الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

ولم يكن عالما ، ولكن يمكن أن تبلغ الذات في الكمال والجمال مرتبة تكون نفس العلم ونفس القدرة من دون أن يكون العلم أو القدرة زائدين عليها.

ـ من خلال هذا العرض يتضح لدينا بطلان الرأيين المتقدّمين ، فيبقى هناك رأي ثالث للإمامية هو أمر بين أمرين.

رأي الإمامية : عينيّة الصفات مع الذات :

ويعبّر عنه بالتوحيد الصفاتي ، وهو عبارة عن اتحاد الصفات الذاتية مع الذات الإلهية وجودا وعينا ، فعلا وتأثيرا ، بمعنى أن ذاته تعالى البسيطة يكمن أن تتصف بمفاهيم وأوصاف كثيرة فهي متغايرة لكنها في حقه تعالى موجودة بوجود واحد لأن الواحد الأحد عزّ شأنه لا يتكثر لأجل تكثر صفاته لأنّ كل واحدة من صفاته إذا حققت تكون الصفة الأخرى بالقياس إليه ، فيكون قدرته حياته وحياته قدرته ، وتكونان واحدة ، فهو حي من حيث هو قادر وقادر من حيث هو حي وكذا في سائر صفاته. قال صدر المتألهين :

«كما أن صفاته الحقيقية كلها حقيقة واحدة لا تزيد على ذاته تعالى وإن تغايرت مفهوماتها وإلّا لكانت ألفاظها مترادفة ، فكذا صفاته الإضافية وإن كانت زائدة على ذاته متغايرة بحسب المفهوم ، لكن كلها إضافة واحدة متأخرة عن الذات ولا يخل بوحدانيته كونها زائدة عليه ، فإن الواجب تعالى ليس علوّه ومجده بنفس هذه الصفات الإضافية المتأخرة عنه وعمّا أضيف بها إليه ، وإنما علوّه ومجده وتجمله وبهاؤه بمبادىء هذه الصفات التي هي عين ذاته الأحدية : أي تكون ذاته تعالى في ذاته بحيث ينشأ منه هذه الصفات وينبعث عنه هذه الإضافات ، وكما أن ذاته بذاته مع كمال فردانيته وأحديته يستحق هذه الأسماء من العلم والقدرة والحياة من غير أن يتكثر ويتعدد حقيقة أو اعتبارا وحيثية ، لأنّ حيثية الذات بعينها حيثية هذه الصفات كما قال أبو نصر الفارابي وجود كله ، وجوب كله ، علم كله ، قدرة كله ، حياة كله.

لا أن شيئا منه علم وشيئا آخر منه قد رد ليلزم التركيب في ذاته ، ولا أنّ شيئا منه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثر في صفاته الحقيقية ، فكذا صفاته الإضافية لا يتكثر معناها ولا يختلف مقتضاها وإن كانت زائدة على ذاته ، فمبدئيته بعينها رازقيته وبالعكس ، وهما بعينهما جوده وكرمه وبالعكس ، وهكذا في العفو والمغفرة والرضا وغيرها إذ لو اختلفت جهاتها وتكثرت حيثياتها لأدى تكثرها إلى

١٨١

تكثر مباديها وقد علمت أنها عين ذاته تعالى» (١).

ويستدلّ على ذلك :

أولا : لو لم تكن صفاته عين ذاته لكانت زائدة عليه فيلزم احتياجه (في إفاضة هذه الكمالات على شيء) ، إلى حياة وقدرة وعلم وإرادة إذ لا يمكن إفاضتها إلّا من الموصوف بها.

ثانيا : لو لم تكن عينه لكانت غيره فكانت باطلة لأصالة (٢) الوجود وبطلان غيره ، لأن هذا الغير لا يخلو من أمرين :

إما أن يكون مصداقا في داخل الذات الإلهية فيلزم منه أن تكون الذات مركّبة من أجزاء والتركيب مستحيل عليه تعالى.

وإمّا أن يكون هذا الغير مصداقا للذات من خارجها ، وفي هذه الحالة إمّا أن نتصورها واجبة الوجود غير محتاجة إلى موجد ، وإما أن نتصورها ممكنة الوجود ومحتاجة إلى من يوجدها.

أما افتراض أنها واجبة الوجود بمعنى تعدد الذات فهو الشرك الصريح ولا بد أن يكون أحدهما أقوى من الآخر حتى يوجده.

وأما افتراض أن هذه الصفات ممكنة الوجود فيلزم من ذلك القول بأن الذات الإلهية مع افتراض فقدانها لهذه الصفات هي التي تخلق هذه الصفات وتوجدها ، ثم بعد ذلك تتصف بها ، فمثلا بما أن الذات فاقدة للحياة ذاتا ، فإنها تخلق موجودا يسمى «الحياة» وبعد ذلك تتصف بصفة الحياة ، وكذلك الحال في العلم والقدرة وغيرها ، مع أنه من المحال أن تكون العلة الموجدة فاقدة لكمالات مخلوقاتها.

وبهذا يتضح بطلان الفروض المتقدمة وعلى ضوئها يتبيّن أن الصفات الإلهية ليست لها مصاديق مستقلة كل واحدة عن الأخرى وعن الذات الإلهية بل إن هذه الصفات كلها مفاهيم ينتزعها العقل من مصداق واحد بسيط هو الذات الإلهية.

