الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

أمّا الأول : فلأنه لو كان في الوجود واجبا وجود لتشاركا في مفهوم كون كل واحد منهما واجب الوجود ، فإما أن يتميّزا أو لا؟ والثاني يستلزم المطلوب وهو انتفاء الشركة ، والأول يستلزم التركيب وبطلانه من البديهيات وإلّا لكان كل واحد منهما ممكنا وقد فرضناه واجبا.

وأما الثاني : فلأنّ الوجود المحدود ملازم لتلبّسه بالعدم ، وكل متلبّس بالعدم احتاج إلى غيره في الوجود ، والخارج عن حدّه ينتهي إليه وينعدم بعده ، فكل شيء محدود لا نرى له أيّ أثر بعد حدّه بحيث يخلو منه الزمان والمكان ، وهذه ميزة كل موجود متناه زمانا أو مكانا ، والله سبحانه وتعالى لا يخلو منه زمان ومكان لأنه مطلق غير مقيّد بقيد ولا مشروط بشرط ، وعلى هذا لا يمكن اعتبار ذاته محدودة ، لأنّ لازم المحدودية الانعدام بعد الحدّ كما عرفت وما هو كذلك لا يكون مطلقا وهو خلاف الفرض.

* * *

١٦١

التوحيد العبادي

إنّ مفهوم التوحيد العبادي في مصطلح علم الكلام من أبرز المفاهيم العقائدية في الإسلام التي تميّز الفرد المسلم الموحّد عن المشرك الوثني ، لما يحمله هذا المفهوم من معاني الإخلاص في التوجه والعبادة للخالق العظيم ، لأنّ العبادة لا تليق لأحد سواه تعالى ، فهو عزوجل وحده الذي يستحق أن يعبد لا سواه مهما بلغ غيره من الكمال والجلال والشرف ؛ من هنا تضافرت جهود المرسلين وحجج الله على الخلق أجمعين في الدعوة إلى توحيده عزوجل في العبادة ، ورفض وكسر قيود الشرك والوثنية والاتجاه نحو الكمال المطلق والخير اللامحدود ، وقد عبّر القرآن معجزة نبي الرحمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا المفهوم الخالص بآيات منها قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء / ٢٦).

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل / ٣٧).

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران / ٦٥).

وحيث إنّ مفهوم التوحيد العبادي يحظى بأهمية كبرى في عقيدة الإسلام ينبغي تركيز الضوء عليه ضمن نقاط :

النقطة الأولى : في معنى العبادة :

عرّف اللغويون لفظة «عبادة» أنها الخضوع مع التذلّل للمعبود له لاعتقاد العابد كون المعبود خالقه ومربيه ومالك أمره في دينه ودنياه وآخرته.

١٦٢

قال الراغب الأصفهاني :

«العبودية إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلّل ولا يستحقها إلّا من له غاية الافضال وهو الله تعالى ، ولهذا قال : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١) (يونس / ٤١).

وقال ابن منظور :

«العبادة» الطاعة مع الخضوع ، ومنه : «طريق معبّد» إذا كان مذللا بكثرة الوطء» (٢).

وأهل اللغة وإن فسّروا هذه اللفظة بالطاعة والخضوع والتذلّل لكنه لا يعني أن من أطاع أو خضع أو تذلّل لغيره أصبح عابدا له ، لأنّ الطاعة وما شابهها ليست مطلقا قرينة على العبادة لأنّ خضوع الولد أمام والده ، والتلميذ أمام أستاذه لا يعدّ عبادة مهما بالغوا في الخضوع والتذلّل ما داموا لا يعتقدون بكونهم أربابا من دون الله تعالى ، وقد أشار القرآن إلى أن مسألة الخضوع والتذلل ليست مطلقا عبادة كما حصل لآدم عليه‌السلام بخضوع وسجود الملائكة له بقوله تعالى :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (البقرة / ٣٥).

فالآية المباركة واضحة الدلالة في سجود الملائكة لآدم عليه‌السلام ، بأمر منه تعالى ولم يحسب سجودهم شركا وعبادة لغير الله تعالى ، ولم تصر الملائكة بذلك مشركين بسجودهم لآدم عليه‌السلام ، الذي اعتبروه قبلة لهم وتعظيما وتكريما له عليه‌السلام ، لا عابدين له من دون الله تعالى.

وكذا ما ورد في قصة النبي يوسف عليه‌السلام مع أخوته عند ما دخلوا عليه بعد فراق طويل قال الله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (يوسف / ١٠١).

(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (يوسف / ٥).

__________________

(١) مفردات الراغب : ص ٣١٩.

(٢) لسان العرب : ج ٣ ص ٢٧٢.

١٦٣

من خلال ما قدّمنا تعرف أنّ السجود للغير بما هو هو مع قطع النظر عن الدوافع لا يعدّ عبادة لغيره تعالى.

ومن هنا نستنتج أن مفهوم العبادة متقوّم بأمرين :

الأول : الخضوع والتذلّل.

الثاني : الاعتقاد بكون المعبود خالقا ومربيا له.

فلو تحقق الأول دون الآخر فلا يصدق عليه لغة وعرفا أنه عبادة ومن هذا المنطلق ما يفعله الأطهار من الشيعة حينما يسجدون مقبّلين عتبات ضرائح الأئمة عليهم‌السلام ؛ فسجودهم تخضّعا وتذلّلا لا اعتقادا بكونهم أربابا من دون الله تعالى.

