الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

الصفة السلبية (٣)

أنه ليس بجسم

ولا عرض ولا جوهر

لو اتّصف سبحانه بهذه الصفات الطارئة لا فتقر إلى المكان ، ولامتنع انفكاكه من الحوادث فيكون حادثا وهو محال.

وعلى هذا المعتقد عامة العدلية ، وخالفهم بذلك بعض المتلبّسين بالإسلام يطلق عليهم لقب «المجسّمة» أتباع داود الظاهري وأحمد بن حنبل والكرامية حيث اعتقدوا أن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق.

ويستدل على المدّعى :

أولا : لو كان سبحانه جسما أو عرضا لكان ممكنا ، وهو خلف كونه واجب الوجود ؛ فيثبت المطلوب ويبطل نقيضه.

بيان ذلك :

إنّا نعلم بالضرورة أن كل جسم فهو مفتقر إلى مكان ، وكل عرض فهو مفتقر إلى محل أو حيّز ، والمحل غير الجسم والعرض ، فيفتقران حينئذ إلى غيرهما وهما المحل والحيّز ، والمفتقر إلى غيره ممكن ، ولو كان الباري عزوجل جسما وعرضا لكان ممكنا وهو باطل.

ثانيا : أنه لو كان جسما أو عرضا أو جوهرا لكان حادثا وهو محال.

بيان ذلك :

إن كل جسم لا يخلو من الحوادث ، وكل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث : فلأن الحادث لو لم يكن حادثا لكان قديما ، وقد دل الدليل على بطلان كون الحادث قديما ، فلو كان الله سبحانه جسما لكان حادثا لكنه قديم فيجتمع

٢٤١

النقيضان وهما القدم والحدوث وهذا باطل.

إضافة إلى ذلك فإنه لو كان جسما استدعى وجوده في محل وجهة مما يعني افتقاره إلى تلك الجهة أو المحل ، لكن افتقاره إليه محال فيكون حلوله في شيء محالا قطعا ، ويستحيل أيضا وجوده في جهة كالعلوّ والسفل وغيرهما وإلّا لافتقر إليها لأنّ كل ما هو في جهة يفتقر إليها ضرورة.

* * *

٢٤٢

الصفة السلبية (٤)

يستحيل عليه الرؤية البصرية

فوجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية البصرية لأنّ كل مرئي فهو ذو جهة ، لأنه إما مقابل أو في حكم المقابل كالنظر إلى المرآة ، فيكون جسما وهو محال.

وقد تقدم في بحث سابق استحالة الرؤية البصرية عليه تعالى فلا نعيد.

* * *

٢٤٣

الصفة السلبية (٥)

ليس له شريك في ملكه

اتفق المسلمون كافة على أنه تعالى واحد لا شريك له أبدا ، ويستدلّ على ذلك بدليلين :

الأول : العقل.

الثاني : النقل.

أما العقل : فبتقريرين :

التقرير الأول :

فلما تقدم من وجوب وجوده تعالى الدالّ على وحدته ، ولو فرض معه شريك للزم فساد نظام الوجود وهو خلف صلاحه.

بيان ذلك :

لو فرضنا وجود شريك للمولى عزّ شأنه ، وتعلّقت إرادة أحدهما بإيجاد جسم متحرّك فلا يخلو إما أن يكون للآخر إرادة سكونه أو لا؟ فإن أمكن سكونه فلا يخلو إما أن يقع مرادهما فيلزم اجتماع المتنافيين ـ أي السكون والحركة في آن واحد حيث إن الإله الأول يريده متحرّكا والثاني يريده ساكنا ـ وهو واضح البطلان وبيّن الفساد.

أو لا يقع مرادهما : فيلزم خلوّ الجسم عن الحركة والسكون ، أو يقع مراد أحدهما ففيه فسادان :

الأول : الترجيح بلا مرجّح بمعنى إن وقع مراد أحدهما دون صاحبه في حين أنّهما متساويان يعدّ هذا الأمر ترجيحا بلا مرجّح ، فلا بدّ من مرجّح لوقوع أحد المرادين ؛ فهذا المرجّح إما أن يكون القدرة كأن يكون أحدهما أقدر من الآخر

٢٤٤

فيثبت المطلوب.

