الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

الطائفة من الناس؟ إذ ممّا لا ريب فيه أنّ هؤلاء قد علّلوا تلك العاقبة السيئة بغلبة الشقوة عليهم في الحياة الدنيا. وهذا يقتضي منّا أن ندرس القضية بإمعان لنرى ما ذا يعنون من الشقاء الذي غلب عليهم؟ هل انّهم يرون ذلك نتيجة طبيعية لأعمالهم التي كانوا يقومون بها ، أو انّهم يرون الشقاء أمراً ذاتياً لهم وملازماً لخلقهم ووجودهم ولا علاقة له بعملهم من قريب ولا من بعيد؟

إنّ ذيل الآية الكريمة يبيّن لنا أنّهم في الواقع يعتقدون انّ هذا الشقاء أمر مكتسب وناتج عن عملهم الذي يقومون به في الحياة الدنيا وانّ عملهم هذا هو الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة البائسة والشقاء ، حيث قال سبحانه :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ). (١)

ومن المعلوم أنّ طلبهم العودة إلى الحياة الدنيا ومنحهم الفرصة للعودة مرة أُخرى لتصحيح ما صدر منهم ، واعترافهم بأنّهم إن عادوا مرّة أُخرى لنفس أعمالهم السيّئة فهم مقصّرون وظالمون ، فإنّ كلّ ذلك يحكي وبوضوح تام أنّهم يرون أنّ شقاءهم وسعادتهم مرتهن بنوع العمل الذي يقومون به ، وأنّه يمثّل النتيجة الطبيعية لأفعالهم ، وأنّهم بإمكانهم تبديل مصيرهم حسب ما يشاءُون ويرغبون ، ولو كانوا يرون أنّ عاقبتهم معلولة للشقاء الذي غلب عليهم والذي لا يمكن بحال من الأحوال تغييره وتبديله ، فحينئذٍ يكون طلبهم العودة إلى الحياة الدنيا والتعهد بعدم العودة للعمل الباطل ، لغواً لا معنى له.

لأنّ المفروض أنّ صورة الخلق في الحالتين واحدة وأنّه لا خلاف بينهم في هذا القسم ، ولذلك نرى الإمام الصادق عليه‌السلام يصرّح في تفسير الآية بقوله : «بأعمالهم شقوا». (٢)

__________________

(١). المؤمنون : ١٠٧.

(٢). توحيد الصدوق : ٣٥٦.

٦١

إلى هنا اتّضح جلياً مفاد الآيتين ، وأنّ الشقاوة الذاتية التي تلازم الإنسان منذ اللحظة الأُولى لولادته ولا يمكنه الخلاص منها لا معنى لها حسب الرؤية القرآنية ، وأنّ القرآن ينفي ذلك ويربط القضيتين «السعادة والشقاء» بعمل الإنسان ومنهجه الذي يعتمده في الحياة الدنيا ، إن كان صالحاً فهو في الآخرة من السعداء ، وإن كان عمله سيّئاً فهو في الآخرة من الأشقياء.

إذا عرفنا النظرية القرآنية في هذا المجال نعطف عنان القلم لدارسة بعض الروايات التي قد يستفاد منها ـ ظاهراً ـ الشقاوة الذاتية وكذلك السعادة ، لندرسها ونرى ما ترمي إليه هذه الروايات التي منها :

١. روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمّهِ». (١)

٢. «النّاسُ مَعادِنٌ كَمَعادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ». (٢)

إنّ الحديث الأوّل ـ على فرض التسليم بصحّة سنده ـ ناظر إلى الصفات الوراثية التي يحملها الطفل وتنتقل إليه من أبويه ، لأنّ الصفات الموروثة للأطفال لا تختص بالصفات البدنية والجسمية فقط ، بل تعمّ الصفات الأخلاقية كالفضائل النفسية والأخلاقية أو الرذائل النفسية ؛ فالطفل الذي تنعقد نطفته من أبوين مريضين بدنياً وأخلاقياً لا ريب أنّه سيتأثر ومنذ اللحظة الأُولى بذلك الأمر ، ويكون ذلك العامل مقدّمة أو مقدّمات لتوفير الأرضية المناسبة للشقاء والتعاسة (نعم نقول : إنّه يوفّر الأرضية المناسبة للسعادة أو الشقاء لا انّه يمثل العلّة التامة لذلك). وعلى العكس من ذلك الطفل الذي تنعقد نطفته من أبوين سالمين بدنياً وأخلاقياً فإنّه وبلا ريب ستتوفّر له الأرضية المناسبة للسعادة

__________________

(١). توحيد الصدوق : ٣٥٦ ، وروح البيان : ١ / ١٠٤.

