الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

إما الحدوث : أي أن الجوهر والعرض بنفسيهما حادثان ممكنان أمكن رؤية هذا وذاك.

وإما الوجود : أي من أجل أن هذا موجود ، وذاك موجود أمكن رؤيته ، وبما أن الحدوث هو كون الشيء بعد أن كان معدوما فلا يكون الحدوث علة لصحة الرؤية ، لأن العدم لا يمكن كونه علّة للأمر الوجودي ، فيتعيّن كون العلة لصحة الرؤية هي الوجود لا الحدوث.

ينقض عليه :

أولا :

إنّ الجهة المشتركة للرؤية في الجوهر والعرض ليس الوجود بما هو وجود ، بل الوجود المقيّد بشروط وقيود ، وهو كونه ممكنا ماديا يقع تحت إطار شرائط وقيود خاصة ، لأنّ الإبصار رهن ظروف خاصة ، وبتعبير آخر : إن علة الرؤية كما ادّعوا هي الوجود لكن ليس كل وجود ، بل الوجود المقيّد بقيد الإمكان أي إذا كان الشيء موجودا وممكنا وحادثا فتصح حينئذ رؤيته ، وشيء من هذه القيود لا ينطبق على واجب الوجود.

ثانيا :

إنّ ما يدّعيه هؤلاء من كون المصحّح للرؤية هو الوجود لازمه صحة رؤية كل موجود لا تراه العيون ، مع اعتقاد الكل بوجوده كالكيفيات النفسانية أمثال : العلم والشجاعة واللذة والألم والإرادة والقدرة وغيرها من الصفات الانسانية التي نقطع بوجودها فينا لكن لا تنالها حواسنا ، فهي موجودة إلّا أنها لا ترى عيانا.

وأما النقل :

فقد استدلّوا (١) على جواز الرؤية بظواهر بعض الآيات المتشابهات التي لا بدّ من الرجوع فيها إلى المحكمات ، من هذه الآيات : الآية الأولى.

__________________

(١) والأغرب من ذلك أن السيد محمد حسين فضل الله وهو إمامي المعتقد ـ حسبما يدّعي ـ نسب في جريدته المسماة ب «البيّنات» عدد ١٣ شوال ١٤١٧ ه‍ إلى النبي موسى أنه لم يكن يعرف أنّ الله لا يرى بالبصر حتى عرّفه الله ذلك بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) وقال : إن هذا لا ينافي عصمة وكمال النبي.

أقول : ليت شعري إذا كان موسى عليه‌السلام لا يعرف أنه تعالى لا يرى فلا عتاب حينئذ على ـ

١٤١

١ ـ قوله تعالى حاكيا عن موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (الأعراف / ١٤٤).

وجه الاستدلال :

إنّه لو كانت الرؤية ممتنعة عليه تعالى لما سألها النبي موسى عليه‌السلام ، وبما أنه سألها فلا تمتنع ، لأنه إما يعلم بامتناع الرؤية أو يجهله ، فإن علم امتناعها فالعاقل لا يطلب المحال ، وإن جهله فهو قبيح في حقه لمقام نبوته.

يلاحظ عليه :

أولا : لا يشك ذو مسكة أنّ الرؤية أو الإبصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الباصرة ، يهيئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه مما يعني كون الباصر والمبصر ماديين ، وهذا خلف كونه تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه ، فهو ليس بجسم ولا جسماني ولا يحيط به مكان ولا زمان ولا تحويه جهة ولا توجد صورة مماثلة أو مشابهة له في الخارج أو الذهن البتة.

فما طلبه النبي موسى عليه‌السلام ليس المراد منه تقليب الحدقة نحو المطلوب لأن ذلك إنما يكون نحو ذي الجهة ؛ فلو سأله موسى لكان قد أثبت لله جهة وهو منزّه عنها لضرورة العقل.

ثانيا : إننا لا نسلّم أن موسى عليه‌السلام سأل الرؤية لنفسه بل سألها لقومه ليبكّتهم حينما طلبوا منه الرؤية البصرية حيث قالوا له : (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ...) (النساء / ١٥٤).

وفي آية أخرى قالوا :

(... لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة / ٥٦).

__________________

ـ قومه عند ما طلبوا الرؤية البصرية وكان من القبيح عليه تعالى أن يعاقبهم على ذلك وأن يستنكر عليهم عند ما قال : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (النساء / ١٥٤) فالآية واضحة الدلالة على أن قوم موسى هم الذين طلبوا الرؤية وليس موسى كما يدّعي السيد المذكور. هذا مضافا إلى أنّ مسألة استحالة رؤيته تعالى ليست بحاجة الى ورود أدلة نقلية ، لكون المسألة من لوازم احكام العقل القاضي بالاستحالة ، وسوف نتعرّض لشبهته ونرد عليها في الصفحات القادمة فلاحظ.

١٤٢

فطلبها موسى عليه‌السلام زجرا للسفهاء ، وهم طلبوها سفها وجهلا (١).

فقد ورد في عيون الأخبار :

أن المأمون العباسي لعنه الله أحضر الإمام الرضا عليه‌السلام في مجلسه فقال له : أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟

قال : بلى.

