الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). (١)

والنكتة الجديرة بالتأمّل والإمعان انّ الآية تخاطبهم بالقول :

(... هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ...).

وكأنّ الذهب والفضة لهما صورتان صورة في الحياة الدنيا وصورة أُخرى في الحياة الأُخروية ، ففي هذا العالم تظهر بصورة الفلزات التي تبهر العيون وتجذب القلوب إليها ، وفي عالم الآخرة تظهر بصورة العذاب الأليم والنار المحرقة.

٦. (... وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...). (٢)

وهذه الآية كسابقتها تعتبر اكتناز الأموال وعدم إنفاقها في سبيل الله وطبقاً لأحكامه سبحانه وتعالى ، سوف تتجسّم بصورة الأغلال والقيود ويطوّقون بها يوم القيامة.

ثمّ إنّنا إذا نظرنا إلى نصائح لقمان لولده نجده يخاطبه بقوله :

٧. (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ ...). (٣)

وظاهر الآية يؤكّد أيضاً انّ الله سبحانه يأتي بنفس عمل الإنسان يوم

__________________

(١). التوبة : ٣٤ ـ ٣٥.

(٢). آل عمران : ١٨٠.

(٣). لقمان : ١٦.

٣٤١

القيامة ، ويعتبر ذلك ملاكاً لثواب الإنسان أو عقابه.

وقد تمّت الإشارة إلى هذه الحقيقة في آية أُخرى وبنحو آخر حيث قال سبحانه :

٨. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). (١)

والنكتة الجديرة بالاهتمام هنا أنّه قد ورد في الآية كلمة (يَرَهُ) باعتبار انّ الضمير هنا يعود إلى نفس العمل ، وهذا ما يستفاد من كلمة (يَعْمَلْ) ، أو أنّ الضمير يعود إلى كلمتي : (خَيْراً) و (شَرًّا) ، وعلى كلا الفرضيتين فإنّ ظاهر الآية انّ الإنسان في النشأة الأُخروية يرى نفس أعماله التي اقترفها في الحياة الدنيا.

وإنّ الذين حملوا ذلك على أنّه يرى جزاء أعماله أو ثوابها ، فلا ريب أنّ ذلك الحمل على خلاف الظاهر.

تجسّم الأعمال على ضوء الروايات

فكما أنّ الآيات قد أكّدت على تجسّم الأعمال ، كذلك نجد الروايات قد دعمت تلك الفكرة وأكّدت على تلك الحقيقة ، نشير هنا إلى بعض تلك الروايات :

١. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّهُ ظُلُماتُ يَوْمِ القِيامَة». (٢)

ومن الملاحظ انّ ظاهر هذه الرواية انّ نفس الظلم يتجسّد يوم القيامة بصورة الظلمات.

__________________

(١). الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٢). الكافي : ٢ / ٣٣٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، الحديث ١٠ و ١١.

٣٤٢

٢. وعن علي عليه‌السلام أنّه قال :

«وَأَعْمالُ الْعِبادِ في عاجِلِهِمْ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ في آجِلِهِمْ». (١)

وهذه الرواية تدلّ على المطلوب إذا قلنا إنّها في مقام الحديث عن الثواب والعقاب لا الحديث عن محاسبة الأعمال والأفعال.

٣. روى أبو بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«مَنْ أكَلَ مالَ أَخيهِ ظُلْماً ولَمْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ أَكَلَ جَذْوَةً مِنَ النّارِ يَوْمَ الْقيامَةِ». (٢)

٤. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «جاء جبرئيل إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له :

«يا محمّد عِشْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ ، وَاحبِبْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفارِقُه ، وَاعْمَلْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلاقيهِ». (٣)

والشاهد على المدعى هو الفقرة الأخيرة من الرواية : «وَاعْمَلْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلاقيه».

وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من الروايات الواردة في مجال البحث عن عالم القبر والبرزخ حيث ورد فيها الحديث انّ الذي يصاحب الإنسان ويكون مرافقاً وقريناً له ، هو نفس أعماله وأفعاله التي يقوم بها في الحياة الدنيا ، والتي تكون سبباً لسعادته أو شقائه ، أو رضاه أو ألمه ، ومن تلك الروايات :

٥. عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

__________________

(١). نهج البلاغة ، الكلمات القصار رقم ٦.