(٢). الكافي : ٨ / ١٧٧ ، الحديث ١٩٧ ؛ من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٣٨٠ ، الحديث ٥٨٢١.

٦٢

والنجاح.

إذاً فبما انّ الصفات الأخلاقية والنفسية من الأُمور التي تورث وتُعدّ بمثابة الأرضية المساعدة للشقاء أو السعادة ، وليست هي العلّة التامّة لهما ، فبالطبع انّ ذلك لا يستلزم حينئذٍ أي نوع من الجبر والحتمية التي لا تنفك عن الإنسان ولا يمكنه التخلّص منها.

وأمّا الحديث الثاني فإنّه في الواقع ناظر إلى بيان حقيقة أُخرى لا علاقة لها بالشقاء أو السعادة وهذه الحقيقة هي انّ الحديث يحاول التركيز على نقطة مهمة وهي انّ الناس يختلفون من ناحية الاستعدادات والمواهب الكمالية مثلهم مثل الذهب والفضة في الخلق ، فإنّ الصفات الكامنة في الذهب غير الصفات الكامنة في الفضة وغيرها من المعادن ، وأنّ كلّ مخلوق في الواقع خلق للقيام بمهمة خاصة وتنفيذ ما يراد منه بمقدار ما منح من الاستعدادات والمواهب والصفات.

وفي الختام نشير إلى الحديث المروي عن الإمام الكاظم عليه‌السلام في هذا المجال :

عن محمد بن أبي عمير قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ وَالسَّعيدُ مَنْ سَعِدَ في بَطْنِ أُمّهِ» فقال : «الشقي من علم الله وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل أعمال السعداء».

قلت له : فما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له»؟ فقال : «إنّ الله عزوجل خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه ، وذلك قوله عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فيسّر كلاً لما خلق له ، فالويل لمن استحب العمى على الهدى» (١). (٢)

__________________

(١). توحيد الصدوق : ٣٥٦ ، الحديث ٣.

(٢). منشور جاويد : ٤ / ٣٨٥ ـ ٣٨٨.

٦٣

٨٠

حرية الإنسان ومسألة الهداية والضلال الإلهي

سؤال : إذا كان الإنسان حرّاً في مسيرته وأنّه يقف على مفترق طريقي الهداية والضلالة بحرية تامة ، وأنّ زمام الأُمور بيده فله أن يختار طريق السعادة والفلاح ، وله أن يختار طريق الضلال والشقاء والانحراف ، فلما ذا يا ترى نجد الكثير من الآيات التي قد يستشم منها رائحة «الجبر» ، وأنّ مصير الإنسان وعاقبته بيد الله سبحانه هو الذي يختار له ما يشاء ، كما في الآيات التالية :

(... فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ،

(... وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ...) (٢) ،

(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ...). (٣)

فإنّ ظاهر هذه الآيات المباركة أنّ مسألة الهداية والضلالة تابعة للإرادة الإلهية وانّ زمام الأُمور هنا بيد الله سبحانه ، وأنّ الإنسان ليس حراً في مقابل الإرادة

__________________

(١). إبراهيم : ٤.

(٢). النحل : ٩٣.

(٣). فاطر : ٨.

٦٤

الإلهية. أمام هذه الصراحة كيف نوجه حرية الإنسان أمام الإرادة والمشيئة الإلهية؟

الجواب : انّ بحث الهداية والضلال من وجهة نظر القرآن الكريم من البحوث المعمّقة والواسعة النطاق والمفصّلة ، بحيث إنّ دراستها دراسة كاملة وشاملة تستدعي أن نأتي بجميع الآيات الواردة في هذا المجال وتسليط الضوء على جميع زوايا تلك الآيات وبيان أسرارها والنكات الكامنة فيها لنستخلص النظرية القرآنية في هذا المجال ، وبما أنّ ذلك يستدعي بحثاً مفصلاً لا ينسجم مع هدف هذا الكتاب ، لذلك سوف نركّز البحث على نوع واحد من الآيات وهي الآيات التي تقول : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

الحقيقة انّ الاستدلال بهذا الطيف من الآيات القرآنية لإثبات نظرية «الجبر» يُعدّ غفلة عن هدف الآيات المذكورة ، والسبب في هذه الغفلة هو الخلط بين نوعين من الهداية وعدم التفكيك بينهما ، وهما : «الهداية العامة» والأُخرى «الهداية الخاصة» ، فإذا سلّطنا الضوء على هذين النوعين من الهداية يتّضح وبجلاء مفهوم تلك الآيات والمراد منها ، وستنتفي حينئذٍ فكرة الجبر بالكامل.

