائل التكوينية والتشريعية.

ثالثا : ان قول الأشعري : «ليس كل ما جاز أن يأمر به أن يوصف به» يعدّ عين القبح والسفاهة إذ كيف يأمرنا عزوجل بالإحسان ولا يتصف به أو أنه عزوجل يفعل ضده ، أليس هذا سفها يجب أن يتنزّه عنه سبحانه كما يتنزّه عنه المخلوق الحكيم؟! وقد ذمّ سبحانه أقواما (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ، وقد قال تعالى واصفا نفسه بالقول : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كما أنه سبحانه وصف نفسه أنه غير ظالم (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ).

الدليل الثالث :

إنّ الحسن والقبح لو كانا عقليّين لما اختلفا أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح وذلك فيما إذا تضمن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك والصدق تضمن إهلاكه ، فلو كان الكذب قبيحا لذاته لما كان واجبا ولا حسنا عند ما استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله (١).

__________________

(١) الأحكام للآمدي : ج ١ ص ١٢١.

٢٦٤

والجواب :

أولا : إنّ الكذب وإن كان قبيحا لكن تسليم النبي أو إنسان بريء إلى القتل أقبح ، وإذا اجتمع قبيحان لا محيص عنهما لا بدّ من ارتكاب أضعفهما من باب التزاحم بارتكاب أحد المحذورين.

ثانيا : إن استدلال الأشاعرة بذلك مبني على كون قبح الكذب وحسن الصدق كقبح الظلم وحسن العدل ذاتيين لا يتغيران ، لكنّ الإنصاف أنّ قبح الكذب وحسن الصدق ليسا ذاتيين بل هما من الأمور التي تغيّرها العوارض والطوارئ التي تطرأ عليها ، فمرة يكون الصدق حسنا إذا لم يترتب عليه محذور آخر ، ومرة يكون قبيحا إذا ترتّب عليه محذور كإيذاء معصوم أو مؤمن إلى ما هنالك من الطوارئ والعوارض العارضة عليه.

هذه أهم أدلة الأشاعرة على نفي الحسن والقبح العقليين اما إثباتهما فمبنيّ على القول بأن الإنسان فاعل مختار ، وأما بناء على رأي الأشاعرة النافين لاختيار الإنسان وإنما هو مجبور في أفعاله فالبحث عنهما حينئذ منفيّ بانتفاء موضوعه لأنّ شيئا من أفعال المجبر على أفعاله لا يتصف بالحسن والقبح عقلا ، لأنه بنظرهم قد أجبر الله الإنسان على فعل القبيح تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

النقطة الثانية :

استدلال العدلية على إثبات الحسن والقبح العقليين :

يستدلّ عليه بوجوه :

الوجه الأول :

إنّا نعلم بالضرورة العقلية حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فإنّ كل عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه ، وبقبح الإساءة والظلم ويذمّ عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفادا من الشرع.

الوجه الثاني :

اننا لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا كالصدق والكذب فإنه لا يمكننا أن نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه منه تعالى ، فإذا أخبرنا سبحانه عن طريق أوليائه أن الكذب قبيح لم نجزم بقبحه ، وإذا أخبرنا عن شيء أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب عليه لأنه في هذا الحال يجوز أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا

٢٦٥

عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير.

الوجه الثالث :

إن الشارع المقدّس بناء على القول بكون القبح والحسن شرعيين يجوز له حينئذ أن يحسّن أو يقبّح ما حسّنه الشرع أو قبّحه ، وعلى هذا يلزم جواز تقبيح الإحسان وتحسين الإساءة وهو باطل بالضرورة ، لأنّ وجدان كل إنسان يقضي بأنه لا يصح أن يذمّ المحسن أو يمدح المسيء ، وهذا عكس ما يفرضه العقل والوجدان.

هذه أهم الأدلة على إثبات مسألة الحسن والقبح العقليين.

يبقى سؤال يطرح على بساط البحث ويردده كثيرون هو :

إذا كان سبحانه لا يفعل القبيح فما تفسير الشرور الصادرة من الطبيعة وغيرها كالزلازل والهزات والسيول والفيضانات والبلايا والآلام والموت ، وكذلك الاختلافات الموجودة في نفس الأفراد كالسواد والبياض والبلادة والذكاوة الخ ...

