الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وبما أنّ مصطلح (الميمنة ٠ جاء مقابلاً لمصطلح (المشأمة) الذي هو بمعنى الشؤم والشقاء ، فلا ريب أن يكون أصحاب الميمنة هم الذين يرفلون بالعز والسعادة وينعمون بالبركة والنعمة.

والحاصل : انّ القرآن الكريم سلّط الضوء على أصحاب اليمين في ثلاثة مواقع ، هي:

١. في الحياة الدنيا

لقد أشار الذكر الحكيم إلى أصحاب اليمين في الحياة الدنيا ، وما يتحلّون به من صفة التسليم والإذعان والخضوع للأوامر والنواهي الإلهية ، وما يمتازون به من الصلابة والمقاومة والثبات في تجاوز العقبات والصعاب والاختبارات والابتلاءات الدينية ، بالإضافة إلى القيام بآداب ورسوم العبودية لله سبحانه على أحسن وجه ، ولا يكتفون بذلك بل يقومون بحثّ الآخرين وتحفيزهم على العمل بهذا المنهج القويم ، قال تعالى :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). (١)

٢. حال الوفاة

في تلك اللحظات العصيبة والساعات الحرجة التي تخفق لها القلوب ، وتنقلع منها الأفئدة ، ويعيش فيها الإنسان غير المؤمن حالة من الهلع والقلق

__________________

(١). البلد : ١١ ـ ١٨.

٤٠١

والاضطراب والخوف من المستقبل ، يصف القرآن الكريم أصحاب اليمين بأنّهم يعيشون حالة الاطمئنان المطلق والهدوء والاستقرار التّامّين ولا يعتريهم أيّ هول أو قلق أو اضطراب ، حيث قال سبحانه :

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (١). (٢)

٣. في عالم الآخرة

لقد وصف القرآن الكريم أصحاب اليمين في عالم الآخرة بالصفات التالية :

١. يعطون كتابهم بيمينهم : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ). (٣)

٢. يحاسبون حساباً يسيراً : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً). (٤)

٣. ينقلبون إلى أهلهم بحالة من الفرح والسرور : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً). (٥)

٤. يعطون مكاناً مرتفعاً في الجنة : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ* قُطُوفُها دانِيَةٌ). (٦)

٥. يمنحون جميع نعم الجنة من دون عناء وتعب : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ). (٧)

__________________

(١). الواقعة : ٩٠ ـ ٩١.

(٢). انظر مجمع البيان : ٥ / ٢٢٨.

(٣). الانشقاق : ٧.

(٤). الانشقاق : ٨.

(٥). الانشقاق : ٩.

(٦). الحاقة : ٢٢ ـ ٢٣.

(٧). الحاقة : ٢٤.

٤٠٢

ز. المحسنون والأبرار

من العناوين التي جاءت في القرآن الكريم في وصف الصالحين والمؤمنين عنوانا «المحسنون» و «الأبرار» ، لا يمكن اعتبار هذه الطائفة في عرض الطوائف والأصناف الأُخرى ، بل في الحقيقة انّ هؤلاء لهم مراتب متعدّدة أيضاً ، فتارة يكونون في مرتبة المقربين ، وأُخرى في زمرة أصحاب اليمين ، وفي الحقيقة انّ الذي حدانا إلى أن نفرد لهذين العنوانين بحثاً مستقلاً هو التبعية للقرآن الكريم حيث وردا فيه بصورة مستقلة ، ونحن اقتداءً بالقرآن الكريم أيضاً خصصنا لهما بحثاً مستقلاً ، وها نحن نشير إلى تلك الآيات وبصورة إجمالية ، فقد جاءت الآيات بالأوصاف التالية :

(... إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (١)

وفي آية أُخرى :

(... إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢)

وفي آية ثالثة يأمر الله سبحانه نبيّه الأكرم بأن يبشر المحسنين بما جعل لهم من اللطف الإلهي :

(... وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ). (٣)

وإنّ الله دائماً معهم وإلى جنبهم :

(... إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). (٤)

__________________

(١). انظر البقرة : ١٩٥ ، ١٣٤ ، ١٤٨ وآيات أُخرى كثيرة.

(٢). الأعراف : ٥٦.

(٣). الحج : ٣٧.

(٤). العنكبوت : ٦٩.