الهداية العامّة والخاصّة

من المعلوم أنّ الله سبحانه هو مفيض كلّ شيء ومن الأُمور التي يفيضها «فيض الهداية» وانّ له سبحانه نوعين من الإرشاد والهداية ، إحداهما عام وشامل بحيث يستوعب ويشمل جميع أفراد الإنسان ، والآخر هو الفيض والإرشاد الخاص وهو الذي يشمل بعض الأفراد الذين استفادوا من الهداية العامة على أحسن وجه وأكمله ، إذ لو انّ هذه الفئة من الناس لم تستغل الهداية العامة والفيض الشامل بصورة صحيحة ، فحينئذٍ لا تصل النوبة إلى مرحلة الهداية الخاصة ولا يشملها

٦٥

هذا الفيض أبداً.

فالهداية العامّة تتلخّص في نوعين من الهداية ، هما :

الف : الهداية العامة التكوينية

والمقصود هنا انّ الله سبحانه خلق جميع الموجودات وبيّن لكلّ مخلوق مهمته والوظائف التي ينبغي عليه القيام بها والمسئوليات التي لا بدّ من تحمّلها. يقول سبحانه في هذا الخصوص :

(... رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). (١)

ومن الواضح أنّ في هذا النوع من الهداية لا يوجد أدنى استثناء وتمييز وتفاضل ، بل حتّى الأفعال التي تنطلق من الحالة الغريزية لبعض الحيوانات والأعمال المنظمة والموزونة التي تصدر منها معلولة لذلك النوع من الهداية ، فضلاً عن الهداية الفطرية للإنسان ، ففطرة كلّ إنسان تهديه إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وكذلك العقل الموهوب له المرشد إلى معالم الخير والصلاح.

ب : الهداية العامة التشريعية

إنّ المراد من الهداية التكوينية هو ذلك النوع من الإرشاد والهداية التي تنبع من داخل الإنسان وكيانه ، وأمّا الهداية التشريعية فهي الهداية التي ترد على الإنسان من الخارج والتي تأخذ بيده في مواطن الخطر وترشده إلى ساحل الأمان وتوصله إلى ما يريده بيسر وطمأنينة ، وفي هذا النوع من الهداية ـ لا يوجد أدنى تمييز وتفاضل ـ حالها حال الهداية التكوينية كما قلنا ـ حيث توفر السماء للإنسان

__________________

(١). طه : ٥٠.

٦٦

كلّ وسائل الهداية والرشاد والصلاح والتي تتمثّل بما يلي :

١. الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

٢. الأولياء.

٣. الكتب السماوية.

٤. الأئمّة والقادة عليهم‌السلام.

٥. العلماء والمفكّرون.

وغير ذلك من الوسائل التي وضعها الله سبحانه تحت اختيار الجميع بنحو يتسنّى للجميع الاستفادة منها وأن ينهلوا من نميرها العذب على حد سواء بلا فرق وبلا تمايز.

وبسبب شمولية وعمومية هداية هذه المجاميع نراه سبحانه يصف «النبي الأكرم» و «القرآن» بأنّهما هاديان ومرشدان للأُمّة ويخاطب النبي الأكرم وبصراحة :

(... وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (١)

ويقول سبحانه واصفاً القرآن الكريم :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...). (٢)

إنّ العدل الإلهي يقتضي أن توفّر السماء للناس كافّة ، جميع سبل الهداية والرشاد وتسهّل لهم الوصول إليها ، وفهمها ، كما أنّ وظيفة العباد ومهمتهم تقتضي أن يستفيد الإنسان ـ ومن خلال الحرية التي منحت له ـ من جميع تلك السبل على أحسن ما يرام وأن يرغم أنف الشيطان وجنوده بالتراب ، وأن يتوجّه نحو الله

__________________

(١). الشورى : ٢.

(٢). الإسراء : ٩.

