الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

٦. صلصال كالفخار :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ). (١)

وفي نفس المضمون الآيات ٢٦ ، ٢٨ و ٣٣ من سورة الحجر ، انّ هذه الآيات تشير إلى المادة الأُولى التي خلق منها آدم عليه‌السلام وذريته من بني الإنسان ، ومن المسلّم انّ هذه الأُمور الستة ترتبط وبصورة مباشرة بالحالات المادّية لخلق الإنسان الأوّل المتمثّل في أبي البشر آدم عليه‌السلام وانّ القرآن الكريم ينسبها ـ وبنحو ما ـ إلى جميع البشر حيث يقول تعالى :

(خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أو (خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ).

ولا ريب انّ المادة الأُولى لخلق الإنسان قد مرّت بتغيّرات كيفية تمثّلت بالحالات الستة التي أشارت إليها الآيات السابقة ولم يحدث أبداً أي تغيير جوهري أو انقلاب نوعي في تلك المادة.

ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم ليس من كتب العلوم الطبيعية لكي يبحث في هذه الأُمور بصورة مفصّلة ، ولكنّه ولأسباب وأهداف تربوية أشار إلى تلك التحوّلات الستة التي وقعت على المادة الأُولى لخلق الإنسان مذكّراً الإنسان بحقيقة مكوّناته لكي لا يغتر من جهة ولكي يرعوي المتكبّر ويعرف أنّه كيف قد تداركته الرحمة الإلهية ونقلته من حضيض التراب إلى أوج السمو والرفعة.

المرحلة الثانية : مرحلة التصوير

اعتبر القرآن الكريم مرحلة تصوير آدم هي المرحلة الثانية من مراحل خلق الإنسان حيث قال سبحانه :

__________________

(١). الرحمن : ١٤.

٤١

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ). (١)

ولكن لا بدّ من بيان المراد من التصوير الذي تتحدّث عنه الآية والذي جاء ذكره بعد الخلق لنعرف ما هي حقيقته؟

إنّ توضيح هذا الأمر يتوقّف على بيان المراد والمقصود من الخلق الوارد في الآية ، لأنّ لفظ «الخلق» يطلق تارة ويراد منه الإيجاد ، وتارة أُخرى يراد منه التقدير ، كما تقول العرب : «خلق الخياط الثوب» ، وهذا المعنى الثاني وإن كان صحيحاً في محلّه إلّا أنّه بالنسبة إلى هذه الآية غير صحيح ، لأنّ المراد منه هو الإيجاد والخلق ، والشاهد على ذلك انّه قد جاء بعد جملة (خَلَقْناكُمْ) جملة (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) ، ومن المعلوم أنّ التصوير يناسب الخلق من المادة الأُولى ولا يناسب معنى القياس والتقدير العلمي الذي قد يصدق حتّى مع عدم وجود المادة.

وحينئذٍ لا بدّ من معرفة المراد من التصوير ما هو؟

إنّ مفهوم التصوير هو نفس مفهوم التسوية الذي ورد في آية أُخرى حيث قال تعالى:

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ). (٢)

المرحلة الثالثة : مرحلة نفخ الروح

المرحلة الثالثة من المراحل التي مرّت بها عملية خلق الإنسان هي عملية

__________________

(١). الأعراف : ١١.

(٢). الحجر : ٢٨ ـ ٢٩.

٤٢

نفخ الروح أو النفس في البدن ، وفي الحقيقة انّ هذه المرحلة هي أهمّ المراحل ، لأنّ من خلال هذه المرحلة امتاز الإنسان عن غيره وجعلت له أفضلية على غيره ، لأنّ هذه المرحلة جعلت منه موجوداً مركباً من عدّة أبعاد ، فمن جهة هو موجود متعقّل مفكّر يمتلك فكراً وعقلاً يوصله إلى مصاف الملائكة ، ومن جهة أُخرى جهّز بمجموعة من الغرائز والميول النفسية التي إن لم تخضع للسيطرة والموازنة والرقابة العقلية فانّها تجمح به لتلقيه في قعر الذلّ والسقوط والانحدار.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المرحلة بقوله سبحانه :

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

وبهذا المضمون وردت الآية ٧٢ من سورة ص.

