الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

هذه أهم الصفات الذاتية لله سبحانه.

وأما الصفات الفعلية الإضافية فهي كثيرة نذكر شيئا عنها في الأمر الثاني.

الأمر الثاني : في إثبات الصفات الإضافية :

بعد أن انتهينا من الأمر الأول المتضمن إثبات الصفات الثبوتية الذاتية ، نشرع هنا في إثبات الصفات الإضافية «الفعلية» المنتزعة من الذات ومتفرعة عنها ، فهي حادثة متأخرة عن الذات تحكي عنها ، ومن هنا سميّت بالإضافية نسبة لإضافتها إلى الذات والتصاقها بها كالخالقية والرازقية والمصوّرية والقهّارية الخ ، فهذه صفات فعلية زائدة على الذات بعكس الثبوتية فإنها عين الذات.

«فصفاته الإضافية وإن كانت زائدة على ذاته متغايرة بحسب المفهوم لكن كلها إضافة واحدة متأخرة عن الذات ، ولا يخلّ بوحدانيته كونها زائدة عليه ، فإنّ الواجب تعالى ليس علوّه ومجده بنفس هذه الصفات الإضافية المتأخرة عنه وعمّا أضيف بها إليه ، وإنما علوّه ومجده وتجمله وبهاؤه بمبادىء هذه الصفات التي هي عين ذاته الأحدية ، أي يكون ذاته تعالى في ذاته بحيث ينشأ منه هذه الصفات وينبعث عنه هذه الإضافات» (١).

والسرّ في تأخرها عن الذات أن اتّصاف الله تعالى بها يكون بعد إيجاده للمخلوق والمرزوق والمصوّر والمقهور والمملوك والمثاب ... وهذه الصفات كثيرة جدا في القرآن الكريم والأدعية المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام والقدر المتيقن منها أنها تناهز الألف صفة كما نصّ عليه دعاء الجوشن الكبير ، وكل هذه الصفات حيثيات وإضافات ترجع إلى إضافة واحدة هي إضافة القيومية وهي كونه تعالى [بحيث يقوم به غيره من وجود أو حيثية وجودية ، فإنّ الخلق والرزق وغيرهما من الإضافات حيثيات وجودية في موضوعاتها من الوجودات الإمكانية ، وهي جميعا قائمة به تعالى مفاضة من عنده] (٢).

وسبب إرجاعها إلى القيومية لئلا يؤدي إلى انثلام الوحدة وتطرق الكثرة إلى ذاته المقدّسة ، تعالى عن ذلك علوّا عظيما.

ـ قال صدر المتألهين :

__________________

(١) الأسفار : ج ٨ ص ١٢٠.

(٢) الأسفار : ج ٨ ص ١٢٠.

٢٢١

«حيثية الذات بعينها حيثية هذه الصفات ، وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه ، لا أن شيئا منه علم ، وشيئا آخر منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته ، ولا أن شيئا فيه علم ، وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثر في صفاته الحقيقية ، فكذا صفاته الإضافية لا يتكثر معناها ولا يختلف مقتضاها وإن كانت زائدة على ذاته ، فمبدئيته بعينها رازقيته ، وبالعكس وهما بعينهما جوده وكرمه وبالعكس وهكذا في العفو والمغفرة والرضا وغيرها ، إذ لو اختلفت جهاتها وتكثّرت حيثياتها لأدى تكثرها إلى تكثّر مباديها وقد علمت أنها عين ذاته» (١).

وقال شهاب الدين المتأله الحكيم :

«ومما يجب أن نعلمه ونحققه أنه لا يجوز أن يلحق الواجب إضافات مختلفة توجب اختلاف حيثيات فيه بل له إضافة واحدة هي المبدئية تصحّح جميع الإضافات كالرازقية والمصوّرية ونحوهما ...» (٢).

فالصفات الإضافية يصح سلبها ونفيها عنه تعالى ، ولا يوجب ذلك نقصا في الكمال الإلهي ، فيمكنك أن تقول : خلق ولم يخلق ، رزق ولم يرزق ، بينما لا يصحّ نفي الصفات الحقيقية الثبوتية الذاتية عنه فلا يمكنك أن تقول : إنّ الله يعلم ولا يعلم ، ويقدر ولا يقدر.

وبما أن صفاته الفعلية كثيرة كما تقدم نقتصر على اثنتين منها هما :

الكلام.

الخلق.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٨ ص ١٢١.

(٢) الأسفار : ج ٨ ص ١٢١.

٢٢٢

الصفة الثبوتية الإضافية (١)

صفة الكلام

لا أحد من المسلمين ينكر أنه سبحانه يتّصف بالكلام ، وهذا الأمر مما لا خلاف فيه بين الملّيين جميعا ، إلّا أن الخلاف نشب فيما بينهم فيما تقوم به تلك الصفة ؛ وما يهمنا أن المسلمين متفقون على كونه تعالى متكلما لوروده في الشرع المقدّس في نصوص الكتاب المجيد :

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء / ١٦٥).

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (آل عمران / ٧٨).

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (الأعراف / ١٤٩).

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) (الأعراف / ١٤٤).

