الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

الدليل الأول :

العلم بالعلة علم بالمعلول.

والمراد من العلم ب «العلة» العلم بالحيثية التي صارت مبدأ لوجود المعلول وحدوثه ، مثال ذلك :

الطبيب الحاذق العارف بأحوال القلب وأوضاعه يقدر على التنبؤ بما سيصيب المريض في مستقبل أيامه ، وليس هذا العلم إلّا من جهة علمه بالعلة من حيث هي علة.

وهنا هكذا فإنّ العالم بأجمعه معلول لوجوده تعالى وليس له علة إلّا ذاته المقدّسة ، فالعلم بالذات علم بالحيثية التي هي سبب لتحقق العالم وتكوّنه ؛ فعلمه تعالى بذاته مستلزم للعلم بمخلوقاته قبل إيجادها لأن فاعليته تعالى لما عداه بنفس ذاته لا بخصوصية طارئة وجهة زائدة عليها أو منضمة إليها.

قال صدر المتألهين :

«لما ثبت كون الواجب تعالى عالما بذاته ، لا شك أنّ ذاته علة مقتضية لما سواه على ترتيب ونظام فإنه مقتض بذاته للصادر الأول وبتوسطه للثاني وبتوسطهما للثالث وهكذا إلى آخر الموجودات ، فيلزم كونه تعالى عالما بجميع الأشياء على النظام الأتم فكان علمه بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته ، كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته» (١).

وقال في موضع آخر :

«إن ذاته سبحانه لمّا كانت علّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ والعلم يستلزم العلم بمعلولها ، فتعلقها من هذه الجهة لا بدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحدا بعد واحد»(٢).

الدليل الثاني :

لو سلّمنا أنه تعالى لا يعلم بالأشياء إلّا حين إيجادها (حاشاه عزّ شأنه) يلزم منه أن يكون للأشياء فيه تأثير ، ويكون بسبب الأشياء بحال لم يكن من قبل على ذلك الحال ، فلا يكون واجب الوجود بالذات وواجب الوجود من جميع الجهات.

__________________

(١) الأسفار : مج ٨ ص ١٧٩.

(٢) الأسفار : مج ٨ ص ٢٧٥.

٢٠١

الدليل الثالث :

لو حصل له سبحانه العلم بعد الإيجاد لكان جاهلا قبله ، فتخلو ذاته عن العلم ، والخلوّ علامة النقص والإمكان وهو منزّه عنهما ؛ إضافة إلى تغيّر الذات حيث كان جاهلا ثم صار عالما ، والتغيّر علامة الإمكان والفقر وهو تعالى منزّه أيضا عنهما.

الدليل الرابع :

لو علم بعد الإيجاد لزم كونه جاهلا قبله ، فتكون الذات قد توقفت بعد العلم على الغير فلا تكون ذاته عينه فيبطل كونه واجب الوجود لاحتياج الذات ـ بحسب الفرض ـ إلى الغير وهو باطل بالضرورة.

الدليل الخامس :

أنه تعالى فعل الأشياء المحكمة البديعة والمتقنة التي تذهل العقول لها ، وكل من كان على هذه الصفة فهو عالم به قبل إيجاده له ، فالبنّاء قبل أن يبني المنزل كان على علم بالكيفية التي سيكون عليها ذلك المنزل ، وهكذا خالق الأرض والسماء هل يعقل أن يبنيهما وهو جاهل بهما قبل البناء؟! وهل يصح بحكمة العقول أن يقال : إن غير الحكيم يصدر منه الحكمة والعلم والإتقان؟!! ما لهم كيف يحكمون!

المرتبة الثالثة :

بعد التدبّر بالمرتبتين السابقتين والبرهنة عليهما ، يسهل الأمر في هذه المرتبة ومع هذا يستدلّ عليها :

أولا :

وجود العلم عند المخلوقات دليل على وجوده عند الخالق بأكمل مراتبه وأظهر مصاديقه ، وكما يعبّر الفلاسفة : بأن وجود العلم عند المعلول يقتضي وجوده بطريق أولى عند العلة.

ثانيا :

حيث ثبت أنه فعل الأشياء المحكمة المتقنة كما هو المشاهد في هذا الكون الفسيح والعجيب في أسراره ، المدهش في أغواره ، فهذا دليل علمه بها قبل الإيجاد ، فبطريق أولى أن يعلم بها بعد الإيجاد ، لأنّ علمه بها قبل إيجادها

٢٠٢

أصعب من علمه بها بعد إيجادها فثبت المطلوب.

ثالثا :

إنّ كل موجود سواه تعالى يعدّ ممكنا ، وكلّ ممكن فهو معلول للذات المقدّسة ومستند إليها فيكون سبحانه عالما به ، سواء أكان جزئيا أم كليا وسواء كان موجودا قائما بذاته كالجوهر أم قائما بغيره كالعرض ، وسواء كان موجودا في الأعيان أم متعقلا في الأذهان لأنّ وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضا فيستند إليه ، فلا يعزب عن علمه شيء من الممكنات لأنها متعلقة كتعلق الظل لذيه لأنها رشح من فيض جوده.

إشكال وحل :

قد يقال إن ما ذكرتموه من إثبات علمه تعالى أقصى ما يدلّ على إثبات علمه تعالى بالكليات ، وليس فيه إشارة إلى علمه بالجزئيات عدا الدليل الرابع.