ثالثا : كل ما دلّ على بطلان زيادة الصفات على الذات هو بدوره دليل على عينيّة الصفات.

__________________

(١) الأسفار : ج ٦ ص ١٢٠.

(٢) أصالة الوجود في مقابل أصالة الماهية التي يراد منها الممكنات فالله سبحانه لا ماهية له ، فهو الوجود المطلق مقابل الوجود المقيّد وهو الماهية.

١٨٢

فاتحاد الصفات مع الذات البسيطة من جميع الجهات يعدّ التوحيد الخالص الذي أشار إليه مولى الثقلين أمير المؤمنين أبو الحسنين روحي فداه بقوله الشريف :

«أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزأه ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمنه ومن قال على م فقد أخلى منه» (١).

وهنا شرح لطيف لصدر المتألهين (قدس‌سره) في شرح الرواية لا بأس بعرضه قال :

[قوله عليه‌السلام : «أول الدين معرفته» إشارة إلى أن معرفة الله تعالى ولو بوجه ابتداء الإيمان واليقين ، فإن ما لم يتصور شيئا لا يمكن التصديق بوجوده. ولهذا قيل : مطلب «ما» الشارحة مقدم على مطلب «هل» كتقدم البسيط على المركب.

قوله عليه‌السلام : «وكمال معرفته التصديق به» ، وذلك لأنّ من عرف معنى واجب الوجود أنه الوجود المتأكد الذي لا أتمّ منه الذي يفتقر إليه الممكنات والوجودات الناقصة الذوات المصحوبة للنقائص والاعدام والقصورات ، فقد عرف : أن لا بدّ أن يكون في الوجود موجود واجب الوجود ، وإلّا لم يوجد موجود في العالم أصلا واللازم باطل بالضرورة ، فكذا الملزوم ، فحقيقة الوجود إذا عرفت على وجه الكمال هو أن يكون معلوما بالعلم الحضوري الشهودي إذ قد ثبت في ما سبق أن الصورة العلمية في الوجود لا بدّ وأن يكون نفس حقيقته المعلومة بخلاف سائر الهيئات ، فإنها قد يكون العلم بها غير وجودها العيني فلا يمكن أن يعرف حقيقة كل وجود إلّا بعينه الخارجي إذ ليس للوجود وجود ذهني كالماهيات الكلية ، فكلّ من عرف حقيقة الوجود لأي موجود كان ، على وجه الكمال ، فلا بدّ أن يعرف كنه ذاته وكنه مقوماته إن كان له مقومات كالوجودات المجعولة ، وعلى أيّ تقدير لا بدّ أن يعرف أن حقيقة الوجود ومبدأه وكماله

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الأولى في التوحيد.

١٨٣

موجودة ، لأنّ «ما هو» و «هل هو» في نفس الوجود أمر واحد بلا تغاير بينهما. فمن عرف الوجود أيّ وجود كان بحقيقته عرف أنّه موجود لأنّ ماهية الوجود أنيته كما أشرنا إليه، ثبت أنّ كمال معرفته ـ أيّ معرفة الوجود المتأكد الواجبي ـ عيني التصديق به.

قوله عليه‌السلام : «وكمال التصديق به توحيده» إشارة إلى البرهان على نفي تعدد الواجب من جهة النظر في نفس حقيقة الواجب الذي هو الوجود الصّرف الذي لا يشوبه عموم ولا تشخص فإنّ من تأمّل أن الواجب نفس حقيقة الوجود وكلّ موجود غيره مشوب بغير حقيقة الوجود من تحديد أو تخصيص أو تعميم أو نقص أو فتور أو قوّة أو قصور ، يعلم : أنّه لا تعدّد فيه إذ لو فرض تعدد أفراد الواجب يلزم أن يكون الحقيقة الواحدة حقيقتين ، وهذا من المستحيلات التي لا يمكن تصوّرها فضلا عن تجويز وقوعه كما مرّ تحقيقه. فثبت أنّ معرفة ذاته التي هي عين التصديق بوجوده شاهدة على فردانيته ووحدانيته كما قال (تعالى): (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فذاته شاهدة على وحدانيته.

وأمّا وجه عطف قوله : «والملائكة وأولو العلم» على كلمة «الله» الدالّ على شهادتهم أيضا على وحدانيته فبيانه كما مرّت الإشارة إليه من أنّ وجود كلّ موجود سواه متقوم بوجوده (تعالى) بحيث لا يمكن معرفة شيء من هذه الوجودات بكماله إلّا بحضور هويته وشهوده ، وهو مستلزم لحضور ما يتقوّم به أعني الوجود الحق بقدر ما يمكن حضور المفيض للمفاض عليه. وقد علمت : أن حقيقة الحق شاهدة على توحيده ، فكذلك وجود غيره. وإنّما عبّر عنه ب «الملائكة» وأولي العلم ، لأنّ جميع ما سواه من الموجودات من أولي العلم ، لما وقعت إليه الإشارة من أنّ الوجود على تفاوت درجاته عين العلم والقدرة والإرادة وسائر الصفات الوجودية ، لكن الوجود في بعض الأشياء في غاية الضعف فلا يظهر منه هذه الصفات لغاية قصورها ومخالفتها بالإعدام والظلمات. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

وقوله عليه‌السلام : «وكمال توحيده الإخلاص له» يعني الزوائد والثواني إذ لو كان في الوجود غيره ، سواء كان صفة أم شيئا آخر لم يكن بسيطا حقيقيا لمّا مرّ سابقا أنّ بسيط الحقيقة لا يسلب عن ذاته ما هو كمال وجودي إلّا النقائص والإعدام ، إذ جهة سلب الوجود غير جهة ثبوت الوجود ، فلو سلبت عن ذاته

١٨٤

حقيقة وجودية يلزم التركيب في ذاته ، مع أنّه بسيط الذات وهذا خلف.