(٢). الكافي : ٢ / ٣٣٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، الحديث ١٥.

(٣). الكافي : ٣ / ٢٥٥ ، الحديث ١٧.

٣٤٣

«ما من موضع قبر إلّا وهو ينطق كلّ يوم ثلاث مرات : أنا بيت التراب ، أنا بيت البلاء ، أنا بيت الدود ، قال : فإذا دخله عبد مؤمن قال : مرحباً وأهلاً أما والله لقد كنت أحبك تمشي على ظهري ، فكيف إذا دخلت بطني ... قال : فيفسح له مدّ البصر ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة قال : ويخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قط أحسن منه فيقول :

«أَنَا رَأْيُكَ الحَسَنُ الَّذي كُنْتَ عَلَيْهِ وَعَمَلُكَ الصّالِحُ الَّذي كُنْتَ تَعْمَلُهُ». (١)

٦. روى الصدوق بسنده عن العلاء بن محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال قيس بن عاصم : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس ، فقلت : يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنّا قوم نعبر (نعمر) في البرية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا قيس إنّ مع العزّ ذلاً ، وإنّ مع الحياة موتاً ، وإنّ مع الدنيا آخرة ، وإنّ لكلّ سيّئة عقاباً ، ولكلّ أجل كتاباً ، وانّه لا بدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثمّ لا يحشر إلّا معك ولا تبعث إلّا معه ولا تُسأل إلّا عنه ، فلا تجعله إلّا صالحاً ، فإنّه إن صلح آنست به ، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه ، وهو فعلك».

٧. وقال (٢) الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث طويل : «إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه ، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزوجل حتى يقف

__________________

(١). الكافي : ٣ / ٢٤١ ، الحديث ١.

(٢). أمالي الصدوق : ١٢ ، الحديث ٤ ، المجلس الأوّل.

٣٤٤

بين يدي الله عزوجل فيحاسبه حساباً يسيراً ، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه ، فيقول له المؤمن : يرحمك الله نعم الخارج ، خرجت معي من قبري ، وما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله حتّى رأيت ذلك ، فيقول : مَن أنت؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني الله عزوجل منه لأُبشّرك» (١). (٢)

__________________

(١). بحار الأنوار : ٧ / ١٩٧ ، الباب ٨ ، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة ، الحديث ٦٩.

(٢). منشور جاويد : ٩ / ٤٠٦ ـ ٤١٦.

٣٤٥

١١٧

تجسّم الأعمال من منظار العقل

سؤال : كان الكلام السابق حول توجيه نظرية تجسّم الأعمال من خلال القرآن الكريم والروايات الشريفة ، ولكن يبقى البحث عن كيفية توجيه هذه النظرية وفقاً لمعطيات العقل والعلم ، فكيف توجّهون ذلك؟

الجواب : انّ طائفة من المفسّرين والمتكلّمين أنكروا النظرية وذهبوا إلى امتناع تجسّم الأعمال ، ومالوا إلى تأويل الآيات والروايات الواردة في هذا المجال ، والعمدة في دليلهم هو : انّ الأعمال التي يقوم بها الإنسان من مقولة العرض ، وعلى هذا الأساس ستواجه نظرية تجسّم الأعمال إشكالين أساسيّين ، هما :

١. انّ الأعمال من مقولة العرض ، والعرض قائم بالجوهر ، ومعنى تجسّمها تحقّق العرض بلا جوهر ، وهذا أمر محال.

٢. انّ ما يقوم به الإنسان من الأعمال الصالحة أو الطالحة يفنى بعد تحقّقه ، فكيف يمكن إعادته بعد انعدامه؟

يقول الشيخ الطبرسي في تفسير قوله سبحانه :

٣٤٦

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ...) (١)

اختلف في كيفية وجود العمل محضراً. فقيل : تجد صحائف الحسنات والسيئات ، عن أبي مسلم وغيره ، وهو اختيار القاضي.