والجواب :

إنّ ما ذكر من البراهين على إثبات علمه تعالى يشمل العلم الجزئي بل هو المتعين في الأدلة ، لأنّ الدليل الدالّ على كونه تعالى عالما بذاته وبغيره يعني أنه تعالى عالم بذاته وبغيره تفصيلا لا إجمالا.

فما أورده بعض الفلاسفة (١) من أنه تعالى لا يعلم الجزئيات (حاشاه عزوجل) منقوض جملة وتفصيلا كما سوف يأتيك.

الأدلة على علمه تعالى بالجزئيات كثيرة منها :

الدليل الأول :

إن علمه عزوجل بالأشياء الخارجية من باب علم العلّة بالمعلول ، فهذه الوجودات هي معلولات للعلّة الأولى ، وفي نفس الوقت تنتهي سلسلتها في مقام الوجود إليه عزوجل باعتبار تعلّقها استمرارا وبقاء به كما تعلّقت به حدوثا ، فكل معلول حاضر بوجوده العيني عند علّته لا يغيب عنه ، ولو غاب عنه لا فتقر هذا المعلول إلى غيره ، وهذا الغير لا بدّ وأن يرتبط به سبحانه وإلا فيتسلسل وهو واضح البطلان.

__________________

(١) لاحظ الأسفار : مج ٨ ص ١٨١ وباب حادي عشر : ص ٣٩.

٢٠٣

الدليل الثاني :

وكما قلنا سابقا أن علمه تعالى حضوري ، ولا يفرّق في الحضوري بين كونه كلّيا أو جزئيا وإلّا فلو انحصر بالكلي لما صدق عليه أنه حضوري ، لأنّ معنى الحضور هو الإشراف والإحاطة التامة بالمعلول بكل جزئياته وتفصيلاته.

الدليل الثالث :

إنّ الكون بكل ما فيه من ذرّات في حالة تجدّد وتغيّر ، ليس فقط بعوارضه وصفاته بل بجواهره وذواته بناء على الحركة الجوهرية أو الديناميكية الحديثة ، وما يتراءى للناظر من الثبات والجمود في عالم الوجود والطبيعة فهو من خطأ الحواس وعدم دركها للواقع ، وإنما الحقيقة والواقع أنّ كل شيء في عالمنا في حالة تغيّر وتجرّد آنا بعد آن ، فكل الكائنات في حالة تدرّج وسيلان ، فليس للوجود حالة استقرار وثبات ويشهد له قوله تعالى :

(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فمبدأ وجود الكائنات هو الخالق العظيم ومنتهاها إليه تعالى ، فهي في حركة دائمة بالصعود إلّا أننا غافلون عن ذلك ، فالكائنات كما أنها كانت بحاجة إليه تعالى حدوثا ، فهي دائما بحاجة إليه استمرارا لكي يفيض عليها الحياة لعدم وجود قابلية لها للبقاء ، وليس بمقدورها الخروج عن حيطة العلة الموجدة ، فبهذا يتضح أن العالم بذرّاته وجزئياته معلوم له تعالى لا يغب عنه أبدا.

الدليل الرابع :

إنه تعالى يصح له أن يعلم كلّ معلوم لأنه حيّ فيجب له ذلك لاستحالة افتقاره إلى غيره ، وكلّ حيّ يصح منه أن يعلم ، ونسبة هذه الصحة إلى جميع ما عداه نسبة متساوية ، فيتساوى نسبة جميع المعلومات إليه أيضا.

هذه أهم الأدلة على علمه تعالى بالجزئيات.

إنكار الخصم لعلمه تعالى بالجزئيات :

قلنا ان بعض الفلاسفة أنكر علمه تعالى بالجزئيات واستدلّوا على ذلك ببعض الاعتراضات هي :

الاعتراض الأول :

إنّ العلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم وإلّا لانتفت المطابقة ، وبما أن

٢٠٤

الجزئيات الزمانية متغيّرة يلزم منه التغيّر بعلمه تعالى لمطابقتها لعلمه ، والتغيّر في علمه محال.

أورد عليه :

ان التغيّر إنما هو في الإضافات (أي الأفعال الإلهية) لا في الذات المقدّسة ولا في الصفات الحقيقية الذاتية ، بمعنى أن الأشياء الخارجية وحقائقها العينية فعله تعالى ، وفي الوقت نفسه علمه ، فلا مانع من القول بطروء التغيّر على علمه تعالى إثر طروء التغير على الموجودات العينية ، فيكون التغيّر في علمه الفعلي لا الذاتي ، ولا مانع عقليا من حدوث التغير في الأفعال (الإضافات) والمتعلقات من دون حدوث تغيّر في الذات المقدّسة.

الاعتراض الثاني :

إنّ العلم لو تعلّق بالمتجدّد قبل تجدّده لزم وجوبه وإلّا لجاز أن يوجد ، فينقلب علمه تعالى جهلا وهو محال.