ولا طريق لإثبات هذا الوصف من غير الشرع المبين لعدم وجود دليل عقلي على كونه تعالى متكلما أو بعدم اتصافه بصفة الكلام ، لأنّ الكلام بحسب التبادر العرفي هو الخارج من الفم والمركّب من الحروف والأصوات والمتكيّف بكيفيّة معينة في الهواء بتوسط اللسان الذي هو آلة لتحريك الهواء على الترتيب المخصوص الحاصل منه الحروف مع ما لها من المخارج.

والكلام بهذا المعنى المخصوص من مختصات المخلوق الممكن لا يناسب إطلاقه على المولى عزوجل لأنه بهذا النحو يستلزم كونه تعالى من الجسمانيات والمركّبات وهو عزّ شأنه منزّه عن كل ذلك.

فلا بدّ من أن يقال إنّ كلامه تعالى على نحو آخر يمتاز عن المعنى المتقدم ، من هنا انقسم المسلمون على أنفسهم بفهم هذه الصفة ، فكل اتّخذ لنفسه شرعة ومنهاجا ، فتمخضت أفكارهم إلى رأيين :

٢٢٣

الأول : إنّ كلامه تعالى فعله.

الثاني : الكلام النفسي.

النظرية الأولى :

إن كلامه فعله ، قد ذهب إلى هذه النظرية الشيعة الإمامية ، وتبعهم المعتزلة ، اعتقادا منهم بحسب الأصول الاعتقادية وأدلة العقل الصريح أن كلامه تعالى عبارة عن فعله أو إيجاد الكلام في الأشياء خارجا وإلّا لثبت له آلة الكلام وهي الفم وذلك من الجسمانيات المنزّه عنها الباري تعالى.

فلا بدّ أن يصرف كلامه عند الإطلاق على الفعل الخارجي أو إيجاده الكلام في الأشياء كما قلنا ، فعند ما تسمع : أن الله متكلم لا بدّ لك أن تصرفه فورا إلى أنه تعالى أوجد الكلام بالأشياء أو أن كلامه نفس فعله ، فيكون كاشفا عن كمال قدرته وعلمه تعالى ، وما ورد عن أنه سبحانه كلّم بعض أنبيائه كموسى عليه‌السلام على طور سيناء ونبيّ الرحمة محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند المعراج ، فلا يعني تكليمه عزوجل لهما بالجارحة وإنما أوجد الكلام بالأشياء ، لذا ورد أنه عزوجل خلق الصوت في الشجرة أيام موسى عليه‌السلام ، وخاطب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة بصوت يحبه الله عزوجل ويعشقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويشهد لكون الكلام فعله وأثره ما ذكره أهل اللغة من أن دلالة الألفاظ على ما في الذهن اعتبارية ، «لأنّ اللفظ دالّ على ما في الضمير كاشف عنه ، فهناك موجود اعتباري وهو اللفظ الموضوع يدل دلالة وضعية اعتبارية على موجود آخر وهو الذي في الذهن ، كذا هناك موجود حقيقي دالّ بالدلالة الطبعية على موجود آخر كذلك كالأثر دالّ على مؤثره ، وصفة الكمال في المعلول الكاشفة عن الكمال الأتم في علته ، كان هذا أولى وأحقّ بأن يسمّى كلاما لقوة دلالته»(١).

إذن فكما أنّ الكلام يكشف عمّا في ضمير المتكلم من المعاني وعمّا في ذاته من قدرة وعلم وحكمة فكذلك الفعل ، فإنه يكشف عمّا في نفس الفاعل من خصوصيات وصفات كمال وجلال ، والفعل أبلغ في كثير الأحيان من القول.

ونؤيّد صحة ما قلنا بما قصّه القرآن الكريم من أن عيسى عليه‌السلام كلمة ألقاها إلى مريم البتول عليها‌السلام قال تعالى :

__________________

(١) بداية الحكمة : ص ١٦٩.

٢٢٤

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (النساء / ١٧٢).

فالمسيح عليه‌السلام كلمة الله لأنه عليه‌السلام فعله وأثره المعبّر عن كمال قدرة المولى وبهاء حكمته المتعالية.

إضافة إلى أن الكون وما فيه من اتقان وتدبير هو فعله أي كلمته تعالى :

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف / ١١٠).

وقد أكدت النصوص الحديثية عن العترة الطاهرة هذا المعنى ، فقد ورد عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

لم يزل الله عزوجل ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته لا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور ، قال : قلت : فلم يزل الله متكلما؟

قال عليه‌السلام : إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزلية كان الله عزوجل ولا متكلم (١).

وما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام مفسرا كلامه تعالى بأنه فعله قال عليه‌السلام :

«يقول لما أراد كونه (كُنْ فَيَكُونُ) ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا»(٢).

وقال عليه‌السلام :

«ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس ، الذي كلّم موسى تكليما وأراه من آياته عظيما بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولا لهوات» (٣).

__________________

(١) التوحيد : ص ١٣٩ باب صفات الذات والأفعال.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٦ ، شرح صبحي الصالح / ٢٧٤.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٨١ ، شرح صبحي الصالح / ٢٦٢.

٢٢٥

وقال أيضا :

«يخبر لا بلسان ولهوات ويسمع لا بحروف وأدوات ، يقول ولا يلفظ ويحفظ ولا يتحفّظ ويريد ولا يضمر» (١).

فكون كلامه تعالى هو فعله مما حكم بصحته العقل ، وما قيل من أنّ العقل لا يحكم بكونه متكلّما يراد منه قيام صفة الكلام فيه لاستحالته عليه تعالى لأنّ ذلك من صفات المحدثات والمحتاجين.