أليست هذه أمورا قبيحة وقد قلتم إنه تعالى منزّه عن فعل القبيح؟

والجواب : من ناحيتين :

إجمالية وأخرى تفصيلية :

الناحية الإجمالية :

تقريب ذلك : أنه لا مجال لرفع اليد عما ينتهى إليه بالبراهين القطعية من أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن بمثل هذه الأمور المذكورة آنفا ، بل اللازم بحكم العقل هو حمل هذه الأمور على ما ينافي البراهين القطعية ، إذ إن موارد النقض كأمثال المذكورات لا تفيد القطع بالخلاف بل غايتها هو عدم العلم بوجهها ، فيمكن رفع إبهامها بما ثبت من أنه تعالى لا يفعل القبيح لكونه حكيما على الإطلاق ، فنحكم بملاحظة ذلك أن هذه الأمور لا تخلو عن الحكمة والمصلحة وإلّا لم تصدر من الحكيم المتعال ، إذ ليس فيه عوامل صدور القبيح كالجهل والعجز أو غير ذلك مما يكون نقصا أو غير لائق بجنابه ، بل كل ما يصدر منه تعالى يبتني على الحكمة والصلاح والخير.

من هنا قد جرت عادة الحكماء أن يقسّموا الموجودات الممكنة بالقسمة

٢٦٦

العقلية (١) إلى خمسة أقسام :

الأول : ما هو خير كله لا شرّ فيه أصلا.

الثاني : ما فيه خير كثير مع شرّ قليل.

الثالث : ما فيه شرّ كثير مع خير قليل.

الرابع : ما يتساوى فيه الخير والشر.

الخامس : ما هو شرّ مطلق لا خير فيه.

والأقسام الثلاثة الأخيرة غير موجودة في العالم أصلا ، إنما الموجود من الخمسة المذكورة هو قسمان :

فالقسم الأول : الذي كله خير مطلق لا شرّ فيه أصلا هي أمور وقعت تامة الوجود ، لا يفوتها شيء مما ينبغي أن يكون لها بالإمكان العام إلّا وقد حصل لها في فطرتها الأصلية الأولية ولا يخالطها ما لا ينبغي لها لا في أول الوجود ولا بعده لأنها بالفعل من جميع الوجوه وهي كالعقول المقدّسة وكلمات الله التامّات التي لا تبيد ولا تنقص ويتلوها من حزبها النفوس السماوية فإنها وإن كان فيها ما بالقوة إلّا أنها مستكفية بذاتها ، ومقوم ذاتها في خروجها من القوة إلى الفعل غير ممنوعة عن البلوغ من حدّ النقص إلى الكمال الممكن ، وكذلك ضرب من النفوس الكاملة الإنسانية إذا لحقت بالسابقين المقربين فيه أيضا من هذا القسم فيجب وجود هذا القسم من المبدأ الأعلى لأجل كونه خيرا محضا يفعل الخير لا محالة وقد علم في الحكمة وجود العالم العقلي ، ومن قاعدة [مكان الاشراف والأخس] وجود الأشرف قبل وجود الأخسّ.

والقسم الثاني : وهو الذي فيه خير كثير يلزمه شر قليل فيجب وجود هذا القسم أيضا منه لأنّ تركه لأجل شرّه القليل ترك الخير الكثير ، وترك الخير الكثير شرّ كثير فلم يجز تركه ، فيجب إيجاده عن فاعل الخيرات ومبدأ الكمالات ، ومثال هذا القسم الموجودات الطبيعية التي لا يمكن وجودها على كمالها اللائق بها إلّا وقد يعرض لها بحسب المصادمات والمصّاكات الاتفاقية منع غيرها عن كمالاتها أو محق الكمالات عن غيرها كالنار التي كمالها في قوة الحرارة والإحراق ، وبها

__________________

(١) ينسب هذا التقسيم إلى أرسطو وقد ذكره صدر المتألهين في أسفاره : مجلد ٣ ص ٦٨ وأخذ به العلّامة الطباطبائي في تفسيره : ج ١٣ ص ١٨٨ فلاحظ.