جوابه :

إن علمه تعالى بالشيء المتجدّد في وقت خاص لا يخرجه عن حدّ الإمكان الذاتي بعد تعلّق علمه به وحصول علته التامة ، فلا يلزم من علمه تعالى بالشيء قبل وجوده أن يصير واجبا لأنّ العلم ليس علة تامة لصدور الشيء ، وإنما العلم دوره الكشف لا الإيجاد مثاله : إن الله تعالى يعلم أنّ فلانا في وقت معيّن سوف يظلم آخر ، فليس علمه تعالى بذلك علة تامّة لإيجاد الظلم وإنما هو كاشف عن صدور الظلم من الظالم إلى المظلوم.

الاعتراض الثالث :

إنّ العلم صورة مساوية للمعلوم عند العالم ، فلو كان سبحانه عالما بغيره من الماهيات لزم حصول تلك المعلومات في ذاته المتعالية وذلك يستلزم تكثّره وكونه تعالى قابلا فاعلا ومحلا لآثاره.

أورد عليه :

إنّ الاعتراض مبني على كون علمه تعالى بالأشياء مرتسما في ذاته المقدّسة كارتسام الأشياء في النفس الإنسانية فيلزم منه حدوث الكثرات في الذات الأحدية ، ولكنك قد عرفت أن علمه بالأشياء حضوريّ بمعنى حضورها لديه

٢٠٥

بأعيانها وهوياتها ، وليس معنى علمه أن الأشياء ترتسم صورها في ذاته فإن ذلك من صفات الممكنات.

ـ هذه أهم الاعتراضات على سعة علمه تعالى بالجزئيات ، فما قدروه حقّ قدره إذ ساووه عزوجل بأنفسهم وهو ينادي عزّ شأنه في كتابه الكريم بقوله تعالى :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك / ١٥).

(وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (فصلت / ٢٣).

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (الحجرات / ١٧).

(وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (النمل / ٢٦).

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) (الأنعام / ٦٠).

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (يونس / ٦٢).

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات / ١٦٠).

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج / ٧٥).

* * *

٢٠٦

الصفة الثبوتية (٣)

«القدرة»

التعريف :

القدرة عبارة عن كيفية قائمة بالذات يصح باعتبارها أن تفعل الذات وأن لا تفعل.

والقادر : هو الفاعل الذي يؤدي عمله بإرادته واختياره ، وعكسه الفاعل الموجب أو المضطر الذي يؤدي الفعل من دون إرادة منه واختيار.

الفرق بين الفاعل المختار والموجب :

قد فرّق بينهما بوجوه :

الأول : إنّ القدرة متقدمة على الفعل في المختار دون الموجب حيث لا ينفكّ عنه كالشمس في إشراقها ، والنار في إحراقها ، فالشمس موجبة أي فاعلة غير مختارة ، وفعلها عبارة عن إشراقها بحيث لا ينفكّ عنها ، وكذا النار موجبة وهي لا تنفك عن الإحراق ، فالإشراق والإحراق من لوازم الشمس والنار.

وبهذا الوجه يعلم أنّ الكافر مكلّف بالإيمان حال كفره ، فلو لم يكن قادرا عليه حينئذ لزم التكليف بما لا يطاق ، إضافة إلى أننا قادرون على الجلوس حال القيام ، ودفعه مكابرة.

وبه يعلم أيضا وجه الفرق بين المخيّر والمسيّر لأنّ بعض العامة ذهبوا إلى أن القدرة أو الاستطاعة مقارنة للفعل وليست متقدمة عليه ، ولازم هذا أن يكون الإنسان مجبرا على أفعاله وتصرفاته لا يملك من أمره حرية الاختيار ، وهو بديهي البطلان لمنافاته لحكمته تعالى ولنسبة الظلم إليه تعالى ، وهذا بخلاف ما ذهبت إليه العدلية القائلون بأن القدرة متقدمة على الفعل ، فالقادر مستطيع على الفعل

٢٠٧

والترك قبل الإتيان بهما بخلاف الموجب.

الثاني : الفاعل المختار يمكنه الفعل والترك معا بالنسبة إلى شيء واحد ، أما الموجب فبخلافه حيث لا يعدّ قادرا على الإتيان بالطرفين (الفعل والترك).

الثالث : فعل المختار مسبوق بالعلم والإرادة بخلاف الموجب.

البراهين على قدرته تعالى :

يستدلّ على كونه تعالى قادرا بعدة براهين أهمها :

البرهان الأول :

آثار الصنع العجيب.

قد علم بالبراهين القاطعة أن وجود الأثر مؤشّر واضح على وجود المؤثّر فوجود المعلول دليل على وجود العلة وكاشف عنها ، إذ لو لا العلة لما أمكن أن يوجد نفسه ، إذ هو بحاجة إلى من يوجده من حضيض العدم إلى نور الوجود ، وكلّما عظم المعلول في تركيبه وعجائب خصوصياته كلّما دلّ هذا على عظم وقدرة العلة التي أوجدته ، وهكذا إذا نظرنا بتجرّد وتأمّل في عالمنا الفسيح الرحيب الرهيب العجيب بما فيه من موجودات من الذرّة إلى المجرّة مع ما فيها من غاية النظم والدّقة ، كل ذلك يكشف عن كون خالقه قادرا عظيما حكيما ، فتنبهر أمام عظمته وجبروته العقول ، وتتواضع أمام قدرته وملكوته القلوب. كل هذا مؤشر واضح على أنّ صانعه ومدبره قادر مختار.

