الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١ الجزء ٢

أما الصفات السلبية :

هي صفات يصحّ انفكاكها وسلبها عن الذات الإلهية بل يجب سلبها كما سوف يأتيك في فصل الصفات ، ويعبّر عنها بصفات الجلال وهي كل صفة أو حالة تفيد نقصا أو حاجة في ذاته أو فعله يصح أن نسمّيها بالسلبية المشار إليها بأداة السلب كأن يقال : الله ليس بجسم ، ولا مركّب ولا بفقير ولا جاهل ولا عاجز ولا متحرّك ولا يتحد بغيره الخ ...

وبما ذكرنا يتركّز البحث على أمور ثلاثة :

الأمر الأول : الصفات الثبوتية الذاتية.

الأمر الثاني : الصفات الثبوتية الفعلية.

الأمر الثالث : الصفات السلبية.

وسوف نذكرها تباعا في باب الصفات إن شاء الله تعالى.

وبهذا ننهي الأمر الأول من الباب الأول من هذا الفصل.

الأمر الثاني : في ردّ مقالة المجسّمة :

ردّ المصنف (قدس‌سره) بقوة على طائفة من المسلمين يعتقدون أنّ لله تعالى يدا ورجلا وعينا أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا ، فالله سبحانه عند هؤلاء كالإنسان له أعضاء بها يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد ، فطرحوا العقول وجمدوا على ظواهر النصوص المتشابهة التي يجب تأويلها لضرورة العقل والنقل الصريح ، ولكنّهم عموا وصمّوا فأعماهم وأصمهم سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران / ٨).

والمراد من «التجسم» نسبة الجسمية إلى الباري «عزوجل وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا» ، حيث نسبوه إلى المادة وكونه متحيزا في جهة ما ، قابلا للقسمة في الجهات الثلاث : الطول ـ العرض ـ العمق وهذا باطل بحكم العقل كما سوف يأتي النقض عليهم في باب الصفات.

وما يهمنا هنا إيراد ما ذكره بعض أئمة أهل المذاهب الأربعة عند العامة لا سيما أحمد بن حنبل وداود بن علي الاصفهاني وسفيان الثوري ومالك بن أنس

١٢١

وغيرهم حيث يخجل القلم عن ذكر ما اعتقدوه في ذات الله تعالى.

فقد ذكر الشهرستاني :

«أنّ جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك ... ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف ، فقالوا لا بدّ من إجرائها على ظاهرها ، فوقعوا في التشبيه الصرف ... ولقد كان التشبيه صرفا خالصا في اليهود.

وقال من توقف في التأويل : عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء فلا يشبه شيئا من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك إلّا أنّا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه / ٦) (خَلَقْتُ بِيَدَيَ وَجاءَ رَبُّكَ) ولسنا بمكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها» (١).

والأغرب من ذلك سكوت الشهرستاني عمّن شبّه الخالق بالمخلوق ، كمالك بن أنس ، وهجومه على بعض طوائف من الشيعة غالوا في بعض الأئمة عليهم‌السلام قال :

[إن جماعة من السلف ممن لم يتعرّض للتأويل ولم يهدف التشبيه أمثال مالك بن أنس إمام المالكية إذ قال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، ومثله أحمد بن حنبل وسفيان الثوري ...] (٢).

ليت شعري كيف جمع أنس بين الأضداد ، إذ يعلم من عبارته «الاستواء معلوم» نسبة التجسيم له تعالى فكيف يمكن تبرئة ساحته بالقول أنه لم يهدف التشبيه وهو يقول به صراحة؟!

إضافة إلى أن أحمد بن حنبل كان من معتقداته القول بالتجسيم ، ولم ننس ما ذكره ابن الأثر عمّا فعله الراضي العباسي بالحنابلة قال :

[وفيها ـ أي سنة ٣٢٣ هجري فتنة الحنابلة ببغداد ـ عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم ... ثم زاد شرهم وفتنتهم ... فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٩٢.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٩٣.

١٢٢

الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره فمنه تارة أنكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين ، وهيئتكم الرذلة على هيئته وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين المذهّبين والشعر القطط ، والصعود إلى السماء والنول إلى الدنيا ، تبارك الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا ثم طعنكم على خيار الأئمة ونسبتكم شيعة آل محمد إلى الكفر والضلال ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن وإنكاركم زيارة قبور الأئمة وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ولا نسب ...] (١).

وما اكتفى الشهرستاني بما ذكر حتى أطلق كلامه على الشيعة الإمامية أنهم يغالون في أئمتهم وهو افتراء واضح قال :

[ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلوّ وتقصير ، أما الغلوّ فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس وأما التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق ...] (٢).