النقطة الثانية : عبادة المشركين :

إن المتصفح لعقائد المشركين في العصر الجاهلي يرى بوضوح عدة مشارب لعبادتهم لغير الله تعالى ، فكانوا ينقسمون إلى أصناف متعددة هي :

الصنف الأول :

منكرون للخالق العظيم والبعث ، وهؤلاء كانوا يعتقدون بأصالة المادة ، وأن المحيي هو الطبائع ، والمفني هو الدهر ، وقد أخبر عنهم الباري عزوجل في كتابه قال :

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية / ٢٥).

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس / ٧٩).

فهذا الصنف منكر لبعث الأجسام مستبعدين ذلك على القدرة الإلهية المطلقة فردّ عليهم سبحانه بقوله تعالى :

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) وبقوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (ق / ١٦).

هذا الصنف خارج عن محل البحث ، لأنّ موضوع هذه النقطة إنما هو عبادة المشركين الذين يعترفون بوجود إله لهذا الكون.

الصنف الثاني :

جماعة مقرّون بوجود خالق للكون ، لكنهم منكرون للرسل مع عبادتهم

١٦٤

للأصنام متخذيها شفعاء لهم عنده تعالى ، حيث كانوا يقدّمون لها القرابين والهدايا ويتقرّبون إليها بالمناسك والمشاعر ، وهؤلاء هم الدهماء من العرب (١).

الصنف الثالث :

عبدة أصنام الكواكب وهؤلاء كانوا يعبدون صور الكواكب أي أنهم جعلوا أصناما على صور الكواكب التي لها أفول وطلوع بالليل والنهار ، فتغيب عنهم خلال ذلك فصنعوا أصناما مشابهة لها في الصورة بحيث لا تغيب عنهم كما تغيب تلك الكواكب ، فعكفوا عليها عابدين وطلبوا الحوائج (٢) منها ، وهذا بدوره دليل على إثبات الألوهية لها كما حكى سبحانه عنهم بقوله تعالى :

(ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (الزمر / ٤).

الصنف الرابع :

عبدة صور الأشخاص ، وهؤلاء كانوا يعبدون أصناما مشابهة لصور بعض الأولياء عندهم كانوا قد جعلوهم وسائل إليه تعالى كودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرا واللّات والعزّى ومناة وهبل وأساف ونائلة ، فكان ود لكلب وهو بدومة الجندل ، وسواع لهذيل وكانوا يحجون إليه وينحرون له ، ويغوث لمذحج ، ولقبائل من اليمن ، ويعوق لهمدان ، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير ، وكانت اللّات لثقيف بالطائف ، والعزّى لقريش وجميع بني كنانة وقوم من بني سليم ، ومناة للأوس والخزرج وغسّان ، وهبل أعظم الأصنام انتشارا عندهم ، كان على ظهر الكعبة ، وأساف ونائلة على الصفا والمروة ، وضعهما عمرو بن لحى وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة ، وزعموا أنهم كانا من جرهم ، أساف بن عمرو ونائلة بنت سهل تعاشقا ففجرا في الكعبة فمسخا حجرين ، وقيل أنهما صنمان جاء بهما عمرو بن لحي فوضعهما على الصفا (٣) ، فكان اعتقادهم بها باعتبار كونها وسائط وشفعاء إلى الروحانيات(٤).

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ج ٢ ص ٢٣٦.

(٢) نفس المصدر : ج ٢ ص ٢٥٩.

(٣) الملل والنحل للشهرستاني : ج ٢ ص ٢٣٧.

(٤) نفس المصدر : ج ٢ ص ٥٠.

١٦٥

الصنف الخامس :

عبدة الملائكة والجن ، وكانوا يعتقدون بهنّ وأنهنّ بنات الله تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. ومن هؤلاء العبدة وثنيو البرهمية والبوذية والصابئة حيث قصّ القرآن حكايتهم بقوله تعالى :

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (النحل / ٥٨).

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (الزخرف / ٢٠).

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (الصافات / ١٥٩).

ولعلّ تسميتهم لهنّ بالبنات لاستتارها عن العيون كالمخدرات من النساء يستترن عن الرجال كاستتار قرص الشمس بنورها الباهر وضوئها اللامع عن العيون.

وقيل إن الوجه في التسمية هو كون الملائكة مستترة عن العيون مع كونها في محل لا يصل إليه الأغيار فهي كالبنات التي يغار عليهنّ الرجل فيسكنهنّ في محل أمين.

هذان الوجهان لا يتعديان طور الاستحسان كما قال الطباطبائي عليه الرحمة. والإمعان في أصول آرائهم يعطي أنهم كانوا يتخذون الملائكة الذين ينتهي إليهم وجود الخير في العالم ، والجن الذين يرجع إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا ورهبا ، وهذه المبادي العالية والقوى الكلية التي هم يحملونها ، وبعبارة أخرى هم مظاهر لها تنقسم إلى فاعلة ومنفعلة وهم يعتبرون اجتماع الفاعل والمنفعل منها نكاحا وازدواجا ، والفاعل منها أبا والمنفعل منها أما ، والمتحصل من اجتماعهما ولدا ، وينقسم الأولاد إلى بنين وبنات ، فمن الآلهة ما هن أمهات وبنات ومنها ما هم آباء وبنون (١).