قال : فما معنى قول الله عزوجل : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) ، كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟

قال الإمام الرضا عليه‌السلام : إن كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام علم أن الله تعالى منزّه عن أن يرى بالإبصار ، ولكنّه لمّا كلّمه الله عزوجل وقرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله تعالى كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته ، وكان القوم سبع مائة ألف رجل فاختار منهم سبعين ألفا ، ثم اختار سبعة آلاف ، ثم اختار منهم سبعمائة ، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى عليه‌السلام إلى الطور وسأل الله عزوجل أن يكلمه ويسمعهم كلامه ، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لأنّ الله تعالى أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى يسمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة وأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت في مناجاة الله عزوجل إياك؟

فأحياهم وبعثهم معه ، فقالوا : «إنك لو سألت الله أن يريك ننظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو نعرفه حق معرفته؟ فقال موسى عليه‌السلام : يا قوم إن الله تعالى لا يرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه ، فقالوا :

__________________

(١) هذا الرأي للزمخشري صاحب الكشاف في تفسير سورة الأعراف / ١٥٥ وهو موافق لما ورد عن عترة النبي بأسانيد صحاح.

١٤٣

لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى عليه‌السلام : يا ربّ إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف / ١٤٤) فلما خرّ موسى صعقا قال سبحانه تبت إليك ، يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) منهم بأنك لا ترى ، فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن (١).

إذن فسؤاله الرؤية من باب النقل والحكاية والمماشاة معهم مقدمة للإلزام ، وتوطئة للإفحام حيث قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) كقول إبراهيم عليه‌السلام للشمس والقمر : (هذا رَبِّي). وإلّا فالجهل باستحالة الرؤية على الله تعالى فضلا عن اقتضاء طلبها إمكان المطلوب وزعم الجسميّة من الكفر غير لائق بغير الأشاعرة ، فكيف بأولي العزم من الرسل (٢).

ثالثا : طلب الرؤية من باب إضافة السؤال إلى نفسه لغرض عقلائي ، الغاية منه أنه إذا منع هو من الإجابة كان ذلك أحسم لمادة سؤالهم للرؤية.

رابعا :

إن المقصود بالرؤية هي العلم الضروري بالله تعالى الذي لاى يحصل والمرء متجلبب بجلباب المادة والطبيعة ، ولن يحصل له هذا العلم المحض المعبّر عنه بالرؤية واللقاء حتى يلاقي ربّه أو يفنى عن نفسه ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (فصلت / ٥٤ ـ ٥٥).

حيث أثبت سبحانه اللقاء الروحي لا الحسي الذي لا يتأتى هذا الأخير إلّا بمواجهة جسمانية وتعين جهة ومكان وزمان. وقال تعالى حاكيا عن لقائه نبيه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (النجم / ١٢) وقد نسب الرؤية إلى فؤاد

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ٢ ص ٦٤ ح ٢٤٨.

(٢) لاحظ بدقة «المعارف السّلمانية» بتحقيقنا.

١٤٤

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا شبهة في كون المراد بهذا الفؤاد هو الروح المحمدية الشاعرة دون القلب الصنوبري داخل القفص الصدري ، ومن هذا المنطلق أكّد سبحانه في مطاوي آياته الكريمة أن القلب المليء بالمعاصي محجوب عن ربّه ، قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٦)) (المطففين / ١٥ ـ ١٦).

وهذا العلم المسمّى بالرؤية واللقاء ذو مراتب تشكيكية ، يختلف قوة وضعفا في الدنيا وينعكس ذلك في الآخرة بأعلى مراتبه ، ويتم للصالحين من عباده تعالى.

فهذه الرؤية المعنوية تتحقق بأجلى صورها في موطن التشرف يوم اللقاء (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٣) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٤)) (القيامة / ٢٣ ـ ٢٤).

أما في حال الدنيا فلا يمكن أن تتحقق هذه الرؤية الكاملة لاشتغال الإنسان بلوازم البدن ، واستغراقه في جلباب الطبيعة ، بالطبع هذا في غير المعصومين ، أما المعصومون المنزّهون ن كل ذلك فهم ممن يحصّلون اللقاء في الدنيا لكن كلّ بحسب سيره وقوة كماله في الصفات والأسماء.

فيتحصّل مما ذكر : أنك لن تقدر على رؤيتي والعلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده في عالم الآخرة.

هذا الوجه اختاره العلّامة الطباطبائي في تفسيره : ج ٨ ص ٢٤١ ـ ٢٤٢. لكنه غير سديد من وجوه :

الأول : إنه ينافي ما ورد في النصوص من أنه عليه‌السلام طلب الرؤية لبني إسرائيل نيابة عنهم ، فهو بعلمه يمثّل النوع لا الشخص.

الثاني : أنه يتطلب ارتكاب التجوّز والتوسع ، بحيث يؤدي إلى مخالفة مفهوم الرؤية التي طلبها بنو إسرائيل من موسى عليه‌السلام : إضافة لمخالفته للإطلاق في قوله : (لَنْ تَرانِي).

الثالث : أن الطلب الحضوري أو الشهود القلبي لا يعدّ أمرا سيئا ليتوب منه موسىعليه‌السلام ، ولو كان سيئا ومستقبحا لما طلبه النبي إبراهيم بقوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ...) ، فكما أنه تعالى لبّى طلب إبراهيم عليه‌السلام كذلك قد يلبّي طلب موسى عليه‌السلام ، فعدم التلبية لموسى عليه‌السلام خلاف المعهود.