وما أطلقه على الشيعة كذب صريح ، وبعض المنتسبين إلى التشيع قد غالوا بالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام واعتقدوا أن الله تعالى حلّ فيه ، هؤلاء بنظر الشيعة خارجون من الإسلام وبحكم الكفّار ، فمن الظلم جعلهم من الشيعة. ويا ليته اكتفى بهذه التهمة الشنيعة حتى جرّ حقده على شخصيتين مرموقتين عند الإمامية هما :

هشام بن سالم وهشام بن الحكم ، حيث نسب إليهما مقالة التشبيه كما هو ظاهر بعض المرويات الضعيفة والملفقة عليهما وهما منها براء.

قال : [غير أن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرّحوا بالتشبيه مثل : الهشامين من الشيعة ... قال إن معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض] (٣).

وفي موضع آخر قال : [فرقة الهشامية أصحاب الهشامين : هشام بن الحكم

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٨ ص ٣٠٨ حوادث سنة ٣٢٣ ه‍.

(٢) الملل والنحل : ج ١ ص ٩٣.

(٣) نفس المصدر : ج ١ ص ١٠٥.

١٢٣

صاحب المقالة في التشبيه ، وهشام بن سالم الجواليقي الذي نسج على منواله في التشبيه ... ثم قال : قال هشام بن سالم أنه تعالى على صورة إنسان أعلاه مجوّف وأسفله مصمت وهو نور ساطع يتلألأ وله حواس خمس ويد ورجل وأنف وأذن وفم وله فروة سوداء ... وغلا هشام بن الحكم في حق علي رضي الله عنه حتى قال : إنه إله واجب الطاعة ...] (١).

انظر أخي القارئ بعين الإنصاف كيف أن الأحقاد الاعتقادية لا تبقي ولا تذر ، وكان يفرض على الشهرستاني وأمثاله في عصرنا الحاضر الذين يحكمون على الشيعة بأحكام متسرّعة أن يحيطوا علما بمعتقدات الإمامية الحقة التي هي اعتقادات الإسلام الحنيف وأنّ دعاته العلماء أصحاب الأئمة عليهم‌السلام هم خيرة المؤمنين المخلصين ، قد ضحّوا بالنفس والنفيس في إعلاء كلمة الدين وترويج أحكام شريعة سيد المرسلين.

ولعلّ منشأ التسرّع في الحكم على الهشامين سببان :

الأول : الحقد على رجالات الشيعة لانتسابهم للعترة الطاهرة عليهم‌السلام.

الثاني : ظاهر بعض النصوص الذامّة لهما والمادحة أيضا ، إضافة إلى وجود أخبار تنص (٢) على أن هشام بن الحكم كان يقول بأنه تعالى جسم لكن لا كالأجسام وهشام بن سالم يقول بالصورة.

يجاب عن هذه النصوص :

أولا : إن الروايات الذامّة لهما بأجمعها ضعيفة وموضوعة لا يمكن الاعتماد عليها إضافة لوجود روايات معارضة لها تدلّ على أن هشام بن الحكم لم يكن قائلا بالجسم (٣) كما في رواية الكليني في باب إطلاق القول بأنه شيء ح ٦.

ثانيا : لو سلّمنا جدلا بأنّ هشاما كان يطلق لفظ الجسم عليه تعالى إلّا أنه خطأ في استعمال اللفظ في خلاف معناه ، فهو خطأ في الإطلاق لا في الاعتقاد (٤).

__________________

(١) الملل والنحل : ج ١ ص ٨٥.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ١٠٤ ح ١ ، ٤ ، ٥.

(٣) معجم رجال الحديث للخوئي : ج ١٩ ص ٢٩٣.

(٤) معجم رجال الحديث : ج ١٩ ص ٢٩٣.

١٢٤

ثالثا : إن هذه النصوص الذامّة لا تقاوم وتناهض تلك النصوص الأخرى التي تبين وتشرح فضل الهشامين وجلالة قدرهما عند الأئمة عليهم‌السلام ، وما ذكره المتقدمون والمتأخرون في فضلهما وعظم شأنهما (١).

رابعا : إن أكثر أصحابنا يقولون : أنه أورد ذلك على سبيل المعارضة للمعتزلة ، فقال لهم : إذا قلتم إن القديم تعالى شيء لا كالأشياء فقولوا : انه جسم لا كالأجسام (٢) ، وليس كل من عارض بشيء وسأل عنه يكون معتقدا له ، ومتديّنا به ، وقد يجوز أن يكون قصد به إلى استخراج جوابهم عن هذه المسألة ومعرفة ما عندهم فيها.

خامسا : لا مانع من إطلاق القول عليه تعالى أنه شيء أو جسم مع إخراجه تعالى عن حدّ التعطيل (وهو عدم إثبات الوجود أو بقية الصفات الكمالية والفعلية والإضافية له) وحدّ التشبيه (الحكم بالاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات وعوارض الممكنات) ، وقد ورد عن الحسين بن سعيد قال : سئل أبو جعفر الثاني عليه‌السلام :

يجوز أن يقال لله : أنه شيء؟

قال عليه‌السلام : نعم ، يخرجه عن الحدّين : حدّ التعطيل وحدّ التشبيه (٣).