٦٧

سبحانه مستعيناً بكلّ تلك النعم التي توفرت له ، ومن المعلوم أنّ الاستفادة من تلك الطرق والوسائل لتحصيل هذا النوع من الهداية غير مشروط بأي شرط أو قيد ، وانّ الإرادة والمشيئة الإلهية تعلّقت بأن تضع كلّ تلك الوسائل تحت تصرف جميع أفراد الإنسان واختيارهم.

الهداية الخاصة

إنّ هذا النوع من الهداية يختص بمجموعة وطائفة خاصة من الناس الذين تشملهم العناية الإلهية الخاصة ، وهذه الطائفة ـ وكما قلنا ـ هي تلك المجموعة من عباد الله الذين استغلّوا الهداية العامة واستفادوا منها على أكمل وجه بحيث استنارت قلوبهم وأرواحهم بنور الهداية العامّة.

إنّ هذه الطائفة من الناس حينما استغلت الهداية العامّة ـ التكوينية والتشريعية ـ بالنحو الأكمل جعلت من نفسها محلاً مناسباً لنيل الفيض الإلهي الخاص والرعاية الإلهية الخاصة ، وأن يشملها الإمداد الغيبي والتوفيق والتسديد الإلهي (الهداية الخاصة).

وهذه الحقيقة التي ذكرناها ـ وهي انّ الهداية الخاصة تشمل تلك الطائفة من الناس الذين استفادوا من الهداية العامة بأحسن وجه ـ هي من الحقائق التي بيّنها القرآن الكريم في آيات متعدّدة ، حيث قال في بعضها :

(... إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ). (١)

وفي آية أُخرى قال سبحانه :

(... اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). (٢)

__________________

(١). الرعد : ٢٧.

(٢). الشورى : ١٣.

٦٨

إنّ المراد من كلمة (أَنابَ) في الآية الأُولى و (يُنِيبُ) في الآية الثانية هو العودة والرجوع والالتفات إلى الله سبحانه بصورة متكرّرة ، هو أنّ هذا النوع من الهداية من نصيب من أصغى لنداء العقل وخضع واستجاب لنداء المرشدين والمصلحين الإلهيين ، ووضع نفسه في طريق الهداية الخاصة طالباً من الله سبحانه المزيد من التوفيق والسداد والرعاية والعطف.

وإذا كان الملاك في شمول الهداية الخاصة للإنسان هو استغلاله لطرق الهداية العامّة على أكمل وجه ، فإنّ الملاك في الضلال والخذلان الإلهي هو الإعراض والعصيان والتمرّد على الهداية العامّة وعدم الاستفادة منها بالنحو المطلوب.

يقول سبحانه :

(... فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (١)

وفي آية أُخرى يقول سبحانه :

(... وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ). (٢)

إنّ استفادة الجبر من قوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) مبني على تصوّر وحدة الضلالة والهداية ، بمعنى انّهم تصوّروا أنّ لله سبحانه وتعالى نوعاً واحداً من الهداية والضلالة وأنّها تختص بذلك الفريق الذي أراد الله له الهداية والرشاد ويُحرم منها الفريق الآخر ، والحال أنّه يوجد هنا نوعان من الهداية : إحداهما عامّة ، والأُخرى خاصة ، وانّ الملازم للعدل الإلهي هو النوع الأوّل من الهداية ، وأمّا

__________________

(١). الصف : ٥.

(٢). إبراهيم : ٢٧.

٦٩

النوع الثاني من الهداية (الهداية الخاصة) فهو رهين ببعض الشروط التي من أهمها شرط الاستفادة من النوع الأوّل من الهداية واستغلالها بحيث يضع الإنسان نفسه أمام الرحمة والفيض الإلهي لكي تشمله الرعاية والهداية الخاصة.

صحيح أنّ الله تعالى جعل كلا النوعين من الهداية في إطار مشيئته وإرادته ، ولكن إرادته سبحانه ومشيئته لا تكون بدون ملاك وبلا جهة ، بل ملاكها وجهتها هو وجود اللياقة والكفاءة والاستعداد اللازم في العبد الذي وصف في بعض الآيات بقوله تعالى : (أَنابَ) و (يُنِيبُ) ولا شك أنّ الحصول على هذا الاستعداد ، وتلك اللياقة لا يتسنّى لكلّ إنسان مهما كان.

