الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

٤. تسخير العالم له

لقد سخّر الله سبحانه وتعالى للإنسان جميع الموجودات السماوية والأرضية ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً ...). (١)

وفي آية أُخرى :

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ...). (٢)

ولقد أخبر سبحانه وفي آيات كثيرة انّه قد سخّر للإنسان الشمس والقمر ، والليل والنهار ، وعيون الماء والبحار و ... كما أشار القرآن أيضاً إلى أنّ هذا التسخير إنّما هو لعظم وأهمية منزلة الإنسان من بين جميع المخلوقات بحيث سخّرت له أعظم المخلوقات وأكبرها بنحو يستطيع الاستفادة منها ويتمكّن من استغلالها في حياته ، فقال سبحانه :

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ). (٣)

ولكن هناك نكتة جديرة بالاهتمام لكي لا يقع الإنسان في الوهم ، وهي أنّ المسخّر الحقيقي لهذه الأشياء هو الله سبحانه وليس الإنسان هو الذي يسخّر كلّ هذه الموجودات بقدرته وإرادته وإنّما هو يستطيع استغلال ذلك التسخير

__________________

(١). لقمان : ٢٠.

(٢). الجاثية : ١٣.

(٣). إبراهيم : ٣٣.

٨١

والاستفادة منه بالنحو الذي مكّنه الله تعالى وأقدره عليه.

هذه سلسلة من الملاكات والصفات التي تجعل من الإنسان أفضل المخلوقات ، ونحن لم نستعرض جميع تلك الملاكات والامتيازات ، بل هناك الكثير منها لم نذكرها روماً للاختصار. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٤ / ٢٤٠ ، ٢٤٢ ، ٢٥١ ، ٢٦٢ ، ٢٧٠.

٨٢

٨٣

الإنسان موجود اجتماعي

سؤال : من المعلوم أنّ الإنسان موجود اجتماعي ، وهذه المسألة من الأُمور التي بحثت في أكثر من علم حيث أُثيرت هنا عدّة تساؤلات ، منها هل الإنسان موجود اجتماعي بالطبع ، أم بالجبر والاضطرار ، أم ما ذا؟

الجواب : لا ريب أنّ الإنسان الحالي يحيا حياة اجتماعية ، وانّه يحصل على ما يرومه من خلال تقسيم المهام وتوزيع الأدوار ، سواء كان هذا التقسيم والتوزيع والفائدة الحاصلة منها تتم بصورة عادلة أم لا ، المهم انّه يسير في حياته على هذا المنهج من الحياة الاجتماعية ، ومن هنا أُثيرت الكثير من التساؤلات لتعليل ذلك الميل الإنساني نحو الحياة الاجتماعية.

فهل هو وليد الفطرة؟ أي هل الإنسان اجتماعي بالطبع بحيث إنّه خلق بنحو لا يمكن له إلّا العيش بصورة اجتماعية ، بدرجة لو خالف ذلك ولم ينضو تحت مجتمع ما فإنّه حينئذٍ يكون حاله كحال من يسبح عكس تيار الخلق وموازينه؟

أو انّ ذلك ـ الحياة الاجتماعية ـ مقتضى الاضطرار والجبر. وبعبارة أُخرى : انّ الإنسان مجبر على اختيار الحياة الاجتماعية ، بحيث لو استطاع لوحده أن يحلّ

٨٣

جميع مشاكله ويوفر لنفسه جميع متطلّبات ومستلزمات الحياة فانّه لا يخضع أبداً لحياة المجتمع ولا ينضوي تحت أي وجود اجتماعي ، وانّه لا يوثق نفسه بوثاق وقيود المجتمع وقوانينه ومقرراته؟

أو انّ ذلك وليد مجموعة من الحسابات العقلية الدقيقة للنفع والخسارة ، لأنّه رأى من خلال تلك الحسابات انّه لا يمكنه أن يعيش عيشة هانئة وبرفاهية وبعيداً عن كلّ المتاعب والمشاكل إلّا إذا انضوى تحت خيمة المجتمع؟ وكذلك أدرك ـ وفقاً لتلك الحسابات ـ انّه ليس بإمكانه ومقدوره السيطرة على جميع القوى الطبيعية والاستفادة منها على أكمل وجه من دون العيش الجماعي ، وإن كان أصل الحياة البسيطة لم يتوقف على المجتمع؟