الصنف السادس :

عبدة النبي عيسى عليه‌السلام ، وكان الماضون منهم يعتقدون بالأقانيم الثلاثة : الأب ـ الابن ـ روح القدس ، وما زال الحاضرون كذلك.

وهم على ثلاثة فرق :

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٢ ص ٢٧٥.

١٦٦

الملكانية ـ اليعقوبية ـ النسطورية (١).

وقد أخبر عن كفرهم القرآن بقوله تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة / ٧٤).

فقد أطلقوا لفظ الأبوة والبنوة على الله عزوجل وعلى المسيح لما وجدوا في الإنجيل ما فيه تصريح بذلك.

وقد حمل الشهرستاني في الملل والنحل ، لفظي الابن والأب الواردين في الإنجيل على المجاز اللغوي قال :

ولعلّ ذلك من مجاز اللغة ، كما يقال لطلّاب الدنيا أبناء الدنيا ولطلّاب الآخرة أبناء الآخرة ، وقد قال المسيح عليه‌السلام للحواريين : (أنا أقول لكم ، أحبّوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم ، وأحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلّوا لأجل من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء ...)» (٢).

لكن يردّ عليه :

صحيح أن هذا يحمل على المجاز للقرينية المعيّنة لذلك ، لكنّ هناك نصوصا إنجيلية لا يمكن حملها على المجاز لصراحتها في تجسيد الإله في عيسى عليه‌السلام ، إضافة إلى صريح آيات الكتاب العزيز بكون النصارى ممن كفر بالله لاعتقادهم بأن عيسى عليه‌السلام ابن الله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا قال تعالى :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (المائدة / ٧٣).

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (المائدة / ٧٤).

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى

__________________

(١) الملل والنحل : ج ١ ص ٢٢١.

(٢) الملل والنحل : ج ١ ص ٢٢٢.

١٦٧

يُؤْفَكُونَ) (المائدة / ٧٦).

فمفاد الآيات : استنكاره تعالى على النصارى المعتقدين بأن المسيح إله أو تجسّد فيه الإله ، فعيسى عليه‌السلام كبقية الرّسل الذين توفّاهم الله تعالى ممن سبقوه بالدعوة كانوا بشرا مرسلين من غير أن يكونوا أربابا من دون الله سبحانه ، وكذلك أمّه مريم كانت صديقة تصدّق بآيات الله وهي بشر ، وقد كان عيسى وأمّه يأكلان الطعام ، وأكل الطعام مع ما يتعقّبه مبني على أساس الحاجة التي هي أول أمارة من أمارات الإمكان والمصنوعية ، فقد كان عيسى عليه‌السلام ممكنا متولّدا من ممكن ، وعبدا ورسولا مخلوقا من أمّه ، كانا يعبدان الله ، وهما ممكنان يفتقران دائما إليه تعالى.

إذن فإجماع النصارى قائم على تأليه عيسى عليه‌السلام اعتقادا منهم أن الله تعالى تجسّد فيه ، فكانوا يعبدونه ليوصلهم إليه تعالى أو يعبدون الإله المتجسّد بعيسى عليه‌السلام.

وقد شجب القرآن المجيد عبدة الأصنام بشتّى أصنافها لاتخاذهم إياها معبودا دونه تعالى ، أو بعبارة اعتبارهم الهة صغارا توصلهم إلى الإله الأكبر ، فكانوا ينسبون إليه النفع والضّر ، والرضا والسخط ، والسعة والجدب ، والخير والشرّ وما أشبه ذلك ، فكانت هذه الآلهة بنظرهم مفوضا إليها جوانب من تدبير الكون وشئون الدنيا والآخرة.

من الآيات الشاجبة لهم قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) (الرعد / ١٥).

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) (الأعراف / ١٩٨).

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) (يونس / ١٠٧).

فالشجب الإلهي منصبّ على من اتخذها آلهة صغارا تدير الكون بزعمهم وتامة الاختيار مفوّض إليها الأمر في حين أنها لا تملك من أمرها شيئا ولا تدفع عن نفسها ضرّا.

قد يتساءل المرء عن الدوافع التي أدّت لشركهم.

والجواب : أن الدوافع كثيرة أهمها :

الدافع الأول : الاعتقاد بتعدد الخالق.

١٦٨

وترجع فكرة تعدد الخالق في الجزيرة العربية نتيجة التأثّر بالأفكار البوذية والنصرانية والزردشتية والبرهمانية ، واليهودية ، فبحكم المخالطة والمعاشرة مع هذه الأقوام ووجود قابليات خصبة لدى المشركين ، كلّ ذلك ساعد على ابتداع عبادة الأصنام التي صنعوها بأيديهم.

وقد انتشر في الجزيرة العربية آنذاك ثلاث ديانات تدعو إلى عبادة المخلوق هي :

١ ـ البوذية : وكانوا يعبدون ثلاثة آلهة :

(براهما) : أي الإله الموجد.

(فيشنو) : أي الإله الحافظ.

(سيفا) : أي الإله المغني.

٢ ـ الزردشتية الفارسية : وعندهم إلهان.

(يزدان) : إله الخير.

(أهرمن) : إله الشر.

٣ ـ النصرانية : وعندهم إله هو عيسى عليه‌السلام الذي تجسّد فيه الله بحسب زعمهم ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا أو تجلّى بثلاثة أقانيم : الأب ـ الابن ـ روح القدس.

