الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

الحرية الفردية لا مبرر له ، لأنّ هذه الحريات سوف تُؤمّن ضمن إطار القوانين التي ترعى المصالح الاجتماعية والفردية على السواء ، بل أنّ الدولة تقوم بتنمية وتقوية الكفاءات والقدرات الذاتية وتعريف الناس بمهامهم ووظائفهم اتّجاه المجتمع واتّجاه الله سبحانه ، إضافة إلى القيام بتنفيذ تلك القوانين الإلهية والاجتماعية وإنزالها إلى حيّز التطبيق.

من هنا ذهب كبار المفكّرين والفلاسفة في العالم من أمثال «أفلاطون» (١) و «أرسطو» (٢) و «ابن خلدون» (٣) وغيرهم إلى أنّ تشكيل الحكومة وإقامة الدولة ظاهرة ضرورية ولا بدّ منها.

نعم هناك اتّجاه آخر ذهب إليه «ماركس» ومؤيّدوه ـ انطلاقاً من تفكيرهم الفلسفي المبني على الصراع الطبقي ـ إلى أنّ ضرورة وجود الدولة وتشكيل الحكومة قائمة ما دام المجتمع يعيش حالة «الصراع الطبقي» ، ولكنّه إذا وصل إلى مرحلة «الشيوعية» وزالت جميع الفوارق الطبقية وعولجت جميع المشاكل الاقتصادية ، فحينئذٍ تنتفي الحاجة إلى وجود الحكومة وتشكيل الدولة.

ولكن غاب عن أصحاب هذه النظرية ـ التي ثبت زيفها ـ انّ حصر الهدف من تشكيل الدولة والغاية من إقامة الحكومة في حلّ المشكلة الاقتصادية وإزالة الفوارق الطبقية في المجتمع يمثّل رؤية آحادية الاتجاه بمعنى النظر إلى القضية من زاوية واحدة ، ولا ريب أنّ هذا النحو من التفكير لا يبتني على أُسس علمية وقواعد برهانية محكمة ، لأنّه وفي الحقيقة لا تنحصر الدوافع إلى وجود الدولة في الأمرين المذكورين ـ المشكلة الاقتصادية والطبقية ـ حتّى تزول بزوالهما ، بل هناك

__________________

(١). الجمهورية.

(٢). السياسة : ٩٦ ، ترجمة أحمد لطفي.

(٣). مقدمة ابن خلدون : ٤١ ـ ٤٢.

٤٢١

دوافع أُخرى وحاجات أُخرى تفرض إقامة الدولة ، فلا بدّ للمفكّر الاجتماعي أو الفلسفي أن ينطلق من ثوابت موضوعية وينظر إلى القضية من جميع الزوايا ثمّ يصدر حكمه في مثل هذه القضايا الحسّاسة جداً.

ونحن إذا نظرنا إلى حقيقة الإنسان نجده يمثل خليطاً من العقل والغرائز المتنوّعة ، كغريزة حب الجاه والتسلّط والأنانية وغيرها من الغرائز الفاعلة في حركة المجتمع ، الأمر الذي يقتضي وجوب إقامة الدولة وتشكيل الحكومة لتعريف الناس بوظائفهم وحقوقهم وواجباتهم ، ومعاقبة المخالفين والمتجاوزين على القانون وإعادة الحقوق المهدورة إلى أصحابها ، وإقامة النظم والانضباط في المجتمع ، ولا ريب انّ هذه المهام التي تقوم بها الدولة تهيّئ الأرضية المناسبة لإقامة الحضارة الإنسانية وتطوّر الإنسان على جميع الأصعدة المادّية منها والمعنوية.

ونحن هنا نسأل ماركس وأتباعه ، هل يمكن للمجتمع ـ حتى على فرض إقامة النظام الشيوعي فيه ـ أن يستغني عن تأمين السكن ، أو الصحة أو الاتصالات الهاتفية أو الطاقة الكهربائية أو الماء و ...؟ ولا ريب أنّه لا يوجد عاقل مهما كان مكابراً أن ينفي حاجة المجتمع إلى كلّ تلك الأُمور الضرورية.