هذه ثلاث نظريات طرحت في هذا المجال ، فوفقاً للنظرية الأُولى هناك عامل داخلي يسوق الإنسان نحو الحياة الاجتماعية حالها حال الحياة الزوجية ـ بين الرجل والمرأة ـ النابعة من فطرة الإنسان وجبلته التي تسوقه إلى تشكيل مجتمع مصغّر يتمثّل في الحياة الأُسرية ، بحيث تُعد حالة العزوبة والانفراد لكلّ من الذكر والأُنثى بمنزلة فقد عضو من أعضاء البدن الذي لا بدّ من إعادته إلى مكانه بأسرع وقت.

وأمّا إذا قلنا بالنظرية الثانية ـ نظرية الاضطرار للحياة الاجتماعية ـ فحينئذٍ يكون مثل الإنسان فيها مثل المجموعة التي تضل الطريق في الصحراء ويشتدّ بها العطش ممّا يضطرها للقيام وبصورة مجتمعة بحفر بئر للوصول إلى الماء ، حيث يشترك الجميع في عملية الحفر هذه لغرض إنقاذ أنفسهم من خطر الموت عطشاً.

وأمّا إذا اعتمدنا النظرية الثالثة ـ الحسابات العقلية لمقدار النفع والخسارة ـ فحينئذٍ يكون مثل الإنسان مثل التاجرين اللّذين يشتركان في معاملة واحدة لتدرّ

٨٤

عليهم أكبر قدر ممكن من المنفعة.

إنّ آيات الذكر الحكيم تشهد على أحقيّة النظرية الأُولى حيث تشير إلى أنّ العيش الجماعي معجون في خلق الإنسان وطبيعته وانّها كامنة في خلقه وفطرته ، وما دام الإنسان موجوداً وفطرته باقية على سلامتها فإنّه ينجذب نحو الحياة الاجتماعية ، ونحن هنا نكتفي بذكر آيتين فقط من بين تلك الآيات الكثيرة :

ألف : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (١)

ففي هذه الآية المباركة إشارة واضحة إلى فلسفة الخلقة وأنّه لما ذا خلق الإنسان من شعوب وقبائل متعدّدة ، وهذه الفلسفة هي : كما أنّ اختلاف الألوان والأشكال والصور تكون وسيلة للتعارف ، كذلك الاختلاف في الانتماء إلى القبائل والشعوب والملل المختلفة يكون سبباً لاختلاف الناس وتعارفهم ، ولا يخفى علينا أنّه إذا لم يخلق الإنسان بهذه الصور المختلفة في الانتساب وتعدّد المجتمعات والطبائع ، فإنّه سيكون حينئذٍ كمثل مصنوعات شركة واحدة لا امتياز لبعضها على البعض الآخر ولا يمكن تمييز بعضها عن البعض الآخر.

فعلى هذا الأساس تكون عملية الحياة اجتماعياً بالنسبة إلى الإنسان من الأُمور التي خلقت وأوجدت في طبعه وفطرته منذ اليوم الأوّل ، حيث خلق الإنسان لتحقيق تلك الغاية ، وهذا ما يعبّر عنه : (انّ الحياة الاجتماعية مقتضى خلق الإنسان وفطرته).

__________________

(١). الحجرات : ١٣.

٨٥

ب : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً). (١)

كذلك هذه الآية تشير وبوضوح إلى أنّ صلة القرابة النسبية والسببية من الأُمور التي ولدت مع الإنسان وعجنت في فطرته وخلقته ، ولذلك نجد الآية الكريمة بعد أن أشارت إلى خلق الإنسان بجملة (خَلَقَ) عطفت مسألة النسب والقرابة والمصاهرة على خلق الإنسان ، فقال سبحانه : (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) إذن ما دامت صلة القرابة والنسب والمصاهرة ، قد أخذت في خلق الإنسان ووجوده ، فلازم ذلك انّ حتمية الحياة الاجتماعية قد لوحظت هي الأُخرى ، وذلك لأنّ العلاقات والأواصر السببية والنسبية سبب للترابط بين الأفراد ، ولا ريب انّ هذا بعينه هو مفهوم الحياة الاجتماعية لا غير.