النظرية الثانية : الكلام النفسي :

ذهب الأشاعرة إلى كون كلامه تعالى نفسيا ، وجعلوه من الصفات الذاتية كالحياة والقدرة والعلم ، فهو قديم بقدم الذات وليس حادثا قابلا للزوال.

ومعنى الكلام النفسي عندهم هو صفة قائمة بالنفس مدلول عليه باللفظ والعبارة ، وهذا الكلام مغاير للعلم والقدرة وبقيّة الصفات الذاتية ، والكلام النفسي واحد ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا نداء وغير ذلك ، ومثّلوا له بتمثلات منها أن المتكلم عند ما يخبر عن شيء ففيه عدة تصورات وتصديقات كلّها من مقولة العلم ، أما التصور فهو عبارة عن إحضار الموضوع والمحمول والنسبة بينهما في الذهن ، وأما التصديق فهو الإذعان بنفس النسبة.

ولا شك أن التصور والتصديق هما جزءا العلم ، لأنّ العلم إما تصور أو تصديق ، فالعلم منقسم إليهما. فالأشاعرة ادّعوا أن هناك شيئا وراء العلم والإرادة والكراهة في ذهن المتكلم يسمّى بالكلام النفسي وهو الكلام حقيقة ، وأما الكلام اللفظي فهو تعبير عنه والفرق بين الكلام النفسي عند الإنسان والخالق ، هو أنه عند الإنسان يعتبر حادثا يتبع حدوث ذاته ، وفي الله سبحانه قديم بقدم الذات الإلهية.

وقد أوضح حقيقة النفسي ثلة من علمائهم منهم الفضل بن روزبهان حيث قال موضحا :

(إنّ الكلام لفظ مشترك يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ ويقولون هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته ، ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإن العرف لا

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٦ ، شرح صبحي الصالح / ٢٧٤.

٢٢٦

يفهمون من الكلام إلّا المؤلف من الحروف والأصوات فنقول :

أولا : ليرجع الشخص إلى نفسه أنه إذا أراد التكلم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنه يزوّر ويرتّب معاني فيعزم على التكلم بها ، كما أن من أراد الدخول على السلطان أو العلم فإنه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ويقول في نفسه سأتكلم بهذا ، فالمتصف يجد من نفسه هذا البتة ، فها هو الكلام النفسي) (١).

يلاحظ عليه :

إن الكلام إذا صدر من متكلم فلا يتصوّر فيه إلّا أمور ستة :

الأول : صدور الصوت والحروف منه.

الثاني : علمه بما تكلم به.

الثالث : تصوّر النسبة بين الموضوع والمحمول.

الرابع : وجود الرابط اللفظي بينهما.

الخامس : توجّه السامع لمعاني كلام المتكلم.

السادس : فهمه لمراد المتكلم من كلامه.

والخامس والسادس ليسا كلاما بالاتفاق.

والأمور الباقية غير الأول لا تسمى كلاما أيضا لأنها إمّا تصور الرابط ، أو النسبة الواقعية واللاواقعية ، وأما العلم أو الإرادة أو مجرّد الوهم والخيال وليس وراءها شيء يسمى كلاما نفسيا (٢).

ومن الواضح أن الكلام النفسي الذي يعنونه مخالف للثاني والثالث لأنه بإقرارهم غير العلم والإرادة والوهم والخيال ، وغير تصوّر الأطراف والعلم بالنسبة ، وأيضا مخالف للرابع لأنّ مفردات اللفظ والرابط أمور خارجية غير قديمة ، وهكذا معانيها غالبا ، فبالضرورة والوجدان يعلم أن الكلام ليس إلّا الأمر الأول وهو كيف وعرض محسوس بالسمع فلا يكون الكلام النفسي معقولا.

استدلال الأشاعرة :

قالت الإمامية كما أسلفنا أن كلامه فعله أو بعبارة ليس هناك شيء وراء العلم

__________________

(١) الإلهيات : ج ١ ص ١٩٨ ودلائل الصدق : ج ١ ص ١٤٥.

(٢) دلائل الصدق : ج ١ ص ١٤٧.

٢٢٧

حتى يقال أنه كلام نفسي ، كل ما هنالك أنه سبحانه عالم بما سوف يجريه على مخلوقاته. هذا التحليل يختلف عمّا يعتقده الأشاعرة حيث قالوا : إن هناك شيئا وراء العلم اسمه الكلام واستدلّوا عليه :

الدليل الأول :

إنّ الكلام النفسي غير العلم لأنّ الرجل قد يخبر عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه ، فالأخبار عن الشيء غير العلم به (١).

يلاحظ عليه :

إنّ ما ذكروه من الكلام النفسي وأنه غير العلم لا يمكن تصوره ، لأنّ المتصوّر إما القدرة الذاتية التي تصدر عنها الحروف والأصوات وقد قالوا إن النفسي مغاير للقدرة الذاتية ، وإما أن يكون المتصوّر هو العلم وقد قالوا إن النفسي مغاير له ، وباقي الصفات ليست صالحة لمصدرية ما قالوه ، وإذا لم يكن الكلام النفسي متصوّرا لم يصح إثباته ، إذ التصديق مسبوق بالتصور.