١٤٥

نعم قد يقال : إنّ موسى عليه‌السلام طلب المرتبة الحضورية الكاملة التي نالها النبي محمّد والعترة ، فكان الجواب : إنك يا موسى لن تصل إلى مقامهم وعلوّ قدرهم.

هذا الجواب وإن كان صحيحا ثبوتا إلّا أنه خلاف الأدلّة الظاهرية وإن كان لا يبعد كونه من بطون القرآن.

هذا وقد استدلّوا أيضا على المدّعى بذيل الآية (... وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي).

حيث علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن ، والمعلّق على الممكن ممكن ، فالرؤية ممكنة.

يجاب عنه بوجهين :

الأول :

إن المراد من الاستقرار هو الاستقرار بعد التجلّي ، وهذا ما لم يحصل ، وليس المراد منه إمكان الاستقرار لأنه لا شك أنّه أمر ممكن.

وبعبارة : إن إمكان الرؤية علّق على وجود الاستقرار وتحققه بعد التجلّي بمعنى أنه لو تجلّى الربّ للجبل ولم يتدكدك فإنه سوف يراه ولكن بما أنه لم يستقر له حالة بعد التجلّي بل صار حطاما وغار في الأرض فإن موضوع الرؤية محال.

وقد أراد الله تعالى بهذا أن يفهم قوم موسى عليه‌السلام أن رؤية الله تعالى ممتنعة عليه وعلى غيره لذا علّق سبحانه إمكان رؤيته على استقرار الجبل ، والمفروض أنه لم يستقر ؛ إذن فالرؤية ممتنعة وغير ممكنة ، وهذا الأسلوب له نظير في كلام العرب كما لو قال أحد لآخر :

«افعل هذا إذا شاب الغراب أو دخل الجمل في سمّ الخياط».

الثاني :

إنه تعالى علّق الرؤية على الاستقرار لا مطلقا بل على استقرار الجبل ، حال حركته ، واستقراره حال الحركة محال ، فلا يدلّ على إمكان المعلّق أي أن الرؤية وإن علّقت على استقرار الجبل ، لكن لا على الاستقرار المطلق ولكن على استقراره حال تحركه وقبل انتهاء تحركه ، ومن المعلوم أن هذا مستحيل لما فيه من اجتماع الضدين : هما امتناع اجتماع الحركة والسكون في آن واحد معا.

١٤٦

شبهة وحل :

طرأ على بعضهم شبهة مفادها : إنّ موسى عليه‌السلام لم يكن يعرف أنّ الله لا يرى بالبصر حتّى عرّفه الله تعالى ذلك ، لأنّ الله سبحانه أراد أن يدخله في التجربة الحيّة ، فقال : (إن الله سبحانه كان يعرّف أنبياءه أصول العقيدة وصفاته تعالى بشكل تدريجي (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ولذلك فإن الله تعالى لم يعرّف موسى عليه‌السلام حتى ذلك الوقت أنه لا يرى ولذلك أراد سبحانه أن يدخل موسى في التجربة الحية ولذلك (قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) وعندها عرف عليه‌السلام أنه لا يرى. هذا تفسير وهذا لا ينافي عصمة وكمال النبي ...) (١).

وقال في موضع آخر :

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ...) ووصل موسى إلى الموعد الذي أعطاه الله له ... وكلّمه ربّه ... واندمج موسى في الجوّ الإلهي ... ففاضت روحه بالأشواق الروحية فيما توحيه كلمات الله إليه ... وفيما تمثّله من معاني القرب من الله ... فطلب من ربه أن ينظر إليه فقال ربّ أرني أنظر إليك ، فقد خيّل إليه أن من يسمع كلام الله يستحقّ أنّ يراه أو يمكن له أن يطلب رؤيته ... وهنا يقف المفسّرون وقفة حيرة فلسفية كلامية ... فكيف يمكن لهذا النبي العظيم أن يطلب مثل هذا الطلب المستحيل من ربّه ... وهو يعرف من خلال سموّ درجته ، ورفعة منزلته في عالم المعرفة بالله ... أنّ الله ليس جسدا ماديا محسوسا لتمكن رؤيته ... فهو ليس كمثله شيء ... وأجاب بعضهم أنّ المراد بالنظر ... الرؤية القلبية التي كان كناية عن العلم الواسع بالحقيقة الإلهية ... وأجاب آخرون ... بأنه لم يسأل انطلاقا من قناعة بالسؤال ، أو انسجام معه ... بل كان سؤاله استجابة لسؤال قومه الذين رافقوه إلى الموعد الإلهي ... فأراد أن يجعلهم وجها لوجه أمام الجواب الصاعق على هذا السؤال ... ولكننا لا نستبعد أن يسأل موسى هذا السؤال ... فقد لا نجد من البعيد في مجال التصوّر والاحتمال أن لا يكون قد مرّ في خاطر موسى مثل هذا التصوّر التفصيلي للذات الإلهية ... لأنّ

__________________

(١) نشرة البيّنات الصادرة بتاريخ ١٣ شوال ١٤١٧ ه‍ ـ الموافق ٢١ شباط ١٩٩٧ م.