وهنا يطرح التساؤل التالي نفسه وهو : مَن الذي يستطيع أن ينظم كلّ ذلك ويوزّع الأدوار ويقسّم المسئوليات وينظّم المجتمع بالنحو الذي يحصل على كلّ ما يبتغيه ويحتاجه؟

لا ريب انّه لا بدّ من وجود جهة تشرف على هذا الأمر وتقوم به ، وما هذه الجهة إلّا الحكومة والدولة لا غير.

من هنا نصل إلى هذه النتيجة القطعية : انّ المجتمع مهما وصل إليه من

٤٢٢

الرقي والرفعة ولو بنحو المدينة الفاضلة التي دعا إليها أفلاطون ، لا يستغني عن إقامة الحكومة وتشكيل الدولة ، لأنّه لا بدّ لحفظ النظام الاجتماعي والحضارة الإنسانية وتعريف الناس بمهامّهم ومسئولياتهم وحقوقهم وفصل الخصومات وحلّ المنازعات في المجتمع من وجود سلطة قوية تقوم بذلك لتصون النظام الاجتماعي وتحفظ المجتمع وتؤمّن بقاءه واستمراره وإدارة دفّة الأُمور. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٢ / ٣٢٦ ـ ٣٣٠.

٤٢٣

١٢٦

الرؤية الإسلامية للحكومة وصيغتها

سؤال : ما هي الرؤية الإسلامية لتشكيل الحكومة وما هي الصيغة التي يجب اتّباعها؟

الجواب : انّ حقيقة الإسلام ليست إلّا سلسلة من «الأُصول والفروع» المنزلة من جانب الله والتي كلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوة الناس إليها وتطبيقها على الحياة في الظروف المناسبة ، ولكن حيث إنّ تطبيق طائفة من الأحكام التي تكفل استقرار النظام في المجتمع لم يكن ممكناً دون تشكيل حكومة وقيام دولة ، لذلك أقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم العقل ، وبحكم ما كان له من الولاية المعطاة له من قبل الله ، على تشكيل دولة.

على أنّ الحكومة ليست بذاتها هدف الإسلام ، بل الهدف هو تنفيذ الأحكام والقوانين وضمان الأهداف الإسلامية العليا ، وحيث إنّ هذه الأُمور لا تتحقّق دون أجهزة سياسية ، وسلطات حكومية ، لذلك قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه بمهمة تشكيل مثل هذه الدولة وتأسيس مثل هذه الحكومة.

والخلاصة : أنّ إجراء حدّ السرقة والزنا على السارق والزاني ، وتنفيذ سائر

٤٢٤

الحدود والعقوبات ومعالجة مشاكل المسلمين ، وتسوية نزاعاتهم في الأُمور المالية والحقوقية ، ومنع الاحتكار والغلاء ، وجمع الضرائب المالية الإسلامية ، وتوسيع رقعة انتشار الإسلام ، ورفع الاحتياجات الأُخرى في المجتمع الإسلامي وغيرها لا يمكن أن تتحقّق دون وجود أمير جامع وزعيم حازم وبدون حكومة وزعامة مقبولة لدى الأُمّة.

وإذ يتوجب على المسلمين أن يطبقوا الأحكام الإسلامية بحذافيرها من جانب ، وحيث إنّ تطبيقها على الوجه الصحيح والأكمل لا يمكن دون تأسيس سلطة يخضع لها الجميع من جانب آخر ، لهذا كلّه يتحتّم أن تكون لهم أجهزة سياسية وتشكيلات حكومية ، في إطار التعاليم والقيم الإسلامية ليستطيعوا من خلالها أن يتقدّموا ـ في كلّ عصر ـ جنباً إلى جنب مع المتطلّبات المستحدثة ، والاحتياجات المتجدّدة.

لقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام إلى ضرورة تشكيل مثل هذه الحكومة ، بل إلى ضرورة وجود حاكم ما مرجحاً الحاكم الجائر على الفوضى الاجتماعية والهرج والمرج الناتج من عدم وجود حاكم ، وأشار في نفس الوقت إلى أنّ الحكومة في منطق الإسلام ليست هي الهدف ، بل هي وسيلة لاستقرار حياة كريمة آمنة حتّى يتمتّع كلّ فرد بحقوقه العادلة.