ولتوضيح فكرة الهداية الخاصة بنحو أتم وبصورة أجلى وأوضح نأتي بالمثال التالي :

لنفرض أنّ مجموعة من الناس قد وقفوا على مفترق طرق وأنّهم يبحثون عن مكان خاص يريدون الوصول إليه ، فأرشدهم أحد الأشخاص العارفين إلى الطريق ، فتحرك قسم منهم باتجاه الطريق الذي أُرشدوا له ، وبعد ذلك وصلوا إلى مفترق طرق وقاموا بنفس ما قاموا به في الحالة السابقة وأُرشدوا إلى الطريق. فإنّ هؤلاء وبلا شكّ سيصلون إلى المقصد الذي جاءوا من أجله ، لأنّهم أذعنوا إلى إرشادات العارفين بالطريق وأهل الخبرة ، وأمّا الطائفة التي بقيت واقفة في مكانها ـ مفترق الطرق الأوّل ـ أو أنّهم ساروا على خلاف ما أرشدوا إليه أوّلاً ، فلا ريب أنّهم كلّما جدّوا في السير لا يزيدهم السير إلّا بعداً عن الهدف الذي جاءوا من أجله «لأنّ العامل من غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزداده كثرة السير إلّا بعداً». (١)

__________________

(١). الأُصول الأصيلة للفيض القاساني : ١٤٨.

٧٠

من هذا المثل يتّضح لنا أنّ الله سبحانه وضع الجميع ـ وطبقاً لمفاد الآيات ـ تحت الهداية العامة فقال سبحانه :

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ...). (١)

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ). (٢)

ثمّ شاء سبحانه أن يفيض مرّة أُخرى على الذين أدركوا الطريق واهتدوا إلى الحق واستفادوا من الهداية العامة ، بفيض وعناية وهداية خاصة ليتسنّى لهم الوصول إلى قمة هرم الإنسانية ، وقد عبّر سبحانه وتعالى عن تلك الحقيقة والنعمة الإلهية والفيض الرباني الخاص بقوله :

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ...). (٣)

انطلاقاً من هذا الأصل نرى أنّ الله سبحانه وتعالى يعتبر الهداية إحدى ثمار ونتائج جهاد الإنسان وسعيه في طريق الله سبحانه حيث قال :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ...). (٤)

هذا من جهة ومن جهة أُخرى تعلّقت المشيئة والإرادة الإلهية أن تترك المنحرفين والضالّين ـ الذين اختاروا طريق الانحراف والضلالة بإرادتهم ، وحرموا أنفسهم من الاستفادة من المراتب العليا للهداية العامة لحالهم وهذا ما سبب ضلالهم وانحرافهم بصورة أشدّ ، لأنّه كلّما توغّل الإنسان في الانحراف ازداد بعداً عن الحقّ ، وهكذا كلّما خطا خطوة في طريق الانحراف فلا يزيده ذلك السير إلّا بعداً عن الهدف الذي أراده الله له.

__________________

(١). الإنسان : ٣.

(٢). البلد : ١٠.

(٣). محمد : ١٧.

(٤). العنكبوت : ٦٩.

٧١

إذاً صحيح أنّ الله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) ولكن مَن هم هؤلاء الذين يريد الله ضلالهم وعدم هدايتهم؟ القرآن المجيد يجيب عن هذا التساؤل قائلاً :

(... وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ). (١)

وفي آية أُخرى :

(... فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ...). (٢)

نعم أنّ الله قادر على أن يأخذ بأعناق الجميع إلى طريق الهداية والصراط المستقيم وأن يجبرهم على طي هذا الطريق حيث يقول سبحانه :

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ...). (٣)

ولكن في هذه الحالة لا يكون الإنسان إنساناً ، بل يتحوّل إلى آلة ميكانيكية ، لا تعمل بإرادتها ومشيئتها وإنّما عملها وحركتها تابع لإرادة العامل الفنّي المشرف عليها ، فمتى شاء ضغط على زر التشغيل فتعمل ومتى شاء أطفأها ، وانّها لا تملك القدرة على العصيان أو التمرّد أمام إرادة العامل القاهرة لها ، وكذلك يصبح الإنسان عاجزاً أيضاً عن الصمود أمام الغرائز الكامنة فيه ، ولذلك سيضطر لتكييف نفسه مع تلك الغرائز والميول وينظم حياته على أساسها حاله في ذلك حال النحل ، أو دودة القز أو ....