٢٦٧

تحصل المصالح العظيمة والمنافع الكثيرة ، لكن قد يعرض لها إحراق بيت وليّ وثياب نبيّ ، وكذا الماء الذي كماله في البرودة والرطوبة والسيلان وقد يعرض له تغريق بلاد وهلاك عباد وكذلك الأرض والهواء والمطر والسحاب وغير ذلك وهذا القسم من الموجودات الممكنة إنما يكون فيما يمكن فيه الإحالة والاستحالة والكون والفساد ، لكن إذا تأملنا حال الشخص المتضرر بشيء من هذه العناصر الأربعة وتأملنا حال انتفائه طول عمره بكل واحد منها لم يكن لذلك القدر اليسير من الضرر نسبة يعتدّ بها إلى ذلك النفع الكثير ، وإذا كان الأمر كذلك في الشخص الواحد المتضرر فكيف يكون الحال في نسبة ذلك الضرر اليسير إلى انتفاع جميع الأشخاص (١) الإنسانية والحيوانية وغيرها وكذلك الأدوية والأغذية النباتية التي قد يتضرر بها في الندرة وكذلك وجود حيوانات في أنفسها خيرا إلّا أنه يعرض لها ـ بسبب مصاكات اتفاقية ـ تأدى ضررها إلى غيرها من الحيوانات كالحيات والعقارب والسباع الضارية والجوارح المفترسة وغير ذلك وكذلك الإنسان المستعد للكمالات النفسانية والعقلية والخيرات الظنية والحقيقية قد يعتريه بسبب أمور اتفاقية اعتقادات فاسدة وجهالات مركبة وأخلاق ذميمة وأعمال سيئة واقتراف خطيئات تضره في المعاد ، ولكن هذه الشرور إنما تكون في أشخاص قليلة أقلّ من أشخاص سالمين عن هذه الشرور والآفات وفي أوقات أقل من أوقات العافية والسلامة عنها (٢).

وعقّب العلّامة الطباطبائي على هذا التقسيم فقال :

«الأمور على خمسة أقسام :

ما هو خير محض ـ وما هو خيره أكثر من شره ـ وما يتساوى خيره وشرّه ـ وما شره أكثر من خيره ـ وما هو شرّ محض.

ولا يوجد شيء من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجّح أو ترجيح المرجوح على الراجح ، ومن الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة والعلم الواجبين ، والجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم ، وأن يوجد ما هو خير محض وما هو خيره أكثر من

__________________

(١) الأولى التعبير ب (أفراد) بدلا من (الأشخاص).

(٢) الأسفار : ج ٣ ص ٤٨.

٢٦٨

شرّه ، لأنّ في ترك الأول شرّا ، وفي ترك الثاني شرّا كثيرا ، فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير ، وإنما وجد الشرّ القليل بتبع الخير الكثيرة» (١).

الناحية التفصيلية :

تقريب ذلك من عدّة وجوه :

الوجه الأول :

لا تطلق الشرور إلّا على عدم الوجود مما له شأن الوجود كموت زيد بعد وجوده ، أو إعدام الشجر بعد أن كان موجودا أو على عدم كمال الوجود ممن له شأنية ذلك الكمال كعدم الثمر من الشجر القابل له ، أو عدم العلم عمّن له شأنية العلم ؛ أما عدم زيد قبل إيجاده فلا يكون شرّا لأنه اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شيء ، بخلاف عدم زيد بعد وجوده فإنه شرّ ، وهكذا لا يكون عدم الشيء المأخوذ بالنسبة إلى شيء آخر شرّا كفقدان الماهيات الإمكانية كمال للوجود الواجبي أو كفقدان كل ماهية وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان النبات يترتّب عليه وجود الحيوان ، وفقدان البقر يترتّب عليه وجود حيوان آخر آكل للبقر وهكذا ... «فإن هذا النوع من العدم من لوازم الماهية وهي اعتبارية غير مجعولة (٢)».

إذن ليس كل فقدان يعدّ شرّا بل الفقدان الذي من شأنه الوجود ، ففقدان كل مجرّد موجود بالنسبة إلى مجرّد أعلى منه لا يكون شرّا إذ ليس له شأنية ذلك الوجود حتى يكون فقدانه شرّا.

فالشر قد يكون ذاتيا وأخرى إضافيا.

فالذاتي وهو ما يسمى بالوجودي الذي يقتضي منع التوجّه إلى كمال من الوصول إليه مثل البرد المفسد للثمار وكالآلام والغموم وغير ذلك فإننا إذا تأملنا في ذلك وجدنا البرد في نفسه من حيث هو كيفية ما أو بالقياس إلى علته الموجبة له ليس بشرّ بل هو كمال من الكمالات وإنما هو شرّ بالقياس إلى الثمار لإفساده أمزجتها فالشر بالذات هو فقدان الثمار كمالاتها اللائقة بها ، والبرد إنما صار شرّا

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن : ج ١٣ ص ١٨٨.