والنكتة الجديرة بالذكر هنا والتي تنفع لرفع التوهّم الذي قد يحصل من خلال ظاهر الآية ، وهي : إنّ من الثابت قطعاً أنّ الله سبحانه ليس بجسم ولا روح لكي ينفخ في الإنسان منها ، وإنّما عبّر عنها بهذا الأُسلوب وأضافها إليه لغرض بيان عظمة الروح الإنسانية كما أضاف سبحانه الكعبة المشرّفة إليه ، وقال جلّ شأنه :

(... أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ...) (١). (٢)

__________________

(١). البقرة : ١٢٥.

(٢). منشور جاويد : ١١ / ١٨ ـ ٢٤ وج ٤ / ١٩٩ ـ ٢٠٣.

٤٣

٧٤

كيفية خلق حوّاء

سؤال : قد عرفنا كيفية خلق آدم عليه‌السلام والمراحل التي مرّت بها عملية الخلق ، والآن نطرح السؤال نفسه حول زوجته حوّاء وكيفية خلقها؟

الجواب : انّ القرآن الكريم تحدّث عن خلق زوجة آدم في آية واحدة فقط حيث قال سبحانه :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ...). (١)

ونحن إذا أمعنا النظر في الآية المباركة نجد أنّه قد استعمل الحرف «من» في قوله : (خَلَقَ مِنْها) ، وهذا يعني انّ حوّاء من نفس الجنس الذي خلق منه آدم عليه‌السلام ، لأنّ «من» هنا لبيان الجنس بمعنى أنّ البشرية ترجع إلى أب واحد وأُم واحدة وإلى زوجين متماثلين في الخلق ، وانّهما جميعاً قد خلقا من التراب.

ثمّ إذا أمعنا النظر أيضاً في عملية عطف خلق حواء على آدم يتّضح لنا انّ المراحل التي طوتها عملية خلق آدم هي بعينها قد مرّت فيها عملية خلق حواء

__________________

(١). النساء : ١.

٤٤

أيضاً ، وانّ الآية تهدف إلى تحقيق مفهوم أخلاقي سامٍ طالما انتظرته البشرية طويلاً ، وهو إلغاء حالة التمييز العنصري الذي ابتليت به ، ذلك التمييز الكاذب الذي يبتني على مجموعة من الأمجاد الواهية كاللغة أو اللون أو الوطن أو الزمان و ... ، فإذن الآية تؤكد أنّ جميع البشر يرجعون إلى أصل واحد فلا مبرر لهذا التمييز المبني على العنصر أو اللغة أو الوطن ، ولا فضل ولا امتياز لأحدهما على الآخر إلّا بالتقوى.

وقد فسّر البعض حرف الجرّ في الآية «من» قائلاً : إنّه يفيد «التبعيض» والجزئية ، أي انّ حواء خلقت من جسم آدم عليه‌السلام ، واعتمدوا في هذا المجال على مجموعة من الروايات الضعيفة التي لا اعتبار لها في التراث الشيعي تشير إلى أنّ حواء خلقت من الضلع الأيسر لآدم. إلّا أنّ هذا التفسير غير صحيح لوجهين :

١. إنّ الآيات التي تحدّثت عن خلق مطلق الزوجات ، قد ورد فيها نفس التعبير الذي جاء بخصوص حوّاء عليها‌السلام حيث قال سبحانه :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها). (١)

وهل يوجد عاقل يدّعي أنّ كلّ رجل قد خلقت منه زوجته اعتماداً على هذا التفسير؟!

فمن الواضح أنّ مراد الآية هو انّ الله خلقهنّ من جنسكم أيُّها الرجال ، لا أنّه خلقهنّ من أعضاء جسمكم.

٢. انّ فكرة خلق حواء من ضلع آدم من الأفكار التي وردت في التوراة (٢) ،

__________________

(١). الروم : ٢. وانظر النحل : ٧٢ ، الشورى : ١١ ، الذاريات : ٤٩.

(٢). التوراة ، سفر التكوين ، الفصل الثاني ، الجملة ٢١ ، طبع لندن ، عام ١٨٥٦ م.

٤٥

وهذا يدلّ وبوضوح على انّ تلك الروايات هي من الموضوعات والإسرائيليات التي دسّت في التراث الإسلامي ، هذا من جهة ؛ ومن جهة ثانية انّ هناك العديد من الروايات والأحاديث الإسلامية التي تعارض تلك الروايات وتفنّد وتكذّب فكرة الخلق تلك المزعومة (١). (٢)

__________________

(١). تفسير العياشي : ١ / ٢١٦ ، الحديث ٧.