ورحم الله تعالى سليمان بن جعفر الجعفري قال :

سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن هشام بن الحكم قال :

كان عبدا ناصحا وأوذي من قبل أصحابه حسدا منهم له (٤).

فلو سلّمنا أن هشاما كان يقول بالجسمية فهو لا يريد معناها المعهود بل يريد معنى آخر غير ذلك.

وبالجملة فمن شبّه الله سبحانه بأحد مخلوقاته هو بالحقيقة جاهل به يلصق بذاته المقدّسة ما يجب أن تتنزّه عنه ، لأن كل ذلك من صفات المادة المخلوقة ،

__________________

(١) معجم رجال الحديث : ج ١٩ ص ٢٧١ ورجال الممقاني : ج ٣ ص ٢٩٤. والشافي للمرتضى : ج ١ ص ٨٣ ـ ٨٥.

(٢) الشافي : ج ١ ص ٨٤.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ٨٢ باب إطلاق القول بأنه شيء.

(٤) معجم رجال الحديث : ج ١٩ ص ٢٩٤.

١٢٥

وخالقها المدبّر العظيم فكيف يكون مثلها؟!

الأمر الثالث : في استحالة رؤيته تعالى بالبصر :

اجمع الإمامية أعزّهم الباري وتبعهم المعتزلة على امتناع رؤيته تعالى بالبصر في الدارين ، وأنه من المحالات العقلية ، وخالفهم في ذلك المجسّمة من الأشاعرة والكرّامية (١) ، فجوّزوا رؤيته عزوجل لاعتقادهم أنه تعالى جسم ، والأشاعرة يعتبرون أنفسهم من أهل التنزيه له عزّ اسمه إلّا أنهم يعتقدون رؤيته تعالى يوم القيامة وأنه ينكشف إليهم كانكشاف القمر ليلة البدر ، لكن هذا عين التناقض لأنّ نفيهم للتجسم وإثباتهم للرؤية يعدّ تناقضا لأنّ إثبات الرؤية هو بنفسه إثبات للتجسم وكلاهما من آثار الإمكان والجسمانية المنزّه عنها الباري عزوجل.

ولا بدّ هنا من البحث في نقطتين :

الأولى : أدلة العدلية (٢) على امتناع رؤيته تعالى بالبصر.

الثانية : أدلة الأشاعرة على جواز الرؤية يوم القيامة.

أما النقطة الأولى :

استدلّ الإمامية «رضوان الله تعالى عليهم» على امتناع الرؤية البصرية دون القلبيّة بأدلة عقلية ونقلية.

أمّا البراهين العقلية : بوجوه عدّة منها :

البرهان الأول :

إن الرؤية المدّعاة لا تخلو من أمرين :

إما حقيقية : بمعنى الإدراك الحسّي.

وإما مجازية : بمعنى الإدراك العلمي التام أو الكشف الشهودي القلبي.

فإن كانت الأولى : فإنها مستحيلة عليه تعالى وخلاف المتبادر من لفظ الرؤية عرفا ، لأنّ ذلك الإدراك مستلزم لإثبات الجهة له تعالى فيكون جسما وهو باطل بالضرورة ، فالقول برؤيته بالبصر حينئذ محال.

__________________

(١) أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرّام. لاحظ الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ١٠٨.

(٢) العدلية مصطلح أطلق على الإمامية لتنزيههم الباري عزوجل في مقابل غيرهم ممن نسب إليه ما لا يليق بشأنه كما سوف ترى.

١٢٦

وإن كانت الثانية : فلا بأس بها إذ إن رؤيته تعالى بالكشف الشهودي والعلم الضروري بوجوده تعالى مما لا نزاع فيه بين أحد من المسلمين فهو القدر المتيقن من الرؤية ، ولأن العلم بذات الباري وصفاته وأسمائه يوم القيامة يصير ضروريا لدى كل الناس حتى عند غير العارفين به تعالى ؛ نعم العلم به عزوجل بالشهود القلبي في الدنيا متفاوت بحسب القابليات سعة وضيقا ؛ وهذا النوع من الإدراك الشهودي خارج عن محط البحث ومحل النزاع ، فيتعيّن أن يكون مراد الأشاعرة من الرؤية هي الحقيقية أي الرؤية الحسّية.