وإما أن يكون المرجّح تساويهما في كل شيء ، وهو خلف كونه مرجّحا بل لا يسمّى ترجيحا.

الثاني : عجز الآخر ؛ أي إن لم يمكن للآخر إرادة سكون الجسم المتنازع عليه ، فيلزم عجزه إذ لا مانع إلّا تعلّق إرادة ذلك الغير ، لكن عجز الإله محال ، والترجيح بلا مرجح باطل ، فيلزم فساد النظام وهو باطل أيضا.

يطلق على هذا الدليل ب (برهان التمانع) من باب امتناع وجود إلهين معا في الكون وقد أشار القرآن إليه بالقول :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء / ٢٣).

وهناك صيغة أخرى لدليل التمانع ذكره العلّامة المجلسي (١) «قدّس سره».

التقرير الثاني :

إنه لو كان في الوجود واجب وجود آخر لتشاركا في مفهوم كون كل واحد منهما واجب الوجود ، ولامتاز كل واحد بأمر مغاير لما فيه اشتراكهما وإلّا لما كانا اثنين بل واحدا ، وحينئذ يكون كل واحد منهما مركّبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز ، وكل مركّب ممكن ، فيكونان ممكنين ، والفرض أنهما واجبان وهذا خلف.

توضيح التقرير :

لو كان هناك إله واجب الوجود غيره تعالى فاللازم أنّ هذين الإلهين يشتركان في صفة واجب الوجود ، وكلّما كان ما به الاشتراك يلزم أن يكون ما به الامتياز وإلّا لم يكونا شيئين بل هما شيء واحد وهو المطلوب ، وإذا حصل ما به الامتياز والتخالف صار كلّ واحد منهما مركّبا ، والتركّب يستلزم الإمكان فيثبت المطلوب وهو أن نفس صفة وجوب الوجود تنفي الشريك لله تعالى.

وأما النقل :

يراد منه الأدلّة السمعية من الكتاب والسنّة وهي أكثر من أن تحصى كلها ترشد إلى حكم العقل القاضي باستحالة وجود شريك للمولى عزّ ذكره وعلا مجده.

__________________

(١) لاحظ البحار ج ٣ ص ٢٣١.

٢٤٥

فالكتاب الكريم مشحون بالآيات الدالّة على الوحدانية ونبذ الشرك والصنمية وعبادة الأوثان منها قوله تعالى :

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (البقرة / ١٦٤).

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة / ٢٥٦).

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة / ٢٨٥).

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) (آل عمران / ٦٣).

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ...) (آل عمران / ٦٥).

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (النساء / ٤٩).

وأما السنّة المطهرة فمنها :

الرواية الأولى :

عن هشام بن الحكم قال :

إنّ زنديقا سأل الإمام الصادق عليه‌السلام : لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا يخلو قولك : أنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين ، أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويّا والآخر ضعيفا ، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالربوبية؟ وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ثبت أنه واحد ـ كما نقول ـ للعجز الظاهر في الثاني ، وإن قلت : أنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متّفقين من كل جهة ، أو مفترقين من كل جهة ، فلمّا رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دلّ صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ ص ٢٣٠.

٢٤٦

الرواية الثانية :

عن هشام بن الحكم مثله وزاد فيه :

ثم يلزمك إن ادّعيت اثنين فلا بدّ من فرجة حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة ، وإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتى يكون بينهم فرجتان فيكونوا خمسة ، ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية لا في الكثرة (١).

الرواية الثالثة :

عن هشام بن الحكم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما الدليل على أن الله واحد؟

قال عليه‌السلام : اتّصال التدبير وتمام الصنع كما قال عزوجل : لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا (٢).

الرواية الرابعة :

ما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الإمام الحسن عليه‌السلام :

واعلم أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت صفته وفعاله ، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ذلك أحد ولا يحاجّه وأنه خالق كل شيء (٣).

تنبيه : لا يخفى على اللبيب أن خطاب أمير المؤمنين عليه‌السلام لابنه الحسن عليهما‌السلام في هذه الرواية من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، وذلك لتنزّه المعصوم عليه‌السلام عن مطلق الجهل لا سيما فيما يتعلق بالتوحيد.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ ص ٢٣٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣ ص ٢٢٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٣ ص ٢٣٤.