وبالنتيجة اتّضح جليّاً انّ الحياة الاجتماعية للإنسان هي الغاية والهدف من خلقه ، وانّ ذلك النوع من الحياة لا يمكن أن يكون وليد عامل آخر غير عامل الخلق والفطرة ، فلا عامل الاضطرار والجبر الخارجي ، ولا عامل النفع والخسارة هو الدخيل في تشكيل الحياة الاجتماعية للإنسان ، بل العامل الأساسي هو العامل الداخلي الفطري الذي خلق مع الإنسان ، وهو الذي يسوقه إلى مثل هذا النمط من الحياة. (٢)

__________________

(١). الفرقان : ٥٤.

(٢). منشور جاويد : ١ / ٣١٥ ـ ٣١٨ و ٣٢٢.

٨٦

الفصل الثالث :

علم الاجتماع

٨٧
٨٨

٨٤

مستقبل البشرية

سؤال : ما هو مصير البشرية ومستقبلها؟ وما هي بالتحديد النظرية القرآنية في خصوص مستقبل العالم ومصير البشرية؟

الجواب : لقد أولى القرآن هذه المسألة اهتماماً خاصاً وأشار إليها في آيات كثيرة ووضح وبصورة تامة مستقبل البشرية وما يؤول إليه مصير العالم ، فإذا ما جمعنا تلك الآيات ودرسناها دراسة شاملة وبإمعان وتأمّل فستتّضح لنا حينئذٍ النظرية القرآنية في هذا المجال ، ولذلك سوف نستعرض هذه الآيات التي تحدّثت عن هذه المسألة في موارد مختلفة والتي يبلغ عددها عشر آيات مباركات ، نذكرها تحت العناوين التي أشارت إليها.

١. وراثة الصالحين للأرض

إنّ الرؤية المستقبلية للإنسان واهتمامه بمصيره وبمستقبله يحثّانه على التعرّف على عاقبته ومصيره وما آلت إليه الأقوام والشعوب السابقة ، لأنّه ومنذ بزغ فجر التاريخ الإنساني اقترن بالنزاع والخصام بين الحقّ والباطل ، وانّ النصر يكون

٨٩

حليف الحق تارة وأُخرى حليف الباطل ، أي انّ الحرب كانت بينهما سجالاً وحسب التعبير القرآني :

(... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ...). (١)

فبالرغم من أنّ التاريخ البشري منذ ولادة الإنسان وإلى الآن يعيش حالة الصراع والسجال وتبادل النصر والهزيمة ، ولكن القرآن الكريم يقطع بأنّ الإرادة الإلهية قد تعلّقت بأنّ العاقبة ومستقبل البشرية سيكون من نصيب الصالحين والمؤمنين الذين سيرثون الأرض وما عليها ، وانّهم سيقيمون حكومة العدل والحقّ الإلهي وسيكون زمام الأُمور بأيديهم لا بيد الباطل وأهله ، وانّ العالم بأسره سينضوي تحت راية الحق والعدل ولا تقوم للباطل بعد ذلك قائمة ، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). (٢)

وفي آية أُخرى يقول :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...). (٣)

إنّ الاستخلاف المذكور في الآية ـ سواء قلنا : إنّهم خلفاء الله سبحانه ، أو قلنا : إنّهم خلفاء لمن سبقهم من الناس ـ يعني القيام بتدبير الأُمور وإقامة العدل الإلهي والقسط في المجتمع ، وإعمار الأرض وإصلاحها.

__________________

(١). آل عمران : ١٤٠.

(٢). الأنبياء : ١٠٥.

(٣). النور : ٥٥.