البرهان الثاني :

إنّ الإبصار أو الرؤية لا يمكن تحقّقها إلّا إذا كان المبصر مقابلا للرائي من دون واسطة أو ما في حكم المقابل له بواسطة كالمرآة ، وهذا لا يناسب الرب الجليل لأنه ينتج أن يكونعزوجل مقابلا أو ما في حكمها مما يعني محدودية الخالق وكونه في جهة يشار إليه بأنه هنا أو هناك وهذا مستحيل في حقه تعالى لاستلزامه المحدودية والجهتية المنزّه عنهما الباري العظيم ، لأنّ المحدودية والجهتية من لوازم الجسمية المتقدّرة بالأبعاد الزمانية والمكانية ، والله سبحانه وتعالى خالق الزمان والمكان والمادة ، لذا لا تناله يد البصر والوهم ، بل العقل عاجز عن إدراك حقيقته وكنهه إذ لا ماهية ولا جنس ولا فصل له حتى يتعقّلها الإنسان ويعرفه بها ، بل العقل متكفّل أن يعرفه تعالى بالصفات والأسماء مع سلب النعوت التي لا تليق بذاته المقدّسة.

البرهان الثالث :

إنّ الرؤية المدّعاة سواء كانت عبارة عن انطباع الصور في العين أو انعكاس أشعة من أجهزة العين إلى الشيء المرئي ، فهو على كلا الأمرين تستلزم أن يكون سبحانه جسما ذا أبعاد من الطول والعرض والعمق ، ومحلّا لعوارض وأحكام جسمانيّة مما يستدعي محدوديته واحتياجه للغير وكل ذلك منزّه عنه تعالى.

إضافة : إلى أن الرؤية البصرية لو وقعت على الذات الإلهية «تعالى الباري عن ذلك علوّا كبيرا» أو على بعضها استلزم التناهي وهو خلف كونه تعالى مطلقا ، لأنه إن وقعت على كل ذلك الذات استدعى كونه تعالى مركّبا محدودا ومتناهيا محصورا ، وإن وقعت على بعض الذات استدعي التبعيض التركيبي ، وكلاهما باطلان كما قلنا لاستلزامهما المحدودية التي هي من لوازم المادة.

١٢٧

أما البراهين النقلية : وهي صنفان :

الأول : الكتاب العزيز.

الثاني : أخبار السنّة المطهّرة.

فمن الكتاب العزيز آيات عدّة :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام / ١٠٤).

الآية في مقام مدح الله عزوجل نفسه بنفي إدراك الأبصار له ورؤيته للأبصار ، فيكون إثباته له يعدّ نقصا ، بمعنى أننا لو قلنا بجواز الرؤية البصرية له تعالى لكنا أثبتنا صفة نقص له تعالى.

ووجه الاستدلال بالآية المباركة :

أنه سبحانه لا تراه العيون لأنّ الإدراك متى قرن بالبصر لم يفهم منه إلّا الرؤية كما أنه إذا قرن بآلة السمع ، فقيل أدركت بأذني ، لم يفهم منه إلّا السماع وكذلك إذا أضيف إلى كل واحد من الحواس أفاد أن تلك الحاسة آلة فيه ، فقولهم أدركته بفمي معناه وجدت طعمه ، وأدركته بأنفي معناه وجدت رائحته ، فمعنى أنه سبحانه يرى ولا يرى باعتبار أن الموجودات منها ما يرى ويرى كالأحياء ومنها ما يرى ولا يرى كالجمادات والأعراض المدركة ومنها ما لا يرى ولا يرى كالأعراض غير المدركة ، فالله سبحانه خالف جميعها وتفرّد بأنه يرى ولا يرى وتمدح في الآية بمجموع الأمرين كما تمدّح في آية أخرى بقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (١).

فسلب الإدراك البصري من صفات الجلال ، وكلّما كان سلبه كذلك كان ثبوته من شخص ما في وقت ما نقصا في حقه تعالى ، فينتج أن ثبوت الإدراك البصري نقص في حقه تعالى.

الآية الثانية :

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٣٤٤ والتبيان للطوسي ج ٤ ص ٢٢٤.

١٢٨

جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف / ١٤٤).

الشاهد في الآية : قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) حيث إنّ أداة «لن» تفيد النفي الأبدي كما صرّح ذلك علماء اللغة ، واتفق عليه كلام العرب ، فلو كان سبحانه ممكن الرؤية بحاسة البصر لكان الأنبياء والأولياء أولى الناس برؤيته ، وحيث إن موسى عليه‌السلام لم يره ببصره فلا يراه غيره بطريق أولى ، فثبت أنه تعالى ليس مرئيا بالبصر.

وأيضا فإن «لن» عند إطلاقها تفيد النفي الأبدي وإلّا لكان سبحانه قيّده بقيد في الدنيا ، فعدم تقييده بقيد يبقى الإطلاق على شموله فيثبت بذلك عدم إمكان رؤيته في الدارين.

وسيوافيك بإذن الله التفصيل عند البحث في أدلّة المجوّزين.

الآية الثانية :

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة / ٥٦).