قوله عليه‌السلام : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» ، أراد به نفي الصفات التي وجودها غير وجود الذات وإلّا ، فذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكمالية والأوصاف الإلهية من دون قيام أمر زائد بذاته تعالى فرض أنّه صفة كمالية له ، فعلمه وقدرته وإرادته وحياته وسمعه وبصره كلّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة. مع أنّ مفهوماتها متغايرة ومعانيها متخالفة ، فإن كمال الحقيقة الوجودية في جامعيتها للمعاني الكثيرة الكمالية مع وحدة الوجود.

قوله عليه‌السلام : «لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة» ، إشارة إلى برهان نفي الصفات العارضة ، سواء فرضت قديمة كما يقوله الأشاعرة أم حادثة ، فإنّ الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف بها ، وكلّ متغايرين في الوجود فكلّ منهما متميز عن صاحبه بشيء ومشارك له بشيء آخر ، وذلك لاشتراكهما في الوجود ومحال أن يكون جهة الامتياز عين جهة الاشتراك ، وإلّا لكان الواحد بما هو واحد كثيرا. بل الوحدة بما هي وحدة بعينها كثرة ، وهذا محال.

فإذن لا بدّ أن يكون كلّ منهما مركبا من جزء به الاشتراك وجزء به الامتياز فيلزم التركيب في ذات الواجب وقد ثبت أنه بسيط الحقيقة ، هذا خلف وإليه الإشارة بقوله : «فمن وصفه فقد قرنه» ، إلى قوله «فقد جهله» أي من وصفه بصفة زائدة فقد قرنه بغيره في الوجود ، وإذا قرنه بغيره فقد جعل له ثانيا في الوجود. وكلّما فرضه ثاني اثنين فقد جعله مركّبا ذا جزءين بأحدهما يشاركه في الوجود وبالآخر يباينه.

فكلامه عليه‌السلام ، إذ هو منبع علوم المكاشفة ومصدر أنوار المعرفة نص على غاية تنزيهه تعالى عن شوب الإمكان والتركيب ، فيلزم من هذا التنزيه والتقديس أن لا موجود بالحقيقة سواه ، وهذه الممكنات من لوامع نوره وعكوس أضوائه ، وقد مرّت الإشارة إلى أن غاية التوحيد توجب أن يكون الواحد الحقيقي كل الأشياء فهو الكلّ في وحدته ، ولهذا عقّب هذا الكلام الذي في نفي الصفات بقوله عليه‌السلام : «ومن أشار إليه فقد حدّه ... إلى آخره» ، أي من أشار إليه بأيّ إشارة كانت ـ حسية أو عقلية ـ بأن قال هاهنا أو هناك أو كذا وكذلك فقد جعله محدودا بحدّ خاص ومن حدّه بحدّ معيّن فقد عدّه أي جعله واحدا بالعدد لا

١٨٥

بالحقيقة وقد ثبت أن وحدته الحقة ليست مبدأ الاعداد وواحد الأفراد والآحاد وهو محال.

وعلى هذا يجب أن لا يكون محصورا في شيء ولا يخلو عنه شيء فلا يكون في أرض ولا في سماء ولا يخلو عنه أرض ولا سماء ، كما ورد في الحديث : «لو دلّيتم بحبل على الأرض السفلى لهبط على الله» ، ولهذا قال عليه‌السلام : «ومن قال : فيم فقد ضمنه ومن قال: على م فقد أخلى منه» تصديقا لقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) (المجادلة / ٨) ، وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، وقوله في الحديث القدسي : «كنت سمعه وبصره ويده» ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنه فوق كلّ شيء وتحت كلّ شيء قد ملأ كلّ شيء عظمته فلم تخل منه أرض ولا سماء ولا برّ ولا بحر ولا هواء» ، وقد روي أنّ موسى قال : أقريب أنت فأناجيك أم بعيد أنت فأناديك؟ فإني أحسّ حسن صوتك ولا أراك فأين أنت؟ فقال الله : «أنا خلفك وأمامك وعن يمينك وشمالك أنا جليس عند من يذكرني ، وأنا معه إذ دعاني» ، وأمثال هذا في الآيات والأحاديث كثيرة لا تحصى.