٢٤٧

الصفة السلبية (٦)

أنه تعالى ليس في جهة

وجوب وجوده يقتضي أن لا يكون في جهة لأنّ الضرورة قاضية بأن كل ما هو في جهة فإما أن يكون لابثا فيها أو متحركا عنها وهما من لوازم الحدوث ، وعلى هذا فهو لا ينفك عن الحوادث ، وكل ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث.

وقد خالف العقلاء جماعة من الأشاعرة وأصحاب أبي عبد الله بن الكرّام حيث قالوا أنه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها ، وقال قوم منهم أنه تعالى على العرش كما يقول المجسّمة واستدلّوا عليه بآيات متشابهات منها قوله تعالى :

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه / ٦).

إضافة إلى أن المؤمن إذا دعا رفع يديه إلى السماء.

يلاحظ على هذا :

أولا : إن الاستواء على العرش كناية عن تسلّط القدرة الإلهية وإحاطتها الكاملة بعوالم الوجود ، ونفوذ أمره وتدبيره لجميع الكائنات على الإطلاق.

«والعرش» لغة كناية عن القدرة غالبا كأن يقال : فلان قد أنزلوه عن عرشه أو أزاحوه عنه أي أنهم قد أنهوا حكمه وقدرته لأنه كان جالسا على كرسي كبير ، إذ إن الجلوس على الكرسي ليس له أيّة ميزة أو خصوصية للتسلط.

فقد ورد عن مولى الثقلين عليه‌السلام في حديث (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

قال : استوى تدبيره وعلا أمره (١).

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٤ ص ١٢٨ نقلا عن الاحتجاج.

٢٤٨

وعن الحسن بن راشد قال : سئل أبو الحسن موسى عليه‌السلام عن قول الله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) قال عليه‌السلام : استولى على ما دقّ وجلّ (١).

إضافة إلى أن المحكمات من الآيات كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى / ١٢).

وقوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات / ١٦٠).

تدلّ على انتفاء الجسم وخواصه عنه تعالى فينفي عنه العرش الذي وصفه لنفسه (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

ثانيا : إن الاستواء على العرش يعني كونه في جهة يشار إليها واحتياجه لها فيكون محدودا وحادثا فلا يكون واجبا.

ثالثا : وأما ما قيل من رفع الأيدي إلى السماء ، فلأنّ البركات الإلهية إنما تنزل من السماء إلى الأرض ، ولانشداد الداعي بالفطرة إلى السماء وجهة الفوق والعلوّ المشيرة إلى القوة والاقتدار ، لذا ورد أن رفع اليدين إلى السماء لأنها موضع الرزق.

ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

إذا فرغ أحدكم من الصلاة فليرفع يديه إلى السماء لينصب في الدعاء.

فقال ابن سبأ : يا أمير المؤمنين أليس الله في كل مكان؟

قال عليه‌السلام : بلى ، قال : فلم يرفع يديه إلى السماء؟

فقال عليه‌السلام : أوما تقرأ : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (الذاريات / ٢٣) فمن أين يطلب الرزق إلّا من موضع الرزق ، وموضع الرزق وما وعد الله السماء (٢).

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٤ ص ١٢٨.

(٢) علل الشرائع : ج ٢ ص ٤٠.

٢٤٩

الصفة السلبية (٧)

أنه ليس بمحتاج

أي أنه تعالى غني عن العالمين غير محتاج لأحد منهم على الإطلاق لأنّ وجوب وجوده دون غيره يقتضي استغناءه وافتقار غيره إليه ، فالله سبحانه لا يحتاج إلى غيره لا في ذاته ولا في صفاته ، ولو كان محتاجا لزم افتقاره فيكون ممكنا تعالى عن ذلك ، بل هو المستغني عن مجموع ما عداه ، فالكل رشحة من رشحات جوده وكرمه.