وبعبارة أخرى :

إنّ ما يتصوره المرء في أفق النفس ـ حتى ولو أخبر بخلافه ـ لا يخلو كونه أحد أقسام العلم ، لأنه إمّا تصور أو تصديق ، وليس هناك شيء وراء التصور والتصديق حتى يمكن أن يقال : إن الكلام النفسي غير العلم أو وراء العلم حتى نسمّيه كلاما نفسيا ، فما تصوروه لا يمكن تصوره.

الدليل الثاني :

إنّ لفظ الكلام كما يطلق على الكلام اللفظي ، يطلق على الموجود في النفس من دون لحاظ عناية قال سبحانه : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (الملك / ١٤).

فهذا الموجود المرتّب في النفس هو الكلام النفسي ويدلّ عليه الكلام اللفظي (٢).

__________________

(١) شرح المواقف : ج ٢ ص ٩٤.

(٢) تقريرات الفيّاض : ج ٢ ص ٣١ والإلهيات : ج ١ ص ٢٠٤.

٢٢٨

يلاحظ عليه :

أولا : إن الموجود المرتّب في أفق النفس ليس من سنخ الكلام ليكون كلاما نفسيا عند القائلين به ، بل هو صورة للكلام اللفظي ، ومن هنا قيل إن الموجود في النفس لا يختص بالكلام بل يعمّ جميع أنواع الأفعال الاختيارية ، وبما أن الموجود في النفس صورة اللفظ فيدخل في مقولة العلم لا أنه شيء وراء العلم كما ادّعوا.

ثانيا : إنّ إطلاق القول على الموجود المرتّب في النفس من باب المجاز والمشاكلة ، لأنّ القول من التّقول باللسان فلا يطلق على الموجود في الذهن أو النفس (الذي لا واقعية له إلّا الصورة العلميّة) ، إلا من باب العناية والمجاز.

الدليل الثالث :

لا ريب أنه تعالى متكلّم وقد دلّت على ذلك آيات عدّة ، ولازم ذلك قيام المبدأ على ذاته قياما وصفيا لا قيام الفعل بالفاعل ، وإلّا لم يصحّ إطلاق المتكلم عليه ، لأنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ولو كان معنى كونه سبحانه متكلما هو خلقه للكلام فلا يكون ذلك الوصف قائما به ، فلا يقال لخالق الكلام متكلم ، كما لا يقال لخالق الذوق أنه ذائق(١) ...

يلاحظ عليه :

أولا : إنّ قيام المبدأ بالفاعل على قسمين :

تارة يكون صدوريا كالقتل والضرب في القاتل والضارب.

وأخرى يكون حلوليا كالعلم والقدرة في العالم والقادر.

فصدور الكلام منه تعالى هو على النحو الأول كصدور الضرب من الضارب والقتل من القاتل ، أي إن التكلّم كالضرب من المبادي الصدوريّة لا الحلوليّة ، فلأجل أنه سبحانه موجد للكلام يطلق عليه أنه متكلم ، وزان إطلاق القاتل عليه سبحانه ، بل ربما يصح الإطلاق وإن لم يكن المبدأ قائما بالفاعل أبدا لا صدوريا ولا حلوليا ، بل يكفي نوع ملابسة بالمبدإ كالتمّار واللبّان لبائع التمر واللبن ، وأما عدم إطلاق الذائق على خالق الذوق فلأجل أن صدق المشتقات بإحدى أنواع القيام ليست قياسية حتى يطلق عليه سبحانه الذائق والشامّ ، بسبب إيجاده الذوق والشمّ ، وربما

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ١ ص ١٤٧.

٢٢٩

احترز الإلهيون عن توصيفه بهما لأجل الابتعاد عمّا يوهم التجسيم ولوازمه (١).

ثانيا : لو كان قيام المبدأ على ذاته وصفيا لا فعليا ، لكان الهواء الذي نقوّم به الحرف والصوت متكلما وهو باطل لأنّ أهل اللغة لا يسمون المتكلّم إلّا من فعل الكلام لا من قام به الكلام ، ولهذا كان الصدى غير متكلم لأنه قام بالهواء ، وقالوا : تكلّم الجنّي على لسان المصروع لاعتقادهم أن الكلام المسموع من المصروع فاعله الجنّي.

تبقى مسألة هي :

هل القرآن حادث أم قديم؟

أثير الجدل في أوساط المسلمين حول كلام الله تعالى في القرآن هل هو حادث أم قديم؟ فيه قولان :

الأول : أنه قديم بمعانيه وحروفه حتى الجلد والغلاف ، وعليه الحنابلة والأشاعرة وكفّروا من قال بحدوثه ، قال أبو الحسن الأشعري في الإبانة ص ٢١ : «ونقول إن القرآن كلام الله ، غير مخلوق وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر». فعلى هذا يعتبر عندهم كل المسلمين كفّارا وهم المسلمون الموحّدون.

الثاني : أنه حادث وبه قالت الإمامية وتبعهم المعتزلة ، وهو الحق الصريح واستدلّوا عليه بوجوه :

الوجه الأول :

لو كان قديما للزم تعدد القدماء وهو باطل لأنّ القول بقدم غير الله كفر بالإجماع ، ولهذا كفرت النصارى لقولها بقدم الأقانيم الثلاثة.