تتمة وتبصرة : وممّا يجب التنبيه عليه أنّه ليس معنى نفي الصفات عنه تعالى أنها غير متحققة في حقّه تعالى ليلزم التعطيل كيف؟! وهو منعوت بجميع النعوت الإلهية والأسماء الحسنى في مرتبة وجوده الواجبي ، وجلّ جناب الحقّ عن فقد وعدم لصفة كمالية ، بل المراد أنّ أوصافه ونعوته كلّها موجودة بوجود واحد هو وجود الذات كما أنّ ذاتيات الماهيّة لنا موجودة بوجود واحد شخصي ، لكن الواجب لا ماهية له إذ لا جهة إمكانية فيه. فالعالم الربوبي عظيم جدّا وهو الكلّ في وحدة. فتلك الصفات الإلهية كثيرة بالمعنى والمفهوم ، واحدة بالهويّة والوجود ، بل للحق (سبحانه) بحسب كل نوع من أنواع الممكنات صفة إلهية هي ربّ ذلك النوع ومبدؤه ومعاده وله بحسب كلّ يوم شأن من شئون ذاتية ، وتجليّات في مقامات إلهيّة ومراتب صمديّة ، وله بحسب تلك الشئون صفات وأسماء ، كما يكاشفه «العرفاء» الكاملون.

ولهذا قالوا : أول كثرة وقعت في الوجود وبرزخ بين الحضرة الأحديّة الذاتية وبين كثرة الممكنات والمظاهر الخلقية للصفات ، هي كثرة الأوصاف والأسماء

١٨٦

الإلهية ، وهي غير مجعولة بل متحققة بنفس تحقّق الذات الواجبة اللامجعولة ، لا كما يقوله «المعتزلة» : من أنها ثابتة منفكّة عن الوجود] (١).

وورد عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

لم يزل الله عزوجل ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور (٢).

وبهذا تكون الإمامية بنظرتها لعينيّة الصفات للذات هي الجادة الوسطى (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) (النور / ٣٦) وما قاله غيرها دونه خرط القتاد.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (الأعراف / ٣٠).

أما النقطة الثانية :

فقد أرجع جماعة من المعتزلة منهم النظّام وابن أبي الحديد الصفات الثبوتية إلى السلبية ، وقالوا إنّ إثبات القدرة يعني سلب العجز عنه ، وإثبات العلم يعني سلب الجهل عنه ، وهكذا بقية الصفات الثبوتية هي في الحقيقة ـ عندهم ـ صفات سلبية ، ففي الواقع لا معقول لنا من صفاته إلّا السلوب والإضافات على حدّ تعبير العلّامة السّيوري في شرح الباب الموافق لبعض المعتزلة والمتأثر بهم في هذه المسألة.

وقد حمل المصنف عليه الرحمة ورد بشدّة على هؤلاء ولكنه على عادته لم يذكر التفاصيل.

استدلال النّظام على المدّعى :

استدلّ وجماعة على مدعاهم : بأنه إذا لم نرجع الثبوتية إلى السلبية لكان ذلك مستلزما للقول بتكثّر الذات وعدم وحدتها ، باعتبار وجود صفات متغايرة كالعلم والقدرة الخ ، فتتغيّر الذات بتغيّر الأوصاف فتحصل الكثرة ، فدفعا لهذا المحذور أرجعوا الصفات الثبوتية إلى السلبية ليطمئن إلى القول بوحدة الذات

__________________

(١) الأسفار : ج ٦ ص ١٣٩ ـ ١٤٤.

(٢) التوحيد : ص ١٢٩ ج ١ باب ١١.

١٨٧

وعدم تكثرها ، فيكون أصحاب هذه النظرية قد ألغوا الصفات الثبوتية من الأصل مع الحفاظ على السلبيّة.

لكن ينقض على النظّام :

أولا : إنّ إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية يعني جعل السلب الذي هو نوع عدم ، مكان الإيجاب الذي هو نوع كمال ، فحينما تقول : «الله ليس بجاهل» معنى ذلك إنك ذكرت الصفة السلبة التي هي ضمن الثبوتية وهي «الله عالم».

ثانيا : إن إرجاع الثبوتية إلى السلبية يعني تقديم العدم على الوجود لأنّ الثبوتية صفة وجودية ، والسلبية صفة عدمية ، وحيث إن الوجود أشرف من العدم ، والأشرف مقدم على غيره ، يفرض تقديم الثبوت على السلب وهاهنا العكس فيلزم النقص وتقديم الأخس على الأشرف وهو قبيح.

ثالثا : إنّ الفرار من تكثّر الذات لو قلنا بثبوت صفتين جرّه للوقوع بما هو أسوأ منه ، حيث جعل الذات التي هي الوجود ومحض الوجود ، والفاقدة لكل نقص ، جعلها عين العدم ومحض السلب وهذا عين القبح.

رابعا : إنّ ما فعله النظّام وجماعته مخالف لما ذكره القرآن الكريم حيث وصف الله تعالى نفسه بالصفتين الثبوتية والسلبية كما في قوله تعالى :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٣) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ ...)(الحشر / ٢٣ ـ ٢٤).

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (٢) اللهُ الصَّمَدُ (٣) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٤) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٥)) (التوحيد).

فقد ذكرت الصفتان ، فتقديم السلبية على الثبوتية ، بإلغاء الثانية وثبوت الأولى يعدّ ترجيحا بلا مرجّح وهو قبيح.

كما أن إرجاع الثبوتية إلى السلبية لا يخلو من تكلّف زائد يفرض العدول عنه عند وجود الصارف العقلي المحكم.