٤٠٣

وكذلك القرآن يطمئنهم بأنّهم سيقطفون ثمار عملهم قطعاً وانّ الله لا يضيع أجرهم ، وهذا ما ورد في قوله تعالى :

(... إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). (١)

وأمّا الأبرار فقد وصفهم القرآن بكثير من الأوصاف وأثنى عليهم ثناءً عظيماً ومدحهم مدحاً حسناً ، فحينما يتحدّث عن المفكّرين والعابدين يشير إلى أنّهم طلبوا في دعائهم وتضرّعهم إلى الله أن يجعلهم من الأبرار ، قال تعالى :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ* ... رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ). (٢)

لقد وصف القرآن الكريم الأبرار في مرحلتين ، هما :

١. في دار الدنيا.

٢. في دار الآخرة.

صفات الأبرار في الحياة الدنيا

لقد جاء في سورة الدهر ـ وصفهم في الحياة الدنيا بالصفات التالية :

١. الوفاء بالنذر أو (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).

٢. يعيشون حالة الخوف والوجل من أهوال يوم القيامة :

__________________

(١). التوبة : ١٢٠ ، هود : ١٥ وآيات أُخرى.

(٢). آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩٣.

٤٠٤

(وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) ، (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

٣. ينفقون في سبيل الله وكسباً لرضاه سبحانه :

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

٤. لا يهمّهم إلّا رضا الله سبحانه : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) (١).

٥. ينفقون ممّا يحبون : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...). (٢)

والذي يظهر لنا في هذه الصفات الخمسة انّهم يتّصفون بصفة أُخرى هي :

٦. مراعاة التقوى والورع دائماً.

صفات الأبرار في الحياة الآخرة

بعد أن بيّنّا صفات الأبرار في الحياة الدنيا نشير إلى صفاتهم التي ذكرها القرآن لبيان منزلتهم ومقامهم في الحياة الآخرة ، ونكتفي بذكر طائفة من تلك الآيات :

١. (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ...). (٣)

٢. (... إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ). (٤)

٣. (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ). (٥)

__________________

(١). الدهر : ٧ ـ ١٠.

(٢). آل عمران : ٩٢.

(٣). الدهر : ١١.

(٤). المطففين : ١٨.

(٥). المطففين : ٢٢ ـ ٢٣.

٤٠٥

٤. (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ). (١)

٥. (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ* خِتامُهُ مِسْكٌ ...). (٢)

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً). (٣)

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً). (٤)

(... وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً). (٥)

وآيات أُخرى كثيرة في هذا المجال. (٦)

__________________

(١). المطففين : ٢٤.

(٢). المطففين : ٢٥ ـ ٢٦.

(٣). الدهر : ٥.

(٤). الدهر : ١٧.

(٥). الدهر : ٢١.

(٦). منشور جاويد : ٩ / ٤٣١ ـ ٤٤٧.

٤٠٦

الفصل السادس :

مسائل متفرقة

٤٠٧
٤٠٨

١٢٣

الهجرة مبدأ التاريخ الإسلامي

سؤال : ما هي الدواعي التي أدّت إلى اختيار الهجرة النبوية الشريفة مبدأ للتاريخ الإسلامي؟ ومن هو صاحب الفكرة ، أي مَن الذي قرّر اعتبار الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي؟

الجواب : في الواقع لا توجد بين أوساط المسلمين شخصية أكبر من شخصية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يوجد حدث ومنعطف عاد على الأُمّة الإسلامية بالنفع والبركة ، كحدث الهجرة النبوية ، وذلك لأنّه ـ ومن خلال الهجرة ـ طوى المسلمون صفحة من تاريخهم وشرعوا في صفحة جديدة وخطوا خطوة مهمة في معترك الصراع الفكري والتحوّل الحضاري ، حيث تمكّنوا من الانتقال والتحوّل من محيط ضاغط وظروف قاهرة وعزلة سياسية تامة إلى محيط آخر يمتلكون فيه حرية الحركة والمناورة والتحرك بالنحو الذي يخدم المصالح الإسلامية الكبرى ، وهذا المحيط هو أرض المدينة المنوّرة ، وليس من المصادفة أن يطلق الرسول الأكرم وصف «طيبة» على هذه البقعة المباركة من أرض الجزيرة ، حيث استقبل أبناء المدينة المسلمين وقائدهم الأكبر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووفّروا لهم جميع مستلزمات القدرة والطاقة ، ووضعوا تحت اختيارهم كلّ ما يحتاجون إليه في مجال تحركهم ،

٤٠٩

حسب إمكانات ومقتضيات ذلك العصر.