* * *

٢٥٠

الصفة السلبية (٨)

أنه لا يتحد بغيره

والاتحاد بحسب المجاز صيرورة شيئين شيئا واحدا بأن يعدم عن الأول شيء ويحدث فيه آخر ، كما يقال : صار الماء هواء ، فإنّ الصورة المائية زالت واتصفت مادته بالصورة الهوائية ، أو بأن يمتزج شيئان ويحدث صورة ثالثة مغايرة للأولى كما يقال : صار الخشب سريرا ، أو كصيرورة التراب طينا بإضافة الماء إليه.

وأما الاتحاد بحسب الحقيقة فهو صيرورة الشيئين الموجودين شيئا واحدا لكن لا بأحد المعنيين المذكورين ، بل بأن تنتفي الذاتان وتتحد إحداهما بالأخرى.

والصنف الأول من الاتحاد فهو وإن كان ممكنا في حق غيره سبحانه إلّا أنه مستحيل عليه تعالى لاستحالة انفصاله وصيرورته جزءا من غيره.

وأما الصنف الثاني ، فقد أجازه بعض المنتسبين إلى الحكمة فقالوا : انه تعالى جائز في حقه تعالى لأنه إذا عقل شيئا اتحدت ذاته بذلك الشيء المعقول.

ووافقهم عليه النصارى معتقدين بالأقانيم الثلاثة ـ الأب ـ الابن ـ روح القدس. واتّحد ناسوت المسيح باللاهوت.

وقال جمع من المتصوفة :

إذا وصل العارف نهاية مراتبه انتفت هويته وصار الموجود هو الله وحده ، وتسمى هذه المرتبة عندهم ب «الفناء في التوحيد».

يورد عليهم :

الإيراد الأول :

إنّ الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد بالمعنى المذكور لاستلزامه التركيب في

٢٥١

ذاته المفروض كونه بسيط الحقيقة من كل الجهات ، والتركيب من علائم المادة والخالق غير مادي.

الإيراد الثاني :

إن حقيقة الاتحاد عبارة عن صيرورة الشيئين المتغايرين شيئا واحدا وهو مستحيل في ذاته لأنّ المتّحدين بعد اتّحادهما إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحد ، وإن صارا معدومين ووجد ثالث فلا اتّحاد ، بل إعدام لشيء وإيجاد لآخر ، وإن عدم أحدهما وبقي الآخر فلا اتّحاد لأنّ المعدوم لا يتّحد بالموجود ، وإذا بان وظهر أنّ الاتحاد محال في نفسه استحال إثباته له تعالى.

وبهذا يعلم أن ما ادّعاه المسيحيون والحلوليون ما هو إلّا سراب يحسبه الظمآن ماء وما هو بماء.

هذه بعض الصفات السلبيّة وإلّا فهي كثيرة ، ولكن كل صفة تشبّه الباري عزّ شأنه وتنسب إليه النقص ، فهي صفة منفية عنه ويجب تنزيهه عنها ، وما ورد في الكتاب أو السنّة من ظواهر المتشابهات لا بدّ من حمله على غير ظاهره وتأويله بما يوافق ساحة قدسه.

* * *

٢٥٢

الباب الرّابع

عقيدتنا بالعدل

قال المصنّف (قدس‌سره) :

ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنّه عادل غير ظالم ، فلا يجور في قضائه ولا يحيف في حكمه ، يثيب المطيعين ، وله أن يجازي العاصين (١) ، ولا يكلف عباده ما لا يطيقون ، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقّون. ونعتقد أنّه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة (٢) ، ولا يفعل القبيح ، لأنه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح ، مع فرض علمه بحسن الحسن وقبح القبيح ، وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح ، فلا الحسن يتضرّر بفعله حتى يحتاج إلى تركه ، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله وهو مع كلّ ذلك حكيم لا بدّ أن يكون فعله مطابقا للحكمة وعلى حسب النظام الأكمل.

فلو كان يفعل الظلم والقبح ـ تعالى عن ذلك ـ فإنّ الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور :

١ ـ أن يكون جاهلا بالأمر ، فلا يدري أنّه قبيح.

__________________

(١) لأن التعذيب حقّ للمولى سبحانه وله إسقاط هذا الحق وهو إحسان منه تعالى فلا مانع إذا اقتضت الحكمة من العفو عن المعاصي في ظروف خاصة إما بالشفاعة أو بغير ذلك. (من الشارح).