الوجه الثاني :

إن القرآن الكريم مركّب من الأصوات والحروف التي يعدم السابق منها بوجود لاحقه تلفظا وواقعا ، والقديم لا يجوز عليه العدم.

الوجه الثالث :

لو كان كلامه قديما للزم الكذب عليه تعالى ، واللازم (أي الكذب عليه) باطل ، فالملزوم (أي كون كلامه قديما) باطل مثله.

__________________

(١) الإلهيات : ج ١ ص ٢٠٤.

٢٣٠

بيان الملازمة :

أنه تعالى قد أخبر في القرآن وغيره من الكتب السماوية بإرسال نوح عليه‌السلام في الأزل في قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) ولكنه بهذا المعنى لم يرسله إذ لو كان إرساله في الأزل فإنه لا سابق على الأزل مع أنه أخبر بإرساله فيه ، وعليه فيكون كلامه وإخباره كذبا.

وبعبارة أوضح :

إن كون كلامه قديما يلازم أن يكون قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) قديما أزليا ، والآية تحكي عن السابق لأنها مصوغة بالماضي مع أن الأزل لا يتصور فيه الماضي ، إذ الماضي بمنى السابق المنقضي والأزل لا سبق عليه فيكون كلامه كذبا والكذب قبيح مستحيل في حقه تعالى.

الوجه الرابع :

لو كان القرآن قديما لزم منه العبث في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ووجه العبثية أنه على زعمهم يكون قد أمر بالصلاة وإيتاء الزكاة منذ الأزل ، مع أنه لا تكليف ولا مكلّف في الأزل باعتبار عدم وجود مكلّفين قبل الخلق حتى يخاطبهم بهذه التكاليف ، فكل ذلك يعدّ عبثا ، والعبث قبيح في حكمة الباري عزوجل.

الوجه الخامس :

إن القرآن يصف نفسه بأنه محدث كما في قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء / ٣).

والذكر هو القرآن المجيد لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (الزخرف / ٤٥) (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر / ١٠) ، فهنا وصف الله القرآن بأنه محدث فلا يكون قديما.

فما ادّعاه الأشاعرة من قدم القرآن يناهض الأدلة النقلية والعقلية ، إضافة لما يترتب عليه من أحكام سلبية كتكفيرهم لمن لا يقول بقدمه ، وهذا جدا أمر خطير يجرّ الويلات على الأمة الإسلامية ويجعلها عرضة لنبال الأعداء وضرباتها ، في حين أنها بأمسّ الحاجة إلى التعاضد والتآلف والجلوس على مائدة آل طه رزقنا الله تعالى الفوز معهم في الدنيا والآخرة.

٢٣١

الصفة الثبوتية الإضافية (٢)

صفة الخلق

مما لا ريب فيه أنّ مسألة الخلق من الصفات التي تفرّد بها المولى عزّ شأنه أصالة ، فلا خالق في الكون بالعنوان الأوّلي (أصالة) غيره سبحانه ، فكل ما نراه من الممكنات وما يتبعها من الأفعال والآثار كلها مخلوقاته عزّ اسمه حقيقة لا مجازا ، فكل موجود عداه فهو مخلوق لله تعالى (عدا الأفعال) إما بالمباشرة أو بالتسبيب.

والدليل عليه ما تقدم معنا سابقا من أنّه تعالى واجب الوجود بالذات غنيّ حكيم وغيره ممكن فقير ، فكما أن ذات الممكن قائمة به سبحانه فكذا فعله فإنه مستند إلى الواجب ليفيض عليه القدرة والقوة لكي يصدر الفعل من فاعله والأثر من مؤثره ، وإلا أصبح الممكن آلة مسيّرة لا تملك من أمرها شيئا على الإطلاق ، فيبطل الثواب والعقاب والذمّ والمدح والحسن والقبيح.

فما في الوجود هو رشح من فيض جوده المقدّس ، وهذا حكم عقلي أكدته نصوص الكتاب :

(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد / ١٧).

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر / ٦٣).

(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (الأنعام / ١٠٢).

فالعقل والنقل يحكمان أن كل شيء صادر منه تعالى إذ ليس في الدار غيره ديّار ، لكن ليس معناه أنه سبحانه لم يفوّض هذا الأصل إلى غيره ممن له قابلية الكمال فيخلق بإذنه تعالى وتبعا لمشيئته وأمره ، وليس كما ادّعى جمهور السنّة أنه لا مؤثر في الوجود غير الرب المعبود لا على نحو الاستقلال ولا على نحو التبع ، فبذلك يكونون قد أنكروا مبدأ السببيّة والمسببيّة في النظام التكويني زعما منهم أن

٢٣٢

آثار الظواهر الطبيعية كلها مفاضة منه تعالى من دون أن يكون هناك رابطة بين الظواهر المادية وآثارها ، فالنار بنظرهم إنما تكون حارة لأنه سبحانه جرت سنته على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك رابطة بين النار وحرارتها ، والشمس وإضاءتها بل جرت سنته وقدرته سبحانه على إيجاد الضوء عقيب الشمس من دون وجود نظام تكويني باسم السببية والمسببيّة أو العلة والمعلول ، فليس في العالم سوى علة واحدة ومؤثر واحد يؤثر بقدرته وسلطانه في كل الأشياء من دون أسباب ومؤثرات.