ولم تمض فترة على تلك الهجرة الميمونة إلّا ونور الرسالة المحمدية يغمر جميع بقاع شبه الجزيرة العربية ، وظهر الإسلام كقوّة سياسية وعسكرية يحسب لها حسابها ، ثمّ وبعد فترة وجيزة تحوّل ذلك الكيان إلى حكومة قوية في الساحة العالمية ، ووضع الأسس الرئيسية لحضارة عظمى لم يُرَ مثلها من قبل ذلك ، واستطاعت أن تغطي قسماً كبيراً من أرجاء المعمورة ، كلّ ذلك حدث ببركة الهجرة النبوية الميمونة ، وإلّا لبقي المسلمون يعيشون في ذلك المحيط المكّي الضاغط الذي يحصي عليهم أنفاسهم ويتابع خطواتهم بدقّة ومراقبة صارمة.

من هنا اهتمّ المسلمون بحادث الهجرة واعتبروه بداية تاريخهم ، منذ ذلك اليوم وإلى الآن ، حيث مضى أكثر من ألف وأربعمائة سنة طوت الأُمّة الإسلامية أربعة عشر قرناً من تاريخها الزاهر وماضيها النيّر ، وقد دخلنا ولله الحمد العقد الثالث من القرن الخامس عشر الهجري. هذا تمام الكلام في هذه المسألة وبقي الكلام في البحث الثاني وهو :

مَن الذي جعل الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي؟

المشهور بين المؤرّخين أنّ الخليفة الثاني هو الذي اعتبر الهجرة النبوية الشريفة مبدأ للتاريخ الإسلامي ، باقتراح وتأييد من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأمر أن تؤرّخ الدواوين والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ. (١)

إلّا أنّ الإمعان في مكاتيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومراسلاته ـ والتي نقل لنا التاريخ وكتب السيرة والمصنفات الحديثية القسم الأعظم منها ـ والأدلّة الأُخرى ، يظهر

__________________

(١). تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٤٥.

٤١٠

وبجلاء انّ واضع ذلك التاريخ هو الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، حيث اعتمد تلك الحادثة المهمة والمنعطف الكبير مبدأ للتاريخ الإسلامي ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤرّخ رسائله وكتبه إلى أُمراء العرب وكبار الشخصيات وزعماء القبائل بالتاريخ الهجري.

فإذا اتّضح ذلك نحاول أن ندعم ما ذكرناه بدرج بعض النماذج من تلك الرسائل النبوية والتي كانت مؤرّخة بذلك التاريخ ، ثمّ نعمد إلى ذكر بعض الأدلّة الأُخرى التي تؤيّد ما ذهبنا إليه ، وليس من المستبعد وجود أدلّة أُخرى على ذلك لم نعثر عليها هنا.

نماذج من رسائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤرّخة هجرياً

١. طلب سلمان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب له ولأخيه (ماه بنداذ) ولأهله وصية مفيدة ينتفعون بها ، فاستدعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً وأملى عليه أُموراً ، وكتبها علي عليه‌السلام ثمّ جاء في آخر تلك الوصية :

«وَكَتَبَ عَليّ بن أَبي طالبٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رَجَبِ سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ».

٢. نقل المحدّثون (١) الإسلاميون عن الزهري قوله : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ ، فكتب في ربيع الأوّل (أي شهر قدومه المدينة). (٢)

٣. روى «الحاكم» عن «ابن عباس» أنّ التاريخ الهجري بدأ من السنة التي قدم فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة. (٣)

هذه النصوص وغيرها من النصوص الكثيرة التي لم نذكرها روماً للاختصار

__________________

(١). أخبار اصفهان تأليف أبي نعيم الاصفهاني : ١ / ٥٢ ـ ٥٣.

(٢). فتح الباري في شرح صحيح البخاري : ٧ / ٢٠٨ ، تاريخ الطبري : ٢ / ٢٨٨ ط دار المعارف.

(٣). مستدرك الحاكم : ٣ / ١٣ و ١٤ وقد صححه على شرط مسلم.

٤١١

تحكي وبوضوح تام انّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي حدّد التاريخ الإسلامي بهجرته المباركة، وهو الذي حلّ للمسلمين مشكلة تاريخهم. نعم هناك نكتة جديرة بالاهتمام وهي انّ هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يكتب بالأشهر ، ثمّ حلّ العدُّ والكتابة بالأعوام في العام الخامس من الهجرة المباركة.