البرهان الثاني :

قد ثبت بالبرهان العقلي حدوث العالم ويلزم منه كون وجوده مسبوق بالعدم ومتأخر عن الصانع ، وكلّما ثبت تأخره عنه يستدعي كونه أثر المؤثّر المختار كما تقدم ، لأنّ فعل المضطر لا يجوز تأخره عنه ، فحدوث العالم وتأخره يدلّ على أنّ مبدأه يكون فاعلا مختارا.

البرهان الثالث :

إنّ فعله تعالى لو كان على نحو الاضطرار يلزم فناؤه تعالى بفناء أجزاء العالم ، لأنه كما يلزم من وجود الفاعل المضطر (الموجب) وجود الأثر كذلك يلزم من عدمه العدم وذلك باطل بالبداهة.

٢٠٨

البرهان الرابع :

إنّ العجز نقص لا يليق بالكامل فكيف بمن أعطى الكمال لغيره ، وقد تقدّم أن واجب الوجود بالذات هو واجب الوجود من جميع الجهات والحيثيات ، فمعطي الكمال يقبح أن يكون فاقدا له.

البرهان الخامس :

يستحيل تحقق الصنع والإبداع بدون القدرة التي هي صفة كمال ، لأنّ الإبداع نوع كمال يستحيل تحققه من فاقده إذ فاقد الشيء لا يعطيه.

البرهان السادس :

إن العالم حادث ، وكل حادث لا بدّ له من محدث يؤثّر فيه لأن المؤثر الموجب يستحيل تخلّف أثره عنه ، لأنه لو كان موجبا لزم إما قدم العالم أو حدوث الله تعالى وهما باطلان فثبت أنه تعالى قادر مختار وهو المطلوب.

بعد أن ثبت كونه تعالى قادرا فهل تتعلّق قدرته بكل مقدور أم لا؟ وإليك التفصيل :

قدرته تعالى عامة :

وقع النزاع بين الفلاسفة والمتكلمين في سعة قدرته عزوجل هل تتعلق بكل مقدور؟ فذهبت الإمامية والأشاعرة وبعض المعتزلة إلى عموم قدرته (عزّ شأنه) لكل شيء. وذهب آخرون إلى العكس وهؤلاء على طوائف متعددة هم :

الأولى : الفلاسفة : ذهبوا إلى أنه تعالى واحد ، والواحد لا يصدر منه إلّا واحد.

الثانية : الثنوية : ذهبوا إلى أنه تعالى لا يقدر على الشر.

الثالثة : للنظّام المعتزلي : ذهب إلى أنه تعالى لا يقدر على فعل القبيح.

الرابعة : للبلخي : ذهب إلى أنه تعالى غير قادر على مثل مقدورنا.

الخامسة : للجبائيين : ذهبا إلى استحالة تعلّق قدرته تعالى على عين مقدورنا.

وقبل بيان هذه المذاهب لا بدّ من الاستدلال على عموم قدرته تعالى.

الأدلة على عموم القدرة :

إن عموم قدرته تامة وشاملة لكل شيء مقدور ذاتا بل حتى الممتنع كدخول

٢٠٩

الشيء الكبير في الصغير لكنه لا يفعله لا لنقص عنده عزوجل بل لعدم قابلية المورد كما سوف يأتيك.

والأدلة والبراهين كثيرة هي :

البرهان الأول :

بعد أن ثبت فيما تقدم كونه تعالى قادرا على بعض المقدورات في الجملة وجب أنّ يكون قادرا على كل المقدورات ، فبما أنّ مقدّم الشرطية ثابت باعتراف الخصم فالتالي مثله في الثبوت.

بيان الشرطية :

إنّ ما لأجله صحّ أن يكون ذلك البعض مقدورا هو الإمكان ، والإمكان وصف مشترك بين الممكنات ، فيكون الكل مشتركا في صحة المقدورية ، فلو كان قادرا على بعض دون بعض لكان المخصّص :

إمّا ذات الواجب تعالى.

وإمّا ذات المقدور.

أمّا الأول : فباطل لكون الذات الإلهية مجرّدة متساوية النسبة إلى الجميع ، فيكون مقتضاها أيضا متساوي النسبة وهو المطلوب.

وأما الثاني : وهو باطل أيضا لأنّ المقتضي لكون الشيء مقدورا هو إمكانه ، وهو مشترك بين الكل.

فإذا انتفى المخصّص بالنسبة إلى ذات الباري وذات المقدور وجب أن يكون قادرا على الكل وإلّا لزم التخصيص من غير مخصّص وهو محال.

وبعبارة أوضح :

إنّ المقتضي لكون الشيء مقدورا هو إمكانه لا امتناعه ، فما دون ذات الباري فهو ممكن قابل لأن يتّصف بالمقدورية لأنها صفة مشتركة بين الممكنات ، فتخصيصها ببعض المقدورات دون بعض ، تخصيص من غير مخصّص وهو محال لأنّ نسبة قدرته تعالى إلى الكل متساوية لكون ذاته تعالى مجرّدة متساوية النسبة إلى الجميع ، فثبت بذلك أنّ شاملة للجميع دون استثناء.