وعلى كل حال فإنّ الاعتقاد بتعدد الآلهة كان حصيلة تسرّب تلك الأفكار إلى أذهان العرب ، وطبيعي أن يتأثروا ما داموا قد تركوا ملّة إبراهيم ، مع الأخذ بنظر الاعتبار العامل البيئي والاقتصادي الذي كان يعاني منه المجتمع الجاهلي يوم ذاك.

الدافع الثاني : الاعتقاد بأنّ الإله لا يستجيب إلّا للمقدّسين.

أما العاصون والمنهمكون في الملذات المحرّمة فلا يستجيب لهم بل عليهم أن يتخذوا وسائط بينهم وبين خالقهم بتقديم القرابين والنذر للآلهة الشافعة التي إذا غفرت غفر الله لهم بزعمهم.

وقد أبطل القرآن المعجز هذه الاعتقادات الباطلة ، بالقول بأنه كيف تكون هذه الآلهة وسيطة لنيل الغفران وهي صمّاء لا تدفع عن نفسها شيئا ، حتى ولو كان لها شعور كالملائكة ، فإنه ليس بمقدورها أن تغفر للآخرين أو تمنحهم الأمن والأمان دون الإذن الإلهي بذلك ، مع أنه عزوجل لا يأذن لهكذا أحجار صنعوها أن تمنحهم ما يريدون ويبتغون.

١٦٩

الدافع الثالث : استحالة رؤية الخالق العظيم.

حيث كان المشركون يعبدون تلك الأصنام تصورا منهم أنّ الإله لا يمكن رؤيته ـ وهو تصوّر صحيح عند أرباب العقول السليمة ـ فابتدعوا له صورا وأشكالا وهميّة ، ونحتوا على غرارها تماثيل وأصناما يعبدونها إرضاء لتوهماتهم وخيالاتهم الفاسدة ، فلوّثوا حكم العقل السليم بأوساخ الغفلة والشيطنة ، فانحرفوا عن الجادة الوسطى لا يلوون على شيء.

الدافع الرابع : التفويض إلى الأصنام.

كانوا يعبدونها باعتبار أنها محل الفيض والتقدير والتدبير والقدرة ؛ وقد أنكر عليهم الباري سبحانه هذه الفكرة بقوله تعالى :

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (الأعراف / ٥٥).

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (يونس / ٣٢).

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (يونس / ٤).

هذه الآيات تربط مصير الكون بيده تعالى ، ولكن لا يعني هذا أن تلك الأمور لا يمكن أن يعطيها أو يهبها لبعض عباده الصالحين ، فلا توجد استحالة عقلية في ذلك ، بل العكس حيث يؤيد دليل العقل بالنقل كما ثبت أنه سبحانه فوّض لبعض ملائكته الكرام أمر تدبير الرزق والكون لهم ، فمنهم المقسّمون للأمر والجارون لليسر الحاملون للوقر ، الذارون للرياح (١) ، فقدرتهم في طول قدرة الله تعالى فهم وسطاء في إيصال الخيرات إلى العباد ، فهذه المنحة والهبة أعطاها لبعض عباده تماما كمسألة الخالقية والمدبرية هي من مختصات المولى أصالة لكنه أباحها لبعض الكاملين كما ورد في شأن إبراهيم عليه‌السلام عند ما أحيى الطير ، وعيسى عليه‌السلام عند ما خلق من الطين كهيئة الطير ، كل ذلك بإذن الله تعالى ، وكذا نبيّنا وأئمتنا (٢) عند ما أحيوا بعض العباد بإذن الله تعالى ، وكحق الشفاعة المختص به تعالى كما في قوله :

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر / ٤٥).

__________________

(١) لاحظ سورة الذاريات والنازعات.

(٢) لاحظ مدينة المعاجز للبحراني. وإثبات الهداة للعاملي.

١٧٠

لكنه منحه إلى بعض الكاملين كما في قوله تعالى :

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء / ٢٩).

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة / ٢٥٦).

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (طه / ١١٠).

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (مريم / ٨٨).

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (سبأ / ٢٤).

خلاصة الأمر :

بملاحظة الآيات التي تعرّضت لموضوع الشرك يتبيّن بوضوح أن عبادتهم كانت مصحوبة مع الاعتقاد بألوهية الأصنام أو بعض الأشخاص ، ولأجل ذلك كانوا يقدّمون لها القرابين والنذور ، كما أنهم كانوا يستكبرون (١) عن الطاعة والتوجّه إلى عقيدة التوحيد للأسباب التي ذكرنا.

النقطة الثالثة : زيارة القبور وماهية الشرك:

قد عرفت معنى العبادة أنها خضوع العبد للمعبود له بحيث يعتقد كونه خالقا ومربّيا له ، فكل خضوع يخلو من قيد الاعتقاد بالخالقية لا يعتبر عبادة ، فليس كل من خضع لغيره أو تذلّل له يعدّ عابدا له ما دام الخاضع أو المتذلل غير معتقد بأن المخضوع له والمتذلّل له غير خالق من دون الله تعالى ، وإلّا فلو عدّ ذلك عبادة لحرم كل خضوع حتى الخضوع للوالدين ومربّي النعم وأهل الفضل والحجى ، وهو خلاف ما قامت عليه السيرة العقلائية من الخضوع إلى صلحائها وأهل الفضل عليها.