الإجابة عن سؤال

ولكن يبقى هنا سؤال يطرح نفسه وهو : إذا كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الواضع للتاريخ وهو الذي حدّده بالهجرة المباركة ، فكيف يُحل الإشكال الوارد هنا والذي يعتبر انّ الواضع للتاريخ هو الخليفة الثاني ، كما ورد في الخبر الذي رواه الكثير من المؤرّخين والمحدّثين حيث قالوا : رفع رجل إلى عمر صكّاً مكتوباً على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان ، فقال عمر : أي شعبان؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها؟

ثمّ جمع الناس : (أي أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقالوا : ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم ، فيقال : إنّ بعضهم أراد أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلّما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده ، فكرهوا ذلك.

ومنهم من قال : أرّخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر ، فكرهوا ذلك لطوله أيضاً.

وقال آخرون : أرّخوا من مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال آخرون : أرّخوا من مبعثه.

وأشار علي بن أبي طالب عليه‌السلام أن يؤرّخ من هجرته إلى المدينة لظهوره على كلّ أحد ، فإنّه أظهر من المولد والمبعث ، فاستحسن عمر ذلك والصحابة ، فأمر

٤١٢

عمر أن يؤرّخ من هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

الجواب : إنّ هذا المقدار من النقل التاريخي لا يمكن الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة التي أكّدت كون الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو واضع التاريخ الهجري ومؤسسه الأوّل.

هذا ، ومن الممكن أن يكون التاريخ الهجري الذي وضعه النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تعرّض للترك ، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلّة الحاجة إلى التاريخ ، ولكنه جُدّد في زمن الخليفة الثاني ، بسبب اتّساع نطاق العلاقات وأُعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إليه في هذا العهد. (٢)

__________________

(١). البداية والنهاية : ٧ / ٧٣ و ٧٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٢ / ٧٤ ؛ الكامل لابن الأثير : ١ / ١٠.

(٢). منشور جاويد : ٦ / ١٩٨ ـ ٢٠٠.

٤١٣

١٢٤

فلسفة تشريع الجهاد

سؤال : إذا أخذنا بنظر الاعتبار العاطفة الإنسانية والعقل البشري اللّذين ينظران إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح نظرة اشمئزار وتنفّر ، ويعتبران ذلك العمل من الأعمال القبيحة والشنيعة ، فكيف يا ترى نوجّه فكرة الأمر بالجهاد ، وما هي فلسفة هذا الحكم؟

الجواب : لا ريب أنّ الإنسان وانطلاقاً من غريزة حب النوع ، يعتبر الحرب عملاً وحشياً بعيداً عن قيم الإنسانية ، بنحو حينما يتذكّر الحرب وما تجرّه من المصائب والويلات والعواقب الوخيمة تعتريه الدهشة ويهتز من الأعماق ، ولذلك يدين في الظروف الاعتيادية الحرب ويعتبرها عملاً مستهجناً ، انّ هذا هو الإحساس البشري تجاه الحرب وإراقة الدماء ، وبما أنّ الإسلام دين الفطرة والواقعية نراه يعترف بذلك الواقع وهذا الإحساس ويبيّن الرؤية البشرية للحرب والقتال حيث يقول سبحانه :

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ). (١)

__________________

(١). البقرة : ٢١٦.

٤١٤

ولكن لا بدّ من النظر إلى هذه المسألة البالغة الحساسية نظرة فاحصة ، وبدقّة متناهية لنرى هل أنّ العقل ينظر إلى الحرب ـ وتحت مختلف الظروف والشروط ـ نظرة ذامّة؟ وهل الموقف العقلي من الحرب هو موقف الإدانة دائماً بحيث لا يحق لأمّة من الأُمم ـ مهما كانت الظروف ـ أن تحمل السيف والجهاد وتخوض غمار الحرب؟

أو أنّ العقل يرى في بعض الحالات وتحت سلسلة من الشروط الموضوعية انّه لا مفرّ ولا طريق أمام الأُمّة إلّا حمل السلاح والتوسّل بالحرب لإعادة حقوقها المهدورة وكرامتها المنتهكة ، ويرى أنّ الإعراض والنكوص عن الحرب في مثل تلك الظروف يُعدّ لوناً من ألوان الذلّ والهوان والجبن الذي لا ينبغي للإنسان الحر الاتّصاف به؟

لا شكّ أنّ الأُمّة أو المجتمع إذا تعرض كلّ منهما للاعتداء والتجاوز على حقوقه وهدرت كرامته ، فحينئذٍ يحكم العقل والفطرة أنّه يحق لذلك المجتمع وتلك الأُمّة الدفاع عن حقوقها ، بل يرى العقل أنّ الحرب في هذه الحالة أمرٌ لازم لا يمكن التنصّل منه ، وانّه الحق الطبيعي لذلك المجتمع أو تلك الأُمّة.