الآية المباركة في تعداد مساوئ بني إسرائيل على مرّ العصور ، فقد طلبوا من النبي موسى عليه‌السلام لمّا جاءهم بالتوراة أن يريهم الله تعالى جهرة اعتقادا منهم أنه عزوجل جسما يرى بالعين المجردة ، وهذا يذكّرنا بالمادية الحديثة التي لا تؤمن بموجود لا تراه العيون وتلمسه أيدي التجربة ، فكان عاقبة الأوائل ثم الأواخر «إن شاء الله تعالى» أن أخذهم وسيأخذهم بعذاب الهون في الآخرة ، وبصاعقة أحرقتهم عن آخرهم ، ولو كان التماسهم الرؤية البصرية أمرا ممكنا لم يكن بسؤالهم بأس ، فإما أن تجاب دعوتهم أو تردّ ، ولا يصح إحراقهم بالصاعقة.

وللآية نظير كما في قوله تعالى :

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (النساء / ١٥٤).

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (الفرقان / ٢٢).

فلو كانت الرؤية جائزة كما يتوهم الأشاعرة لم يكن التماسها عتوّا لأنّ من

١٢٩

سأل الله نعمة في الدنيا لم يكن عاتيا ، كما أنه لا يعدّ استعظاما واستفظاعا لأنّ كل ذلك الاستعظام والاستفظاع لا يناسب كونه أمرا ممكنا ونعمة من نعمه سبحانه يكرم بها عباده في الآخرة.

الآية الرابعة :

قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه / ١١١).

وجه الاستدلال :

أنه لو صحّت الرؤية البصرية كما يدّعي مجوّزوها فلا تخلو من أمرين :

إمّا أن تقع على الكل.

وإما أن تقع على الجزء.

وكلاهما يعدّان نوع إحاطة به تعالى مع أنه في الآية نفي الإحاطة بكلا قسميها ، فعدم الإحاطة به غير مقدور حتى الإحاطة المعنوية الكلية طبقا للإطلاق المندرج في الآية ، ولا يمكن تقييده بوقت دون آخر لأنّ الإطلاق بعدم الإحاطة حكم عقلي لا يجوز تقييده لأنّ الأحكام العقلية غير قابلة للتخصص بزمان دون آخر.

علاوة على ذلك : فإنّ القول بجواز إحاطته بالعين خلف كونه محيطا لقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (النساء / ١٢٧).

ومن أخبار السنّة المطهّرة :

الحديث الأول :

ما ورد عن أبي حمزة الثمالي عن مولانا الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال عليه‌السلام :

لا يوصف الله بمحكم وحيه ، عظم ربّنا عن الصفة ، وكيف يوصف من لا يحدّ وهو يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير (١).

الحديث الثاني :

ما روي عن الأشعث بن حاتم قال : قال ذو الرئاستين : قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : جعلت فداك أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية ، فقال

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ص ٤٠٣ ح ٧٧.

١٣٠

بعضهم لا يرى.

قال عليه‌السلام : يا أبا العباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

هذه الأبصار ليست هي الأعين ، إنما هي الأبصار التي في القلب لا تقع عليه الأوهام ولا يدرك كيف هو (١).

الحديث الثالث :

عن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال أبو هاشم :

سألت الإمام عليه‌السلام عن الله هل يوصف؟

قال عليه‌السلام : أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى.

قال عليه‌السلام : أما تقرأ قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، قلت : بلى.

قال عليه‌السلام : فتعرفون الأبصار؟ قلت : بلى.

قال عليه‌السلام : ما هي؟ قلت : أبصار العيون.

قال عليه‌السلام : إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون ، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام (٢).

الحديث الرابع :

روي عن صفوان بن يحيى قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد ، فقال أبو قرّة : إنّا روينا أنّ الله عزوجل قسّم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسّم لموسى عليه‌السلام الكلام ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرؤية.

قال أبو الحسن عليه‌السلام : فمن المبلّغ عن الله عزوجل إلى الثقلين الجن والإنس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى / ١٢) أليس محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : بلى قال عليه‌السلام : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ٩٨ ح ١٠ ، والتوحيد : ص ١١٢ ح ١١.

١٣١

جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثم يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر ، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر!!

قال أبو قرّة : فإنه يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إنّ بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) يقول : ما كذّب فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى فقال : لقد رأى من آيات ربّه الكبرى فآيات الله عزوجل غير الله وقد قال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة.

فقال أبو قرّة : فتكذّب بالروايات.

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبت بها (١) ، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علم ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء (٢).