البرهان الثاني :

بما أن الذات المقدّسة لا يحدّها شيء ولا تقيّد بقيد فهي غير متناهية الوجود

٢١٠

كذا صفاته الكمالية والجمالية غير المقيدة بقيد أو محدودة بحدّ ، فهي عين الذات غير المحدودة ، فهناك تلازم بين الذات والصفات ، فعدم التناهي في جانب الوجود يلازم عدمه في جانب الكمال ، والقدرة من صفات الكمال ، فهي غير متناهية لعدم تناهي كماله فيثبت سعة قدرته تعالى لكل ممكن بالذات.

والملاحظ للكتاب (١) الكريم والسنّة (٢) المطهّرة يرى بوضوح ما يدلّ على سعة القدرة الإلهية حيث لا يحدّها شيء على الإطلاق أبدا.

شبهات نفي عموم القدرة :

أثار نفاة عموم علمه تعالى شبهات على ذلك ، لا بدّ من عرضها ومناقشتها أهمها :

الشبهة الأولى :

الواحد لا يصدر منه أكثر من واحد.

منع بعض الفلاسفة كونه تعالى قادرا على أكثر من واحد ، وحكموا بأنه تعالى لا يصدر عنه بذاته سوى شيء واحد هو العقل ، مدّعين بذلك أن الفاعل الواحد من جميع الجهات من غير تعدد الآلات والقوابل لا يصدر عنه أكثر من واحد.

تقرير القاعدة :

إن الفلاسفة أقحموا هذه القاعدة في مسألة إمكانية استناد معلولين أو أكثر إلى علّة واحدة أم لا؟ بمعنى أن هذه المعلولات الكثيرة كالأرض والسماء ومن فيهما والتي يعبّر عنها ب «الواحد النوعي» هل كلها مستندة إلى علة موجدة لها من العدم إلى نور الوجود ، ويعبّر عنها ب «الوحدة الشخصية» أو أنها مستندة إلى علل متعددة؟ قال الفلاسفة بعدم جواز صدور معاليل متعددة من علة واحدة ، بخلاف الحكماء القائلين بجواز صدور معلولين أو أكثر من علة واحدة.

أدلة الفلاسفة :

استدلّوا على عدم جواز صدور معاليل متعددة من علة واحدة بوجهين :

__________________

(١) يلاحظ مادة «قدير» في المعجم المفهرس للقرآن الكريم.

(٢) يلاحظ التوحيد باب القدرة.

٢١١

الأول : أنه سبحانه وتعالى واحد فلا يكون علّة للمتكثّر ، لأنه أحديّ الذات وأحديّ الصفات ، ويلزم على القول بصدور المعاليل من علة واحدة القول بتكثر الذات مما يستدعي منه القول بتركيب ذاته المفروض كونها بسيطة مما يعني أنه ممن محتاج إلى أجزائه ، فحتى نخرّج الذات من الكثرة لا بدّ من القول أنه لم يصدر منه إلّا واحد شخصي أعني المعلول الأول المعبّر عنه بالعقل الأول وهو مجرّد عن الجسمية والمواد في ذاته ثم إن ذاك العقل صدر عنه عقل ثان ثم صدر من الثاني عقل ثالث ، والثالث صدر منه عقل رابع إلى العقل العاشر ، فالسابق يصدر منه لاحق ، والعاشر يسمّى عندهم بالعقل الفعّال.

الثاني : لو صدرت معاليل عدة من علة واحدة لزم عدم السنخية بين العلة والمعلول بمعنى أن وجود معلولات متكثرة يستدعي وجود علل متكثرة ، والفرض أنه يوجد علة واحدة لهذه الكثرات ، وهذا مؤشر على عدم وجود سنخية بين العلة والمعلول بمعنى أنه يلزم صدور المباين عن مباينه وهذا مستحيل بضرورة العقل.

ينقض على الوجهين بما يلي :

أولا : على القول بالوحدة الشخصية ـ بمعنى أنه لا يصدر منه تعالى إلّا واحد شخصي ـ يلزم منه إثبات العجز للمولى سبحانه عن خلق أو صدور واحد آخر شخصي عنه ، وهذا يستدعي العجز في القدرة وهو منزّه عن ذلك.

ثانيا : إن هذه القاعدة «الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد» لو تمّت فإنما تتم في الفاعل الذي ليس له اختيار ، أما من له الاختيار والإرادة كالمولى عزّ شأنه فما وجه الإشكال لو تعددت آثاره؟!

ثالثا : إن القول بالوحدة النوعية (أي المعاليل المتعددة الصادرة عن علة واحدة) لا يعني إنكار السنخية بين العلة والمعلول ، والمراد بالسنخية جهة المناسبة والحيثية بينهما ، وذلك لأنه لا مؤثر في الوجود إلّا الله تعالى ، وهذه الكثرة ليست منافية للوحدة بل الكثرة مؤكدة للوحدة ، قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر / ٥١) وحيث إنّ رحمته وسعت كل شيء ، استدعت هذه الرحمة أن يرتبط بها كل الكثرات لتمام بساطته ووحدته المحيطة والمستوعبة لجميع الموجودات (أي الكثرات) التي هي مواد عرضية موجودة بالتبع ، وبعبارة مختصرة :

«إن الوحدة في الكثرة ، والكثرة في الوحدة».

٢١٢

رابعا : إنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور إنما هو الإمكان ، إذ مع الوجوب والامتناع لا تعلّق ، والإمكان سار في الجميع فيثبت الحكم وهو صحة التعلّق.