وعلى هذا فقد نسبوا كل شيء إليه حتى أفعال البشر فإنها مخلوقة لله تعالى مباشرة وليس لقدرة العبد الحادثة فيه أيّ وزن أو تأثير في فعله على الإطلاق بل العبد كاسب للفعل الإلهي وأداة له.

يلاحظ عليه :

أولا : صحيح أنّ كل الممكنات مخلوقة لله تعالى إلّا أنها تتوقف في وجودها على شروط لا تتحقق بدونها كتحقق وجود الابن على وجود والديه ، وعلى وجود شرائط أخرى زمانية ومكانية ، فوجود الوالدين وبقية الشروط بعض أجزاء العلة التامة ، فمع تدخّل القدرة الإلهية تصبح العلة تامة لتحقق وجود الولد ، فهو سبحانه بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شيء غيره سبحانه ، وأما سائر أجزاء العالم كوجود زيد فيتوقف على ما هو قبله من العلل وما هو معه من الشرائط والمعدّات وكلها ترجع إلى العلة الأولى.

ثانيا : إنّ الخالقية المستقلة تنحصر به عزوجل لأنه الغني المطلق وغيره فقير إليه ، فلو قام غيره بعملية الخلق كما حصل لبعض الأنبياء والأولياء فإنّما يقوم بذلك بإذن وتسبيب منه تعالى ، فالكل جنده يعملون بتمكين منه لهم.

ثالثا : إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالا لا تقوم إلّا به مع إعطائه القدرة عليها كأمره سبحانه العباد بالطاعة وزجرهم عن المعصية ، فلو كانت الأفعال مخلوقة لله تعالى لبطل الأمر والزجر والثواب والعقاب.

رابعا : إن القرآن الكريم يربط الظواهر الكونية بقانون العليّة والمعلولية ، وفي الوقت نفسه يسندها إليه تعالى حتى لا يغترّ الإنسان بأنّ آثار الموضوعات متحققة من تلقاء نفسها ، وأمثلته كثيرة في كتاب الله تعالى وهي على طوائف منها :

الطائفة الأولى : قوله تعالى : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء / ٨١).

٢٣٣

فهنا حصر تعالى الشفاء به في حين فوّضه إلى غيره كالقرآن والعسل بقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) (الإسراء / ٨٣).

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٩) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل / ٦٩ ـ ٧٠).

فهنا ربط الشفاء بأكل العسل ، وربط إيجاد العسل عند النحل بأكل الثمرات التي هي السبب في صنع العسل.

الطائفة الثانية : قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٤) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة / ٦٤ ـ ٦٥).

فبيّن هنا أنه تعالى هو الزارع الحقيقي والزرع منحصر به تعالى ، ثم في آية أخرى بيّن أن هناك أناسا يزرعون قال :

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح / ٣٠).

الطائفة الثالثة : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات / ٥٨).

أوضح سبحانه في الآية المباركة كون الرزق منحصرا به تعالى ، ثم في آية أخرى جعل سبحانه ذوي الطول والثروة أن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء بقوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) (النساء / ٦).

الطائفة الرابعة : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (يونس / ٣٢).

فحصر سبحانه التدبير به ، في حين نجد أن التدبير قد فوّضه إلى بعض العباد بقوله تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (النازعات / ٦).

الطائفة الخامسة : قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة / ٥).

هنا حصر الاستعانة به تعالى ، لكنه في آية أخرى أمر العباد بالاستعانة بالصبر والصلاة بقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة / ٤٦).

الطائفة السادسة : قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (فاطر / ٤).

٢٣٤

فحصر سبحانه هنا الخالقية به تعالى وفي آية أخرى ينسب الخلق إلى بعض أوليائه بقوله تعالى :

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (المائدة / ١١١). وقوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران / ٥٠).

هنا أمور أربعة يعجز البشر عن تحقيقها من دون استعانة به تعالى فهل يقدر البشر أن يخلقوا من دون استعانة بالله تعالى؟

كلا وألف كلا ، وما يروّج له الاستعمار الأميريكي والأوروبي من مسألة الاستنساخ البشري والذي روّجت له الصحف والإعلام أخيرا ما هو إلا تمويها على الضعفاء لإبعادهم عن الدين وعن الارتباط بخالق السماء ، ولو سلّمنا جدلا بصحة ما يقولون ويدّعون فهم ليسوا إلا واسطة في جمع الجينات والنطف بعضها مع بعض لتشكّل كائنا حيويا ، فهم بمثابة العلة الإعدادية لتولّد الجنين عند الأبوين ، حيث يقومان بالعملية الجنسية فتدخل النطفة الذكرية إلى رحم المرأة لتتلقّح بالبويضة ، فلا يصدق عليهما أنهما خلقا جنينا وإنما أعدّا النطفة والبويضة لكي يلتقيا في ظرف معين وتحت شروط خاصة.

والاستنساخ البشري من هذا القبيل لو سلّمنا بصحته ، إضافة إلى أنه بمثابة إيحاءات شيطانية ؛ الغاية منها إهلاك الحرث والنسل والتلاعب بمصير البشر وصدق الباري عند ما قال حكاية عن إبليس (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) (النساء / ١٢٠).