(٢) أي إذا خلا الحسن من جهات المفسدة فإنّه عزوجل يوجده.

٢٥٣

٢ ـ أن يكون عالما به ، ولكنه مجبور على فعله وعاجز عن تركه.

٣ ـ أن يكون عالما به ، وغير مجبور عليه ولكنه محتاج إلى فعله.

٤ ـ أن يكون عالما به ، وغير مجبور عليه ولا يحتاج إليه ، فينحصر في أن يكون فعله له تشهيا وعبثا ولهوا.

وكل هذه الصور محال على الله تعالى ، وتستلزم النقص فيه ، وهو محض الكمال ، فيجب أن نحكم أنّه منزّه عن الظلم وفعل ما هو قبيح.

غير أن بعض المسلمين جوّز عليه تعالى فعل القبيح تقدّست أسماؤه ، فجوّز أن يعاقب المطيعين ويدخل الجنة العاصين بل الكافرين ، وجوّز أن يكلّف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه ومع ذلك يعاقبهم على تركه ، وجوّز أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع ، وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة ، بحجة أنّه لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

فربّ أمثال هؤلاء الذين صوّروه على عقيدتهم الفاسدة : ظالم جائر سفيه لاعب كاذب مخادع ، يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، وهذا هو الكفر بعينه. وقد قال الله تعالى في محكم كتابه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ، وقال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ، وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ، وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. سبحانك ما خلقت هذه باطلا.

* * *

أقول : البحث في العدل عبر جهات :

الجهة الأول : معنى العدل :

العدل : لغة بمعنى التسوية بين شيئين (١) ، وعكسه الجور ، فالعادل من لم يمل به الهوى فيجور في حكمه ، وفي الحديث :

«من المنجيات كلمة العدل في الرضا والسخط».

__________________

(١) لسان العرب : ج ١١ ص ٤٣٣ مجمع البحرين : ج ٥ ص ٤٢١.

٢٥٤

ومن معاني «العدل» الحكيم وهو الذي يضع كل شيء موضعه.

فعلى هذا يكون له معنيان :

الأول : عدم الميل إلى الهوى.

الثاني : الحكيم.

فعلى التعريف الأول : يكون قد استعملت كلمة «العدل» بالعرف العام بمعنى «رعاية حقوق الآخرين» في مقابل الظلم وهو «الاعتداء على حقوق الآخرين».

وعلى التعريف الثاني : يكون مفهوم «العدل» أوسع من مفهوم التعريف الأول ، لأنّ لفظ «الحكمة» يطلق على معنيين :

الأول : إتقان الفعل وإحكامه.

الثاني : وضع الشيء في موضعه اللائق به ، ولا يبعد أن يكون تعريف العدل مشمولا للمعنى الثاني للحكمة المرادفة لكلمة «العدل».

وأما تفسيره بمعنى التسوية بين شيئين فلا يعني ذلك أنه تعالى يجب أن يخلق المخلوقات بصورة متساوية فيخلق للإنسان قرونا وأجنحة أسوة له بالحيوانات بل إنّ مقتضى حكمة الخالق العظيم تستدعي أن يخلق العالم بصورة تترتّب عليها أكثر ما يمكن تحققه من الخير والكمال ، فليس من العدل والحكمة أن يساوي المعلّم بين طلّابه بحيث يتخذ موقفا واحدا من جميع طلابه فيساوي بين الجميع في التأديب أو التشجيع فلا يفرّق بين النشيط والكسول والذكي والبليد ، أيضا ليس من العدل أن يساوي القاضي بين المتخاصمين في المال المتنازع عليه لأن ذلك يعدّ ظلما ، فمن العدل أن يعطي كلّ ذي حق حقه.

الجهة الثانية : هل العدل صفة ذات أم صفة فعل؟

اختلف المحققون في ذلك ، فذهب المشهور إلى أنها صفة فعل ، ويظهر من جماعة أنها من صفات الذات المقدّسة ، ووافقهم العلّامة المظفر (قدس‌سره) حيث عدّه في صدر الفصل الأول من الإلهيات أنه من الصفات الثبوتية الكمالية النفسية لا الإضافية ، ولما ذكره في هذا الباب من أن صفاته الكمالية أنه تعالى عادل غير ظالم.