(٢) شرح الإشارات : ج ٣ ص ٣٢٠.

٢٦٩

بالعرض لاقتضائه فقدان الثمار للكمال اللائق بها.

فالبرد ليس شرّا بذاته وإنما هو شرّ بالقياس أو بالإضافة إلى كونه أتلف الثمار وأفقدها الكمال المنشود لها ، لأنّ الموجودات ليست من حيث هي موجودات بشرور وإنما هي شرور بالقياس إلى الأشياء التي تؤدي إلى العدم ، إذن فالشرور أمور إضافية بالقياس إلى غيرها وأما في نفسها فلا شرّ فيها أصلا.

وبتعبير المحقق الدواني :

إنّ الشرّ بالذات هو العدم ، والوجود إنما يصير شرّا باعتبار استلزامه للشرّ (١).

يتلخّص مما تقدم أن الشر على قسمين :

أحدهما : هو الشر بالذات وبالحقيقة وهو ليس إلّا أمورا عدمية ليست لها علة بل معدومة بعدم علتها.

ثانيهما : هو الشر بالعرض وبالإضافة وهو ما يؤدي إلى العدم.

وعليه فليس بين الموجودات شرّ مطلق كما يتوهمه البعض وإلّا فما الغاية من خلقه حتى يوجده الله سبحانه؟ وإنما الموجود هو الشر بالعرض وهو ما يؤدي إلى الشر بالذات والشر بالذات ليس بمجعول لأنه معدوم بعدم علته.

ثم إن الشرور الإضافية المؤدية إلى شرور حقيقية حيث كانت جهة شرّيتها الإضافية قليلة في جنب خيريتها بملاحظتها مع النظام الكلي من العالم لا تعدّ شرورا بالذات وإنما هي شرور إضافية قيست إلى أفراد معينين وأما في نفسها وبالقياس إلى النظام الكلي فلا شر فيها أصلا.

الوجه الثاني :

لو سلّمنا جدلا أن الشرور وجودية وليست عدمية فنقول : إن الشرور الوجودية من لوازم العالم المادي فالأمر يدور بين أن يترك العالم المادي مع أنّ فيه خيرا غالبا أو يوجد ، والثاني هو المتعيّن ، لذا قال أرسطو : إن الشرور الموجودة في العالم المادي لازمة للطبائع المادية بما لها من التضاد والتزاحم فلا سبيل إلى دفعها إلّا بترك إيجاد هذا العالم ، وفي ذلك منع لخيراته الغالية على

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ص ٤٥٧.

٢٧٠

شروره وهو خلاف حكمته وجوده عزّ شأنه. فخلقة الشرور بناء على وجوديتها تكون مقصودة بالتبع لا أصالة إذ لا يصح خلق العالم المادي بدونها.

الوجه الثالث :

إنّ للشرور منافع وفوائد كثيرة بحيث يمكن سلب الشرّية عن الشرور بملاحظتها والتدقيق في خواتيمها لذا فإنّ الإحساس بالألم يدفع المتألم إلى علاج مرضه إبقاء على حياته لذا قال الحكماء : «لو لا التضاد ما صحّ دوام الفيض عن المبدأ الجواد» ، لأنّ في الشرور تأثيرا في التكامل والتسابق نحو الخيرات ، ألا ترى أنه لو لا الحرب لما كانت الحضارة والتقدم ، ولو لا المرض لما عرف الناس الدواء وهكذا ...

فحركة العالم المادي وسوقه نحو الكمال لا يحصل بدون التزاحم والتضاد بل إنّ السير نحو الكمال موقوف على تلك الأمور التي تسمى شرورا ، فمن هنا تظهر فائدة الشرور وأهميتها على الصعيد الفردي أو الاجتماعي وغير ذلك ، وبذلك ينقدح ما قيل : إنّ شرّية ما يسمى شرّا بلحاظ إضافته إلى جزئي وشيء خاص لا بلحاظ أوسع وإلّا فهو خير وليس بشرّ.