(٢). منشور جاويد : ١١ / ١٠٩ ـ ١١٠.

٤٦

٧٥

كيفية تناسل أولاد آدم عليه‌السلام

سؤال : من البحوث التي وقع فيها جدل ونقاش كثير هي مسألة كيفية تناسل أولاد آدم عليه‌السلام فهل تزوّج الإخوة بالأخوات؟ أم أنّهم تزوّجوا بمخلوقات أُخرى ، أم ما ذا؟

الجواب : لقد ورد في هذا المجال روايات عديدة وبحث عنه كثيراً ، وطال فيه البحث والجدل ، وتعدّدت آراء العلماء والمفكّرين ، ونحن هنا نستعرض هذه الأقوال من دون أن نبيّن مختارنا من تلك الآراء :

١. انّ البشرية تنتهي إلى آدم وحواء ولم يشاركهم فيها موجود آخر ، وهذا يعني أنّ الإخوة والأخوات قد تزاوجوا فيما بينهم ، والمبرر لهذا القول الضرورة ، أي انّ الضرورة استمرار النسل وعدم وجود زوجة أُخرى اقتضت أن يتم الزواج بهذه الطريقة.

٢. النظرية الثانية تذهب إلى أنّ الإخوة لم يتزوّجوا بالأخوات وانّما خلق الله لهم أزواجاً من الحور ، ثمّ تناسل أبناؤهم باعتبارهم أبناء عمومة.

٣. النظرية الثالثة تذهب إلى أنّ أبناء آدم قد تزوّجوا بمن تبقى من البشر

٤٧

الذين سبقوا آدم وحواء عليهما‌السلام.

صحيح انّ النسل البشري الحاضر يرجع إلى آدم عليه‌السلام ، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ آدم هو الإنسان الوحيد الذي وطأت قدماه هذه الأرض.

ولقد أورد الصدوق في «الخصال» رواية تشير إلى أنّ الله قد خلق في الأرض سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم ... ثمّ خلق الله عزوجل آدم أبا هذا البشر. (١)

وبما أنّ المسألة من المسائل التي تتعلّق بما قبل التاريخ لذلك من الصعب جداً إبداء الرأي فيها وبصورة قطعية. (٢)

__________________

(١). الخصال : ٣٥٩.

(٢). منشور جاويد : ١١ / ١١١.

٤٨

٧٦

بقاء نسل الإنسان الأوّل

سؤال : هل الإنسان المعاصر هو امتداد لنفس الإنسان الأوّل أم لا؟ وإذا قلنا إنّه نفس الإنسان الأوّل وامتداد له ، فكيف يا ترى تمّت هذه الاستمرارية والديمومة؟

الجواب : إنّ القرآن الكريم ـ وبعد أن بيّن عملية خلق الإنسان الأوّل ـ أشار إلى أنّ هذا الإنسان هو امتداد للإنسان الأوّل ، وانّ هذه الاستمرارية وبقاء النسل البشري على ما هو عليه قد تمت من خلال عملية طبيعية يصطلح عليها علمياً مسألة «التلاقح» أي التلاقح بين المادة الذكرية «الحويمن» والمادة الأُنثوية «البويضة» ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه القضية في العديد من الآيات وفي سور مختلفة منها قوله سبحانه :

(... وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (١)

وقد يستعمل القرآن لفظة «ماء» في التعبير عن مادة بقاء النسل البشري ،

__________________

(١). السجدة : ٧ ـ ٨.

٤٩

وتارة أُخرى يستعمل لفظة «النطفة». (١)

ولم يكتف القرآن الكريم في الإشارة إلى خلق الإنسان وكيفية استمراريته وديموميته ، بل أشار وفي آيات مختلفة إلى مراحل التكامل التي تمرّ فيها النطفة في الرحم ، وخاصة في سورة المؤمنون حيث تحدث عن هذه العملية التكاملية بصورة مفصّلة وجامعة ، فقال سبحانه :

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). (٢)