ولكن شاء الله تعالى أن يكون الإنسان إنساناً ومخلوقاً خاصاً له إرادته ومشيئته واختياره وحريته الكاملة التي منحها الله تعالى له ، ليتمكّن من خلال وضعها في الموضع المناسب أن ينطلق بنفسه إلى قمة هرم الكمال والرقي الإنساني

__________________

(١). البقرة : ٢٦.

(٢). الصف : ٥.

(٣). السجدة : ١٣.

٧٢

والسمو المعنوي.

وفي الختام إذا أردنا أن نقرّب الفكرة بمثال عرفي يمكن لنا أن نشبه لحن وطريقة الخطاب القرآني في الآيات المذكورة ، بلحن وطريقة مخاطبة المعلم لتلامذته حيث يقول لهم : أنا قد بيّنت لكم الدرس بصورة واضحة وأزلت من إمامكم كلّ حالات الغموض والإبهام الموجودة في المادة ، فما بقي عليكم إلّا المثابرة والجد والدراسة على أحسن وجه ، فمن يفعل منكم ذلك فسأمنحه الدرجة الكاملة ، وأُفيض عليه عطايا أُخرى حسب إرادتي ومشيئتي.

فمن الواضح هنا أنّ المعلم قد ربط مسألة الفيض على الطالب أو عدم الفيض بإرادته ولكنّه في نفس الوقت لاحظ صلاحيات الطالب ومواهبه واستعدادته ومدى استفادته من الجهود التي بذلها الأُستاذ في بيان الدرسي وتوضيحه. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٤ / ٣٧٨ ـ ٣٨٥.

٧٣

٨١

الخير والشر في الإنسان

سؤال : هل الإنسان خليط من الخير والشر أم أنّه خير مطلق أو شر مطلق؟

الجواب : يوجد في خلق الإنسان وطبيعته مجموعة من الدوافع المختلفة وإذا كان يمتلك صفات من قبيل «طلب الحق» و «حب الحقيقة» و «طلب العدالة» و «إرادة الخير» ففي المقابل أيضاً توجد فيه العديد من عوامل وصفات الجذب من قبيل «الأنانية والنفعية ، وطلب الجاه والثروة ، والشهرة» ويستحيل أن ينظر إلى هذين العاملين الدفع والجذب بنظرة واحدة ، إذ من المسلّم به انّ إحدى هاتين الخاصيتين تنبع من الروح الملكوتية والأُخرى وليدة الجانب المادي في الإنسان.

وعلى هذا الأساس يقال : انّ الإنسان مزيج وخليط من الخير والشر ومن الإيجاب والسلب.

إنّ ظاهر بعض الآيات القرآنية التي تتعلّق بخلق الإنسان تؤيد هذا النوع من التحليل البدوي ، وذلك لأنّ القرآن الكريم يشير إلى نقاط الضعف والقوة لدى الإنسان ويصفه بصفات مختلفة.

وها نحن نشير إلى بعض هذه الصفات ونقاط الضعف والقوة المختلفة التي وردت في تلك الآيات :

٧٤

١. الإنسان خليفة الله في الأرض :

(... إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...). (١)

٢. الله كرّم بني آدم :

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً). (٢)

إنّ هذه الآيات ونظائرها تبيّن قيمة الإنسان ونقاط القوة فيه وإنّها تقودنا إلى معرفة الجانب الملكوتي الكامن في الإنسان وانّه مركز الخير والإحسان في هذا العالم.

في مقابل هذه الآيات توجد طائفة أُخرى من الآيات التي تشير إلى نقاط الضعف والخلل في الإنسان ، حيث يصف القرآن الكريم الإنسان وفي آيات متعدّدة بصفات سلبية متعدّدة ، وكلّ آية تشير إلى صفة من تلك الصفات.

١. انّه مخلوق عجول :

(... وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (٣)

وفي آية أُخرى يقول سبحانه :

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ...) (٤)

٢. انّه مخلوق مجادل :

(... وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥)

٣. الإنسان مخلوق : «هلوع» و «جزوع» و «منوع» وهذه الصفات الثلاثة تتلخّص بصفة واحدة هي «الحرص الشديد» حيث يقول سبحانه :

__________________

(١). البقرة : ٣٠.

(٢). الإسراء : ٧٠.

(٣). الإسراء : ١١.

(٤). الأنبياء : ٣٧.

(٥). الكهف : ٥٤.