هذه النقوص الأربعة بنفسها أدلة للحكماء المثبتين لصحة القاعدة المزبورة لكن بمعنى أنّ الواحد الشخصي يصدر منه واحد نوعي ، فيمكن جعل هذه القاعدة من الأدلة العرفانية على وحدة الوجود ، أي أن الوجود بما هو وجود مفتقر ومرتبط بموجده ، وليس معنى الوحدة عند أهل المعرفة الحلول والاتحاد تعالى سبحانه عن ذلك علوّا كبيرا.

إشكال :

يقال : إن الالتزام بعموم القدرة يعني الالتزام بكون الأفعال الصادرة من المكلّف لا تعدّ اختيارية ، لأنّ لازمه تعلق القدرة الإلهية بالفعل الاختياري ، وهي لا تتخلّف عن المراد ، فيكون ضروري الوقوع ويكون الإنسان مجبرا عليه لا مختارا منه.

والجواب :

ما تصوره المستشكل غير صحيح وذلك لأن الإرادة الإلهية إنما تعلّقت بالفعل على ما هو عليه في نفسه ، وما عليه الفعل هو أنه منسوب إلى الإنسان ولا يتغير بتعلق الإرادة عمّا هو عليه ، فقد تعلّقت الإرادة بالفعل من طريق اختيار الإنسان ، ومراده تعالى أن يفعل الإنسان الفعل الفلاني باختياره ، ومن المحال أن يتخلّف مراده تعالى عن إرادته.

تساؤل :

قد عرفنا مفاد القاعدة فما وجه إقحامها في بحث القدرة؟

يجاب عنه :

إنّ إقحامهم لها في بحث القدرة من أجل انكارهم لعموم القدرة الإلهية الشاملة لكل المقدورات ، بل قدرته ـ بزعمهم ـ خاصة بصدور العقل الأول منه فقط والبقية يكون السابق خالقا للاحق كما عرفت سابقا.

وبهذه الزندقة أخرجوا الله تعالى من سلطانه ولا يبعد كونهم المفوّضة الذين ورد اللعن عليهم والبراءة منهم.

وبما ورد من النقض عليهم تسقط قاعدتهم عن الحجيّة ويثبت العكس وهو

٢١٣

عموم قدرته تعالى لكل مقدور.

الشبهة الثانية :

مفادها : أنه تعالى لا يقدر على الشر.

ذهبت الثنوية وهم أصحاب الاثنين الأزليين «النور والظلمة» فهما بنظر أصحاب هذه العقيدة اثنان أزليّان قديمان (١) ، فالخير من النور ، والشر من الظلمة.

وهناك أنصار للثنوية بمعتقداتها منها :

١ ـ الزرداشتيّة : وهم أصحاب زردشت بن يورشب الآذربايجاني ، هؤلاء اعتقدوا بوجود نور وظلمة ، أصلين متضادّين لا يجتمعان ، فكل خير في الكون مصدره النور ، وكل شر وفساد مصدره الظلمة ، وعبّروا عنهما بإلهي الخير والشر ، فإله الخير يدعى «يزدان» وإله الشر يدعى «أهرمن» ، فهما مبدأ الموجودات في العالم ، فهما دائما في تقاوم وتجاذب ، وتغالب حتى يغلب النور الظلمة ، والخير الشر ثم يتخلّص الخير إلى عالمه ، والشر ينحط إلى عالمه وذلك هو سبب الخلاص (٢).

٢ ـ المفوّضة : وهم قسمان :

قسم يعتقد بتفويض الخلق إلى العقول العشرة كما أسلفنا.

وقسم آخر يعتقد بتفويض أفعال البشر إلى أنفسهم ، فهم مستقلون في خلق الأفعال وإيجادها ولا صلة لها بخالق البشر ، ويسمّى هؤلاء بالقدريّة ، وأكثر أهل الاعتزال على هذه العقيدة الباطلة ، ويرجع السبب في اعتقادهم هذا حرصهم على العدل الإلهي في مقابل المجبّرة الذين نسبوا إليه تعالى أنه ألجأ عباده على المعاصي ، فالمعتزلة ذهبوا بعكسهم محاولة منهم تنزيه الباري عن الظلم فوقعوا بشيء أعظم منه.

ودليل هؤلاء : أنه سبحانه خير محض ، وفاعل الشر شرير ، ولو صدر منه سبحانه شر لعدّ فاعلا للخير والشر وهو خلاف فرض كونه خيرا محضا ، وهؤلاء كالمجوس المعتقدين أن الخير من الله تعالى والشر من الشيطان.

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٢٤٤ وبحار الأنوار : ج ٣ ص ٢١١.

(٢) الملل والنحل : ج ١ ص ٢٣٧.

٢١٤

والجواب :

إنّ المراد من الخير والشر إن كان عن فعلهما فلما لا يجوز إسنادهما إلى شيء واحد(١).

إضافة إلى أن الخير والشر ليسا ذاتيين للشيء فجاز أن يكون الشيء خيرا بالقياس إلى شيء ، وشرا بالقياس إلى آخر ، بمعنى أن الشر أمر انتزاعي لا حقيقي ، فنحن إذا قسنا بعض الموجودات إلى البعض الآخر ننتزع عنوان الشرّية ، فهي شر بالقياس إلينا ، وخير بالقياس إلى نفسها أو غيرها.