١٤٧

الوحي لم يكن قد تنزّل عليه بذلك .. ولم يكن هناك مجال للمزيد من التحاليل التأملية للجانب الفلسفيّ من المعادلات العقلية التي تتحدّث عن استحالة تجسّد الإله أو إمكانه ... لأنّ ذلك قد لا يكون مطروحا لدى موسى عليه‌السلام ... ونحن نعرف ، تماما ، معنى التكامل التدريجي للتصوّر الإيماني في شخصية الرسول الفكرية ... ولهذا فإننا نحاول ـ هنا ـ أن نسجّل تحفّظنا على الكثير من الأحكام المسبقة التي تحاول تطويق النص القرآني ببعض الاستبعادات الذاتية ... كما في مثل هذه الآية ... فإننا نلاحظ أنّ تصورنا لشخصية الأنبياء ، يبدأ من القرآن ، فيما يحدّثنا عنهم من أحاديث ، ويسبغه عليهم من صفات فهو المصدر الأساس الأمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... ونحن نرى أنّ الحديث القرآني يركّز في بعض نقاطه على نقاط الضعف لدى الأنبياء كما يركّز على نقاط القوة عندهم ... من موقع البشرية التي يريد القرآن أن يركزها في التصور القرآني في أكثر من اتجاه ... فهل نريد أن ندخل في مزايدة كلامية على القرآن فيما يتعلّق بمثل هذه الأمور .. فنفرض لأنفسنا تصوّرات معينة للأنبياء ثم نحاول تأويل كلام الله بطريقة لا يتقبّلها النصّ في بعض الأحيان ... إننا نفهم التأويل حملا للفظ على خلاف الظاهر ، على أساس المجاز أو الكناية أو ما يتقرب منهما ... ولا بدّ للخروج من الظاهر أن يكون هناك دليل لفظي أو عقلي حتى نصرف اللفظ عن الظاهر من خلاله ... ولا نجد شيئا من هذين في موضع هذه الآية ، فليس هناك مانع من إرادة النظر بالمعنى الحسي فيما طلبه موسى بل هو الظاهر الواضح جدا في أجواء الآية من خلال التجربة التي قدمها الله أمامه ، فيما تعطيه كلمة التجلي من أجواء استحالة الرؤية البصرية فيما وجّهه الله للجبل من نوره الذي لا يستطيع الجبل أن يتماسك معه ... فكيف لو كان التجلّي له ... سبحانه ...) (١).

أقول : يتلخص من كلامه أمور :

ـ الأمر الأول : إنّ موسى عليه‌السلام خيّل إليه أن من يسمع كلام الله يستحق أن يراه.

ـ الأمر الثاني : استعراضه للرأيين الأشعري والإمامي ، متبنيّا المسلك

__________________

(١) من وحي القرآن : ج ١٠ ص ١٦٥ ـ ١٦٧.

١٤٨

الأشعري في مسألة جواز النظر.

ـ الأمر الثالث : إن عدم جواز الرؤية البصرية عند صاحب هذه الشبهة يعتمد على النقل دون العقل.

ـ الأمر الرابع : اعتماده على بعض ظواهر النصوص القرآنية المتشابهة دون المحكمة في استجلاء شخصيات الأنبياء ومنابع أفكارهم مع طرحه ورده للأدلة العقلية المحكمة التي تنزّه الأنبياء عن القبائح والمناقص الذاتية.

ـ الأمر الخامس : دعواه عدم وجود قرائن لفظية أو عقلية تصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره ، حاملا الآية موضع البحث على ظاهرها من دون اللجوء إلى التأويل ، جازما بضرس قاطع بعدم وجود دليل لفظي أو عقلي يصرف الآية عن ظاهرها.

يرد عليه :

أما الأمر الأول : كيف حكم على موسى عليه‌السلام بأنه تخيّل بأن من يسمع كلام الله يستحق أن يراه ، حيث حكم بالملازمة بين سماع الكلام والرؤية ، ومتى كان الحكم بالملازمات جائزا شرعا من دون برهان معتدّ به؟!! وهل القرآن بمتشابهه كاف لوحده في بيان المفاهيم والتصورات الكونية والشرعية؟ وإذا كان كذلك فلم قال الله عز اسمه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ، (٨) ، (آل عمران / ٨) وقال تعالى أيضا : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر / ٨) ، ولما ذا لم يخيّل إليه ذلك قبل مناجاته مع الله تعالى ما دامت المسألة ليست من المستقلّات العقلية بنظره؟! .. ولما ذا لم يعرّفه الله ذلك في بدايات نبوّته ، حيث كان النزاع مع فرعون المدّعي للربوبية على أشده ، فكان الأجدر حينئذ أن يعرّفه الله تعالى أنه لا يرى بالبصر حرصا منه على تعليمه لئلّا يقع فريسة إشكالات فرعون وحاشيته! ... وهل يمكن أن يرسل الله تعالى نبيا لا يعرفه حقّ المعرفة؟ .. وهل يجوز بحكمة العقل ونظر العقلاء أن يكون داعية لله سبحانه وهو لا يعرف شيئا من أصول عقيدته ، فكيف إذا كان هذا الداعي نبيا رسولا ومن أولي العزم ، وإذا كان موسى إلى وقت

١٤٩

المناجاة لم يكن يعرف بأن الله لا يرى بالبصر هذا يعني أن الأنبياء المتقدّمين عليه لم يكونوا عارفين بأنّ الله لا يرى بالبصر ، فكان الأجدر أن يعلّمهم الله أنه لا يرى ، فإذا كانوا عالمين بأن الله لا يرى فلما لا يكون موسى مثلهم عالما بأن الله لا يرى؟! .. وهل يعقل أن يهب الله سبحانه العلوم والمعارف اليقينية للأنبياء المتقدمين على موسى لا سيما لعبد صالح كالخضر عليه‌السلام ولا يهبها لرسول من أولي العزم؟! .. ومن أين علم أن الله يعرّف أنبياءه أصول العقيدة بالتدريج! (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٦٠) (يونس / ٦٠).