إذن : فما ذكر من حمل الصفات الثبوتية غير صحيح بل يفرض العكس وهو حمل السلبية على الثبوتية التي هي في الواقع ذات الباري فقولنا : «الله ليس بجاهل» يعني أنك سلبت عنه صفة النقص والعدم لأن الجهل نقص وعدم وهو

١٨٨

منزّه عنهما لأنه عزّ شأنه محض الخير والكمال ، فصفة السلب حينما ترجع إلى الصفات الثبوتية فرجوعها في الواقع إلى الذات المقدّسة «لأنّ سلب السلب هو إيجاب الكمال ، إذ لا سبيل للسلب المحض أن يتطرق ساحته عزوجل ، فالسلب لا بدّ أن يكون إضافيا ، ومرجع السلب الإضافي يعود إلى نفي النقائص ، وهي أمور وجودية مشوبة بحدود عدمية ، وسلب الحدود العدمية يرجع إلى إثبات الإطلاق الوجودي وهو عين الكمال» (١).

عود على بدء :

لنرجع إلى ما كنّا بصدده وهو إثبات الأمر الأول أي الصفات الثبوتية.

الغاية من معرفة الصفات :

الهدف من معرفتها هو التدليل على الذات المقدّسة ، لأنّ صفاته عين ذاته فهو عالم من حيث إنه حي ، وحي من حيث إنه عالم ، وقدير من حيث إنه حكيم وبالعكس ، وهكذا بقية الصفات فهي تنوب مناب الذاب في معرفتها لكن ليس كما يقول المعتزلة وإنما نيابتها عن الذات من حيث عدم إحاطة المخلوق للذات المقدّسة إذ أنّى للممكن أن يحيط بكنه الواجب عزوجل.

إذن فالعلم ذاته ولا معلوم ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلا يكون العلم والقدرة ذاتيين للمولى سبحانه مع تمايز مفهوميهما بحدود معيّنة ، والمفروض كون ذلك العلم والقدرة كلاهما حقيقة واحدة تعبّر عن حقيقة واحدة هي الذات الإلهية ، هذه الذات هي مصداق بسيط للمفاهيم المتعددة المنتزعة عقلا من ذاك البسيط ، فليس لتلك المفاهيم أو الأسماء مصاديق مستقلة كل واحدة عن الأخرى كما يقول الأشاعرة فوقعوا في محذور تعدد القدماء.

وقد أوضح القرآن تلك الحقيقة الواحدة البسيطة المنتزع منها مفاهيم متعددة مترابطة بقوله تعالى :

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها).

فالأسماء صفات تعكس عن الذات الواحدة وتعبّر عنها بأوجه متعددة ، ومع هذا فليس هناك ذات منفصلة عن الصفة كما هو المتعارف عند الممكنات ، حيث إن الاسم يختلف عن الصفة ، فالاسم غير المسمى لأننا بالوجدان نميّز بين الاسم

__________________

(١) بداية المعارف : ج ١ ص ٨٦.

١٨٩

والمسمى ، من هنا أورد الإمام الصادق عليه‌السلام على هشام بن الحكم حيث قال :

«يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد ، أفهمت يا هشام؟!

قال : زدني.

قال عليه‌السلام : لله تسعة وتسعون اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ولكنّ الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلها غيره ...» (١).

ففائدة الأسماء ترجع إلى معرفة الذات ، وإلّا لامتنع إدراكها لذا اختار لنفسه أسماء وصفات ليدعوه بها لكي يعرفوه حق المعرفة.

ـ ففائدة إثبات الصفات عموما ، والثبوتية خصوصا ، أن هذه المفاهيم كالعلم والحياة والقدرة ، هي كمالات للذات لا تنفك عنها أبدا ؛ لأنه سبحانه لا يتجمّل بغير ذاته ، وإنما يفعل ذلك المخلوق الذي تفاض عليه الكمالات من جهة أخرى ، فكمالات المخلوق غير لازمة له ، بل هي مجعولة بجعل مستقل ، بل جعلها تابع لجعل الذات وجودا وعدما ، فإذا كانت الذات مجعولة فلوازمها مجعولة بذلك الجعل ، وإن كانت غير مجعولة كانت لوازمها غير مجعولة ، لذا قيل إن صفاته تعالى واجبة الوجود بوجوب الذات ، «فصفاته لوازم ذاته ، ولوازم الذات لا تستدعي جعلا مستقلا» (٢).

وهذه الصفات مشتركة بين الخالق والمخلوق كالعالمية مثلا فحينما تقول : «زيد عالم» و «الله عالم» لا يمكننا أن نقصد نفس المعنى من اللفظ المشترك ، لأنّ العالمية عند زيد مختلفة تماما عن العالمية الموجودة عند الله تعالى ، فاللفظ المشترك واحد في كلا المثالين إلّا أنه مختلف في الجوهر من حيث الاستيعاب والشمولية ، فلا بدّ من مائز يميّز تلك المعاني المختلفة واقعا وجوهرا ، المتحدة ظاهرا وبحسب اللفظ ، فاستدعى ذلك الاختلاف إلى إيجاد تقسيم لتلك الصفات المشتركة ، فقسّمت إلى ذاتية وعرضية ، فهي بالنسبة لله عزوجل ذاتية يستحيل

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١١٤.