ونحن إذا نظرنا إلى جميع الأُمم وعلى مرّ التاريخ ، لا نراها تنظر إلى الحرب نظرة ذامّة حينما تستنفد جميع الحلول السلمية ويصرّ الخصم على التمادي في غيّه ولم يبق أمام هذه الأُمّة إلّا طريقان : إمّا القتل والإبادة ، أو الدفاع عن نفسها وإشهار السلاح بوجه المتجاوز لردعه عن تجاوزه.

ومن هذا المنطلق وعلى أساس هذا الدليل نرى أنّ العالم المعاصر ـ بالرغم من ذمّه للحرب وسفك الدماء ـ قد اعتبر الحرب في بعض الحالات أمراً مشروعاً وعملاً قانونياً.

٤١٥

كذلك الأمر بالنسبة للإسلام الذي هو دين الفطرة والذي تقوم أحكامه على أساس التناسق بين قانون الخلقة والفطرة ، يرى أنّ «الجهاد» وفي بعض الظروف والمتغيّرات أمرٌ واجب يلزم المسلمين القيام به والنهوض بأمره.

إذا اتّضح ذلك فلا بدّ من البحث عن مسألة أُخرى ، وهي معرفة الغاية والهدف الذي يتوخّاه الإسلام من خلال تشريع الجهاد.

ما هي فلسفة الجهاد؟ وما هو الهدف منه؟

أوّل الآيات التي وردت في تشريع حكم الجهاد هي الآيات الأربعة التي وردت في سورة الحج ، وانّ الإمعان والدقّة في مفاد تلك الآيات يرشدنا إلى أنّ الهدف الحقيقي من وراء تشريع الجهاد هو الدفاع عن النفوس والأموال.

لا ريب أنّ المسلمين عاشوا في مكة تحت ظروف قاهرة حيث تعرضوا إلى أنواع الضرب والتعذيب والتنكيل من قبل خصومهم المشركين ، وكذلك تجاوز المشركون على أرواحهم وأموالهم ، ثمّ اضطرارهم للهجرة والنزوح وترك الأهل والأوطان والعيش في بلاد الغربة بعيداً عن الأحبة والأصدقاء ، فلمّا استقر المسلمون في المدينة وتشكّل المجتمع الإسلامي الذي يمتلك الوسائل الكافية للدفاع عن نفسه وعن حقوقه المهدورة ، في تلك الأثناء صدر الأمر الإلهي للمسلمين في القيام بالمطالبة واسترداد حقّهم الضائع ، ومواجهة العدو في ميادين الوغى وساحات القتال ، ولا ريب أنّ هذا الأمر من الحقوق الطبيعية للأُمّة الإسلامية التي لا يشك فيها منصف أبداً ، والآيات التي وردت في هذا الصدد هي قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).

٤١٦

ثمّ قال سبحانه :

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

وقال سبحانه :

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). (١)

وجاء في آية أُخرى :

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). (٢)

إنّ هذه الآيات الأربعة هي الآيات الأُولى التي شرّعت أمر الجهاد ، وقد أُشير فيها إلى فلسفة الجهاد والغرض المتوخّى من تشريع ذلك الحكم ، ولذلك يكون الإمعان في تلك الآيات أمراً ضرورياً لمعرفة هدف الجهاد وفلسفته ، وهي :

أوّلاً : أنّ الآيات تبيّن وبوضوح أنّ المسلمين لم يكونوا هم الذين اختاروا طريق الحرب والقتال وشهر السلاح في وجه خصومهم ، بل انّ المسلمين اضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم وأموالهم ومعتقدهم ، فهم في الواقع مدافعون لا مهاجمون ، ولا شكّ أنّ الدفاع عن النفس والمال والمعتقد حق طبيعي وأمر مشروع ، بل واجب بحكم العقل ، وإلّا فانّ النكوص والهروب من الحرب لا يعني إلّا الذل والهوان ،

__________________

(١). الحج : ٣٨ ـ ٤٠.