الشبهة الثالثة :

أنه لا يقدر على فعل القبيح «بزعمهم».

استدلّ النظّام وجماعة على ذلك أنه تعالى لو قدر على فعل القبيح لدلّ على كونه جاهلا بقبحه أو محتاجا إلى فعله لاستلزامه الظلم المحال عليه تعالى.

والجواب :

إنّ قدرته تعالى على القبيح تماما كقدرته على فعل الحسن ، ولا فصل من ناحية القدرة بين الاثنين ، لأنّ قدرته تعالى متساوية النسبة إلى كل المقدورات.

والقدرة على القبيح لا بدّ أن يتحقق فيها شرطان :

الأول : الداعي إلى الفعل.

الثاني : الحكمة من الإقدام عليه.

أما الداعي إلى فعل القبيح ، فهي منفية عنه تعالى لاستلزامه الجهل أو الحاجة إذ لا يقدم على فعل القبيح إلّا جاهل أو محتاج معدم ناقص ، وعدم الداعي لا يعني عدم القدرة ، إذ لا يفرّق بين عدم القدرة على الشيء أصلا ، وبين عدم القيام به لعدم الداعي أو المقتضي ، فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده ولكنّ الدواعي إلى هذا الفعل منتفية.

وأما الحكمة من الإقدام ، فحيث إنّ قدرته تعالى متساوية النسبة إلى فعل القبيح والحسن فهو قادر على إدخال المطيع الجنّة وفي نفس الوقت قادر على إدخاله النار ، إلّا أنه عزّ شأنه لا يفعله لأنه خلاف الحكمة والعدل ، وداخل في

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٠٩ ط الأعلمي ١٩٧٩ م.

٢١٥

نطاق الظلم وهو منزّه عنه تعالى ونهى العباد عنه ، فكيف ينهى عن شيء ثم يفعله؟ حاشاه عزوجل. وبالنسبة لكون القدرة على القبيح مستلزمة للظلم فباطلة أيضا وذلك :

لأنّ القدرة على القبيح ليست بظلم بل فعله ظلم ، والله سبحانه قادر على ذلك لكنه منزّه عن فعله كما قلنا ، وهو تماما كقدرة المؤمن على فعل المعصية والشرّ ولا يفعلهما لعلمه بقبحهما ، ولا يقال انه عاجز عنهما. قال تعالى :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر / ٤٥).

الشبهة الرابعة :

أنه تعالى غير قادر على مثل مقدورنا.

قال البلخي : أنه تعالى غير قادر على نفس مقدور العبد ، إذ لو قدر عليه وفعله يلزم منه محذوران :

الأول : إمّا أنه طاعة.

الثاني : وإمّا أنه سفه.

وكلاهما مستحيلان.

والجواب :

إن الطاعة والسفه وصفان عارضان للفعل لا يوجبان له المخالفة الذاتية ، لأنه في صورة الإطاعة والعبث فالفعل واحد لا يتغيّر وإنما الدواعي متغيرة باختلاف المتعلقات ، وباختلاف الدواعي ننتزع عنوان الطاعة والعبث ، مثاله :

أننا نفترض أن الإنسان لو قفز قفزات ، فمرة يقفزها بلا داعي فهذا ينتزع منه العبثية.

ومرة يقفزها تقليدا بداعي الطاعة ، ومرة بداعي النشاط والسرور ، فالفعل في هذه الحالات الثلاث واحد وإنما الاختلاف في الدواعي والمتعلقات.

فلو صدر الفعل في الحالة الثالثة أمكن صدوره في الحالتين الأوليين لأن المفروض أنّ ذات الفعل واحدة في الحالات الثلاث ، فإذا جاز وأمكن صدوره في الحالة الثالثة ، جاز في حالة الإطاعة والعبث ، لكن صدوره منه تعالى لا يدلّ على أنه سبحانه مطيع لغيره إذ لا أحد يأمره ، وأما صدور العبث منه تعالى فقد

٢١٦

تقدم قبحه فلا يصدر منه عزوجل.

الشبهة الخامسة :

لا تتعلق قدرته على عين مقدورنا.

ذهب الجبائيان : إلى أنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد وإلّا لزم اجتماع الوجود والعدم على تقدير أن يريد الله إحداثه والعبد يريد إعدامه ، مثاله :

أنه لو أراد العبد القيام ، وأراد الله تعالى منه الجلوس يلزم منه اجتماع النقيضين لأنه من باب اجتماع قادرين على مقدور واحد وهو باطل.

بيان ذلك :

إنّ المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه ، والبقاء على العدم عند وجود صارفه ، فلو كان مقدور واحد واقعا من قادرين وفرضنا وجود داعي أحدهما ووجود صارف الآخر في وقت واحد ، لزم أن يوجد بالنظر إلى الداعي وأن يبقى على عدمه بالنظر إلى الصارف ، فيكون موجودا وغير موجود وهما متناقضان ، وهذا خلف.