وأما الأمر الثاني : إن تبنيه للرأي الأشعري في مسألة الرؤيا وغيرها من المسائل الاعتقادية ليس غريبا عمن جاس ديار منهجه العلمي ، فيرى بوضوح طرحه للنصوص الرّوائية لو خالفت الظاهر القرآني ، مع أننا مأمورون بتأويل النص حال المخالفة ، نعم إذا لم يمكن تأويله يجب حينئذ طرحه.

وأما الأمر الثالث : إن موضوع رؤية الله وصفاته الثبوتية والسلبية وبقية الأصول الاعتقادية هي من المدركات العقلية التي يستقلّ بإدراكها العقل ، ولا علاقة للسمع بها إلّا من حيث التأكيد على حكم العقل في حال الانحراف عن الجادة الوسطى. ولو سلّمنا جدلا بعدم معرفة موسى بأنّ الله لا يرى لكنا نسبنا إلى موسى الجهل بالله وبصفاته مع أن الله أخذ عليه وعلى الأنبياء مطلقا المواثيق على التوحيد بجميع أقسامه وفطرهم والناس على معرفته عزوجل ، فالجهل بأنه تعالى لا يرى بالبصر خلاف التوحيد الذاتي والصفاتي ، وقد قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٨)) (الأحزاب / ٨) ، هذا مضافا إلى أن جواز النظر ملازم لكونه تعالى جسما وقد قامت الأدلة العقلية عند الأنبياء قبل غيرهم على امتناع الجسمية ولواحقها من الحركة والسكون عليه تعالى ، والأحكام العقلية لا تخصص بزمان دون آخر ، ولا تعطى لأناس دون آخرين ، فالأحكام العقلية ثابتة في جبلّة الإنسان أفاضها الله على آدم وأولاده من دون تمييز ، فلم يخلق الله سبحانه آدم مفطورا على معرفته دون موسى الذي نسب إليه أنه لم يكن يعرف أن الله لا يرى بالبصر؟!

وأما الأمر الرابع : فالاعتماد على بعض الظواهر القرآنية دون بعض لمعرفة الأنبياء ما هو إلا مجرّد استحسان ، بل طرحا للنصوص القرآنية المحكمة الدالة على علوّ مقام الأنبياء لا سيما أولي العزم ، والنصوص النبوية التي أكدت الآيات

١٥٠

على الأخذ بها : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً (٨٤)) (النساء / ٨٤) (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (النساء / ٦٠) ، وما هذا الطرح إلّا تجديدا لمقولة عمر بن الخطاب «حسبنا كتاب الله».

وأما الأمر الخامس : وهو دعواه عدم وجود دليل لفظي أو عقلي يصرف من خلاله اللفظ عن الظاهر فهي دعوى خالية من البرهان ، بل بالعكس فإنّ الأدلة العقلية كثيرة تقدّم شطر منها ، وأما الأدلة النقلية فذكرنا بعضا منها في كتابنا هذا ، والبقية نحيله للاطلاع عليها إلى المجامع التفسيرية عند الشيعة الإمامية ، نعم لا توجد عند العامة حتى الرواية الواحدة من هذا القبيل ، فما ادّعاه من أنه «لم يجد شيئا من هذين ـ أي الدليل اللفظي والعقلي ـ في موضع هذه الآية» صحيح حيث إن العامة لا يستدلون على تنزيه الباري بالعقل كما لا يعتمدون على العقل في تأويل النقل لذا أخذوا الآية على ظاهرها جريا على غيرها من الآيات الدالة بظاهرها على جواز رؤيته يوم القيامة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٣) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٤)).

٢ ـ الآية الثانية : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٣) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٤)) (القيامة / ٢٣ ـ ٢٤).

«ناضرة» من «النضرة» وهي البهجة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه عليه.

«والناظرة» أي المنتظرة لثواب ربّها.

وجه استدلال الأشاعرة بالآية :

أن النظر إذا كان بمعنى الانتظار فإنه يستعمل بغير صلة ويقال : «انتظرت».

وإذا كان بمعنى الرؤية فإنه يتعدى ب «إلى». والنظر في هذه الآية قد استعمل بلفظ «إلى» فيحمل على الرؤية (١).

يرد عليه :

أولا : إن النظر بالعين يستلزم الجسمانية وكونه محدودا في جهة معيّنة وهو

__________________

(١) لاحظ شرح التجريد للقوشجي : ص ٣٣١ ط حجري.

١٥١

باطل بضرورة العقل والنقل لقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ...).

ثانيا : إن «النظر» يستعمل بمعنى الانتظار مع لفظة «إلى» في المحاورات العرفية ، ويشهد له قول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي بالفلاح

وقول الفرزدق :

ولقد عجبت إلى هوازان أصبحت

منّي تلوذ ببطن أم جرير

فهنا عديّ لفظ «عجبت» بإلى ، لأن المعنى «نظرت».