ولا ريب انّ هذه النظرية القرآنية لعملية التكامل الإنساني ، تجعل الإنسان يشعر بالاعتزاز والفخر حينما يطّلع عليها ، ولا يوجد فيها من قريب أو بعيد ما يدعو إلى الشعور بالاستياء أو الحقارة والذلّ ، خلافاً لبعض المدارس الفكرية التي صوّرت عملية استمرار النسل الإنساني بصورة فيها الكثير من الاستخفاف والتصغير وإشعار الإنسان بالذلّ والهوان ، حيث ذهبت إلى أنّ الإنسان الحالي قد مرّ بمجموعة من الأطوار والتحوّلات ، إذ كان في بداية نشأته وليد بعض الحيوانات الدانية ثمّ تطور وبسبب عوامل بيئية و ... حتى انتقل إلى مرحلة وصل فيها إلى موجود شبيه بالقردة ، ثمّ بعد ذلك انتقل إلى مرحلة القردية ، وفي النهاية رست به سفينة التطوّر على ما هو عليه الآن. ومن الواضح انّ هذه النظرية فيها الكثير من الإساءة لمقام الإنسان ومنزلته.

__________________

(١). انظر : الفرقان : ٥٤ ، السجدة : ٨ ، المرسلات : ٢٠ ، الطارق : ٦ ، وقد جاء في هذه الآيات لفظ «الماء» ، وانظر أيضاً : النحل : ٤ ، الكهف : ٣٧ ، الحج : ٥ ، المؤمنون : ١٣ و ١٤ ، وفاطر : ١١ ، يس : ٧٧ ، غافر : ٦٧ ، النجم : ٤٦ ، القيامة : ٣٧ ، الإنسان : ٢ ، وعبس : ١٩.

(٢). المؤمنون : ١٤.

٥٠

نعم ، إذا كان القرآن قد أشار إلى مراحل خلق آدم ومادته الأُولى وكيفية تكامل الإنسان في الرحم ، ففي الواقع انّ الغرض والهدف من هذه الإشارة هو تحقيق هدف تربوي يكون عاملاً مساعداً لتكامل الإنسان في سيره المعنوي وسموّه الروحي ، فحينما يفكّر الإنسان ويمعن النظر في بدايته والمراحل التي مرّ فيها وما هو عليه الآن يخضع لله سبحانه بكلّ وجوده وتنتفي في داخله حالة الكبرياء والعجب والخيلاء ، وحينئذٍ يضع جبهته على الأرض ساجداً لله سبحانه وشاكراً له على عظيم نعمائه. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١١ / ٣٠ ـ ٣١.

٥١

٧٧

الفطرة والغريزة

سؤال : من المصطلحات التي يكثر تداولها في علم الكلام وغيره من العلوم مصطلحي الفطرة والغريزة ، هل هما مصطلحان يشيران إلى مفهوم واحد أم أنّ بينهما تفاوتاً واختلافاً جوهرياً؟

الجواب : الفطرة لغة كما جاء في «لسان العرب» : ابتداء الخلقة ، كما قال ابن الأثير في قوله : كلّ مولود يولد على الفطرة ، قال : الفَطرُ : الابتداء والاختراع ، والفِطرة منه الحالة ، والمعنى أنّه يولد على نوع من الجِبلّة والطبع المتهيِّئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها ، وإنّما يعدل عنه مَن يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد. وقيل : معناه كلّ مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به ، فلا تجد أحداً إلّا وهو يقرّ بأنّ له صانعاً ، وإن سمّاه بغير اسمه. (١)

وبعبارة أوضح : هي صفات الإنسان الطبيعية والغير مكتسبة ، ولقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً. (٢)

__________________

(١). لسان العرب : ٥ / ٥٨ ، مادة «فطر».

(٢). انظر الروم : ٣٠.

٥٢

وأمّا الغريزة في اللغة : فهي بمعنى الطبيعة والسجية. وبالرغم من أنّ كلا اللفظين يرجعان من جهة الأصل إلى معنى واحد ، ولكن نجد في الأعم الأغلب تطلق «الأُمور الفطرية» على تلك السلسلة من الميول والرغبات المتعالية والسامية للإنسان مثلاً : فطرة التديّن ، فطرة العدالة ، وفطرة البحث والتنقيب ، وغير ذلك من الميول العالية.

ويستعمل مصطلح «الغريزة» في ذلك النوع من الميول والرغبات الداخلية التي لا تتوفر على تلك الخصّيصة من السمو والتعالي. بل غالباً ما تكون ذات بُعد مشترك بين الإنسان والحيوان مثل «الميول الجنسية» و «حب النفس» ، ومن هذا المنطلق نجد انّ مصطلح الغريزة يطلق غالباً على الميول الحيوانية.