(٢) الأسفار : ج ٦ ص ١٢٨.

١٩٠

انفكاكها عنه ، أما بالقياس للإنسان فعرضية موهوبة من عند علّام الغيوب ، ومترشّحة من فيض جوده.

عدد الصفات :

حصرها المتكلمون بثمانية :

الحياة ، العلم ، القدرة ، الإرادة ، الإدراك ، الكلام ، الصدق ، السرمدية.

وبعضهم بدّل بعض الصفات ببعض ، فجعل «السميع» و «البصير» و «الغني» بدلا من الإدراك والكلام والصدق.

والتحقيق أن يقال : ان كل صفة تثبت الكمال لله تعالى فهي ثبوتية ولا داعي لحصرها بأقل أو أكثر من ثمانية ، فيمكننا الإجمال فنقتصر على ثلاث منها : الحياة ـ القدرة ـ العلم.

فتكون أمهات وأصول الصفات الثبوتية وبقية الصفات كالإرادة والإدراك والصدق من فروع العلم وتوابعه ، أما الكلام ففرع العلم أو القدرة ، والسرمدية فرع الحياة.

ويمكننا التفصيل بالثمانية أو أكثر.

ونحن نقتصر على أمهات الصفات الثبوتيّة هي :

ـ الحياة.

ـ العلم.

ـ القدرة.

ـ الأزلية.

* * *

١٩١

الصفة الثبوتية (١)

«الحياة»

تعريفها :

مما لا ريب فيه أن «الحياة» من أهم الصفات الثبوتية لله تعالى ، واسم «الحي» له مدخلية في إحياء المعدمات.

وقد تسأل : هل للحياة مفهوم حتى تعرّف به مع أنها من أوضح الواضحات؟

والجواب :

إن إطلاق «الحياة» عليه تعالى يختلف عما أطلق على غيره ، فالحياة مسبوقة دائما ـ عند المخلوقات ـ بالعدم ، يعني أن الشيء المحيا ، وجد بعد أن كان معدوما ، فالحياة مسبوقة دائما بالعدم ، وهي ضد الموت ، وهذا لا ينطبق بشيء منه على الخالق عزّ شأنه.

ولا أحد يخفى عليه هذا الأمر ، ولكن مع هذا اختلفت أنظار العلماء في تبيين حقيقتها وجوهرها إلى عدّة آراء :

الأول : الجذب والتماسك.

الثاني : النمور والإحساس.

الثالث : الفعل والإدراك.

فالجذب والتماسك هما حياة الجماد لقوة التماسك الموجودة فيه ، والنمو والإحساس هما حياة النبات والحيوان حيث لهما قوة الشعور والحس ؛ ومن اطّلع على عجائب خلقة النبات والحيوان وما لهما من عجيب التصرّف لآمن بأن كل شيء في عالم الوجود ينطبع على الحس والشعور (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

١٩٢

وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فتسبيح الكائنات لا بدّ أن يكون عن شعور وإدراك كلّ بحسبه.

فكمال الجماد بقوة تماسكه وجذبه ، وكمال النبات والحيوان بقوة شعوره وإحساسه وكلما ترقى الكائن في التدرّج التكويني كلما قوى وجوده وحياته. وهكذا هناك وجود أقوى من وجود تلك الكائنات وهو وجود الإنسان حيث إنه يمتلك شعورا وإدراكا أعلى وأشرف من وجود وحياة الجماد والنبات والحيوان ، فهو يمتلك الإدراك العقليّ والعلميّ والروحيّ ، وهذا بدوره تطوير للحسّ والشعور الموجودين في الحياة الحيوانية وهكذا كلما ارتقينا ينكشف لدينا شعور وإدراك أكثر ، فمثلا الحياة في الموجودات المجردة عن شوائب المادة كالملائكة لها وجود أكمل وأرفع مما دونها ، ومجردة عن نواقص الحياة الموجودة في الكائنات المادية ، فالفعل فيها أعظم ، والإدراك فيها أرقى.

وهكذا فإنّ الحياة في واجب الوجود تعالى هي بنحو الفعل والإدراك التامّين المنزّهين عن كل نقص ، فحياته متصفة بالعلم والقدرة الكاملين المنزّهين عن أية أداة أو انطباع أو صورة.

إذن كونه تعالى حيّا يستلزم كونه عالما قادرا ؛ قال صدر المتألهين : [فالحياة تتم بإدراك وفعل ، والإدراك في حق أكثر الحيوانات لا يكون غير الإحساس ، وكذا الفعل لا يكون إلا التحريك المكاني المنبعث عن الشوق ، وهذان الأثران منبعثان عن قوتين مختلفتين ، أحدهما مدركة ، والأخرى محركة ، فمن كان إدراكه أشرف من الإحساس ـ كالتعقل ونحوه ـ وكان فعله أرفع من مباشرة التحريك ـ كالإبداع وشبهه ـ لكان أولى بإطلاق اسم الحياة عليه بحسب المعنى ، ثم إذا كان نفس ما هو مبدأ إدراكه بعينه نفس ما هو مبدأ فعله ـ من غير تغاير حتى يكون إدراكه بعينه فعله وإبداعه ـ لكان أيضا أحق بهذا الاسم لبراءته عن التركيب ، إذ التركيب مستلزم للإمكان والافتقار لاحتياج المركّب في قوام وجوده إلى غيره ، والإمكان ضرب من العدم ـ المقابل للوجود ـ ، والموت المقابل للحياة ، والدثور المقابل للبقاء ، فالحي الحقيقيّ ما لا يكون فيه تركيب قوى ، وقد صحّ أن واجب الوجود بسيط الحقيقة أحديّ الذات والصفة ، فردانيّ القوة والقدرة ، وأنّ نفس تعقّله للأشياء نفس صدورها عنه ، وأن معنى واحدا بسيطا منه عقل للكلّ ومنشأ