٩٠

وفي آية ثالثة هناك إشارة إلى أنّ العاقبة للمتّقين (... وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى). (١)

٢. استقرار رسالة الله في الأرض وإشاعة الأمن

لقد وعد القرآن الكريم بأنّ الإسلام سيعمّ المعمورة بأسرها وأنّ النصر النهائي حليف المسلمين ، ولكنّ هذا الوعد الإلهي ـ الذي لا بدّ أن يقع يوماً ما ـ لم يتحقّق حتّى هذه اللحظة ، ولكن الروايات الشريفة تؤكد انّ هذا الوعد الإلهي القطعي سيتحقّق في ظروف خاصة وفي دورة تاريخية أُخرى ، وهي التي يمسك فيها زمام الأُمور كلّها آخر وصي من أوصياء الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الا وهو الحجة بن الحسن الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) ، وحينئذٍ سيملأ الأرض ـ شرقاً وغرباً ـ قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. يقول تعالى مشيراً إلى هذا الوعد الإلهي الحقّ :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). (٢)

وفي آية أُخرى إشارة إلى نفس هذا المضمون ولكن بعبارة أُخرى حيث عبّرت الآية عن تلك الحقيقة بأنّ نور الله سبحانه لن يطفأ أبداً مهما حاولوا ذلك فقال تعالى :

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). (٣)

__________________

(١). طه : ١٣٢.

(٢). التوبة : ٣٣ ؛ والصف : ٩.

(٣). الصف : ٨.

٩١

٣. انتصار الأنبياء

لقد بذل الأنبياء والرسل عليهم‌السلام جهوداً حثيثة ومساعي جبارة وجهاداً عظيماً في طريق نشر رسالتهم الإلهية ، ولكن وبسبب الكثير من المحاولات المضادة لم يتمكّنوا من بسط تلك الرسالة على جميع أنحاء المعمورة وفي جميع أرجاء العالم ، ومن بين تلك الأسباب المانعة هي أنّهم قد واجهوا في كلّ عصر الكثير من المعاندين والمخالفين الذين تصدّوا لهذه الرسالة الإلهية الحقّة فكانوا مانعاً أساسياً في طريق الأنبياء عليهم‌السلام لتحقيق هدفهم المقدّس.

ولكنّ القرآن الكريم يؤكد أنّ هذه المواجهة والمعارضة من قبل أصحاب الباطل ما هي إلّا مواجهة مؤقتة ستئول إلى الاندثار والانهزام ، وأنّ هذا الجدار الذي بناه الطغاة وأصحاب الباطل سينهار حتماً ـ يوماً ما ـ وأنّ رسالة الأنبياء وأولياء الله هي التي ستحكم الأرض وتعمّ العالم بأسره.

ولقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في آيات متعدّدة منها :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ). (١)

وفي آية أُخرى أكّد القرآن الكريم أنّ المشيئة الإلهية قد تعلّقت بأنّ النصر سيكون حليف الأنبياء ورسالتهم ، حيث قال سبحانه :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). (٢)

وقال سبحانه في آية أُخرى :

__________________

(١). غافر : ٥١.

(٢). الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣.

٩٢

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ...) (١)

٤. انتصار الحقّ على الباطل

إنّ آيات الذكر الحكيم كما أنّها تؤكد على أنّ النظام التكويني هو نظام الخير والصلاح وانّ الخير سيتغلب على الشر قطعاً ، وكذلك ترى النظام الاجتماعي المبني على الحقّ والتوحيد والعدل هو النظام المستحكم والذي ستكون له الغلبة والانتصار على النظام الباطل المبني على الشرك والجور والطغيان ، وانّ العاقبة الحميدة والنصر النهائي سيكون من نصيب الصالحين والصادقين والمؤمنين حيث قال سبحانه :

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ...). (٢)

وفي آية أُخرى نرى القرآن الكريم يصف الحق والباطل بأجمل وصف وأدق تعبير حيث يشبّه الحق ب «الماء» والباطل ب «الزبد» وانّه خلال حركة الحقّ ومسيرته الطويلة سيمتطي الباطل ظهر الحق ويعتلي على رقبته فترة وجيزة ، ولكن سرعان ما تنجلي الغبرة عن زوال الباطل «الزبد» من الوجود وتنتهي وتزول كلّ آثاره من المجتمع ولم يبق في الساحة إلّا الحقّ الذي هو كماء الحياة يبقى يسري في العروق ليبعث فيها الدفء والحياة والحركة.