ثالثا : المنع من إفادة «النظر» الرؤية لغة ، وذلك لأن النظر إذا تعلّق بالعين أفاد طلب الرؤية الحسيّة ، وإذا تعلّق بالقلب أفاد طلب المعرفة ، لذا فإنّ «النظر» وإن اقترن به حرف «إلى» لا يفيد الرؤية ، ولهذا يقال :

«نظرت إلى الهلال فلم أره» ، وإذا لم يتعيّن هذا المعنى أمكن حمل الآية على تقدير مضاف أي إلى ثواب ربّها ناظرة.

رابعا : لو كان المراد من «ناظرة» الرؤية الحسيّة لما ناسب أن يعبّر تعالى بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ...) بل لكان الأولى أن يعبّر عن ذلك ب «العيون» لأنّ هناك فرقا واضحا بين قولنا «عيون يومئذ ناظرة» وقولنا : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فالوجوه الناظرة غير العيون الناظرة ، والأول منهما يناسب التوقع والانتظار دون الثاني.

خامسا : إن معنى «ناظرة» أي راجية ومتوقّعة ومنه قول بعضهم : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، أي متوقع وراج ، ومنه قول الشاعر :

إذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

«فالنظر» هنا بمعنى الرجاء أي إذا رجوت مكارمك زدتني نعما ، فالنظر إليه كناية عن ذلك.

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين الناس أبوابهم مغلقة يأوون إلى مقائلهم تقول : [عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم].

فعيينتي تصغير عينين ، ونويظرة تصغير ناظرة.

والمعنى : تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف : ج ٤ ص ٦٥٠.

١٥٢

هاتان الآيتان المباركتان من أهم ما استدلّ به الأشاعرة على جواز الرؤية البصرية ، وهناك آيات أخر لم نستعرضها خوف الإطالة ، فيرجع في تأويلها إلى ما يناسب الأصول الاعتقادية والتوحيدية للباري عزّ ذكره وتبارك شأنه وجلّ كبرياؤه.

يبقى أن نستعرض ما قاله علماء العامة الذين أجازوا الرؤية بحاسة سادسة بصرية غير الحاسة المعروفة لدينا.

أقوال علماء العامة :

قال الفخر الرازي :

«احتج أصحابنا بهذه الآية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ...) على أنه تعالى تجوز رؤيته ، وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ... ثم قال :

وفي التمسّك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول : إنّ الله تعالى لا يرى بالعين ، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلّت عليه هذه الآية (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ...) على تخصيص نفي إدراك الله بالبصر ، وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه ، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزا ، ولمّا ثبت أنّ سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ، ثبت أن الله تعالى يخلق حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه ..» (١).

يرد عليه :

أولا : إنّ محور الخلاف بين السنّة والشيعة يتركّز على الرؤية البصرية ، فتفسير الرازي لها بالحاسة السادسة خروج عن محور البحث ، ورجم بالغيب وظن ، وإنّ الظن لا يغني عن الحق شيئا.

ثانيا : إنّ إثبات الرؤية بالحاسة السادسة لا يخلو من أمرين :

إمّا حسية أو غير حسيّة.

فإن كانت حسّية فهي لا تتعلّق إلّا بالمادة والماديات ، والقدير سبحانه فوقها.

وإن كانت غير حسّية فلا تخرج عن كونها عقلية أو معنوية ، فثبت المطلوب وهو كون رؤيته تعالى بالبصيرة العقلية أو الروحية.

__________________

(١) تفسير الرازي : ج ١٣ ص ١٢٥ ـ ١٢٦ ذيل الآية المباركة.

١٥٣

ثالثا : إنّ تخصيص الحاسة السادسة بالآخرة وامتناعها في الدنيا ؛ يستدعي أن تكون الأحكام العقلية في الآخرة مغايرة تماما لما كانت عليه في الدنيا ، هذه المغايرة تعتبر فصلا من دون دليل ، وذلك لأنّ القواعد العقلية لا تخصّص في دار دون دار ، فإن كان المراد من المغايرة هو كون ما في الآخرة أكمل مما في الدنيا فمما لا ريب فيه لأن الوجودات هناك أتمّ وأكمل ، أما لو كان المراد من المغايرة من حيث الماهية والواقعية فإنه غير معقول ومقبول لأنّ ما في الدنيا هو نفسه في الآخرة ولكن بشكل أكمل لا أنه يباينه على وجه الإطلاق قال تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ...).

وقال الشافعي :

«ما حجب الفجار إلّا وقد علم أنّ الأبرار يرونه عزوجل ، ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله بما دلّ عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) تنظر إلى الخالق وحقّ لها أن تتضرع وهي تنظر إلى الخالق ...» (١).

قال ابن كثير :

«وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة أي تراه عيانا كما رواه البخاري في صحيحه أنكم سترون ربكم عيانا» ، وقد تقدم استعراض كلامه فيما سبق فلاحظ.

وأيضا تقدم ما قاله بعض أعلام العامة في ذلك ، إضافة إلى استدلالهم ببعض النصوص الضعيفة المتشابهة التي لا يجوز العمل بظواهرها ، لا حاجة لنا بذكرها بعد دلالة العقل السليم والقرآن المجيد على امتناع الرؤية البصرية.