ولا يقال للعلة الإعدادية أنها علّة فاعلة ، بل تشبهها ، تماما كمشابهة المجاز للحقيقة ، فليس من صنع الكرسي يقال أنه خلقها بل ركّبها لأنّ الخلق معناه أن يوجد المواد الأولى من العدم ، لا أن يركّبها بعد فرض وجودها خارجا ، فما يروّج له اليوم من الاستنساخ ما هو إلّا ابتزاز المعتقدات من نفوس أتباع الشرائع والأديان ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور / ٦٤).

٢٣٥

يتلخص مما ذكرنا أن الآيات على طائفتين :

طائفة تحصر الأمور به تعالى على وجه الأصالة.

وطائفة تنسب هاتيك الأمور إلى غيره تعالى تبعا بإذنه وأمره وتحت ظلّ قدرته ، وبما أن هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، وأن كل ظاهرة لا بدّ أن تصدر وتتحقق في مجراها الخاص بها المقرّر لها في عالم الوجود ، ينسب القرآن هذه الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تخرج الله عزوجل من سلطانه ، ففعل هذه الموجودات هو فعله تعالى لأنه أفاض عليها الحياة والقدرة ، فنسبة هذه الأمور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب المباشري فيما يكون نسبتها إلى «الله» إشارة إلى الجانب التسبيبي وقد أشار القرآن إلى هاتين النسبتين بقوله تعالى :

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (الأنفال / ١٨).

فقد نسب إلى النبي أنه رمى (إِذْ رَمَيْتَ) في حين يصف نفسه تعالى أنه هو الرامي الحقيقي (اللهَ رَمى).

فالله رامي بالتسبيب حيث أعطى القوة والقدرة والحياة للعبد لكي يرمي ولولاه تعالى لما قدر العبد على الرمي أو الفعل المباشري الصادر من العبد.

إلى هنا انتهينا من الأمر الثاني ، بقي الأمر الثالث الأخير.

الأمر الثالث : الصفات السلبية :

قد تقدم بيان الصفات الثبوتية وهي صفات الجمال والكمال التي تعني توصيفه تعالى بما يعدّ كمالا للموصوف وجمالا له.

وفي المقابل توجد صفات تسمّى بصفات السلب أي تنزيهه سبحانه عن كل عيب ونقص يجلّ الباري عنهما ، ويطلق عليها صفات الجلال.

والوجه في إطلاق السلب عليها باعتبار سلب النقص عن ساحته المقدّسة ، ولدخول أداة السلب على الصفة ، فإنّ إثبات القدرة بالصفات السلبية تعني سلب العجز عنه تعالى ، وإثبات العلم يعني سلب الجهل عنه ، وكذا باقي الصفات ؛ وما قاله المحقق السّيوري أحد متكلمينا رضوان الله تعالى عليهم من أنه «ليس من المعقول لنا من صفاته إلّا السلوب والإضافات» (١) ، ليس صحيحا وسديدا فإنه بقوله هذا قد أرجع الصفات الثبوتية إلى السلبية ، فليس من صفاته إلّا صفات الجلال.

__________________

(١) باب حادي عشر : ص ٤٩.

٢٣٦

يلاحظ عليه :

أولا : إنّ إرجاع صفات الكمال إلى صفات الجلال يعدّ رجوعا من الكمال إلى سلب النقص وهو عين النقص ، إذ كيف تجعل الذات (التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكل نقص وشين) عين العدم ومحض السلب؟!

ثانيا : إرجاع الثبوتية إلى السلبيّة على خلاف ما ورد في الذكر الحكيم حيث يصف نفسه بصفات ثبوتية تماما كيف يصف نفسه بصفات سلبية فترجيح السلب على الإيجاب من دون مرجّح قبيح.

قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر / ٢٤).

فذكر في الآية الصفتان : الثبوتية والسلبية ، كما ذكرت الثبوتية بكلا قسميها الذاتية والفعلية ، فإرجاعهما إلى السلب لا يخلو من تكلّف ، كذا ذكر سبحانه الصفتين في سورة التوحيد من دون أن يرجع إحداهما إلى الأخرى.

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (٢) اللهُ الصَّمَدُ (٣)) وهو مساو لصفات الكمال.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٤) ...). وهو مساو لصفات الجلال.

فالصفات السلبية هي كل صفة يمكن بها تنزيه الباري عن كل نقص ، وعلى هذا فهي لا تقدّر بمقدار معيّن إذ ليس لها حدّ معين ولكن أبرزها ثمانية :

١ ـ انه ليس بمركب.

٢ ـ انه ليس محلا لقيام الحوادث بذاته.

٣ ـ انه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر.

٤ ـ انه يستحيل عليه الرؤية البصرية.

٥ ـ انه ليس له شريك في ملكه.

٦ ـ انه ليس في جهة.

٧ ـ انه ليس بمحتاج.

٨ ـ لا يتحد بغيره.

هذه أهم الصفات السلبية نبحث فيها تباعا.

٢٣٧

الصفة السلبية (١)

أنه تعالى ليس بمركّب

المركّب هو ما له جزء ، ونقيضه البسيط وهو ما لا جزء له ، سواء كان جزءا خارجيا أم ذهنيا ، وكلاهما منتفيان عنه تعالى ، وإلّا لو كان مركّبا لكان مفتقرا إلى أجزائه أي إلى كل واحد من أجزائه واللازم باطل ـ أي افتقاره إلى كل واحد من أجزائه ـ فالملزوم ـ وهو كونه مركّبا ـ باطل مثله.