لكن يورد عليه :

إن قلنا إنّ العدل بمعنى المقابل للظلم فيكون صفة فعل لا صفة ذات وذلك

٢٥٥

لأنه على هذا التفسير إعطاء كل ذي حقّ حقه ، ومعلوم أن الإعطاء لا يكون قبل إيجاد الخلق ، لأنّ الإعطاء منتزع من مقام الفعل ، فلا إعطاء قبل الإيجاد ، فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فعلى هذا لا يصح أن يكون «العدل» من صفات الذات.

لكنّ هذا الإيراد ليس واردا على المصنّف بل يمكن توجيه اعتقاده كون العدل من الصفات الذاتية باعتبار كون العدل عنده مرادفا للحكمة ، فيكون العدل على وزان الحكم ، بمعنى العلم ومعرفة الأشياء على حقائقها ووضعها في المواقع اللائقة بها وبهذا قال نصير الدين الطوسي :

«إن وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة لأنّ الحكمة قد يعني بها معرفة الأشياء ، وقد يراد بها صدور الشيء على الوجه الأكمل ولا عرفان أكمل من عرفانه ... فإن أفعاله تعالى في غاية الإحكام والإتقان» (١).

فعلى هذا القياس يكون للحكمة معنيان :

الأول : معرفة الأشياء ومواضعها اللائقة بها.

الثاني : استحكام وإتقان الفعل.

فلو فسّرنا «العدل» بالمعنى الأول للحكمة ، فلا ريب يكون صفة ذات ، ولو فسّرناه بالمعنى الثاني يكون صفة فعل.

الجهة الثالثة : في المثوبة والعقوبة :

أثيرت مسألة هي : هل أنه سبحانه يثيب على الطاعات ويعاقب على المعاصي بمقتضى عدله أم بلطفه؟

ظاهر كلام المصنّف (قدس‌سره) أنه تعالى يثيب على الطاعات بمقتضى عدله ، حيث إن الإخلال بالإثابة على الطاعات يعدّ ظلما يتنزّه عنه الباري عزوجل ، وأما عقاب العاصي فإنه جائز وليس واجبا عليه تعالى.

وقد أشكل عليه البعض :

بأن الإثابة على الطاعات من باب التفضّل دون الاستحقاق ، إذ العبد وعمله لمولاه ، فلا يملك شيئا حتى يستحق به الثواب ، اللهمّ إلّا أن يقال : إن الله

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٢٦.

٢٥٦

سبحانه اعتبر من باب الفضل عمل العباد ملكا لهم ثم بعد فرض ملكيّتهم لعملهم جعل ما يثيبهم في مقابل عملهم أجرا له كما ورد في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) حيث عدّه سبحانه بعد التفضّل المذكور واعتبار مالكيتهم يستحقون الثواب بالإطاعة» (١).

لكن يرد على المستشكل :

إنّ التفضل أعمّ من الاستحقاق ، إذ قد يتفضّل سبحانه على غير المستحق كتفضّله على المذنبين بالعفو والرحمة ، فهم ليسوا مستحقين لنيل الرحمة إلّا أن جوده ورحمته ورأفته اقتضت أن يتفضّل عليهم بالعفو والمغفرة ، فالتفضل من لوازم عدله وحكمته ، وسبب عفوه عن المذنب التارك للعمل هو من أجل ما يحمل هذا المذنب من اعتقاد قلبي ، فغير المعتقد بالله وبرسوله وما أنزل على رسوله من اعتقادات حقه لا سيما المتعلقة بولاية العترة الطاهرة ، لا يكون مشمولا للعفو والتفضل.