وما تصوّره ابن تيمية رأس الشيطنة وأتباعه من الوهابيين من أن الشيعة الإمامية «أيّدهم الباري عزوجل» يعبدون الأئمة والأنبياء عليهم‌السلام حيث يخضعون لهم بالتوسّل والتضرّع والطلب ، هذا افتراء عليهم ، هم منه براء وذلك لأنّ خضوع الشيعة بالتوسل والتضرّع لهمعليهم‌السلام من باب أنهم عليهم‌السلام وسائل النعم الإلهية التي أمر سبحانه بالتمسّك بها تماما كما أمر بالتمسّك بالصدقة لدفع البلاء ، فالشيعة كغيرهم من بقية المسلمين الذين يتوسلون بضرائح قبور الصالحين طلبا

__________________

(١) لاحظ سورة غافر / ١٢ والصافات / ٣٥.

١٧١

للقرب من الله تعالى ، لأنها مهبط نزول الملائكة والرحمة الإلهية كما أن هذه المسألة مما قامت عليه سيرة العقلاء في كل عصر ومصر ، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟!

إضافة إلى أن مفهوم العبادة متقدم باعتقاد الخالقية من دون الله تعالى وما يفعله المسلمون الشيعة وغيرهم من التضرّع والتوسّل خال من هذا القيد ، فتضرّعهم بالأئمة والأنبياء عليهم‌السلام تماما كعيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان ومواساة الفقراء ، بل أن التوسّل بهم عليهم‌السلام فوق هذه الأمور وأجلّها وأعظمها لما فيه من نيل الرضوان الأكبر والمغفرة وعلوّ الدرجات ، فليس كل من زار مريضا أو شيّع جنازة أو تصدّق على فقير يعتبر فاعله عابدا لغيره تعالى أو مشركا في عبادته.

وما استدلّ به الوهابيون أتباع ابن تيمية وابن الجوزي على حرمة التوسّل والاستشفاع بالأولياء منقوض جملة وتفصيلا كما سوف يأتي في الباب الثالث من الفصل الرابع بعونه تعالى.

* * *

١٧٢

الباب الثّالث

عقيدتنا في صفاته تعالى

قال المصنّف (قدس‌سره) :

ونعتقد أنّ صفاته تعالى الثبوتية : الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات (الجمال والكمال) كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة ، هي كلها عين ذاته ، وليست صفاته زائدة عليها. وليس وجودها إلّا وجود الذات ، فقدرته من حيث الوجود حياته ، وحياته قدرته ، بل هو قادر من حيث هو حيّ ، وحيّ من حيث هو قادر ، لا اثنينيّة في صفاته ووجودها ، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية.

نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها (١) ، لا في حقائقها ووجوداتها ، لأنّه لو كانت مختلفة في الوجود ـ وهي بحسب الفرض قديمة (٢) وواجبة كالذات. للزم تعدد واجب الوجود ولانثلمت (٣) الوحدة الحقيقية ، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد.

وأمّا الصفات الثبوتية الإضافية ، كالخالقية والرازقية والتقدم والعليّة ، فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية وهي القيّومية لمخلوقاته ، وهي (٤) صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات.

__________________

(١) فمفهوم الحكيم يختلف عن مفهوم الخالقية يدلّان على الذات الإلهية البسيطة.

(٢) فلو كانت قديمة بقدم الذات الإلهية لزم تعدد واجب الوجود.

(٣) «الانثلام» بمعنى الانفصام والانفصال.

(٤) كل الصفات الإضافية ترجع إلى صفة القيوميّة لأن كل شيء قائم به وإليه ولأن الصفات ـ

١٧٣

وأما الصفات السلبية التي تسمى بصفات (الجلال) فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد هو سلب الإمكان (١) عنه ، فإن سلب الإمكان لازمه ، بل معناه سلب السمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك ، بل سلب كل نقص.

ثم إنّ مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود ، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية ، فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الأمر إلى الصفات الكمالية (الثبوتية) ، والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدّسة ولا تركيب في حقيقة الواحد الصمد.

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبيّة ، لما عزّ عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته ، فتخيّل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها ، فوقع بما هو أسوأ ، إذ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود ، والفاقدة لكل نقص وجهة إمكان ، جعلها عين العدم ومحض السلب ، أعاذنا الله من شطحات الأوهام وزلّات الأقلام.

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أن صفاته الثبوتية زائدة على ذاته ، فقال : بتعدد القدماء ووجود الشركاء لواجب الوجود ، أو قال بتركيبه تعالى على ذلك ... قال مولانا أمير المؤمنين وسيد الموحّدين عليه‌السلام : (وكمال الإخلاص له نفي الصفات (٢) عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصفه سبحانه فقد قرنه (٣) ، ومن قرنه فقد ثنّاه (٤) ، ومن ثنّاه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله.

* * *

__________________

ـ الإضافية متقوّمة بطرفين : الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق فلهذه الصفات معان اعتبارية لا حقائق عينيّة ، إذ ليس في الخارج إلّا وجود الواجب والكل متعلق وقائم به تعالى.

(١) «الإمكان» : الحدوث.

(٢) المراد من «نفي الصفات عنه» أي ليست صفته مغايرة لذاته تعالى بل هي عين الذات.

(٣) أي من وصف ذاته بأنها غير الصفة فقد قرن ذاته بشيء غيرها.