يقول سبحانه :

(... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ...). (٣)

__________________

(١). المجادلة : ٢١.

(٢). الأنبياء : ١٨.

(٣). الرعد : ١٧.

٩٣

٥. الإمداد الغيبي لمستقبل البشرية

يؤكّد القرآن الكريم على حقيقة مهمة وهي أنّ مصير البشرية سيؤول إلى انتصار الحقّ حتماً ، وذلك لأنّه سيظهر أفراد في المجتمع يضحّون بكلّ وجودهم ويبذلون الغالي والنفيس في نصر الإسلام والحقّ وإذلال الكفر والباطل ، ولذلك يحذر الله سبحانه البعض من الناس انّهم في حالة انحرافهم عن الطريق القويم والصراط المستقيم وارتدادهم إلى وادي الجهل والانحراف ، فإنّ عملهم هذا لن يضر الإسلام والمسلمين شيئاً وانّهم لم ولن يستطيعوا محو الرسالة الإسلامية الحقّة والقضاء عليها أبداً ، وانّ التاريخ البشري يشهد أنّه في كلّ عصر تظهر مجموعة من المؤمنين الذين يحبّهم الله ويحبّونه ، علاقتهم مع المؤمنين مبنيّة على الحب والتواضع والعزة والاحترام وانّهم أعزّة على الكافرين يدافعون وبكلّ قوّة وثبات من أجل نصر الحقّ وإعلاء كلمته يقول سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ...). (١)

وحينئذٍ لا بدّ من ملاحظة انّ هذه الوعود الإلهية والبشارات السماوية ، بحكومة العدل الإلهي وشمول الرسالة للعالم بأسره والتي لم تتحقّق حتّى هذه اللحظة ، لنرى متى يتم هذا الوعد وتتحقّق تلك الأُمنية التي طالما حلم بها الأنبياء والمرسلون والصالحون؟

إنّ الروايات الإسلامية الصحيحة هي التي تحلّ لنا هذه العقدة وتكشف

__________________

(١). المائدة : ٥٤.

٩٤

لنا حقيقة الأمر وتضع اليد على ذلك المجهول الذي طالما انتظرنا تحقّقه ، وذلك في عصر ظهور المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

إنّ الروايات الكثيرة قد تحدّثت وبصورة قطعية عن تطوّر البشرية وتكاملها عقلياً وفكرياً وفي مجال التطور الصناعي والتكنولوجي ، كما أنّها قد تحدّثت عن شمول العدل الإلهي لجميع ربوع المعمورة ، وانّ رسالة التوحيد هي التي تعم البشرية في نهاية المطاف.

وها نحن نذكر هذه الروايات بصورة مختصرة مكتفين بذكر رواية واحدة لكلّ موضوع من المواضيع التي سنذكرها.

مستقبل البشرية وفقاً للأحاديث الإسلامية

١. تكامل العقول

لا ريب أنّ لمرور الزمان والتجارب التي خاضها الإنسان خلال رحلته الطويلة ـ سواء كانت تلك التجارب حلوة أم مرّة ـ دورها الفاعل في تطوّر العقل البشري وتكامله ونمو استعدادات الإنسان وقابلياته ، حيث يدرك وفي ضوء الرعاية واللطف الإلهي ، انّ جميع النظريات والإيديولوجيات والمدارس الفكرية الوضعية عاجزة عن وضع الحلول المناسبة والعلاج الناجع لحلّ معضلة الإنسان ومشاكله الاجتماعية والروحية والنفسية ، ولذلك سوف يستجيب بسرعة وبدون أدنى تردّد لنداء المحرر والمنقذ العالمي الحجة ابن الحسن المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) بكلّ اطمئنان وبكلّ ارتياح واشتياق ، ولذلك ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله :

٩٥

«إذا قام قائمنا وضع الله يده على رءوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم». (١)

٢. التطور والتكامل الصناعي

من الواضح جداً انّ الثورات والتحوّلات الاجتماعية تحتاج إلى وسائل مادّية تمكّنها من النجاح والانتشار ، وهذا الأمر يسير بصورة طردية مع حركة وسعة هذه الثورة ، فلا ريب أنّ الثورة العالمية تحتاج إلى وسائل وأجهزة تكنولوجية متطوّرة جداً حتّى تتمكن من إيصال ندائها إلى جميع سكان العالم في أقصى الأرض شرقاً وغرباً ، وانّه من دون ذلك التطوّر والتكامل الصناعي لا يمكن أن يتسنّى للثورة الاجتماعية أن تنجح في إيصال رسالتها إلى العالم بأسره. من هذا المنطلق نجد أنّ الروايات الشريفة قد أكّدت على أنّه في عصر الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) تصل حالة التطور والتكامل العلمي إلى درجة يصبح فيها العالم بحكم القرية الواحدة وانّ من يسكن في المشرق يتحدّث إلى من يسكن في المغرب ويرى صورته.

فقد ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام :

«إنّ المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه بالمغرب وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق». (٢)

وهناك رواية أُخرى تسلّط الضوء على تلك الحقيقة بأوضح بيان وبصورة أجلى حيث ورد فيها :

«إنّ قائمنا إذا قام مدّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم ،

__________________

(١). منتخب الأثر : ٤٨٣.

(٢). منتخب الأثر : ٤٨٣.

٩٦

حتّى لا يكون بينهم وبين القائم بريد ، يكلّمهم فيسمعون ، وينظرون إليه وهو في مكانه». (١)

٣. هيمنة الإسلام على العالم

إنّ الأحاديث والروايات الإسلامية تطبّق البشارات القرآنية والوعد الإلهي بحاكمية الإسلام وشموليته للعالم على زمان ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) حيث يقول الإمام الباقر عليه‌السلام في هذا الخصوص :

«يبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله عزوجل به دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون». (٢)

٤. التكامل الأخلاقي

لقد استنتجنا من خلال البحوث السابقة انّ التكامل الحقيقي رهين بالبعدين المادي والمعنوي معاً ، وانّ التكامل الآحادي الجانب ـ ماديّاً أو معنوياً ـ لا يُعدّ تكاملاً حقيقياً.

ولذلك نجد الروايات والأحاديث الإسلامية تؤكّد على التكامل الأخلاقي في عصر ظهور الإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ) ، وانّ العبارة التي يجمع على نقلها كلّ المحدّثين المسلمين نقلاً عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانّه «يَمْلأُ الأَرضَ قِسْطاً وعَدلاً» تحكي عن تلك الحقيقة التي أشرنا إليها وهي وصول الإنسان إلى درجة عالية من التكامل والرقي الأخلاقي.

__________________

(١). منتخب الأثر : ٤٨٣.

(٢). منتخب الأثر : ٢٩٢.

٩٧

٥. تعمير الأرض وإزالة الدمار

إنّ الأحاديث الإسلامية والروايات تشير إلى أنّ الإنسان سيسيطر على جميع المقدّرات وانّه سيكشف الكنوز الكامنة في أعماق الأرض ، وانّه سيتمكّن من إعمار الأرض من خلال تلك الإمكانات الهائلة التي سيحصل عليها ، فقد ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام قولهم :

«وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الأرض خراب إلّا يعمره». (١)

وفي النتيجة انّ جميع الحسابات العقلية والاجتماعية في خصوص مستقبل البشرية تتطابق مع الرؤية القرآنية والأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، مع فارق واحد وهو انّ هذه الآيات والروايات تحدّد وبوضوح زمان ذلك التكامل والتطور وتحصره في زمن ظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وتعتبر انّ جميع ذلك التطوّر والتكامل مرافق لحركة وظهور الإمام (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). (٢)

__________________

(١). منتخب الأثر : ٤٨٢.