وجدير بنا أن نذكر كلمات العترة المنزّهين عن كل شين واستنكارهم على مسألة الرؤية الحسية منها :

عن أبي بصير عن مولانا الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

قلت له : أخبرني عن الله عزوجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟

قلت : نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة ، فقلت متى؟ قال : حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ثم سكت ساعة ثم قال عليه‌السلام : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا؟

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ج ٤ ص ٣٩٣ ط دار القلم.

١٥٤

قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك فأحدّث بهذا عنك؟

فقال : لا فإنك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر ، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون(١).

عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال :

حضرت أبا جعفر عليه‌السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له يا أبا جعفر أيّ شيء تعبد؟

قال : الله ، قال أرأيته؟ قال عليه‌السلام : لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبّه بالناس ، موصوف بالآيات معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلّا هو قال : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟

قال عليه‌السلام : ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره ، قال : وكيف رأيته؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان (٣).

عن عاصم بن حميد قال :

ذاكرت أبا عبد الله عليه‌السلام فيما يروون من الرؤية.

فقال عليه‌السلام : الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش ، والعرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الستر ، فإن كانوا صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ليس دونها حجاب (٤).

__________________

(١) التوحيد : ص ١١٧ ح ٢٠.

(٢) التوحيد : ص ١٠٨ ح ٥.

(٣) نفس المصدر : ص ١٠٩ ح ٦.

(٤) نفس المصدر : ص ١٠٨ ح ٣.

١٥٥

الباب الثّاني

عقيدتنا في التوحيد

قال المصنف (قدس‌سره) :

ونعتقد بأنه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات ، فكما يجب توحيده في الذات (ونعتقد بأنه واحد في ذاته ووجوب وجوده) ، كذلك يجب ـ ثانيا ـ توحيده في الصفات ، وذلك بالاعتقاد بأنّ صفاته عين ذاته كما سيأتي بيان ذلك. وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية ، فهو في العلم والقدرة لا نظير له ، وفي الخلق والرزق لا شريك له ، وفي كل كمال لا ندّ له

وكذلك يجب ـ ثالثا ـ توحيده في العبادة ، فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه ، وكذا إشراكه في العبادة في أي نوع من أنواع العبادة ، واجبة أو غير واجبة ، في الصلاة أو غيرها من العبادات. ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك ، كمن يرائي في عبادته ويتقرّب إلى غير الله تعالى ، وحكمه حكم من يعبد الأصنام والأوثان لا فرق بينهما.

أما زيارة القبور وإقامة المآتم ، فليست هي من نوع التقرّب إلى غير الله تعالى في العبادة ، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية ، غفلة عن حقيقة الحال فيها ، بل هي من نوع التقرّب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ، كالتقرّب إليه بعبادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان في الدين ومواساة الفقير ، فإن عيادة المريض ـ مثلا ـ في نفسها عمل صالح يتقرّب به العبد إلى الله تعالى ، وليس هو تقرّبا إلى المريض يوجب أن يجعل عمله عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته ، وكذلك باقي أمثال هذه

١٥٦

الأعمال الصالحة التي منها زيارة القبور وإقامة المآتم وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان.

أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية ، فذلك يثبت في علم الفقه ، وليس هنا موضع إثباته.

والغرض إن إقامة هذه الأعمال ليست من نوع الشرك في العبادة كما يتوهمه البعض ، وليس المقصود منها عبادة الأئمة ، وإنما المقصود منها إحياء أمرهم ، وتجديد ذكرهم وتعظيم شعائر الله فيهم (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

فكل هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع استحبابها ، فإذا جاء الإنسان متقرّبا بها إلى الله تعالى طالبا مرضاته استحقّ الثواب منه ونال جزاءه.

* * *

أقول : التوحيد يعني عبادة الإله الواحد مع تنزيهه سبحانه من الشريك ، وهو من أهم الصفات التي يتحلّى بها الخالق العظيم.

و «التوحيد» مصدر منه «الواحد» و «الواحدة» وهو من المفاهيم البديهية التي لا تحتاج إلى معرّف يدلّ عليها ، فعند الإطلاق لا يتبادر منها إلّا كونه سبحانه واحدا في هذه الصفة لا يشاركه فيها غيره ، تماما كصفة الألوهية لا يشاركه أحد فيها لأنّ ما دونه ممكن ، ورشح من فيض جوده جلّ وعلا.

وكونه تعالى واحدا أحدا من أقدم المسائل الفكرية التي هي وليدة الفطرة الإنسانية ، ومن أهمها بحثا بين متفكري النوع البشري ، وكل الأطروحات (التي لم تبتن على أسس فلسفية دينية صحيحة) قد دعّمت ركائز سلطتها على أسس توحيد الصانع ، ولا يخفى على من له إلمام بتاريخ الشعوب ما فعله أصحاب الديانة الوثنية المبنيّة على الشرك بإثبات الشفعاء عنده عزوجل ليقرّبوهم إليه تعالى زلفى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

لذا لأهميتها انقسم البشر إلى أديان متعددة يلعن اللاحق منها السابق ، ولعلّ سرّ هذا الانقسام يكمن في الاختلاف في مفهوم العبادة لا التوحيد كما صوّره بعض الفضلاء في بعض تصانيفه ؛ والدليل فيما ذكرنا :

أولا : حكم الفطرة الداعي إلى توحيد الإله الواحد غير المحدود العظمة

١٥٧

والكبرياء ذاتا وصفة غير أن ألفة الإنسان وأنسه في ظرف حياته بالآحاد العددية جعل لله شريكا في العبادة ليوصله إلى الذات المطلقة.