كما أشار الإمام علي عليه‌السلام إلى أنّ الدولة ـ في نظر الإسلام ـ وسيلة لحفظ النظام الاقتصادي والأمن والدفاع وأخذ حقوق المستضعفين من الأقوياء المستكبرين ، إذ يقولعليه‌السلام:

«انّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، ويُبلّغ الله فيها الأجل ، ويجمع به الفيء ،

٤٢٥

ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي». (١)

وفي رواية أُخرى قال :

«أمّا الإمرة البرة فيعمل بها التقي. وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي ، إلى أن تنقطع مدته ، وتدركه منيّته». (٢)

وعلى هذا الأساس يكون وجود الدولة ضرورة اجتماعية لا مناص منه.

صيغة الحكومة في الإسلام

بالرغم من الأهمية الكبرى التي تحظى بها مسألة تحديد صيغة الحكومة الإسلامية ، نجد ـ وللأسف الشديد ـ انّ هذه المسألة الحسّاسة لم تدرس وعلى مرّ العصور بالنحو اللائق بها.

ونحن إذا راجعنا المصادر التي يفترض أن تبحث هذه القضية نجد أنّ الكتّاب والمفكّرين من أهل السنّة اعتبروا المعيار للحكومة الإسلامية يتمثّل في فترة «الخلافة الراشدة» الأمر الذي أدّى إلى جمود الفكر السياسي والحكومي في الإسلام بصورة واضحة حيث لم يُعمِل هذا الصنف من المفكّرين فكره ويُتعب نفسه في إيجاد الحلول المناسبة لهذه المسألة البالغة الحسّاسية ، وهذه الحقيقة قد تنبّه إليها واعترف بها أحد المفكّرين من أهل السنّة حيث قال :

وقد كان لهذا الأُسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن أُسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الأُمم ... إذ أصبحت البيعة التي ظهرت في صورتها في سقيفة بني ساعدة هي الصورة المرتسمة في ذهن المسلمين ، وهي

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٤٠.

(٢). نهج البلاغة : الخطبة ٤٠.

٤٢٦

عندهم الصورة المثلى لاختيار الخليفة .... (١)

وأمّا علماء الشيعة فبما أنّهم كانوا يمثّلون ـ دائماً ـ جبهة الرفض والتصدّي والمعارضة للحكومات الجائرة ، لذلك كانوا ـ وبسبب ذلك الموقف الصارم منهم ـ يعانون أشد أنواع المضايقة والملاحقة ، فلم تسمح لهم تلك الظروف العصيبة في الخوض في مسألة تحديد صيغة الحكومة الإسلامية ولم يسمح لهم أيضاً في التفرغ للكتابة في هذا البحث المهم جداً ، وتوضيح ملامح الحكومة الإسلامية ورسم الخطوط العامة والأُسس العلمية للحكومة.

نعم ، هناك بحوث متفرقة في مطاوي بحوثهم الفقهية أو بعض البحوث المختصرة حول بعض المسائل التي تتعلّق بالمسائل الحكومية كالجهاد والدفاع وأحكام الأراضي الخراجية ، أو بيان حكم التصدّي لمنصب الولاية من قبل الحاكم الجائر ، والدخول في سلك الحكومات غير الشرعية.

من هنا لا نجد في النتاج الفقهي الشيعي صورة واضحة المعالم ومن جميع الأبعاد للحكومة الإسلامية.

ولكن هذه الحالة لم تستمر فقد ظهر في القرن الرابع عشر علمان كبيران تصدّوا لإزاحة الستار عن هذه المسألة المهمة.

وهذان العلمان هما : آية الله النائيني قدس‌سره في كتابه «تنبيه الأُمّة» ، والآخر سيدنا الأُستاذ الإمام الخميني قدس‌سره في كتابه «ولاية الفقيه» (٢). (٣)

__________________

(١). الخلافة والإمامة لعبد الكريم الخطيب : ٢٧٢ ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت لبنان ، ط ٢ ، ١٣٩٥ ه‍ ١٩٧٥ م.

(٢). لمزيد الاطلاع في هذا المجال لاحظ «معالم الحكومة الإسلامية» الجزء الثاني من موسوعة «مفاهيم القرآن» لآية الله الشيخ جعفر السبحاني.