الوجه الرابع :

إنّ البلايا والآفات والعاهات كثيرا ما تصلح لإعداد الكمالات المعنوية كالتوجه إليه تعالى والانقطاع إليه والتخلق بالأخلاق الفاضلة بحيث لو لم تكن تلك الأمور لا يمكن نيل تلك الكمالات المعنوية ، فمثلا : من أصابه مرض وأقدم على العلاج وصبر عليه ودعا وتضرّع إليه تعالى ورضي بما قدّره له من الشفاء أو عدمه حصل له من القرب إليه تعالى والتخلق بالأخلاق الحسنة ما لم يكن قبل ابتلائه ، فالمرض أعدّ له هذا التكامل المعنوي ، وكذلك من صار فقيرا من دون تفريط في الكسب وقنع بما في يده ورضي بما قدّر ولم يخضع لغني طمعا بماله حصل له ملكة القناعة وعزّة النفس وغيرها من الملكات الفاضلة ما لم يحصل عليه قبل الابتلاء بالفقر وهكذا بقية البلايا والآفات فهي خير زاد لإعداد النفس نحو الفضيلة والتقوى.

فهذه البلايا في الحقيقة ليست شرورا بالنسبة إلى من يجعلها وسيلة لاستكمال نفسه وتخلقه بالأخلاق الحسنة وإنما هي شرور بالنسبة إلى من لا يستفيد منها في طريق الاستكمال ، وعليه فشرّيتها ليست في نفسها بل في نفس من

٢٧١

لا يستفيد منها ؛ لذا عدّ الله سبحانه بعض الشرور التي هي بنظر الناس شرور محضة ، عدّها وسيلة لنيل الرحمة والرضوان ، قال سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٦) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (البقرة / ١٥٦ ـ ١٥٧).

الوجه الخامس :

إنّ الاختلافات الموجودة في الأصناف والأفراد كالسواد والبياض أو البلادة والذكاء أو النقص والتمام أو الرجولية والأنوثية أو الإنسانية والحيوانية ، كل ذلك لا ينافي العدل ، لأنه كما عرفت «إعطاء كل ذي حق حقه» ومعلوم أنه لا حقّ للشيء قبل خلقته ، فكل ما أعطاه الله تعالى للأشياء فهو فضل لاحق ، وحيث ثبت أنّ كل ما أعطاه الله سبحانه فهو تفضل منه ورحمة ، فالاختلاف فيه لا يعتبر ظلما وإليه يرشد ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام :

يا ابن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميّتا ومنهم من يسقط غير تام ، ومنهم من يولد أعمى وأخرس وأصم ، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض ، ومنهم من يبقى إلى الاحتلام ومنهم من يعمّر حتى يصير شيخا فكيف ذلك وما وجهه؟

قال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى أولى بما يدبّره من أمر خلقه منهم وهو الخالق والمالك لهم ، فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له ، ومن عمّره فإنما أعطاه ما ليس له ، فهو المتفضّل بما أعطى وعادل فيما منع (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء / ٢٤) ، قال جابر : فقلت له : يا ابن رسول الله وكيف لا يسأل عمّا يفعل؟

قال عليه‌السلام : لأنه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصوابا ، وهو المتكبّر الجبّار والواحد القهّار فمن وجد في نفسه حرجا في شيء مما قضى كفر ، ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد(١).

بهذا نعلم أن الاختلافات الحاصلة بين المخلوقات بشتى أصنافها لا تنافي قانون العدالة الإلهية ، لأنه لو لا هذه الاختلافات لما استقرّ النظام المادي

__________________

(١) نور الثقلين : ج ٣ ص ٤١٩ ح ٣٣.

٢٧٢

والاجتماعي لتلك المخلوقات المتعددة ولو كان معيار العدالة هو التساوي لزم أن لا يوجد إلّا شيء واحد كأن لا يوجد إلّا الإنسان مثلا حينئذ كيف يمكنه أن يعيش لوحده مع عدم وجود شيء آخر معه حتى النبات ليغتذي به أو يأوي إليه ، وأيضا لو كان جميع أفراد الإنسان ذكورا أو إناثا فقط لانقرض النسل لعدم إمكان التوالد والتناسل وهكذا إلى غير ذلك من الأصناف والأنواع (١).

والوجه السادس :

قد تكون بعض الشرور لمجازاة الكفّار والعصاة وعذابهم نتيجة أعمال السوء التي تصدر منهم كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (القصص / ٦٠) (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (الأنعام / ٧).

بل تدلّ بعض الآيات على أن المصائب كالقحط والغلاء والشدائد تعرض على الأفراد والأقوام نتيجة سوء اختيارهم ولكثرة المتغيرات الحاصلة في أنفسهم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد / ١٢) (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى / ٣١).