كذلك يمكن أن نفرق بين المصطلحين بطريقة أُخرى وهي :

الغرائز : هي تلك السلسلة من الأُمور الطبيعية التي تنبع من سجية الإنسان وذاته ولها خلفية «فيزياوية أو كيمياوية» كالغريزة الجنسية التي لها :

١. خلفية فيزياوية : تتمثّل في الرحم والبويضة.

٢. خلفية كيمياوية : أي لها أثر كيمياوي خاص بها ، من قبيل الترشّحات الهرمونية.

وأمّا الميول والرغبات التي لا تمتلك أيّ خلفية كيمياوية أو فيزياوية ، كالميل إلى التديّن ومعرفة الله والعدالة وحب النوع ، فإنّ هذه الميول لا تمتلك أبداً أي خلفية من ذلك القبيل ، ولا يكون لها عضو خاص في البدن يكون مظهراً لتحريك وتحفيز تلك الميول والإحساسات الداخلية ، وكذلك لا يقترن تجلّي تلك الميول والرغبات بأيّ فعل أو انفعال كيمياوي. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٤ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

٥٣

٧٨

الإنسان وتفتح الكمالات وازدهارها

سؤال : ما هي العوامل المؤثرة في تفتّح وازدهار الكمالات؟

الجواب : انّ تفتّح وازدهار المواهب والاستعدادات الإنسانية ، من المسائل المهمة في «علم معرفة الإنسان» ، وذلك لأنّ كلّ إنسان يخلق وهو يحمل في داخله مجموعة من الاستعدادات والمواهب ، وانّ امتيازه عن الآخرين وتفاضله يكمن في تلك المواهب التي تتفتح شيئاً فشيئاً وتحت شرائط خاصة حيث تنتقل من مرحلة القوة إلى الفعلية.

وحينئذٍ لا بدّ من السعي لمعرفة ما هي العوامل والأسباب التي يمكنها أن تفعّل تلك الثروة الطبيعية والخزين الهائل من المواهب والقدرات والاستعدادات كي يصل الإنسان في النهاية إلى كماله الوجودي وتطوّره الحقيقي؟

لقد وضّح القرآن الكريم هذه الطرق بصورة جلية والتي منها :

١. إعمال الفكر والتأمّل في معرفة ذاته والعالم

إنّ المائز الأساسي بين الإنسان والحيوانات هو تلك القدرة العقلية والجهاز

٥٤

الفكري ، وهذا المائز هو من المميزات الأساسية والمهمة ، ولأهمية الفكر والتأمّل والتدبّر في الإسراع في تطوّر الإنسان وتكامله نجد القرآن الكريم قد ذكر كلمة «العقل» في ٤٨ مورداً ، و «الفكر» ١٨ مرة ، وكلمة «اللب» ١٦ مرّة ، و «التدبّر» أربع مرّات ، وجاءت كلمة «النهي» التي هي مرادفة للعقل مرتين ، وأمّا «العلم والمعرفة» الذي هو نتاج الفكر والتعقّل والتدبّر فقد جاء بجميع مشتقاته في القرآن الكريم ٧٧٩ مرّة.

إنّ إحدى كمالات الإنسان الوجودية هي معرفته بسر العالم وأسرار وخفايا الخلق بنحو يتمكن من خلاله قراءة لغة الخلق وفهم كوامنه بنحو يصبح العالم بعظمته أمامه وأمام الآخرين سهل الانقياد له ومطيعاً لإرادته. وهذا بالطبع ممّا تكون له عوائد بنّاءة وفوائد جمّة في رقي الإنسان وتكامله ، ولا ريب انّ ذلك لا يمكن أن يحدث إلّا في ظل إعمال الفكر والتأمّل والتدبّر ، وعلى هذا الأساس ونظراً لهذه الأهمية للسير الفكري نجد القرآن الكريم يذكر الإنسان بأنّه قد فتح عينيه على هذا العالم المترامي الأطراف وهو لا يعلم شيئاً ولا يدرك ما يحيط به من أسرار وخفايا وإمكانات هائلة ولكنّه بإعمال عقله وفكره يتوصّل إلى السر الكامن في هذا العالم الفسيح ، وحينئذٍ لا بدّ له أن يخضع لله سبحانه وتعالى بالطاعة والشكر على هذه النعمة والموهبة التي منحها له ، يقول سبحانه :

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (١)

٢. معرفة العلم الباعث على الكمال

صحيح انّ القرآن الكريم قد حثّ على التفكّر والتأمّل والتعمّق وإعمال

__________________

(١). النحل : ٧٨.