(٣). منشور جاويد : ٢ / ٣٢٦ ـ ٣٣١.

٤٢٧

١٢٧

مسجد ضرار أو وكر الجاسوسية

سؤال : من الحوادث التي تلاحظ في تاريخ المسلمين ظاهرة الاستفادة من الدين والمفاهيم الدينية لتوجيه الطعنة للإسلام ، وهذا ما تجلى في قصة مسجد ضرار ، ما هي حقيقة تلك الواقعة؟ وكيف يمكن أن يتحوّل المسجد إلى وكر للتجسّس ضد المسلمين أنفسهم؟

الجواب : في السنة التي شدّ فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرحال مهاجراً من مكة إلى المدينة ، وقبل أن يرد المدينة المنوّرة حطّ رحاله في منطقة «قبا» منتظراً الإمام علياً عليه‌السلام للدخول معاً إلى المدينة. وفي هذه الفترة بنى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة ـ والتي يفصلها عن المدينة اثنا عشر كيلومتراً ـ مسجد «قبا» لقبيلة «بنو عمرو بن عوف» أبناء عم «بنو غنم بن عوف» وجعل ذلك المسجد محلاً للعبادة لأبناء «عوف» بسبب بعدهم عن المدينة المنورة.

وكان لحزب النفاق في تلك المنطقة البعيدة عن المركز ، حركة فاعلة دءوبة ، ومن كبار المنافقين وقادتهم «أبو عامر» الذي كان يقود الحركة ويوجهها من خارج المدينة ، وكان هذا الرجل يفكّر على غرار تفكير أعداء الإسلام والحركات التخريبية والهدامة المعاصرة ، حيث إنّ الأُسلوب الأمثل يكمن في ضرب

٤٢٨

الإسلام وتقويض أركانه وتوجيه الطعنة القاتلة له من خلال اعتماد نفس مفاهيم الإسلام أو نفس سلاح الإسلام ، ولذلك وجّه رسالة إلى حزبه من المنافقين يدعوهم فيها إلى التجمّع في هذه المنطقة الآمنة لتكون منطلقاً لهم في أعمالهم التخريبية ، والتحرّك منها في الفرصة المناسبة للقضاء على الإسلام وقلع شجرته الفتية من جذورها.

وهكذا بقي هذا الحزب يحيك المؤمرات ويدبّر الخطط إلى الوقت الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتجهّز إلى «تبوك» ، حيث أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في محلّتهم بقباء بحجة أنّ ذوي العلّة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة إلى مسجد النبي للصلاة فيه في الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، فأوكل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر النظر في طلبهم إلى ما بعد العودة من تبوك. (١)

ولقد ذكر لنا التاريخ أسماء اثني عشر شخصاً من أعمدة حركة النفاق التي سعت في تأسيس وكر التجسّس المذكور ، منهم : «نبتل بن الحارث» والذي أُوكلت إليه مهمة التجسّس لصالح المشركين والكافرين ، و «وديعة بن ثابت» الذي يُعدّ من رءوس النفاق المعروفين لدى المسلمين.

وعلى كلّ حال لم ينتظر حزب النفاق عودة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سفره الذي دام أربعة أشهر فبدءوا في بناء المسجد ، ومن أجل التقليل من قيمة ومنزلة مسجد «قبا» الذي بناه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، أشاعوا انّ أرض المسجد كانت مربط حمار أحد النساء ، ولذلك لا يليق بالمسلمين الصلاة وأداء عبادتهم في أرض هي مربط حمار!!

وبعد أن أتمّوا بناء المسجد والإشاعة التي أثاروها ضد مسجد «قبا» حاولوا أن يحكموا خطتهم من خلال الدين أيضاً حيث اختاروا مجمع بن حارثة (جارية)

__________________

(١). راجع المغازي : ٣ / ١٠٤٦.

٤٢٩

ـ وهو أحد الشباب الصالحين والمؤمنين ـ ليكون إماماً للمسجد لتنطلي الحيلة على المسلمين ويتحقّق هدفهم الذي يسعون لأجله حيث ينجذب الشباب إلى مسجدهم أو ينقسم المسلمون إلى مجموعتين ، ومن هنا يكونوا قد بذروا البذرة الأُولى للتفرقة والتشتّت.