(٤) أي جعله اثنين : صفة وذات وكلاهما متغايران.

١٧٤

أقول : تعرّض المصنّف في المتن إلى أمور ثلاثة :

الأول : الصفات الثبوتية.

الثاني : الصفات الثبوتية الإضافية.

الثالث : الصفات السلبية.

ويعبّر عن الأولى بالصفات الذاتية ، والثانية بالصفات الفعلية ، والثالثة ترجع إلى الأول لتفرّعها عليها ، ويعبّر عن الثبوتية بصفات الكمال ، والسلبيّة بصفات الجلال ؛ وما ادّعي (١) من أنّه ليس لنا من صفاته إلّا السلوب والإضافات غير صحيح كما سوف يأتي.

والمراد من الصفة الذاتية ، أنها حالة تبيّن أحوال الموصوف ، والذات اسم منطبق على الموصوف.

الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية :

إن الذاتية تعدّ أحوالا ومفاهيم منتزعة من الذات تحكي عنها ، فهي بالنسبة إلى الذات كنسبة الظل إلى ذي الظل ، ويكفي من انتزاع الذاتية ملاحظة الذات فقط لاستجماعها جميع أنواع الكمال.

أما صفات الفعل فهي متأخرة عن الذات ومنفكة عنها ، فهي قابلة للوجدان والتجدد بعد العدم ، فيتوقف انتزاعها على ملاحظة الغير ، إذ لا موجود لغيره تعالى إلّا فعله ، فالصفات الفعلية هي المنتزعة من مقام الفعل كالخالقية والرازقية ، مع ملاحظة الغير ، لأنّ الذات لوحدها من دون ملاحظة شيء آخر ليست كافية لانتزاع الخلق والرزق ، فالله سبحانه يعتبر خالقا ورازقا قبل إيجاد المخلوق والمرزوق إلّا أنه بالقوة (٢) لا بالفعل ، وكلامنا منصب على الصفات الفعلية المتلبّسة بالخارج. فالذات إذا لوحظت مع الفعل ووصفت بأوصاف تسمى تلك الأوصاف صفات فعل.

وهناك وجه آخر للتفرقة بين صفة الذات والفعل اختارهما الشيخان الكليني

__________________

(١) صاحب الدعوى : السيوري في باب حادي عشر : ص ٤٦ ط دار الأضواء.

(٢) نقصد «بالقوة» : عدم الاظهار ما دام الطرف الآخر في طي العدم ، فإذا أراد الله إخراجه إلى الوجود ترشح من فيضه سبحانه صفة الخالقية والمثيبية وغيرها من صفات الفعل ، فأظهر بخالقيته ومثوبيته للمخلوق قدرته على الخلق أو الإثابة ، ولا نقصد ب «القوة» معناها المصطلح عليه وهو «الاستعداد» الذي يعتبر نقصا فعليا في الممكنات ، ومما يتنزه عنه الحكيم سبحانه ، فتأمل.

١٧٥

والمفيد مفاده :

أن كل ما يجري على الذات بنسق واحد فهو صفة ذات كالعليم والقدير والحي فهذه صفات مجراها واحد فلا يصح أن يقال إنه لا يعلم ولا يقدر وغير حيّ.

وأما ما يجري عليه سبحانه على نسقين أو وجهين أي بالإيجاب تارة وبالسلب أخرى فهو صفة فعل ، فيصح أن يقال : يخلق ولا يخلق ، يرزق ولا يرزق ، يرحم ولا يرحم (١).

وللثبوتية الذاتية والفعلية تقسيم آخر عبّر عنه بالنفسي والإضافي ، فالنفسية هي الذاتية ويراد منها كل صفة لا إضافة في معناها إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة والعلم الخ ...

وما له نسبة تحقق إلى الخارج فهو إضافي أي باعتبار إضافته إلى غيره في مقام الفعل.

وهناك تقسيم آخر لصدر المتألهين أخذ به المصنف (قدس‌سره) مفاده :

«الصفة إما إيجابية ثبوتية وإما سلبية تقديسية وقد عبّر الكتاب عن هاتين بقوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن / ٧٩) فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهته الغير ، وصفة الإكرام ما تكرّمت ذاته بها وتجمّلت ، والأولى سلوب عن النقائص والإعدام ، وجميعها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الإمكان عنه تعالى ، والثانية تنقسم إلى حقيقية كالعلم والحياة وإضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعليّة ، وجميع الحقيقيات ترجع إلى وجوب الوجود أعني الوجود المتأكد ، وجميع الإضافيات ترجع إلى إضافة واحدة هي إضافة القيومية ، هكذا حقق المقام وإلّا فيؤدي إلى انثلام الوحدة وتطرق الكثرة إلى ذاته الأحدية تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا» (٢).

وقال المحقق اللاهيجي :

[فكما أن ذاته تعالى علم باعتبار ، وقدرة باعتبار ، وإرادة باعتبار ، كذلك تكون مبدئيته للأشياء خالقية باعتبار ورازقية باعتبار ورحيمية باعتبار ، ورحمانية باعتبار إلى غير ذلك من سائر الإضافات ولا اختلاف إلّا بحسب الاعتبار ، فجميع

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١١١ وتصحيح الاعتقاد : ١٨٥.

(٢) الحكمة المتعالية : ج ٦ ص ١١٩.