(٢). منشور جاويد : ١ / ٣٦٦ ـ ٣٧٤.

٩٨

٨٥

إمكانية اتّحاد الثقافات والحضارات

سؤال : هل من الممكن أن يتّحد العالم بجميع ثقافاته وحضاراته المختلفة التي لكلّ منها نمط خاص ومنهج فريد في إدارة شئونها ، تحت راية واحدة ، وينضوي تحت حكومة وثقافة واحدة؟

الجواب : إنّ الإجابة عن هذا التساؤل تتوقّف على بيان طبيعة المجتمع وبيان علّة الميل الإنساني نحو الحياة الاجتماعية ـ وهذا ما بحثناه سابقاً ـ فهل يا ترى أنّ الإنسان يميل إلى الحياة الاجتماعية انطلاقاً من مبدأ الفطرة باعتبار أنّ العيش الجماعي معجون في خلقته وفطرته ، وهذا ما تؤكّده الآيات القرآنية والروايات الإسلامية التي ذكرناها سابقاً.

فإذا كانت حياته الاجتماعية مبتنية على هذا الأصل والأساس الباطني ، فإنّه وبلا أدنى شك وريب سوف يتّجه في مسيرته نحو العيش في ظل مجتمع واحد ، وانّ جميع المجتمعات والوجودات ستندمج في مجتمع واحد.

وبعبارة أُخرى : إذا كان الحاكم على الإنسان هو روح الاجتماع فانّها ستلقي بظلالها على جميع نواحي حياة الإنسان بالتدريج ، وحينها ـ وبلا شكّ ـ ستتّجه جميع الثقافات والحضارات المختلفة نحو الوحدة والاتّحاد وانّها وفي

٩٩

المستقبل القريب ـ ومن خلال التكامل الثقافي وانتشار وسائل الاتصال والحديثة والمتطورة ـ ستنحو تلك الثقافات والحضارات منحًى واحداً ، وستنضوي تحت خيمة واحدة في مجتمع واحد تحكمها ثقافة واحدة ورسالة واحدة ، وانّ الروح التي حثّت الإنسان وأخذت بيده لتشكيل مجتمعات صغيرة ومختلفة هي نفسها تأخذ بيده نحو الانسجام ونحو تشكيل مجتمع واحد.

ولقد ذكرت ـ وكما بيّنّا ـ لتفسير علّة ميل الإنسان نحو الحياة الاجتماعية العديد من النظريات ، فبعضها ذهب إلى أنّ ذلك وليد الميل نحو الاستعمار والاستغلال والمنفعة ؛ والأُخرى ذهبت إلى أنّ ذلك وليد الحسابات العقلية والفكرية للمصلحة والمنفعة دعته إلى انتهاج ذلك الطريق ، إذ أدرك وفقاً لتلك الحسابات العقلية انّه لا يتسنّى له الحياة الهانئة والطيّبة من دون أن ينظم إلى مجتمع ما ، وإلّا فإنّه يعجز بمفرده عن الاستفادة من تلك النعم واللّذات الموجودة في العالم.

ولكن النظرية الصحيحة والتي تبتني على أُسس علمية وتؤيدها الأدلّة الحسّية والعينية وكذلك تؤيّدها الآيات القرآنية والروايات الإسلامية ، هي النظرية التي ترى أنّ الإنسان «اجتماعي بالطبع» أي أنّ الميل للحياة اجتماعياً مخلوق في نفس الإنسان ومودع في فطرته.

انطلاقاً من هذه النظرية فإنّ روح الحياة الاجتماعية ـ وعلى مرّ التاريخ ـ تسير من البساطة إلى التكامل وستصل إلى مرحلة متطوّرة ومتكاملة اجتماعياً ، بحيث تندمج جميع الثقافات والحضارات والحكومات المختلفة والمجتمعات المتعدّدة في ثقافة وحضارة وحكومة واحدة ، وتوجد هناك إشارات من قريب أو بعيد لذلك في القرن العشرين.

ففي الوقت الذي نرى في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي انّ الميل

١٠٠