٥٥

الطاقات والقدرات في عملية تحصيل العلم والمعرفة ، وفتح أمام الإنسان أبواب العلم والمعرفة، ولكنّه في آيات أُخرى يؤكّد على حقيقة أُخرى وهي أنّه ليس كلّ علم أو معرفة يُعد عاملاً لكمال الإنسان وتفتّح قدراته وطاقاته وسموّه ، بل العلم الذي يحمل هذه الخصيصة والميزة هو العلم الذي يدور في إطار خاص ويخضع لشرائط معيّنة ، وانّ ما قد يقال من «انّ معرفة كلّ شيء خير من عدم معرفته» غير صحيح ولا يبتني على أساس محكم ، بل قد يكون في بعض الأحيان ذلك العلم ـ الذي لا يخضع لأُسس خاصّة وحسابات دقيقة ـ كالسيف القاطع بيد إنسان متوحّش.

إنّ العلوم التي تأخذ بيد الإنسان نحو الكمال والرقي هي العلوم التي تحمل صبغة إلهية ورائحة دينية ، التي تصنع من الإنسان موجوداً إلهياً يشعر بالرقابة الإلهية في كلّ حركاته وسكناته ولا يعمل إلّا ما يرضي الله سبحانه ويسخّر علمه وقدراته في هذا الطريق.

يقول القرآن الكريم في حقّ إبراهيم عليه‌السلام :

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ). (١)

إنّ أسباب الرشد أو نفس الرشد هو في الحقيقة عين العلم والمعرفة بنظام العالم وأسراره ثمّ الانتقال إلى عالم الملكوت وعالم الغيب ، وهذه الحالة من السمو والرقي التي تحصل من ذلك العلم تبين انّ ذلك العلم والمنهج الفكري الذي اعتمده الإنسان هو العلم الباعث على الكمال والرقي. ثمّ إنّ العلم الذي يجعل الإنسان يسير في إطار معرفة ذات الله وصفاته وأوامره ونواهيه ومعرفة الطبيعة وأسرارها ، إحدى شروطه هو أن يكون عاملاً في عروج الإنسان إلى عالم الملكوت

__________________

(١). الأنبياء : ٥١.

٥٦

وسوقه نحو الله سبحانه ، وخلق حالة من الارتباط بينه وبين ربّه بحيث لا يغفل عنه أبداً.

٣. اجتناب التقليد الأعمى

لم يحثّ الإسلام المسلمين على طلب العلم والفكر وكشف الأسرار الخفية لهذا العالم فقط ، بل حثّهم على اجتناب التقليد الأعمى والتبعيّة اللّامدروسة والغير موزونة والتحرّز عن كلّ ما يمت إلى ذلك بصلة.

صحيح انّ إحدى الغرائز الإنسانية وميوله هي «غريزة المحاكاة» أو «الميل إلى الانسجام» وانّ هذا الميل يلازم الإنسان في جميع مراحل الحياة وفي كافة الأدوار وخاصة في دور الطفولة حيث يلعب هذا الميل دوراً أساسياً في تكامله وتطوّره بحيث إنّ الطفل الذي يفتقد هذا الميل لا يتمكّن من تعلّم الكثير من الأُمور التي تحتاج إلى نوع من التقليد والمحاكاة كالمشي والنطق و ... نعم كلّ ذلك صحيح ، ولكن الاستفادة الصحيحة والانتفاع الطبيعي من هذه الغريزة يتوقّف على الاستفادة منها بصورة عقلية ومنطقية متّزنة ولا يترك الأمر لهذه الغريزة بحيث تكون هي الأساس الذي يبني عليه الإنسان حياته بنحو يؤدي إلى إلغاء دور العقل والفكر والمعرفة العقلية.