وقيل : ترى جزاء عملها من الثواب والعقاب ، فأمّا أعمالهم فهي أعراض قد بطلت ، ولا تجوز عليها الإعادة فيستحيل أن ترى محضرة. (٢)

يقول العلّامة المجلسي قدس‌سره بعد نقل نظرية الشيخ البهائي المؤيدة لفكرة تجسّم الأعمال : القول باستحالة انقلاب الجوهر عرضاً ، والعرض جوهراً في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة الآخرة قريب من السفسطة ، إذ النشأة الآخرة ليست إلّا مثل تلك النشأة ، وتخلّل الموت والإحياء بينهما لا يصلح أن يصير منشأ لأمثال ذلك. (٣)

من هنا يظهر أنّ المخالفين للنظرية يتمسّكون بأمرين ، هما :

١. انّ الأعمال من مقولة العرض وهي تفنى بعد صدورها أو بعد الموت ، فلم يبق شيء حتّى يتجسّم بشكل آخر في عالم الآخرة.

٢. انّ نظرية التجسّم معناها انقلاب العرض إلى الجوهر ، وهو محال.

التحقيق في الأمر

والحقّ انّ كلا الإشكالين غير واردين على النظرية ، وذلك لأنّ الإشكال الأوّل لا أساس له من الصحة ، وهو باطل قطعاً ، لأنّ البراهين العقلية قائمة على أساس أنّ من طرأ عليه الوجود ولبس لباس الوجود لا يعدم أصلاً ، وانّه يبقى في

__________________

(١). آل عمران : ٣٠.

(٢). مجمع البيان : ١ / ٤٣١ ، ط صيدا.

(٣). بحار الأنوار : ٧ / ٢٢٩.

٣٤٧

المرحلة والظرف الذي تحقّق فيه ، وأنّ عدمه بعد انقضاء زمانه عدم نسبي لا عدم مطلق ، فكلّ شيء موجود في ظرفه لا يمكن أن يطرأ العدم عليه.

هذا هو الدليل العقلي الحاسم ، ويؤيد ذلك قوله تعالى :

(... وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (١)

ومن هنا نعلم أنّ الإشكال الأوّل القائل : إنّ أعمال الإنسان التي يقوم بها تنعدم ويستحيل إعادة المعدوم ، لا أساس له من الصحة.

كذلك الكلام في الإشكال الثاني ـ انقلاب العرض جوهراً ـ فإنّه غير صحيح أيضاً ، وذلك لأنّنا وإن كنّا نتبنّى نظرية المعاد الجسماني ولكن ليس ذلك بمعنى سيادة القوانين الدنيوية جميعها على النشأة الأُخرى ، بل انّ الاختلاف بين النشأتين قد يورث الاختلاف بينهما في بعض القوانين ، يقول سبحانه :

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). (٢)

أضف إلى ذلك انّ هناك الكثير من الآيات التي يستفاد منها انّ للنظام الأُخروي قوانينه الخاصة به.

نعم هنا بعض الأُصول العقلية التي لا تختص بالعالم الدنيوي ، بل تعمّ النشأتين من قبيل استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدين ، ولكن ذلك لا يمنع من وجود سلسلة من القوانين العقلية غير المحضة ، أن تكون سائدة وفقاً للنظام السائد في الحياة الدنيا ولكنّها تتغيّر وفقاً لعالم الآخرة ، من قبيل تبدّل

__________________

(١). يونس : ٦١ ، سبأ : ٣.

(٢). إبراهيم : ٤٨.

٣٤٨

العرض جوهراً ، فإنّ كون العرض غير قائم إلّا بالموضوع في هذه النشأة لا يكون دليلاً على كونه كذلك في النشأة الأُخرى ، إذ من الممكن وبسبب تغاير النشأتين أن يكون العرض قائماً بنفسه في النشأة الأُخرى متبدّلاً ، متجلّياً بصورة النار والأغلال والسلاسل أو يكون العمل الصالح كالصلاة والصوم قائماً بنفسه في النشأة الأُخرى متجلّياً بصورة الحور والجنان والعيون.

وما ذكرناه لا يختصّ بمسألة تجسّم الأعمال ، بل يجري في الصراط والميزان والأعراف ، وما شاكلها ، فلا ينبغي في تفسيرها قياسها على قوانين النظام الدنيوي.