وحينما عاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سفره من تبوك حاولوا استغلال الفرصة لإكمال الخطة على أحسن وجه ، فحضروا عنده ، وطلبوا منه أن يصلّي في مسجدهم ركعتين ليُسبغوا بذلك الشرعية على مركزهم ، ولتكون تلك الصلاة ذريعة لهم في مواجهة أيّ محاولة تشكيكية أو مواجهة يتعرّضون لها ، وفي تلك الأثناء نزل أمين الوحي جبرئيل عليه‌السلام على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليطلعه على حقيقة الأمر ، وليكشف له جميع خطوط المؤامرة والأهداف المشئومة التي تكمن وراء هذا العمل الذي هو في الظاهر عمل حسن ، ومن هذه الأهداف :

١. بثّ الفرقة بين المؤمنين : (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ).

٢. انّ هذا المركز في حقيقته يمثّل وكراً للتجسّس ضد المسلمين ولصالح عدو الإسلام «أبي عامر» : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ).

وحينما اطّلع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المؤامرة الخبيثة أمر بحرق سقف المركز المذكور ، ثمّ أمر بنقض جدرانه وتسويتها بالأرض ، ولم يكتف الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك بل أمر المسلمين بأن يتّخذوا من ذلك المكان محلاً لجمع القمامة والنفايات تحقيراً وتوهيناً لذلك الوكر الذي أُريد له أن يكون وسيلة لضرب الإسلام من خلال سلاح الدين نفسه.

ولقد أشارت آيات الذكر الحكيم إلى تلك الحادثة وأهدافها بما لا مزيد عليه ، وها نحن نذكر تلك الآيات المباركة :

٤٣٠

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). (١)

وقال تعالى :

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ). (٢)

وقال سبحانه :

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ). (٣)

وفي آية رابعة :

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (٤)

ومن هنا نعرف أنّ المنهج الذي يعتمد في العصر الحاضر ـ وفي الكثير من الدول التي ينتشر فيها الإسلام ـ من خلال ضرب الدين بسلاح الدين لم يكن من مبتكرات ذهنية رجال السياسة والجاسوسية المعاصرة ، بل سبقهم إلى ذلك وبزمن طويل جدّاً خط النفاق ورجاله والذين كان مسجد ضرار المثال البارز لحركتهم الهدّامة. (٥)

__________________

(١). التوبة : ١٠٧.

(٢). التوبة : ١٠٨.

(٣). التوبة : ١٠٩.

(٤). التوبة : ١١٠.

(٥). منشور جاويد : ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٧.

٤٣١

١٢٨

إبليس

سؤال : من خلال مراجعة آيات الذكر الحكيم يتّضح لنا أنّ إبليس لم يكن من الملائكة ، وحينئذٍ يطرح السؤال التالي : كيف يا ترى شمله الخطاب الإلهي الذي كان موجهاً للملائكة؟

الجواب : لا شكّ انّ الله تعالى قد وجّه الأمر إلى الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام ، وأكّد في نفس الوقت انّ إبليس قد تمرّد على الأوامر الإلهية وعصى الدستور الإلهي وامتنع عن السجود لآدم فخرج عن قائمة الساجدين ، ومن هنا طرح الإشكال الذي ورد في متن السؤال وهو : هل كان إبليس موضوعاً للخطاب أم لا؟ فإذا كان من الملائكة حقيقة فكيف تنفي عنه الآيات الأُخرى كونه من الملائكة كما ورد في قوله تعالى :

(... فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ...). (١)

وإذا لم يكن داخلاً في موضوع الخطاب ولم يكن من الملائكة حقيقة ، فكيف شمله الخطاب والأمر بالسجود لآدم حينئذٍ؟

__________________

(١). الكهف : ٥٠.