فالمستحق للثواب بمقتضى عدله إنما هم المخلصون من أوليائه وأنبيائه وأما من دونهم فإن الرحمة تشملهم تفضلا لا استحقاقا لأنّ المرء ما لم يصل لمرحلة الخلوص الكلي فلا يستحق الثواب إلّا رأفة ورحمة به منه تعالى ، لأنه بحسب ما ارتكب من الذنوب وعدم إتيانه لأجزاء العبادات كما هي عليه واقعا يستدعي أن ينال من الرحمة بمقدار ما توجّه للباري بالعبادة ، وهذا ما أشارت إليه كلماتهم صلوات الله عليهم أجمعين ، فها هو أمير المؤمنينعليه‌السلام يعلّم عباد الله كيف يتصاغرون أمام العظمة الإلهية قال عليه‌السلام :

«اللهم أحملني على عفوك ولا تحملني على عدلك» (٢).

وقال سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام :

«اللهم خلّصني مما يحكم به عدلك ... فإنك إن تكافني بالحق تهلكني» «اللهم إن تعذبني هو يا رب منك عدل».

«يا من ضمن لهم إجابة الدعاء ويا من وعدهم على نفسه بتفضّله حسن الجزاء ...».

__________________

(١) بداية المعارف : ص ١٠١.

(٢) موضوعات نهج البلاغة : ص ١٣٢.

٢٥٧

«واحملني بكرمك على التفضّل ولا تحملني بعدلك على الاستحقاق فما أنا بأوّل راغب رغب إليك فأعطيته وهو يستحق المنع ولا بأوّل سائل سألك فأفضلت عليه وهو يستوجب الحرمان ...».

«اللهم إن تشأ تعذّبنا فبعدلك فإنه لا طاقة لنا بعدلك» (١).

فإن أثاب سبحانه فبتفضّله ولا يعني ذلك أنه يدخل المؤمن العاصي النار لأن ذلك يعدّ ظلما يتنزّه عنه الباري بل يدخلهم الجنّة راضيا منهم العمل اليسير مع بقاء الاعتقاد موجودا لديهم فبذلك يتفضّل عليهم بالمغفرة والثواب.

أما مسألة أن له أن يجازي العاصين لا أن يكون واجبا عليه بحكم العقل فبوجهين :

عقلي ونقلي.

أما الدليل العقلي فبأمرين :

الأول : فلأنّ العقاب حقه تعالى فجاز إسقاطه ، والمقدمتان ظاهرتان ، أما الأولى فواضحة إذ إن العقاب مختص به عزوجل وبيده وضعه ورفعه. وأما الثانية : فلأنه لا ضرر عليه تعالى في تركه العقاب على مستحقه.

الثاني : فلأنّ العقاب ضرر بالمكلّف ولا ضرر في تركه على مستحقه ، وكل ما كان كذلك كان تركه حسنا ، أما أنه ضرر بالمكلّف فضروري ، وأما عدم الضرر عليه تعالى في تركه العقاب فقطعي لأنه تعالى غني بذاته عن كل شيء.

أما الدليل النقلي :

فما ورد في الكتاب الكريم بالعفو عن العاصين المتحققة فيهم شروط معيّنة.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء / ٤٩).

وللحديث المتفق عليه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

الجهة الرابعة : القبح والحسن العقليين :

نشب الخلاف بين الإمامية والأشاعرة في مسألة العدل الإلهي وأفعاله عزّ

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، والموضوعات على الصحيفة : ص ٢٩ ـ ٣٠.

٢٥٨

وجلّ في أنه هل بإمكان العقل التوصل ـ من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة ـ إلى ضوابط للأفعال ، يحكم على أساسها بلزوم القيام بهذا الفعل وترك الفعل الآخر ، فهل يمكن مثلا أن يحكم العقل بأنّ الظلم قبيح والمعروف جميل أم أن أمثال هذه الأحكام من مختصات الوحي فقط؟

فيه رأيان :

الأول : للإمامية وتبعهم المعتزلة ، قالوا إنّ العقل قادر على إدراك الحسن والقبح من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، نعم هما يرشدان إلى الحكم العقل.

الثاني : للأشاعرة ، قالوا إنّ العقل لا يدرك الحسن والقبح وإنما الحسن ما حسّنه الشارع المقدّس ، والقبح ما قبّحه كذلك ، وهذا ما يسمى بمسألة الحسن والقبح العقليين ، لذا ذهب شيخهم الأكبر أبو الحسن الأشعري إلى الاعتقاد إلى أن تحكيم العقل في باب التحسين والتقبيح يستلزم نفي حرية المشيئة الإلهية وتقييدها بشرط وقيد ، إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل ، كما عليه عزوجل الاجتناب عمّا هو القبيح عنده ، فلأجل التحفظ على إطلاق المشيئة الإلهية لا حسن إلّا ما حسّنه الشارع لمقدس ، كما لا قبيح إلّا ما قبّحه ، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة ويعدّ ذلك منه حسنا.