فبعض المصائب الحاصلة للبشر بينها وبينهم نوع ارتباط ، فلو جرى الإنسان أو المجتمع على ما تقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل لنزلت عليهم الخيرات وشملتهم البركات.

قد يقال : عرفنا أن المجازاة بالمصائب نتيجة عدم العمل بما تقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل ، فما ذنب الأولياء والأنبياء عليهم‌السلام حتى تحلّ بساحتهم المصائب والأحزان والشرور؟

الجواب :

إنّ البلايا والمصائب التي كانت تحل بالأولياء والأنبياء عليهم‌السلام ليست مجازاة على معاصي ارتكبوها بل هي لارتفاع شأنهم كما نصّ على ذلك صحيحة علي بن رئاب فقال :

__________________

(١) بداية المعارف : ج ١ ص ١٣٨ بتصرف.

٢٧٣

سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى :

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أرأيت ما أصاب عليا عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام من بعده أهو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟

فقال عليه‌السلام : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتوب إلى الله تعالى ويستغفر في كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب ، إنّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب (١).

إضافة إلى أنه عزوجل يبتليهم ليكونوا قدوة وعبرة للصابرين وذكرى للعابدين. بل إن المؤمن كثير البلاء فكلما اشتد إيمان المرء كثر البلاء عليه وهذا من مختصات الرحمة الإلهية له كما ورد :

إن أشدّ الناس بلاء في الدنيا النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، ويبتلى المؤمن على قدر إيمانه وحسن أعماله ، فمن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ومن سخف إيمانه وضعف عمله وقلّ بلاؤه (٢) فالأولياء والأنبياء خارجون تخصصا عن مفهوم قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين : ج ٤ ص ٥٨١.

(٢) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢٥٢ ح ٢.

٢٧٤

الباب الخامس

عقيدتنا في التكليف

قال المصنّف (قدس‌سره) :

نعتقد أنه تعالى لا يكلّف عباده إلّا بعد إقامة الحجّة عليهم ، ولا يكلّفهم إلّا ما يسعهم وما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون ، لأنه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصر في التعليم.

أما الجاهل المقصّر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسئول عند الله تعالى ، ومعاقب على تقصيره ، إذ يجب على كلّ إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية.

ونعتقد أنّه تعالى لا بدّ أن يكلف عباده ويسنّ لهم الشرائع وما فيه صلاحهم وخيرهم ليدلّهم على طريق الخير والسعادة الدائمة ، ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح ، ويزجرهم عمّا فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم وأن علم أنهم لا يطيعونه لأنّ ذلك لطف ورحمة بعباده وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة ، ويجهلون الكثير مما يعود عليهم بالضرر والخسران. والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته ، وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته ويستحيل أن ينفك عنه. ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمردين على طاعته غير منقادين إلى أوامره ونواهيه.

* * *

مسألة «التكليف» من أهم الأسس التشريعية عند الشيعة الإمامية لما لها من أهمية كبرى على صعيد الفرد والجماعات السائرين إلى الله تعالى بقدم العبودية ،

٢٧٥

وما للمسألة من جذور وأصول فلسفية تتناول عدل الله تعالى ، لذا فإن للتكليف صلة مباشرة بمسألة صحة إمكان صدور القبيح منه تعالى أو لا؟ لأنّ التكليف مما أمر به الباريعزوجل فهل هو قبيح أو لا؟

فعلى المسلك «الأشعري» باتت المسألة واضحة المعالم حيث إن الأفعال عندهم في حدّ نفسها ليست حسنة ولا قبيحة بل كل ذلك متعلق بالشرع ، فما أمر به فهو حسن ولو كان بنظر العقل السليم قبيحا ، وأما على المسلك الإمامي فإن الباري عزوجل لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب كما سوف يأتيك في الأمر الرابع.

وقد تعرّض المصنّف في هذا الباب إلى أربعة أمور :

الأمر الأول : التكليف بعد إقامة الحجة.

الأمر الثاني : أنه عزوجل لا يكلّف بغير المقدور.

الأمر الثالث : أن الجاهل المقصّر معاقب.

الأمر الرابع : الغاية من التكليف.