الحديث الخامس :

عن عبد السلام بن صالح الهروي قال :

قلت لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام : يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث أنّ المؤمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنّة؟

فقال عليه‌السلام : يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى فضّل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جميع خلقه من النبيين والملائكة وجعل طاعته طاعته ومتابعته متابعته وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته. قال عزوجل : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقال النبي : من زارني في حياتي

__________________

(١) المقصود بالروايات التي تطرح ويضرب بها عرض الجدار تلك التي لا يمكن موافقتها مع القرآن الكريم بأي وجه من الوجوه ولا يقدر على تأويلها وإلّا فليس كل آية يخالف ظاهرها ظواهر القرآن يجب طرحها ، لوجود الكثير منها كهذه المرويات فإننا قادرون على تأويلها والعمل بها.

(٢) التوحيد : ص ١١٠ ح ٩.

١٣٢

أو بعد موتي فقد زار الله» ، درجة النبي في الجنة أرفع الدرجات ، فمن زاره إلى درجته في الجنة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى.

قال : فقلت له : يا ابن رسول الله فما معنى الخبر الذي رووه أنّ ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله؟

قال عليه‌السلام : يا أبا الصلت من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر ولكن وجه الله أنبياؤه وحججه صلوات الله عليهم هم الذين بهم يتوجّه إلى الله وإلى دينه ومعرفته ، وقال الله عزوجل : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن / ٢٧ ـ ٢٨) ، فالنظر إلى أنبياء الله ورسله وحججه عليهم‌السلام في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة» ، وقال عليه‌السلام : إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني يا أبا الصلت إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا تدركه الأبصار والأوهام (١) .. انتهى ملخصا.

إلى هنا قد عرفنا هدي القرآن الكريم ورأيه الصريح في الرؤية البصرية وكذا السنّة المطهّرة المتمثلة بالعترة لأنهم لا يعبّرون إلّا عن لسان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهم قرناء الكتاب الذين أمر النبي بإيحاء من الله تعالى بوجوب التمسّك بهما كما في الحديث المشهور :

«إني تركت فيكم (أو تارك) ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي كتاب الله عزوجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (٢).

فأهل البيت عليهم‌السلام بمثابة القرآن يجب الرجوع إليهما لئلا يتخبط المسلم في الحيرة والضلال والجهل والفساد ، ولكن للأسف حين ترى المسلمين بالأمس واليوم تاركين الثقل الآخر عديل القرآن ، فوقعوا في حيرة المتشابه فنسبوا إليه تعالى ما لا يليق به عزوجل فنسأله سبحانه أن يمنّ علينا بكمال معرفتهم عليهم‌السلام إنه جواد كريم.

__________________

(١) التوحيد : ص ١٧ ح ٢١.

(٢) مسند أحمد : ح ٣ ص ٢٦.

١٣٣

وأما النقطة الثانية : أدلة الأشاعرة على جواز الرؤية :

تمهيد :

إنّ مسألة الرؤية البصرية لا تمت إلى الإسلام بصلة ، وما استدل به عليها فمنقوض بحكم الأدلة القطعية ، وتأثّر جمهور العامة بها له جذوره التاريخية ، ولعلّ تسرّ بها إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان والقساوسة ، فصار ذلك مصدرا لبعض الأحاديث في المقام ، مما سبّب جرأة طوائف من المسلمين للأخذ بها واستدعاء الأدلة عليها.

ويشهد لما قلنا ما ذكره العهدان القديم والحديث نؤرّخ بعضا منها :

الأول :

أسفار الملوك الأوّل : الإصحاح الثاني والعشرون / ١٩ :

«قد رأيت الربّ جالسا على كرسيّه وكلّ جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره ، فقال الربّ من يغوي أخاب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد ...».

الثاني :

ما ورد في سفر دانيال : الإصحاح ٧ / ٩ :

«كنت أرى أنه وضعت عروش ويجلس القديم الأيام ، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار ...».

الثالث :

ما ورد في سفر الخروج : إصحاح ٢٤ / ٩ ، ١٠ :

«ثم صعد موسى وهارون وباداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل ، ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشّفاف ... ولكنه لم يمدّ يده إلى اشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا ...».

الرابع :

سفر التكوين : الإصحاح ٣ / ٩ ، ١٠ :

«فخاطا (يعني آدم وحواء عليهم‌السلام) أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر وسمعا صوت الربّ الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار ، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة ، فنادى الربّ الإله آدم وقال له : أين أنت فقال : سمعت صوتك في الجنة ...».

١٣٤

الخامس :

سفر الخروج : إصحاح ٣٤ / ٥ ـ ٦ :

«وبكّر موسى في الصباح وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الربّ وأخذ في يده لوحي الحجر ، فنزل الربّ في السحاب فوقف عنده هناك ونادى باسم الربّ ...».

السادس :

سفر التكوين : الإصحاح الأول / ٢٧ ـ ٢٨ :

«وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء ... فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ...».