والجواب :

إن كون المقدور مشتركا إنما يمكن إذا أخذ غير مضاف إلى أحدهما ، أما بعد الإضافة إلى أحدهما فيمتنع فيه الاشتراك من حيث تلك الإضافة ، فالمقدور غير المضاف يمكن إضافته إلى كل واحد منها على سبيل البدل ، وهو المراد من كون مقدور أحدهما مقدورا للآخر ، وحينئذ لا يلزم اجتماع النقيضين ، لأنّ بقاء المقدور على العدم عند وجود صارف قادر معيّن ممنوع ، بل عند ارتفاع مطلق الداعي ووجوب الصوارف كلها وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه (١).

__________________

(١) نهج المسترشدين : ص ١٩٣.

٢١٧

سؤالان وجوابان

السؤال الأول :

هل يقدر سبحانه أن يدخل العالم الكبير في البيضة الصغيرة من دون أن يصغر العالم أو تكبر البيضة؟

الجواب :

أولا : إنّ قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات العقلية ، فكل أمر لم يتصوره العقل أو الذهن ولا يكاد أن يوجد في الخارج فهو ممتنع عقلا ، فإيجاد الشريك ممتنع عقلا ولا يمكن تصوره لأنه بنفسه محال ، لأنه عزوجل خالق ، وهذا الشريك المفروض إيجاده مخلوق فكيف تتعلق به القدرة؟!

إذن فالقدرة لا تتعلق بالمستحيلات بل تتعلق بالممكنات.

ثانيا : إنّ شرط صدور الأثر مضافا إلى قدرة الفاعل لا بدّ من وجود قابلية عند القابل ، فالأمور المستحيلة ذاتا غير قابلة لتعلّق القدرة بها لنقص في قابليتها لا في قدرة الفاعل ، لأنّ الأثر ما لم يكن ممكنا لا قابلية له في تعلق القدرة به.

وبعبارة أخرى : إنّ القصور في الظرف (أي البيضة) لا في القدرة الإلهية ، بمعنى أن المورد أو الظرف غير قابل لأن يستوعب المظروف (أي العالم الكبير).

ثالثا : إنه تعالى قادر على إدخال الكبير في الصغير ، بحيث يلطّف الكبير ويعظّم الصغير كما ورد أن إبليس لعنه الله تعالى قال للنبي عيسى عليه‌السلام : أيقدر ربّك على أن يدخل الأرض في بيضة لا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟

قال عيسى عليه‌السلام : ويلك إن الله تعالى لا يوصف بعجز ومن أقدر ممن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة.

٢١٨

وورد مثله مستفيضا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

السؤال الثاني :

هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئا لا يقدر على إفنائه؟

والجواب :

أولا : كما قلنا سابقا إنّ قدرته تعالى لا تتعلق بالمحال ، ومورد السؤال يتعلّق بالمحال ، فيكون محالا.

ثانيا : ما فرض كونه ممكنا بالذات صار واجبا بالذات ، وهذا خلف كونه ممكنا لأن الواجب بالذات لا يسبقه عدم ، والممكن بالذات ما كان مسبوقا بعدم.

فالشيء المذكور بما أنه أمر ممكن فهو قابل للفناء ، وبما أنه مقيّد بعدم إمكان إفنائه فهو واجب ، فتصبح القضية كون الشيء الواحد ممكنا وواجبا ، قابلا للفناء وغير قابل له معا وهذا تناقض باطل.

* * *

__________________

(١) لاحظ توحيد الصدوق باب القدرة ص ١٣٠ وأصول الكافي باب التوحيد وحق اليقين ص ٢٤.

٢١٩

الصفة الثبوتية (٤)

الأزلية والأبدية

«الأزلي» ما لا بداية له.

«الأبدي» ما لا نهاية له.

فالأول : يعبّر عنه بالقديم وهو المصاحب لمجموع الأزمنة (الموجودة خارجا) والمقدّرة (المخفيّة الوجود التي لم يكشف عنها) بالنسبة إلى جانب الماضي.

والثاني : ويعبّر عنه بالباقي ، وهو المستمر الوجود المصاحب لجميع الأزمنة ، أي مستمر الوجود لا انقضاء له إطلاقا.

ويستدل على أزليته وأبديته :

إنه قد ثبت في الحكمة كونه تعالى واجب الوجود فيستحيل عليه العدم مطلقا ، سواء كان سابقا (على تقدير أن لا يكون قديما أزليا) أم لاحقا (على تقدير أن لا يكون باقيا أبديا) ، وإذا استحال العدم المطلق عليه ثبت قدمه وأزليته وبقاؤه وأبديته وهو المطلوب.

وبعبارة :

أنه تعالى لو لم يكن أزليا وأبديا لدلّ ذلك على أنه مسبوق بالعدم وملحوق به وهو خلف كونه واجب الوجود ، بمعنى أنّ ذاته غير مفاض عليها الوجود ، بل هي في ذاتها محض الوجود ، حينئذ لا تكون له بداية كما لا تكون له نهاية ، لأنه لو قلنا أنّه غير أزلي يستدعي ذلك أن يكون هناك جهة أفاضت عليه الوجود ، فيكون مسبوقا بالعدم ، وإن قلنا أنه غير أبدي يعني ذلك أنه ملحوق بالعدم وهو علامة الإمكان وكلاهما محالان عليه تعالى ، فثبت أنه واجب الوجود ، المقتضي للوجود بذاته فيكون أزليا أبديا.

٢٢٠