وقال في موضع آخر :

ولا يقبح منه (أي من الله) أن يعذّب المؤمنين ، ويدخل الكافرين الجنان ، وإنما نقول إنه لا يفعل ذلك لأنه أخبرنا أنه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره(١).

فنفي الأشعري لمسألة التعديل والتجوير (نسبة للعدل والجور) العقليين ، وأخذه بالشرعيين فقط مما يثير الدهشة والحيرة مع أن المسألة مما تبانى عليها العقلاء من كل دين ، فلا تجد إنسانا على وجه البسيطة لا ينكر قبح الظلم والإساءة إلى البريء أو المؤمن المسالم.

الأسباب المستدعية للإنكار :

لعلّ الأسباب التي استدعت أو دفعت بالأشعري إلى هذه العقيدة شيئان :

__________________

(١) اللمع : ص ١١٦.

٢٥٩

الأول : المد المعتزلي القائل بتحكيم العقل على الشرع وإخضاعهم الدين له حتى صاروا يؤولون بعض ما لا ينطبق من الشرع على أصولهم العقلية ، فصار ذلك الإفراط دافعا للأشعري إلى التفريط والتورّط في مغبة إعدام العقل ورفضه من ساحة الإدراك على الإطلاق.

الثاني : تبريرهم لمسألة الجبر ، وأن الإنسان مجبر على أفعاله ، «وأن الفواحش والقبائح كلها صادرة عنه تعالى لأنه لا مؤثر غيره» (١).

وقد عبّروا عن مسألة الجبر بالكسب بمعنى أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى خيرها أو شرها ، والعبد هو الكاسب أي القابل للخير والشرّ أي أن أفعال العباد لا تتعلق بنا وإنما نحن كالظروف لها ، حتى إن خلق فينا كان وإن لم يخلق لم يكن (٢).

ومما دعا الشيعة والمعتزلة للأخذ بمسألة التقبيح والتحسين العقليين إنما هو لأجل أن العقل حجة باطنية يستدلّ بها على حسن الحسن وقبح القبيح وإلّا لما وهبها الباري للخلق ، وبها استدلّ المشهور منهم على إثبات عدله وحكمته عزوجل ، لكنّ المظفّر (قدس‌سره) سلك طريقا آخر في الاستدلال على عدله عزّ اسمه ، هذا الطريق هو قاعدة كونه تعالى محض الكمال وتمامه ، بمعنى أن القبيح لا يناسب شأن المولى عزوجل ولا يليق به ، وقاعدة السنخية بين العلة والمعلول تقتضي أن لا يصدر عنه تعالى إلّا ما يناسب ذاته الكاملة والمنزّهة عن كل شين ونقص وإلّا لزم الخلف في كونه محض الكمال وهو محال عقلا. وأيضا فإنّ تحقق القبيح والظلم من دون داع وعلة محال ، لأنّ الداعي إلى فعل القبيح ، إما الحاجة أو العجز عن العدل أو الجهل بالحسن أو العبث وكلها منتفية عن ذاته سبحانه بعد وضوح كونه كمالا مطلقا وغنيا عن كل شيء وقادرا على كل شيء وغير مريد إلا المصلحة ، فتحقق القبيح بعد عدم وجود الداعي والعلة يرجع إلى وجود المعلول بدون العلة وهو واضح الاستحالة.

وعليه فلا حاجة بنظر العلّامة المظفّر في إثبات العدل والحكمة إلى قاعدة التحسين والتقبيح ، وإن كانت هذه القاعدة صحيحة ومحكمة ويترتّب عليها مسائل

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي : ص ٣٧٣ ونهج الحق : ص ٧٣.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٩١ بتصرف.

والملل والنحل للسبحاني : ج ٢ ص ١٢٨.

٢٦٠