٤٣٢

الذي يظهر من آيات الذكر الحكيم أنّ إبليس لم يكن من جنس الملائكة حقيقة ، وبذلك يصرح القرآن الكريم حيث قال تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِّ) ، أضف إلى ذلك : انّ هناك آيات أُخرى يمكن أن تعتبر شاهداً على هذه القضية حيث جاء فيها قوله تعالى :

(... بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ). (١)

وفي آية أُخرى :

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). (٢)

وفي ثالثة :

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ). (٣)

ومن الملاحظ أنّ هذه الآيات في مقام بيان صفات وسمات الملائكة في الطاعة وعدم المعصية والامتثال لأوامره سبحانه.

قد يقال : إنّ هذه الآيات مخصّصة بخروج إبليس منها.

ولكن الإمعان في لسان هذه الآيات وسياقها يظهر لنا وبجلاء أنّ هذه الآيات آبية عن التخصيص.

والشاهد الآخر أنّ بعض الآيات تؤكّد أنّ إبليس له نسل وذرية من خلال عملية التلاقي والتزاوج بين الذكور والإناث حيث قال سبحانه :

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ...). (٤)

وفي آية أُخرى يقسّم الذكر الحكيم الجن إلى رجال ونساء كما في قوله تعالى :

__________________

(١). الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢). النحل : ٥٠.

(٣). الأنبياء : ٢٠.

(٤). الكهف : ٥٠.

٤٣٣

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ ...). (١)

ومن المعلوم أنّ هذا التقسيم لا يصح في حقّ الملائكة أبداً ولا مجال لفكرة التزاوج بينهما ، ولقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه الحقيقة وتصدّت للرد على النظرية التي تحاول وصف الملائكة بالأنوثة حيث قال سبحانه :

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (٢).

فهذه الآيات تجعل من الشيطان موجوداً في مقابل الملائكة ، وبهذا نصل إلى نتيجة قطعية بأنّ إبليس لم يكن من جنس الملائكة. إذا اتّضح ذلك يأتي دور الإجابة عن التساؤل التالي.

كيف توجّه الخطاب إليه مع كونه ليس من الملائكة؟

وفي المقام يمكن الإجابة بوجهين :

الأوّل : أنّه كان هناك خطاب مستقل وأمر منفرد موجّه إلى إبليس بالخصوص إلى جانب الأمر الموجّه إلى الملائكة ، وهذا ممّا يظهر من الآية الكريمة :

(... ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ...). (٣)

ومن الواضح أنّ إبليس لم يتنكّر لهذا الخطاب ولم يتذرّع للخلاص من هذه الإدانة بأنّ الأمر كان موجهاً للملائكة وأنا لست من جنسهم ، بل قبل واعترف بتوجّه الخطاب إليه ، ولكنّه تذرّع بعذر آخر وهو أنّه أفضل من آدم في الجنس ، فكيف يسجد لمن هو أدنى منه جنساً؟

قال تعالى حاكياً قول إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). (٤)

__________________

(١). الجن : ٦.

(٢). الزخرف : ١٩.

(٣). الأعراف : ١٢.

(٤). الأعراف : ١٢.

٤٣٤

الثاني : انّ الخطاب كان متوجّهاً إلى الملائكة وهم في «مقام القدس» يهلّلون ويسبّحون الله سبحانه وتعالى ويقدّسونه ، وبما أنّ إبليس كان بينهم في تلك الحالة من التسبيح والتقديس والحمد والثناء ، لذلك توجّه الخطاب إلى الجميع باعتبار الحالة التي كانوا عليها من العبادة لا باعتبار الجنس أو النوع. (١)

ثمّ إنّ الذين ذهبوا إلى اعتماد النظرية الثانية وقبلوا التوجيه الثاني لتفسير شمول الخطاب لإبليس قد تحيّروا في تفسير الآية التي تقول إنّ إبليس كان من الجن ، ولذلك اضطروا إلى ولوج باب التأويل ، فجاءوا بتأويلات غير صحيحة :

منها انّهم قالوا : إنّ المراد من الجن هو الموجودات غير المرئية ، لا طائفة خاصة باسم الجن حقيقة ، وبما أنّ الملائكة وجودات غير مرئية لذلك شمل الخطاب الجميع.