١٧٦

الإضافات والاعتبارات ينتهي إلى المبدئية المذكورة ، وهذه المبدئية واحدة بحسب الأوقات والأزمان وتجددها لا يوجب اختلاف تلك المبدئية وتجددها ، لأن نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه تعالى ليست إلّا نسبة واحدة :

جمالك في كلّ الحقائق سائر

وليس له إلا جلالك ساتر

تجليت للأكوان خلف ستورها

فنمّت بما ضمت عليه الستائر

وأما وجه الفرق بين الثبوتية والسلبية فقد تقدم في البحوث السابقة.

وقبل أن نثبت الأمور الثلاث لا بدّ من توضيح نقطتين :

الأولى : هل يمكن قبول الذات الإلهية المقدّسة للنعوت والصفات.

الثانية : هل الصفات الذاتية عين السلبية؟

أما بيان النقطة الأولى :

فقد ذهب جمع من المتكلمين إلى أنّ الذات الإلهية لا يمكن اتّصافها بشيء من النعوت والصفات لكونه بسيطا محضا وأحديّ الذات من دون دخل لأية صفة في ذاته ، لأنّ الاتّصاف بالصفات المختلفة يوجب التكثر في الذات وهو خلف كونه بسيطا ، وحملوا هذه الصفات التي دلّ عليها القرآن على المجاز والاستعارة بدعوى أن اتّصال ذاته تعالى بالعلم والحياة والقدرة ونحوها كما في آيات الكتاب العزيز من باب أن فعله تعالى يشبه فعل الذات.

وهناك رأي مخالف له ، مفاده :

أن ذاته تعالى متّصفة ببعض الصفات والنعوت ، وكل صفة مغايرة للصفة الأخرى ، فصفاته عزوجل عندهم زائدة على ذاته ، وحيث إن الموصوف بها قديم فتكون هذه الصفات كالموصوف واجبات وقدماء ، فمن هنا نشأت فكرة القدماء الثمانية في الذات والصفات.

فمنشأ الخلاف ومورده يعود إلى مسألة : هل أن صفاته تعالى عين ذاته أو لا؟

ذهب المعتزلة إلى نفي الصفات خوفا من مغبة الوقوع في نسبة الشرك في الوحدانية. وذهب الأشاعرة إلى القول بزيادة الصفات رغبة منهم في توصيفه بالصفات الكمالية وإليك التفصيل :

١٧٧

رأي المعتزلة : نيابة الذات عن الصفات :

قالوا : حتى نحافظ على الذات الإلهية من مغبة الكثرة الصفتية وتنزيهها عن التركيب من الذات والصفة ، لا بدّ لنا من إنكار واقعية هذه الصفات ، فليس في الدار غيره ديّار ، لأنه لو قلنا بواقعية الصفات لدار الأمر بين محذورين :

الأول : لو كان هناك صفة له سبحانه كالعلم مثلا فإنّ ذلك يعني أنّ هناك صفة وذاتا ، لأنّ واقعية الصفة هي مغايرتها للموصوف ولا يمكن أن يكون هنا صفة ولا تكون غير الموصوف ، فبناء عليه يلزم منه التركيب فيه عزوجل من ذات وصفة وهو محال.

الثاني : إن نفي العلم والقدرة وسائر الصفات الكمالية عنه سبحانه يستلزم النقص في ذاته أولا ، ويكذّبه اتقان آثاره وأفعاله ثانيا.

هذا ما اشتهر عن المعتزلة ، وقد صرّح بذلك منهم عبّاد بن سليمان بقوله :

«هو عالم ، قادر ، حيّ ، ولا أثبت له علما ، ولا قدرة ولا حياة ، ولا أثبت سمعا ولا أثبت بصرا ، وأقول هو عالم لا بعلم ، وقادر لا بقدرة وحيّ لا بحياة وسميع لا بسمع وكذلك سائر ما يسمى من الأسماء التي يسمى بها» (١).

يلاحظ عليه :

١ ـ أن نيابة الذات عن الصفات يستلزم خلو الذات من كل صفة كمال يتصف بها ربّ الكمال ، وهذا يستدعي النقص في الذات وهو باطل. لأنّ صفته عين ذاته ، فهو قادر بنفس ذاته ، عالم بعين ذاته المنكشفة عنده بذاته ، ومريد بإرادة هي نفس ذاته ، [فمعنى كون صفاته عين ذاته أن هذه الصفات المتكثرة الكمالية كلها موجودة بوجود الذات الأحدية ، فليس في الوجود ذاته تعالى متميزا عن صفته بحيث يكون كل منها شخصا على حدة ، ولا صفة منه متميزة عن صفة أخرى له بالحيثية المذكورة] (٢) ، فلولا الصفات لا يمكننا معرفة الذات ، فهي مرآة لمعرفة الذات.

٢ ـ ان نيابة الذات عن الصفات مبتنية على تصور المعتزلة أن حقيقة الصفة هي أمر زائد على الذات ، إلّا أنه تصور خاطئ يستلزم أن تكون الذات عارية في

__________________

(١) مقالات الإسلاميين : ج ١ ص ٢٢٥ والإلهيات : ج ١ ص ٣٧٨.

(٢) الحكمة المتعالية : ج ٦ ص ١٤٥.

١٧٨

مرتبة ذاته فيكون للغير تأثير في كماله وتمامه مما يؤدي إلى الدور المستحيل.