١٩٣

للكل فهو أحقّ وأليق باسم الحياة من جميع الأحياء ، كيف؟ وهو محيي الأشياء ومعطي الوجود وكمال الوجود ـ كالعلم والقدرة ـ لكلّ ذي وجود وعلم وقدرة] (١).

* * *

__________________

(١) لاحظ الأسفار : ج ٦ ص ٤١٣.

١٩٤

إثبات الحياة

يستدلّ على إثبات هذه الصفة مع أنها من أوضح الواضحات بدليلين : عقلي وآخر نقليّ.

أما العقلي :

أولا : قد ثبت بالبرهان كونه تعالى عالما قادرا كما دلّ على ذلك إتقان الصنع وعجائب المخلوقات وهو بدوره دليل على العالمية والقادرية ، ومن كان متّصفا بهما فهو حي بالضرورة لأنّ العلم والقدرة من لوازم الحياة فثبت المطلوب.

ثانيا : أنه سبحانه خلق الكائنات وأعطاها الشعور والإدراك وهما نوع كمال لها ، فمن المستحيل أن يعطي الكمال من كان فاقدا له للقاعدة المحكمة «فاقد الشيء لا يعطيه» فالحياة من كمالات الموجود بما هو موجود ، وكلّما هو كمال للموجود المطلق أو للموجود من حيث هو موجود من غير تخصّص بأمر طبيعي أو مقداري أو عددي فلا بدّ من ثبوته لمبدإ الوجود وفاعله ، إذ الفاعل المعطي للوجود وكماله أولى بذلك الكمال فثبت المطلوب.

أما النقلي :

فالكتاب العزيز والسنّة المطهّرة يزخران بإثبات الحياة لله عزوجل فمن الكتاب قوله تعالى:

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة / ٢٥٦).

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (طه / ١١٢).

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان / ٥٩).

(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (غافر / ٦٦).

١٩٥

ومن السنة :

فعن يونس بن عبد الرحمن قال :

قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : روينا أنّ الله علم لا جهل فيه ، حياة لا موت فيه ، نور لا ظلمة فيه.

قال : كذلك هو (١).

عن مولانا الإمام الكاظم عليه‌السلام قال :

إن الله ـ لا إله إلا هو ـ كان حيّا بلا كيف ولا أين ، ولا كان في شيء ولا كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكانا ، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ، ولا يشبهه شيء يكوّن ، ولا كان خلوا من القدرة على الملك قبل إنشائه ، ولا يكون خلوا من القدرة بعد ذهابه كان عزوجل إلها حيّا بلا حياة حادثة ، ملكا قبل أن ينشئ شيئا ومالكا بعد إنشائه وليس لله حدّ ...» (٢).

إلى غيرها من الأحاديث الواضحة والصريحة ، ولا حاجة لنا للاستدلال على حياته لأنّ الواضح لا يستدلّ عليه بل ينبّه لمعرفته.

* * *

__________________

(١) التوحيد : ص ١٣٨ ح ١٢.

(٢) نفس المصدر : ج ١٤١ ح ٦.

١٩٦

الصفة الثبوتية (٢)

«العلم»

تعريفه :

من جملة صفاته الثبوتية كونه تعالى عالما ، والعالم هو المتبيّن له الأشياء بحيث تكون حاضرة عنده غير غائبة عنه (١).

وقد عرّفه المنطقيون بكونه حضور صور الأشياء في الذهن أو انطباعها فيه ، أو أنه عبارة عن ظهور الأشياء وانكشافها للنفس ، فالإنسان الذي لم يكن عالما بمسألة معيّنة ثم ظهرت له ، يحصل له حالة لم تكن حاصلة من قبل وهي ظهور المسألة له وانكشافها لديه.

التعريف الثاني للعلم بكلا شقيه يعدّ ناقصا لعدم انطباقه على بعض أقسام العلم ، لانقسام العلم إلى حصولي وحضوري ، والتعريف المذكور يناسب الأول دون الثاني.

فالأوفق بالتعريف أن يقال :

إنه عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم ليشمل الحصولي والحضوري ، لأنّ الأول عبارة عن حضور الصور الذهنية دون الحقائق الواقعية خارجا ، والثاني هو حضور نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينهما وبين العالم ، ففي الحصولي يعتبر الذهن وسيطا بين الصورة والإنسان ، أما الحضوري فعلى العكس من ذلك ، حيث تكون ذات الإنسان حاضرة لديه ، فعلى هذا يكون التعريف الأخير شاملا للممكن والواجب. ولا يمكن انطباق التعريف المنطقي على الذات الإلهية المقدّسة وذلك لأمرين :

__________________

(١) باب حادي عشر : ص ٣٧.