السابع :

سفر التكوين : الإصحاح السادس / ٥ ـ ٧ :

«ورأى الربّ أنّ شر الإنسان قد كثر في الأرض ، وأنّ كلّ تصوّر أفكار قلبه إنما هو شرير كلّ يوم ، فحزن الربّ أنه عمل الإنسان (أي خلقه) في الأرض ، وتأسّف في قلبه».

هذه نبذة من أخبار التوراة يبدو فيها بصراحة مسألة تجسيم الله تعالى.

وأما مسألة التجسيد في الإنجيل فواضحة لا غبار عليها ومنها :

الأول :

ما جاء في إنجيل يوحنا : الإصحاح العاشر / ٣٨ :

«إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ، ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أنّ الأبّ فيّ وأنا فيه ...».

الثاني :

إنجيل يوحنا : الإصحاح ١٧ / ٢١ ـ ٢٤ :

«ليكون الجميع واحدا كما أنّك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد ، أنا فيهم وأنت فيّ ...».

١٣٥

الثالث :

إنجيل يوحنا : الإصحاح : ١٤ / ١٠ :

«ألست تؤمن أني أنا في الأب والأب فيّ ، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكنّ الأب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال».

إلى غيرها من دعاوي الحلول والتجسيد الباطلين بحكم العقل.

إذن للمسألة جذور في العهدين تسرّبت إلى عقول السذج من أبناء العامة مع تنميقها وزخرفتها بما يسمّى أدلة وبراهين بعيدة كلّ البعد عن منطق العقل والعلم.

تحرير المسألة :

قبل توضيح هذه النقطة لا بدّ من تحرير محل النزاع في الرؤية ؛ فنقول : إن العامة ينقسمون إلى فرقتين :

مجسّمة : يقولون بالرؤية البصرية بلا تنزيه للخالق العظيم.

منزّهة : يقولون بالرؤية مع التنزيه عن المادة والماديات.

والفرقة الثانية انقسمت قسمين :

فرقة تستند إلى أحكام العقل وحده.

وأخرى تستند إلى أحكام النقل مدعوما بالعقل.

فمن الفرقة الأولى : سيف الدين الآمدي (٥٥١ ـ ٦٣١) قال : لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير مسلك العقل ، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية وهي مما يتقاصر عن إفادة القطع واليقين فلا يذكر إلّا على سبيل التقريب ، ووافقه جماعة كأبي الحسن الأشعري.

ومن الفرقة الثانية : الرازي صاحب المحصّل في علم الكلام قال :

«الله يصح أن يكون مرئيا لنا خلافا لجميع الفرق ... فإنّ لقائل أن يقول إن أردت بالرؤية الكشف التام فذلك مما لا نزاع في ثبوته لأنّ المعارف تصير يوم القيامة ضرورية ، وإن أردت بها الحالة التي نجدها من أنفسنا عند إبصارنا الأجسام فذلك مما لا نزاع في انتفائه ... وإن أردت به أمرا ثالثا فلا بدّ من إفادة تصوره فإن التصديق مسبوق بالتصور لأنه إذا علمنا الشيء حال ما لم نره ثم رأيناه ، فإنّا ندرك تفرقة بين الحالين ، وقد عرفت أن تلك التفرقة لا يجوز عودها إلى ارتسام

١٣٦

الشبح في العين ، ولا إلى خروج الشعاع منها ، فهي عائدة إلى حالة أخرى مسماة بالرؤية ، فندّعي أنّ تعلّق هذه الصفة بذات الله جائز» (١).

وفي كتابه التفسير الكبير ج ١٣ / ١٢٦ تعقيبا على قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ..) عبّر عن هذه الحالة بالحاسة السادسة يخلقها سبحانه يوم القيامة.

وقد اتفق الأشاعرة على أن رؤيته تعالى تكون يوم القيامة كما عبّر ذلك أعلامهم منهم :

١ ـ الشيخ أبو الحسن الأشعري ، قال :

«وندين بأنّ الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله (٢).

وكذا مثله ما ورد في مقالات الإسلاميين ص ٣٢٢ عن الأشعري :

«أن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون ، قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين / ١٦) وأن موسى عليه‌السلام سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا وأن الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكّا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل في الآخرة».

٢ ـ ما اعتقده أحمد بن حنبل إمام الحنابلة من جواز الرؤية البصرية في الآخرة ، قال : «والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي : أن أهل الجنة يرون ربّهم لا يختلف فيها أهل العلم فينظرون إلى الله» (٣).

٣ ـ ما ذكره صاحب تفسير المنار : من أن جواز الرؤية من مذاهب أهل السنّة والعلم بالحديث (٤).

٤ ـ ما اعتقده البخاري في صحيحه ، كتاب التوحيد من أن المؤمنين يرونه عزوجل يوم القيامة ، وروى عدّة منها :

__________________

(١) المحصّل : ص ٣١٦.

(٢) الإبانة : ص ٢١.