وبتوضيح آخر نقول : إن وجه استحالة التركيب في ذاته تعالى أن كل مركّب مفتقر إلى جزئه ، والجزء مغاير للكل ، فيكون ممكنا ، ويستحيل أن يتركّب من غيره لاستحالة انفعاله عن الغير فلا جزء له ولا جنس ولا فصل فلا حدّ له ، ولا يكون واجبا لذاته ولغيره معا لأنّ وجوبه بذاته يستدعي استغناءه عن غيره ، ووجوبه لغيره يستدعي افتقاره إليه فيكون واجبا مفتقرا معا وهو محال.

أقسام المركّب :

ينقسم المركّب إلى قسمين :

الأول : التركيب الخارجي :

كتركيب الشيء من أجزاء خارجية مؤلّفة من عناصر مختلفة ، كل جزء منها يحتاج الجزء الآخر ليؤلّف عملية التركيب ، وهذا مما يتنزّه عنه الباري عزوجل ، فلو افترضنا أن هذه الأجزاء واجبة الوجود تعدّدت الآلهة مما يعني تعدد القدماء وهو باطل.

ولو كانت هذه الأجزاء ممكنة فهي قطعا محتاجة إلى غيرها ، ولاستدعى احتياجه إليها وكلاهما باطل.

الثاني : التركيب الذهني :

هو الشيء المنحل عند العقل إلى أمرين : جنس وفصل ، كالحيوانية والناطقية

٢٣٨

وكالماهية والوجود ، فكل موجود مركّب من ماهية ووجود ، فالماهية فصل ، والوجود جنس ، فلو افترضنا أنه تعالى مركّب يعني أن له ماهية ووجودا ، وماهيته غير وجوده ، فالماهية تبيّن مرتبة الوجود كالجماد والنبات والحيوان وغيرها كما أن الوجود يحكي عن عينيّته الخارجية التي تطرد العدم.

والمركّب بكلا معنييه مفتقر إلى جزئه لامتناع تحقق المركّب وتشخصه خارجا وذهنا بدون جزئه ، وجزؤه غيره لأنه يسلب عنه فيقال : الجزء ليس بكل ، وما يسلب عنه الشيء فهو مغاير له ، فيكون المركّب مفتقرا إلى الغير فيكون ممكنا ، فلو كان الله جلّت عظمته مركّبا لكان ممكنا وهو محال.

وببيان آخر :

«إن الواجب حقيقته إنيّة محضة فلا ماهية له ، وكل ما لا ماهية له لا جزء له ذهنا ولا خارجا ، أي أنه تعالى مسلوب عنه الأجزاء العقلية ، وما تسلب عنه الأجزاء العقلية يسلب عنه الأجزاء الخارجية ، إذ كل بسيط في العقل بسيط في الخارج دون العكس ، وإنما نفيت عنه الأجزاء العقلية إذ لو كان له جنس وفصل لكان جنسه مفتقرا إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه ، بل في أن يوجد ويحصل بالفعل فحينئذ نقول :

ذلك الجنس لا يخلو إما أن يكون وجودا محضا أو ماهية غير الوجود ، فعلى الأول يلزم أن يكون ما فرضناه فصلا لم يكن فصلا ، إذ الفصل ما به يوجد الجنس ، وهذا إنما يتصور إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود ، وعلى الثاني يلزم أن يكون الواجب ذا ماهية ، وقد مرّ أنه نفس الوجود وحقيقته بلا شوب ، وأيضا لو كان للواجب جنس كان مندرجا تحت مقولة الجوهر وكان أحد الأنواع الجوهرية فيكون مشاركا لسائر الأنواع الجوهرية في الجنس العالي ، وقد ثبت أن إمكان النوع يستلزم إمكان الجنس المستلزم لإمكان كل واحد من أفراد ذلك الجنس من حيث كونه مصداقا له ، إذ لو امتنع الوجود على الجنس من حيث هو جنس ـ أي مطلقا ـ لكان ممتنعا على كل فرد ، فإذن يلزم من ذلك إمكان الواجب ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا» (١).

__________________

(١) الأسفار : ج ٨ ص ١٠٣.

٢٣٩

الصفة السلبية (٢)

أنّه ليس محلّا لقيام

الحوادث بذاته

قد ثبت بضرورة العقل استحالة قيام الحوادث بذاته تعالى بمعنى أنه يستحيل طروء الحوادث على ذاته كالنوم واليقظة والحركة والسكون ويستدلّ عليه :

أولا : لو كانت ذاته محلا للحوادث للزم تغيّره لأنّ كل شيء تطرأ عليه الحوادث يتغيّر ، مثاله الممكنات التي تتغير وتنفعل كلّما طرأ عليها شيء ، ولازم التغيّر الإمكان وهذا ينافي الوجوب.

ثانيا : إن المقتضي للحادث إن كان ذاته كان أزليا ، وإن كان غيره كان الواجب مفتقرا إلى الغير وهو محال.

ثالثا : هذا الطارئ على الذات إن كان صفة كمال فإنه يستحيل خلوّ الذات عنها ، لأنّ الذات المقدّسة لا تخلو من أي كمال فيلزم أن تكون هذه الصفة عين الذات أصالة ، وإن كان صفة نقص فاتّصاف الذات به أيضا مستحيل لتنزّه الذات عن كل نقص فلا يمكن أن يطرأ على الذات.

* * *

٢٤٠