ثانيا : إن الوثنيين يعترفون بوجود إله واحد ، لكنهم يشركون معه مدبرين يديرون النظام الكوني استقلالا وأصالة ، وكذا أصحاب الديانات المنحرفة بعد ذهاب رسلها كاليهودية والمسيحية فإنهم يعترفون بوجود صانع واحد إلّا أنهم معتقدون بالتجسيم أو الحلول وهما شيئان لا علاقة لهما بحقيقة الصانعية أو الواحدية ، وإنما طرءا على الذات المقدسة بنظرهم بعد خلقه لبعض العباد وهذا باطل بالضرورة كما تقدم معنا مرارا فلا نعيد.

ويقسّم المتكلمون التوحيد إلى أقسام :

الأول : التوحيد الذاتي.

الثاني : التوحيد العبادي.

الثالث : التوحيد الصفاتي.

الرابع : التوحيد الأفعالي.

والمصنف عليه الرحمة بحث في الجميع صريحا ، أما الأول ففي الباب الأول ، وأما الثالث والرابع ففي الباب الثالث ، وفي هذا الباب بحث في الأوّلين بشكل إجمالي ، ونحن نزيدهما إيضاحا وتفصيلا وبه نستعين.

* * *

١٥٨

التوحيد الذاتي

ويراد منه أنه واحد أحد لا شريك له في ذاته ولا شبيه له ولا نظير ؛ فاتّصاف الذات الإلهية بالوحدة يعني عدم تكثّرها وتجزئها إلى جزء جزء أو إلى ذات واسم ، بل هي صرف الوحدة والبساطة ، لذا تطرّق القرآن الكريم إلى بساطة الذات المقدّسة ووحدتها وواحديتها كما في قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (البقرة / ١٦٤).

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (٢) اللهُ الصَّمَدُ (٣) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٤) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٥)) (التوحيد) ، ويراد من «الوحدة» المذكورة الوحدة الشخصية الحقيقية التي لا تنطبق على غيره أبدا ، لا الوحدة العددية المبحوث عنها في علم الأعداد.

بيان ذلك :

إن الوحدة العددية : عبارة عن مفهوم عام وجد فيه مصداق واحد في عالم الحسّ مع إمكان وجود مصاديق أخرى له ، وقد أشار مولى الموحدين علي بن أبي طالب روحي فداه وعليه‌السلام إلى هذا المفهوم بما أورده الشيخ الصدوق :

أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال :

يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد؟

فحمل الناس عليه ، وقالوا : يا إعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟! (١).

__________________

(١) المراد من تقسّم القلب انشغاله عليه‌السلام بتدبير أصحابه للحرب ، لا أنه حيران لا يدري ما ذا يفعل ، فإن هذا وأمثاله مما يتنزّه عنه المعصوم.

١٥٩

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه ، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال عليه‌السلام شارحا ما سأل عنه الأعرابي فقال :

«وقول القائل واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنه كفر من قال : ثالث ثلاثة ، ثم قال : معنى واحد أنه ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا ، وقول القائل إنه عزوجل أحديّ المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربّنا عزوجل» (١).

وأمّا الوحدة الشخصية الحقيقية : هي عبارة عن وجود خارجي لا ثاني له لا يقبل الاثنينيّة والتكثر والتكرر ، لأن كل هذه القيود صفة للكثرة المنزّه عنها الباري عزوجل لأنه صرف الوجود وصرف الكمال فلا يتميّز ولا يتشخّص بالأشكال والإشارات ، ولأنّ القيود نوع تكثّر في الذات مما يؤدّي إلى احتياج الذات وافتقارها إلى ذاك الشيء الخارجي عنها والمغاير لها ، باعتبار كون الكثرة رهن دخول شيء مغاير للدخول في حقيقته ، مثاله :

البياض بما هو بياض ، لا يتصور له الاثنينية إلّا إذا دخل فيه شيء غيره كتعدد المحل فيتعدد البياض ، ولو لا ذلك لصار البياض صرف الشيء وهو غير قابل للكثرة.

والفرق بين التوحيد الواحدي والآحدي :

أنّ الأول : يراد منه نفي الشبيه له والمثيل والنظير فهو واحد لا ثاني له أبدا.

أما الثاني : فيراد منه نفي التركيب الذهني أو الخارجي فهو بسيط من كل الجهات لأنه لو كان مركّبا من أجزاء (سواء أكانت عقلية وبحسب المفهوم العقلي أم خارجية بحسب التحقق الخارجي) لكان مفتقرا إلى أجزائه ، والمفتقر ممكن محتاج إلى غيره ، والذات الإلهية منزّهة عن ذلك.

وبهذين الفرقين يمكن استنباط دليلين على الوحدانية :

١ ـ إن التعددية الذاتية تستلزم التركيب.

٢ ـ إن الوجود المطلق اللامحدود لا يقبل التعدد.

__________________

(١) التوحيد : ص ٨٣.

١٦٠