إنّ هناك طائفة من الناس حاربت العقل والفكر تعصّباً منها لطريقة وسنّة ومنهج الآباء والأجداد ، واتّبعوا آباءهم تبعية عمياء واضعين في أعناقهم نير الذلّ والعبودية الناتج من ذلك الميل.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى منهج عرب الجاهلية ومنطقهم وحجتهم في عدم الخضوع للحق وقبول الدين الحنيف والرسالة المحمدية ولما ذا يفضلون عبادة الأوثان على عبادة الله الواحد القهّار؟ فقال سبحانه حاكياً جوابهم الواهي :

٥٧

(... إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). (١)

وفي آية أُخرى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). (٢)

ثمّ إنّنا إذا ما وجدنا بعض المدارس والاتّجاهات الخاوية والواهية التي لا يدعمها العقل ولا يؤيدها الفكر قد بقيت واستمرت ، ففي واقع الأمر أنّ بقاء مثل تلك الاتجاهات المذهبية الواهية معلول حالة التعصّب الأعمى ، ومرهون بها ، ومدين لفكرة التمسّك بمنهج وطريقة السلف من الآباء والأجداد والتعصّب لها ، وهذا هو الستار الذي يحجب به الإنسان نور العقل والفكر عن نفسه ويحرمها من تلك النعمة الإلهية. (٣)

__________________

(١). الزخرف : ٢٣. انظر : يونس : ٧٨ ، الأنبياء : ٥٨ ، الشعراء : ٧٤ ، لقمان : ٢١.

(٢). المائدة : ١٠٤. انظر : البقرة : ١٧٠.

(٣). منشور جاويد : ٤ / ٢٩٥ ـ ٣٠١.

٥٨

٧٩

حرية الإنسان ومسألة السعادة والشقاء الذاتي

سؤال : إذا قلنا إنّ الإنسان خلق حراً وانّه مختار في أفعاله وإرادته وانّه لا يوجد ما يجبره على اختيار أيّ شيء من دون إرادته ورغبته ، فكيف يا ترى تنسجم تلك النظرية مع ما جاء في بعض الآيات والروايات التي تشير إلى السعادة الحتمية أو الشقاء الحتمي ، والذي يعني ـ بالطبع ـ أنّ الإنسان مجبر على طي طريق خاص لا يمكنه العدول عنه؟

الجواب : إنّ الإجابة عن هذه الإشكالية تقتضي أن نأتي بالآيات التي تحدّثت عن مسألة «السعادة والشقاء» ودراستها وبحثها دراسة معمّقة ، ليتّضح الجواب بصورة شفافة وجلية.

ومن هذه الآيات :

١. يصنّف القرآن الكريم الناس يوم القيامة إلى صنفين حيث قال سبحانه :

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ). (١)

ثمّ تعرّض القرآن الكريم لبيان عاقبة ونتيجة كلّ من الطائفتين وثوابهم

__________________

(١). هود : ١٠٥.

٥٩

وجزائهم حيث قال سبحانه :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ* فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ). (١)

ولا ريب انّ الآيات الكريمة ناظرة إلى بيان العاقبة الحميدة لتلك الطائفة من المؤمنين الذين أعملوا إرادتهم ـ وبحرية كاملة ـ في العمل الصالح ونيل تلك العاقبة الحميدة ، بمعنى أنّ عاقبة الإنسان ـ سواء كانت حميدة أو كانت سيّئة ـ مقرونة بعمله وفعله وأنّ سعادته وشقاءه مرهونان بنوع الفعل وطبيعة العمل الذي يقوم به في هذه الحياة. ومن المعلوم أنّه لا يوجد أدنى إشارة إلى حالة الجبر أو الضغط على الإنسان لاختيار طريق محدّد.

٢. الآية الثانية تشير إلى أنّ المجرمين يعلّلون سبب عاقبتهم التعيسة يوم القيامة بغلبة «الشقاء عليهم» وانّهم يعلمون بتلك العاقبة السيئة في الحياة الدنيا ، ولذلك ما كان بإمكانهم الخلاص منها والنجاة من مخالب تلك النتيجة الحتمية ، حيث قال سبحانه حاكياً عنهم قولهم :

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ* قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ). (٢)

والآن لا بدّ من بيان ما هو المراد من «الشقاء الدنيوي» الذي غلب على هذه

__________________

(١). هود : ١٠٦ ـ ١٠٩.

(٢). المؤمنون : ١٠٥ ـ ١٠٦.

٦٠