(٣) الرد على الزنادقة : ص ٢٩.

(٤) تفسير الأمثل : ج ٤ ص ٣٨١ نقلا عن تفسير المنار : ج ٧ ص ٦٥٣.

١٣٧

حديث رقم ٧٤٣٤ :

عن قيس عن جرير قال : كنّا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا نظر إلى القمر ليلة البدر قال : إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامّون في رؤيته ، فإن استطعتم لأن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا» (١).

حديث رقم ٧٤٣٧ :

عن عطاء عن أبي هريرة : أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟

قال رسول الله : «هل تضارون في القمر ليلة البدر؟

قالوا : لا يا رسول الله.

قال : فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟

قالوا : لا يا رسول الله.

قال : فإنكم ترونه كذلك ، يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ... ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها ، شكّ إبراهيم : فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم فيقولون ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا جاءنا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا ...» (٢).

حديث رقم ٧٤٣٥ :

عن جرير قال : قال النبي : «إنكم سترون ربّكم عيانا» (٣).

قال ابن كثير في تفسيره تعقيبا على الروايات التي رواها البخاري في صحيحه :

[وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها لحديث أبي سعيد

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٨ / ٥٣٨ ط الدار العلمية.

(٢) صحيح البخاري : ج ٨ ص ٥٣٨.

(٣) نفس المصدر.

١٣٨

وأبي هريرة وهما في الصحيحين أن ناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟

قال : هل تضارون في رؤية الشمس الخ ... (كما في الحديث المتقدم).

ثم ساق الكلام مستشهدا بالصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزوجل إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن. وفي افراد مسلم بن جابر في حديثه : «إن الله يتجلّى للمؤمنين يضحك» يعني في عرصات القيامة ، ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم في العرصات وفي روضات الجنّات.

وقال الإمام أحمد حدّثنا أبو معاوية حدثنا عبد الملك بن أبجر حدّثنا يزيد بن أبي فاختة عن ابن عمر قال :

قال رسول الله : إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين.

ثمّ عقّب ابن كثير بالقول :

«لو لا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها ...] (١).

هذا هو المشهور بين العامة إلّا أن الآمدي نسب رؤيته تعالى بالأبصار في الدنيا أيضا فقال :

[اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أن رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلا ، واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا ، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون] (٢).

ومما يؤكد مقالة الآمدي ما ذكره الشهرستاني حاكيا عمّن يقول بالتشبيه قال : «أن مضر وكهمس وأحمد الهجيمي أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة ، وأن

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ج ٤ ص ٣٩٣ ط دار القلم.

(٢) شرح المواقف : ج ٨ ص ١١٥.

١٣٩

المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض ، وحكى عن الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا وأن يزوره ويزورهم وحكى عن داود الجواربي أنه قال :

أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك» (١).

إلى غير ذلك من المنكرات التي تشمئز منها النفوس وتتكهرب لها العقول ، آخذين بظواهر النصوص من دون رجوع إلى أحكام العقول ، ولو قالوا : إننا أردنا المجاز بهذا الكلام؟

قيل لهم : عليكم أن تأتوا بقرائن تبيّن المراد وتجلي غوامض الأسرار ، وإلّا فعند الإطلاق فلا يحمل الكلام إلّا على المتعارف من الأجسام.

عود على بدء :

وأما المجوّزون للرؤية البصرية فقد استدلّوا على ذلك بدليلي العقل والنقل.

أما العقل :

فبدعوى أنّ الجوهر والعرض قد اشتركا في صحة الرؤية ، وهذا حكم مشترك يستدعي علة مشتركة ، ولا مشترك بينهما إلّا الحدوث أو الوجود ، والحدوث لا يصلح للعليّة لأنه مركّب من قيد عدمي فيكون عدميا ، فلم يبق إلّا الوجود ، فكل موجود يصح رؤيته وأنه تعالى موجود (٢).

وبعبارة : إن ملاك الرؤية والمصحّح لها أمر مشترك بين الواجب والممكن وبين الجوهر والعرض ، وحيث إنه لا إشكال في إمكان رؤية الجواهر والأعراض لاشتراكهما في الرؤية بسبب وجود علة واحدة مشتركة من أجلها أمكن الرؤية ، لأنّ وحدة الرؤية دليل على وحدة سببها ، مثاله : زيد وعمرو جوهران يتميزان عن بعضهما البعض بلونين مختلفين يعرضان عليهما كالسواد والبياض ، فيجوز رؤيتهما معا لوحدة الرؤية التي هي دليل على وحدة السبب ، ووحدة السبب لا تخلو من احتمالين :

__________________

(١) الملل والنحل : ج ١ ص ١٠٥.

(٢) كشف المراد : ٣٢٣ ، والمحصّل : ص ٣١٧ ط طهران.

١٤٠