أما الأمر الأول : ففيه توضيحان :

الأول : ما هو التكليف؟

الثاني : ما هي الحجة؟

١ ـ أما التوضيح الأول :

فيراد من «التكليف» الإلزام المنصب على المكلّف من قبل من تجب طاعته ابتداء كالمولى عزّ شأنه ومن له ولاية على العباد من قبله سبحانه كالأئمة والأنبياء عليهم‌السلام.

وبعبارة أخرى : إن التكليف عبارة عن الحكم الصادر منه تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه نحو الكمال المطلق.

وعرّفه العلّامة الحلي (قدس‌سره) بأنه :

«إرادة من تجب طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام» (١).

ففي التعريف المذكور أربعة قيود :

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٤٥.

٢٧٦

القيد الأول : «إرادة من تجب طاعته» :

ويراد منه من وجبت طاعته بحكم العقل والنقل كالمولى عزوجل والنبي والإمام والسيد والأب.

القيد الثاني : «الابتداء» :

أي من تجب طاعته اصالة وابتداء إنما هو المولى عزوجل ، أما الأئمة والأنبياء عليهم‌السلام فتجب طاعتهم تبعا لإطاعة المولى عزّ شأنه ، وبقيد الابتداء تخرج إطاعة الجميع عن الوجود سوى الله لأنّ إرادة الإمام أو النبي وغيرهما ليست تكليفا لسبق إرادة المولى على إرادتهم ، لهذا لا يسمّى الوالد مكلّفا لأنه أمر ولده بالصلاة وذلك لسبق إرادة الله لها منه. ولو قيل أن الأب كلّف ولده بالصلاة فذاك مجاز وتوسع.

القيد الثالث : «المشقة» :

لأنّ التكليف فيه مشقة وتعب ، وخرج عن ذلك ما كانت إرادته منّا مما لا مشقة فيه كالمأكول والمشروب وغيرهما حيث لا مشقة فيهما من قبل الغير ، لأنّ معنى المشقة اصطلاحا سبق إرادة المولى على إرادة العبد ، وهذا إنما يصدق على الأحكام الإلزامية كالصوم والصلاة والحج وغيرها ، ففي هذه الأحكام لا يمكن للمرء ترك الصوم والصلاة وغيرهما من دون مبرّر أو عذر ، وكذا يصدق على الأحكام الترخيصية كالمستحب والمكروه أنّ فيهما شيئا من المشقة باعتبار ما ورد من الشارع المقدّس من الإثابة على متعلقيهما.

أما المباحات التي هي عبارة عن تراخيص يخيّر المرء بين فعلها وتركها فيأتي بها المرء من دون سبق إرادة أخرى على إرادته ، لذا لا يبعد خروج المباح عن مورد التكليف لعدم وجود الملاك (أي المشقة) في الإتيان به.

القيد الرابع : «الإعلام» :

لأنّ المكلّف إذا لم يعلم بما طلب منه لا يكون مكلّفا ، إذ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (الطلاق / ٨).

٢ ـ التوضيح الثاني :

يراد من «الحجة» لغة : البرهان والدليل ، أو كل ما يصح الاحتجاج به سواء أفاد علما أم لم يفد ذلك شريطة أن يكون مسلّما لدى المحتج عليه ليكون ملزما به.

٢٧٧

قال الأزهري : «(الحجة) الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة» (١) وسميت حجة لأنها تحجّ أي تقصد لأنّ القصد لها وإليها وكذا محجّة الطريق هي المقصد والمسلك.

والمرء عادة لا يقصد الشيء إلّا إذا وجد فيه ضالته ، والحجة في الاصطلاح الأصولي هي المعذرية أو المنجزيّة وهما من اللوازم العقلية التي لا تنفك عن مفهومها.

والحجة عند المنطقيين : هي عبارة عن الوسط الذي به يحتج لثبوت الأكبر للأصغر.

والحجة عند المتشرّعة : هي خصوص الأدلة الشرعية من الطرق والإمارات التي تقع وسطا لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه.

ويراد منها عند المتكلمين كونها التي توجب القطع وتفيد العلم وتقطع العذر وهذا المعنى أقرب للمفهوم اللغوي من بقية المفاهيم وأوسع دلالة منها.

أقسام الحجة :

هي قسمان : باطنية وظاهرية :

فالباطنية : هي العقول والمدركات الشعورية.

والظاهرية : هي السفراء والرسل والكتب والشرائع.