٧٥

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (١)

إنّ الإمعان في هذه الأبعاد السلبية للإنسان أو حسب المصطلح صفات الشر ، يثبت وبجلاء انّ هذه الصفات جميعاً لم تخلق مع الإنسان منذ نشأته الأُولى ، أي أنّها لم تكن من الأُمور الملازمة لخلق الإنسان وطبيعته ، بل انّ هذا الشر أو هذه الصفات السلبية في الواقع وليدة طغيان بعض الغرائز الضرورية للإنسان ، وبسبب غياب القيادة الصحيحة التي تتحكّم بتلك الغرائز والميول وصلت الحالة في الإنسان إلى ما وصل إليه من هذه الصفات.

فعلى سبيل المثال «الحرص والطمع» في الإنسان وليد طبيعي لحالة طغيان غريزة «حب الذات والأنانية» وغياب عامل الموازنة والتعديل الذي يمكنه أن يهذب هذه الغرائز الجامحة.

وكذلك صفة «الجدل والمجادلة» فإنّها إحدى فروع غريزة «حب الاستطلاع» ، فإنّ هذه الغريزة أوجدت في الإنسان لتأخذ بيده إلى معرفة الحقائق وكشف الأسرار والوصول إلى الكمال العلمي ولكنّها وللأسف تتحوّل في بعض الحالات إلى حالة من الجدل والعناد بسبب مجموعة من الأغراض والأهداف غير الصحيحة بحيث تخلق من الإنسان موجوداً معانداً جدلاً ، وهكذا الكلام في سائر الصفات السلبية.

والشاهد على عدم ملازمة تلك الصفات السلبية لخلق الإنسان ابتداءً وانّها في الواقع وليدة طغيان الغرائز الإنسانية ، هو انّ القرآن الكريم حينما يتعرض لذكر تلك الأبعاد السلبية في شخصية الإنسان ، يرفقها وعلى الفور باستثناء

__________________

(١). المعارج : ١٩ ـ ٢١.

٧٦

الشخصيات الصابرة وأصحاب الأعمال الصالحة والحسنة من هذه الصفات السلبية ، حيث يقول تعالى :

(... إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ* إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). (١)

فهذا الاستثناء شاهد صدق على عدم الملازمة بين الإنسان وبين الصفات السلبية وانّها لم تخلق مع الإنسان ، لأنّ الناس في الواقع متساوون في الخلق ولا تمايز ولا تفاضل بينهم من هذه الجهة ، وإنّما تحدث تلك الحالات نتيجة طغيان الغرائز كما قلنا لدى الناس غير المؤمنين بالله سبحانه ، وأمّا المؤمنون منهم الذين استقاموا أمام المحرمات وصمدوا أمام المغريات وعوامل الانحراف ومسكوا بيدهم زمام الأُمور فإنّهم مصداق لقوله سبحانه :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٢) فإنّ هؤلاء منزّهون عن هذا الطغيان الغرائزي ، وإنّ غرائزهم وميولهم تسير في الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى تكامل الإنسان ورقيّه.

وبعبارة أُخرى : انّ الإنسان البعيد عن تعاليم السماء والرسالة الإلهية المفعمة بالتعاليم الروحية والمعنوية ، تجمح به غرائزه لتخلق منه إنساناً «عنوداً» «لجوجاً» «ظالماً» «حريصاً» ، وأمّا الذي يرتوي من معين السماء العذب وينهل من ذلك النبع الصافي ويخشى الله تعالى حقّ خشيته فإنّه وبلا ريب ستتحول غرائزه وميوله إلى حالة أُخرى تختلف اختلافاً جوهرياً عن سابقه ، بحيث تتحول تلك الغرائز والميول إلى عوامل تأثير إيجابي وبناء في حياته ومسيرة تكامله. (٣)

__________________

(١). هود : ١٠ ـ ١١.

(٢). العصر : ٣.

(٣). منشور جاويد : ٤ / ٢٧١ ـ ٢٧٨.