وتارة أُخرى : ذهبوا إلى أنّ الجن هم طائفة وصنف من أصناف الملائكة أيضاً ، فمن هنا شملهم الخطاب حقيقة. (٢)

والحال أنّ المتبادر من الجن في القرآن هو نفس الموجودات التي تقع في مقابل الملائكة ، لا كونها وجودات غير مرئية كما يذهب إليه أصحاب هذا الرأي ، ولا انّها صنف آخر من أصناف الملائكة كما يذهب إليه الرأي الآخر.

ومن هنا يتّضح أنّ الجواب الأوّل والنظرية الأُولى هي النظرية المستحكمة والتي تنسجم مع ظاهر الآيات ولا حاجة معها إلى كلّ تلك التأويلات البعيدة. (٣)

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

__________________

(١). انظر الميزان : ١ / ٢٣٨.

(٢). انظر مجمع البيان : ٣ / ٤٧٥ ؛ تفسير المنار : ١ / ٢٦٥.

(٣). منشور جاويد : ١١ / ٦٥ ـ ٦٧.

٤٣٥
٤٣٦

الفهارس

١. فهرس المصادر

٢. فهرس المحتويات

٤٣٧
٤٣٨

فهرس المصادر

نبدأ تبرّكاً بالقرآن الكريم

حرف الألف

١. الإتقان : جلال الدين السيوطي (٨٤٩ ـ ٩١١ ه‍) دار ابن كثير ، بيروت.

٢. الاحتجاج : أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري) مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، ١٤١٣ ه‍.

٣. إحقاق الحق : نور الله الحسيني المرعشي التستري (المتوفّى ١٠١٩ ه‍) باهتمام حسن الغفاري ، المكتبة الإسلامية ، طهران ، ومكتبة آية الله المرعشي ، قم ـ ١٤٠٦ ه‍.

٤. إحياء علوم الدين : أبو حامد الغزالي (المتوفّى ٥٠٥ ه‍) دار المعرفة ، بيروت.

٥. أخبار اصفهان : أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني (المتوفّى ٤٣٠ ه‍) منشورات جهان ، إيران.

٦. إرشاد القلوب : الحسن بن محمد الديلمي (من علماء القرن الثامن والتاسع الهجري) منشورات الشريف الرضي ، قم.

٤٣٩

٧. أسرار الحكم : ملا هادي السبزواري ، المكتبة الإسلامية ، طهران ـ ١٣٦٢ ه‍ ش / ١٤٠٤ ه‍. ق.

٨. الأسفار الأربعة : صدر المتألّهين الشيرازي (المتوفّى ١٠٥٠ ه‍) منشورات مكتبة المصطفوي ، قم.

٩. الإشارات والتنبيهات : ابن سينا ، مؤسسة النصر ، طهران ـ ١٣٧٠ ه‍.

١٠. الأُصول الأصيلة : الفيض الكاشاني (١٠٠٧ ـ ١٠٩١ ه‍) عنى بنشره وتصحيحه مير جلال الدين الحسيني الأرموي ، طهران ـ ١٣٩٠ ه‍.

١١. الاعتقادات (عقائد) الإمامية : الصدوق : محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (المتوفّى ٣٨١ ه‍) المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، المجلد الخامس ، قم ـ ١٤١٣ ه‍.

١٢. إعلام الورى بأعلام الهدى : الفضل بن الحسن الطبرسي (٤٧١ ـ ٥٤٨ ه‍) مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ، قم المقدسة ، إيران.

١٣. إقبال الأعمال : علي بن موسى بن جعفر بن طاوس (٥٨٩ ـ ٦٦٤ ه‍) مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي ، قم المقدسة ـ ١٤١٨ ه‍.

١٤. أقرب الموارد : سعيد الخوري الشرتوني اللبناني ، مؤسسة النصر.

١٥. الإلهيات : محمد مكي العاملي من محاضرات آية الله جعفر السبحاني ، الدار الإسلامية ، بيروت ـ ١٤١٠ ه‍.

١٦. الأمالي : الصدوق : محمد بن علي بن الحسن بن بابويه القمي (المتوفّى ٣٨١ ه‍) المكتبة الإسلامية ، طهران.

١٧. الأمالي : المرتضى : علي بن الحسين (٣٥٠ ـ ٤٣٦ ه‍) دار إحياء الكتب العربية ، مصر ـ ١٣٧٣ ه‍.

٤٤٠