والباطنية ورد في فضلها الكثير من النصوص لأنّ العقل نور الله تعالى في عباده به يعبد وبه تحصل المكرمات ولا يكمله الله تعالى إلّا فيما يحب (٢) ، واكتماله باكتمال الخلق ، فكلما تناكس خلق المرء كلما خفّ عقله ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام :

أكمل الناس عقلا أحسنهم خلقا (٣).

__________________

(١) لسان العرب : ج ٢ ص ٢٢٨.

(٢) لاحظ أصول الكافي : ج ١ ص ١٠ ح ١.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٣ ح ١٧.

٢٧٨

وأما الظاهرية فتتمثل بالحجج المذكورة آنفا حيث بهم يحتج المولى على خلقه لئلا يقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (طه / ١٣٥).

ورد عن هشام بن الحكم قال :

جاء زنديق إلى الإمام الصادق عليه‌السلام وسأله :

من أين أثبتّ الأنبياء والرسل؟

قال عليه‌السلام : إنّا لما أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه ، يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه جلّ وعزّ وهم الأنبياء عليهم‌السلام وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين بها غير مشاركين للناس ـ على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ـ في شيء من أحوالهم مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته (١).

زبدة المخض :

بعد عرض هذه المقدمة الوجيزة نقول :

لا يكون التكليف ـ الذي هو حكم الله من الحلال والحرام ـ واجبا إلّا بعد إتمام الحجة الباطنية عليهم ، لذا فإنه سبحانه لا يكلّف المجانين والقاصرين وأشباههم ، كما أنه لا يكلّفهم إلّا بعد أن يرسل إليهم السفراء والحجج لأنّ تكليفهم قبل ذلك يعدّ ظلما عليهم ، إذ كيف يتسنّى لهم امتثال الأوامر والانزجار عن النواهي وهم عاجزون عن معرفتها والإحاطة بها ، ولا تكون المعرفة إلّا بسفير يكون همزة وصل بين السماء والأرض. قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :

حجة الله على العباد النبي ، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل (٢).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ ص ١٦٨ ح ١.

(٢) نفس المصدر : ج ١ ص ٢٥ ح ٢٢.

٢٧٩

الأمر الثاني : التكليف بغير المقدور :

إنّ التكليف بغير المقدور أو بما لا يطاق ولا يتحمل عادة أمر تنكره البداهة والوجدان ، ويستقبحه العقل السليم الحاكم بأنّ المأمور غير مستطيع وقادر على إيجاد الفعل غير المقدور ، وذلك لعدم انقداح الشوق أو الإرادة في لوح نفسه فلا تبلغ ـ أي الإرادة ـ درجة تصور الفعل والتصديق بفائدته مما لا يستدعي تحرّك العزم والجزم ، فهل يمكن للإنسان أن يطلب الثمرة من الشجرة اليابسة ، أو المطر من الأحجار والأتربة الجامدة؟! كلا ، لذا قال المحققون :

إن مرجع التكليف بما لا يطاق يعود إلى كون نفس التكليف محالا وأن الإرادة الجدية لا تنقدح في ضمير الآمر العرفي فكيف بالآمر الإلهي المولى الحقيقي ، ومع هذا فقد أجاز الأشاعرة أن يكلّف الباري عباده بما لا يطيقون وستأتي أدلتهم.

أما الإمامية فقد عدّوا ذلك مستحيلا بحقه تعالى بوجهين :

الوجه الأول :

إن التكليف بغير المقدور أمر قبيح عقلا صدوره عن المولى لأنّ ضرورة العقل تمنع أن يكلّف العبد بما لا قدرة عليه ولا طاقة له به كأن يكلّفه أن يطير في السماء أو أن يدخل الجمل في خرم الإبرة.

الوجه الثاني :

أنه سبحانه نفي بصريح الآيات عدم تكليفه العبد بما لا يطيق (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (البقرة / ٢٨٧) (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (الطلاق / ٨).

فإذا نفى عزوجل عن نفسه ذلك فكيف يثبت له الأشاعرة ما هو بريء منه؟!

الأدلة على التكليف بغير المقدور :

استدلّ الأشاعرة على جواز التكليف بغير المقدور بأدلة نقلية وأهملوا العقلية ، والسر فيه أن العقل يحكم بعكس ما يدّعون ولأنهم ينفون كما مرّ سابقا مسألة الحسن والقبح العقليين.

من الآيات التي استدلّوا بها :

الآية الأولى : قوله تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (هود / ٢١).

٢٨٠