١٩٧

الأول : أن هذا التعريف ينطبق على العلوم الحصولية الكسبيّة الحاصلة بنفس الحواس المادية ، ومما لا ريب في بطلانه بحق الخالق عزّ شأنه لاستلزامه الحاجة والنقص والله سبحانه منزّه عنهما.

الثاني : أنّ هذا التعريف يوازي الله سبحانه بمخلوقاته العالمة بعد الجهل ، حيث كما علمت سابقا هو عبارة عن حصول الصورة في الذهن بعد أن لم تكن موجودة ، فهو قبل حصول الصورة في الذهن كان جاهلا ثم أصبح عالما ، وهذا مما لا يمكن قياسه على الذات المقدّسة المبراة من كل عيب ونقص.

* * *

١٩٨

انقسامات علمه عزوجل

ينقسم علمه سبحانه ـ باعتبار متعلقه ـ إلى مراتب ثلاث :

الأولى : علمه سبحانه بذاته.

الثاني : علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها.

الثالث : علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها.

ومرادنا من العلم المبحوث عنه هنا هو المرتبة الثالثة المطابق لما ورد في التعريف الأول ، وقبل بيان دليله لا بدّ من الاستدلال على المرتبتين الأوليين.

المرتبة الأولى :

قد عرفت أنّ العلم الحصولي هو انطباع الصور في صفحة الذهن ، وهذا النوع من العلم لا ريب أن الباري عزوجل يتنزّه عنه ، فيتعين أن يكون علمه تعالى حضوريا بمعنى حضور ذاته لديه ويستدلّ عليه :

أولا :

أنه عزوجل مفيض الكمال على الممكنات لا سيما على الإنسان حيث أفاض عزّ شأنه عليه علما حضوريا بمعنى أن الإنسان عالم بذاته علما حضوريا وهو بنفسه كمال ، فمن أفاض الكمال على غيره كيف يكون فاقده؟! إذ لو كان فاقدا له كيف يعطيه لغيره وفاقد الشيء لا يعطيه ؛ ولو كان سبحانه فاقدا لهذا الكمال ـ فرضا ـ في حين أنه وهبه لغيره لكان الموهوب له أشرف من الواهب ، والمستفيد ـ أي الممكن ـ أكرم من المفيد وهذا خلف كونه تعالى واهب العطايا وسابغ المكرمات ، «كيف يسوغ عند ذي فطرة عقلية أن يكون واهب كمال ما ومفيضه قاصرا عن ذلك الكمال؟! فيكون المستفيد أكرم من المفيد ، وحيث ثبت إسناد جميع الممكنات إلى ذاته تعالى التي هي وجوب صرف وفعلية محضة ـ ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة والصور العلمية ، والمفيض لكل شيء

١٩٩

أوفى بكل كمال غير مكثر لئلا يقصر معطي الكمال عنه ـ فكان الواجب عالما ، وعلمه غير زائد عليه» (١).

وبعبارة أخرى : إن واهب العلم والقدرة والحياة لمطلق موجود تعدّ صفات كمالية لذاك الموجود بما هو موجود لا بدّ أن يكون متحليا بها ، لأنّ الصفة الكمالية إذا وجدت في المعلول يستدعي ذلك لزوم وجودها في العلة على وجه أشرف وأعلى وبطريق أولى.

ثانيا :

ثبت أن كل ذات مستقلة الوجود مجرّدة عمّا يلابسها فهي حاصلة لذاتها فتكون معقولة لذاتها ، وعقلها لذاتها هو وجود ذاتها لا غير ، وهذا الحصول أو الحضور لا يستدعي تغايرا بين الحاصل والمحصول له ، والحاضر والذي حضر عنده ، فكل ما هو أقوى وجودا وأشدّ تحصيلا وأرفع ذاتا من النقائص والقصورات فيكون أتم عقلا ومعقولا وأشدّ عاقلية لذاته ، فواجب الوجود لمّا كان مبدأ سلسلة الوجودات المترتبة في الشدّة والضعف والشرف والخسة من العقليات والحسّيات والمبدعات والمكونات فيكون في أعلى مراتب شدة الوجود وتجرّده ، ويكون غير متناه في كمال شدته ، فعلم الموجود الحق بذاته أتم العلوم وأشدها نورية وجلاء وظهورا بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم ما سواه بذواتها ، كما لا نسبة بين وجوده ووجودات الأشياء ، فكما أن علم الموجودات متحققة لديه كذا علمه تعالى بذاته متحقق لديه بالأولوية.

ثالثا :

إن علم الباري بذاته يعتبر مفهوما من المفاهيم التي يصح أن تعلم وكلما يصح أن يعلم يجب أن يكون معلوما له تعالى ، فذاته تعالى معلومة فثبت المطلوب.

المرتبة الثانية :

لا شك أن الباري عزوجل كان يعلم بالأشياء قبل أن يوجدها لأن الإيجاد فرع العلم ، وهذه المسألة مما اهتم بها الفلاسفة واستدلوا على بداهتها بما يلي :

__________________

(١) الأسفار : مج ٨ ص ١٧٦

٢٠٠