٧٧

٨٢

أفضليّة الإنسان

سؤال : لا شكّ أنّ القرآن اهتم بالإنسان اهتماماً خاصاً وأولاه عناية تامّة بحيث سلط الأضواء على جميع أبعاد حياته ، فما هي يا ترى منزلة ومقام الإنسان وفقاً للنظرية القرآنية؟

الجواب : لقد أذهل التطوّر التكنولوجي الغربي عقول الكثير من الناس الذين يتأثرون بالعوامل الظاهرية ، إلى درجة أصبح الجيل المعاصر ينظر إلى السلف الصالح نظرة ازدراء وسخرية ، أو على أقل تقدير نظرة عطف وترحّم باعتبارهم خرجوا من هذه الدنيا ولم يتنعّموا بنعيم التطوّر التكنولوجي حيث إنّهم أصمّوا آذانهم وأغمضوا عيونهم وتوجّهوا بكلّ وجودهم إلى ما وراء المادة الذي لم يزدهم شيئاً!!!

إنّ عملية التطوّر الآلي خلقت تحوّلاً عظيماً في عمليتي «التوليد» و «الاستهلاك» وسهّلت عملية «اكتناز الذهب والفضّة» و «تكديس الثروات الطائلة» ، وبالنتيجة حرّكت الميول والغرائز الداخلية للإنسان بحيث طغى حس وغريزة الطمع والحرص على جميع الغرائز الأُخرى بشكل واضح.

إنّ الالتفات والاهتمام بغريزة وميل خاص على حساب الغرائز والميول

٧٨

الأُخرى وجّه ضربة قاصمة إلى الكثير من الحدود الأخلاقية بحيث أخضع شرف الإنسان وكرامته وعزّته إلى هيمنة المادة والثروة وانّ كلّ شيء يقع تحت غطاء المادة وخيمتها ، ولكن القرآن الكريم على العكس من ذلك يرى أنّ كرامة الإنسان وشرفه وعزّته تكمن في الأُمور التالية :

١. أفضلية الإنسان على جميع الموجودات

إنّ الاتجاه الفكري الذي يمكن أن يحفظ للإنسان أصالته وقيمته هو المذهب الذي يرى الإنسان موجوداً مركّباً من البدن والروح ، والمادة والمعنى ، والفناء والبقاء ، بل يرى أنّ جميع العالم مركّب من عالمي «الملك» و «الملكوت» ، وإنّ على الإنسان أن لا ينخدع بظواهر الأشياء ، ويتيقّن انّ كلّ ما هو موجود في هذا العالم له صورة باطنية تختلف عن صورته الظاهرية.

إنّ هكذا مذهب واتّجاه فكري يستطيع القول وبصوت محكم عن الإنسان :

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً). (١)

٢. إنّ الإنسان خليفة الله في أرضه

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). (٢)

__________________

(١). الإسراء : ٧٠.

(٢). البقرة : ٣٠.

٧٩

إنّ المراد من خلافة الله في الأرض هو أن يرسم الإنسان بوجوده وجود الله سبحانه ، وبصفاته وكمالاته كمالات الله وصفاته سبحانه ، وبفعله وعمله يرسم ويصور أفعال الله سبحانه ، ويكون حينئذٍ مرآة للحقّ تعالى.

٣. الإنسان مسجود الملائكة

إنّ من الكرامات والمنح الإلهية التي أولاها الله سبحانه للإنسان هو أنّه تقدّست أسماؤه قد أمر ملائكته بالسجود لآدم تكريماً وتعظيماً له حيث قال عزّ من قائل :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١)

إنّ هذا الأمر الإلهي والتعظيم والتكريم لم يكن أمراً اعتباطياً ومن دون أيّ ملاك ، إذ لو لم يكن آدم هو زهرة الخلق وانّه المخلوق العزيز والمختار لما وقع مورداً لهذا التعظيم والتبجيل من قبل الملائكة ، بل انّ الشيء الذي أوصل آدم إلى هذا المقام السامي بحيث جعله مسجوداً للملائكة هو علمه ومعرفته بأسرار ورموز عالم الخلق ، الذي عجزت الملائكة عن تحمّله والقيام به ، وبسبب هذه المعرفة وهذا العلم نصّبه الله سبحانه وتعالى خليفة له في الأرض بحيث استطاع من خلال علمه ومعرفته أن يكون مظهر صفاته وعلمه وقدرته سبحانه.

فأيّ درّة خالصة وجوهرة ثمينة كان يمثّلها آدم عليه‌السلام بحيث لم تتردد الملائكة لحظة واحدة في السجود له بأمر الله ووضع جباهها على الأرض تعظيماً وتكريماً لذلك المخلوق الذي هو خليفة الله في أرضه.

__________________

(١). البقرة : ٣٤.

٨٠