إضافة إلى أنهم لم يتصوروا كون الشيء وصفا مع كونه نفس الذات وعينها ، وسبب تصورهم ذاك يرجع إلى ملاحظة الصفة في الموجودات الإمكانية ، فالعالم في الإنسان وصف، هو غير الذات ، كما أن القدرة وصف ، هي غير الذات ، فقاسوا الواجب المتعال على الممكن المحتاج ، فاتخذوا ذلك ضابطة كلّية حتى في مقام الذات الإلهية ، فجعلوا كون الشيء وصفا ملازما للزيادة وعارضا على الذات فوقعوا في محذور خاص هو أن إثبات الصفات يستلزم تركّب الذات : من ذات ووصف أولا ، وخلو الذات من الكمال ثانيا ، وفاتهم أن ما اتخذوه ضابطة كلّية إنما يختص ببعض الممكنات ولا يشمل الذات الإلهية ، وذلك لأن من الممكن أن تبلغ الذات في الكمال والجمال مرتبة عالية تكون نفس العلم والانكشاف ونفس القدرة والحياة ، ولم يدل دليل على أن الصفة في جميع المراتب عرض قائم بالذات ، بل لهذه الأوصاف عرض عريض ومراتب متفاوتة ، ففي مرتبة يكون العلم عرضا كما في علمنا بالأشياء الخارجية ، وفي مرتبة يكون العلم جوهرا كما في علمنا بأنفسنا.

٣ ـ لو كان الداعي للقول بنيابة الذات عن الصفات هو المحافظة على التوحيد وبساطة الذات ، فالتوحيد ليس رهن القول بهذا الرأي ، بل إنّ التوحيد وبساطة الذات كما يحصل لهذا الرأي فإنه يحصل بما قالته الشيعة الإمامية وهو عينيّة الذات مع الصفات.

٤ ـ إن الأخذ برأي المعتزلة في نيابة الذات خلاف الاستعمالات القرآنية الداعية إلى الاستغاثة والتضرّع بالصفات والأسماء كما في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (الإسراء / ١١١) ، (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (الأعراف / ١٨١).

وحمل الصفات التي تكلم عنها القرآن على الاستعارة والمجاز تكلّف ظاهر لا يساعد عليه الدليل ولا يصار إليه إلّا بقرينة واضحة وهي غير موجودة عندهم.

فما استدلوا عليه ظاهر البطلان.

رأي الأشاعرة : زيادة الصفات على الذات :

قالوا : إنّ هناك صفات كمالية زائدة (١) على ذاته سبحانه مفهوما ومصداقا

__________________

(١) لاحظ أسفار صدر المتألهين : ج ٦ ص ١٢٣.

١٧٩

بحكم مغايرة كل صفة مع الموصوف بها ، وحيث إن الموصوف بها قديم وكان هذا الاتّصاف من القديم استلزم أن تكون هذه الصفات واجبات وقدماء ؛ أو بعبارة مختصرة يقولون بأزلية الصفات مع زيادتها على الذات (١).

يلاحظ عليهم :

أولا : لازم هذا القول تعدد الواجب ، وانثلام الوحدة الذاتية للذات الإلهية ، وهذا مما تبطله أدلّة وحدانية الواجب وبساطته.

ثانيا : لازمه الاعتراف بافتقار الذات إلى الصفات وهو خلف كونه غنيا مطلقا ؛ إذ لو كانت زائدة على الذات استدعى أن يتجمّل بغيره فيكون للغير تأثير في كماله وتمامه فيؤدي إلى الدور المستحيل ، أو تكون صفاته أنور وأشرف من ذاته وهو أيضا مستحيل ، لأنّ الفطرة حاكمة بأن ذاتا يكون كمالها بنفس ذاتها أشرف وأكمل من ذات استكملت بأمر زائد على ذاته (٢).

ثالثا : إن الزيادة على الذات تستلزم النقص والمحدودية في الذات الإلهية لأنه على هذا القول يكون الباري جلّ وعلا خاليا عن الصفات في مرتبة الذات وهو خلف كونه مطلقا ، فالزيادة تستدعي افتقار الذات إلى الصفات وهذا علامة الإمكان هو منزّه عنه تعالى.

رابعا : لو فاضت تلك الصفات على الذات من غيره يلزم أن يكون معلوله أشرف منه وهو مستحيل. وكذا لو فاضت من ذات على ذاته لجهة أشرف مما عليه واجب الوجود ، فيكون ذاته أشرف من ذاته ، إذ لو كفت جهة ذاته في أن يكون موجبا لإفاضة العلم لكان ذاته بذاته ذا علم ليفيض من علمه علم آخر كما في أصل الوجود وكذا في سائر الصفات الكمالية للوجود والتالي محال لأنّ جهة النقص والخسة تخالف جهة الكمال والشرف ، فكذا المقدّم (٣).

خامسا : لم يدلّ دليل على أن الصفة يجب أن تكون مغايرة للموصوف وإنما هو أمر سائد في الممكنات ، فإن العلم في الإنسان ليس ذاته بشهادة أنه قد كان

__________________

نهج المسترشدين للسيوري : ص ٢٢٢.

باب حادي عشر : ٤٠ والملل والنحل للسبحاني : ج ٢ ص ٧٨.

(١) الإلهيات : ج ١ ص ٣٨٢.

(٢) الأسفار : ج ٦ ص ١٢٤.

(٣) الأسفار : ج ٦ ص ١٣٤.

١٨٠