(٢). الحج : ٤١.

٤١٧

الذي تأباه النفوس الآبية والرجال الأحرار.

ثانياً : الدليل الآخر على تجاوز العدو وتماديه في غيّه ، هو انّهم إنّما واجهوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بسبب إيمان المسلمين واعتقادهم بالله الواحد القهار ، وكأنّ الاعتقاد بالله ـ بنظر هؤلاء المشركين ـ يُعدّ جرماً وذنباً كبيراً لا يحق لمعتقده أن يعيش بين أوساط المشركين بل يجب عليه أن يترك وطنه وداره ويفارق الأهل والأحبّة ، وإلّا فسيواجه القتل والإبادة.

ثالثاً : أنّه يجب على المؤمنين بالله واليوم الآخر أن يطهّروا الأرض من لوث المشركين وفسادهم ، وإلّا تكون عاقبة الأمر ما أشارت إليه الآية المباركة :

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً).

رابعاً : إنّ الله تعالى إنّما وعد المجاهدين بالنصر والغلبة ، وإنّ عاقبة الأُمور ستكون من نصيبهم ، بسبب أنّهم إذا امتلكوا مقاليد الأُمور وأسباب النصر من العدّة والعدد وأصبح زمام الأُمور بأيديهم ، فإنّهم حينئذٍ يستغلّون هذه القدرات والإمكانات المادية في سبيل الله وتعبيد الطريق أمام الناس للتوجّه إلى التوحيد ونشر القيم والمعارف الحقّة ، لا استخدامها في القتل وسفك الدماء وإشاعة الفحشاء والظلم والمنكر في المجتمع ، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة حيث قال سبحانه :

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ).

لقد سلّطت هذه الباقة العطرة من الآيات المباركة الضوء على جانب من جوانب ذلك التشريع الإلهي ، وبيّنت الأهداف السامية والقيم العليا التي يتوخّاها

٤١٨

الإسلام من وراء ذلك التشريع ، واتّضح كذلك انّ الإشكالات الواهية ـ التي أثارها المسيحيون ، والحملة الشعواء التي أقاموها في وجه ذلك التشريع الحيوي ـ لا أساس لها من الصحّة ، ولا تمتلك القدرة على الصمود أمام الحقّ الإسلامي في هذا الخصوص ، لأنّه لا يوجد عاقل ـ على وجه الأرض وفي جميع الشعوب والأقوام ـ يحترم نفسه ولا ينطلق من التعصب الأعمى والحقد الدفين ، يرى أنّ دفع المتجاوز واسترجاع الحقوق الضائعة والكرامة المهدورة ، أمرٌ غير مشروع ومخالف للوجدان والقيم. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٣ / ٩ ـ ١٢.

٤١٩

١٢٥

الحكومة والدولة

سؤال : هل تشكيل الحكومة وإقامة الدولة حاجة طبيعية وظاهرة ضرورية؟

الجواب : هناك بعض النظريات التي تذهب إلى أنّ الحرية لا تجتمع مع قيام الدولة وتشكيل الحكومة للتناقض الموجود بينهما ، فمن أجل الحفاظ على الحرية الفردية وتأمين تلك المنافع لا بدّ أن تحذف الحكومة من قاموس الحياة.

وهناك اتّجاه آخر يتصوّر أنّ الحكومة تقع دائماً وسيلة في خدمة الأقوياء والمتنفّذين وسحق الطبقة العامة في المجتمع وهدر حقوقهم وعدم الاهتمام بهم.

واتّجاه ثالث يذهب إلى أنّ الإنسان خلق عاقلاً ويحمل غريزة حب الخير والإحسان ، ومع ذلك فلا حاجة إلى تشكيل الحكومة وإقامة النظام.

أمام هذه النظريات الواهية التي لا تقوم على أساس رصين من العلم والمعرفة والتي تنطلق من الرغبة في إشاعة الهرج والمرج في المجتمع ، وتمثّل فكراً سوفسطائياً بعيداً كلّ البعد عن المنهج العقلي ، أو تنطلق من السذاجة في التفكير ، هناك اتّجاه يرى أنّ ضرورة إقامة الدولة وتشكيل الحكومة في المجتمع بدرجة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى قيام الدليل والبرهان لإثباتها. وانّ هاجس سحق

٤٢٠