وبعبارة مختصرة : انّه لا منافاة بين العقل وبين نظرية تجسّم الأعمال ، ومن هنا نرى من المناسب أن نذكر كلمات بعض الأعلام في هذا الصدد :

١. يقول صدر المتألّهين : كما أنّ كلّ صفة تغلب على باطن الإنسان في الدنيا وتستولي على نفسه بحيث تصير ملكة لها ، يوجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة يصعب عليه صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة ، وربّما بلغ ضرب من القسم الأوّل حدّ اللزوم ، وضرب من القسم الثاني حدّ الامتناع ، لأجل رسوخ تلك الصفة ، لكن لمّا كان هذا العالم دار الاكتساب والتحصيل قلّما تصل الأفعال المنسوبة إلى الإنسان الموسومة بكونها بالاختيار في شيء من طرفيها حدّ اللزوم والامتناع بالقياس إلى قدرة الإنسان وإرادته دون الدواعي والصوارف الخارجية لكون النفس متعلّقة بمادة بدنية قابلة للانفعالات والانقلابات من حالة إلى حالة ، فالشقي ربّما يصير بالاكتساب سعيداً وبالعكس ، بخلاف الآخرة فانّها ليست دار الاكتساب والتحصيل ، كما أُشير إليه بقوله تعالى : (... يَوْمَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ...) (١) ، وكلّ صفة بقيت في

__________________

(١). الأنعام : ١٥٨.

٣٤٩

النفس ورسخت فيها وانتقلت معها إلى الدار الآخرة صارت كأنّها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشئة منها بصورة تناسبها في عالم الآخرة والأفعال والآثار التي كانت تلك الصفات مصادر لها في الدنيا ، وربّما تخلّفت عنها لأجل العوائق والصوارف الجسمانية الاتّفاقية ، لأنّ الدنيا دار تعارض الأضداد وتزاحم المتمانعات بخلاف الآخرة لكونها دار الجمع والاتّفاق لا تزاحم ولا تضاد فيها ، والأسباب هناك أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرضية ، فكلّما يصلح أثر الصفة النفسانية لم يتخلّف عنها هناك كما يتخلّف عنها هاهنا لمصادفة مانع له ومعاوقة صارف عنه ، إذ لا سلطنة هناك للعلل العرضية والأسباب الاتّفاقية ومبادئ الشرور ، بل الملك لله الواحد القهّار. (١)

٢. وأمّا العارف الإسلامي الكبير الشيخ البهائي فقد قال في هذا الصدد : لقد جاءت مسألة نظرية تجسّم الأعمال في الكثير من الروايات الخاصّة والعامّة ، وبعد أن نقل رواية «قيس بن عاصم» قال :

إنّ الحيّات والعقارب ، بل والنيران التي تظهر في القبر والقيامة ، هي بعينها الأعمال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجلابيب ، كما أنّ الروح والريحان والحور والثمار هي الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة التي برزت في هذا العالم بهذا الزي وتسمّت بهذا الاسم ، إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن ، فتحلّى في كلّ موطن بحلية ، وتزيّى في كلّ نشأة بزيّ ، وقالوا : إنّ اسم الفاعل في قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢) ليس

__________________

(١). المبدأ والمعاد : ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٢). العنكبوت : ٥٤.

٣٥٠

بمعنى الاستقبال بأن يكون المراد أنّها ستحيط بهم في النشأة الأُخرى. (١)

ثمّ إنّ صدر المتألّهين ضرب مثالاً لتقريب الموضوع ، يقول : إنّ الجسم الرطب متى فعل ما في طبعه من الرطوبة في جسم الآخر قبل الجسم المنفعل الرطوبة فصار رطباً مثله ، ومتى فعل فعله الرطوبة في قابل غير جسم كالقوة الدراكة الحسية والخيالية إذا انفعلت عن رطوبة ذلك الجسم الرطب ، لم يقبل الأثر الذي قبله الجسم الثاني ولم يصر بسببه رطباً بل يقبل شيئاً آخر من ماهية الرطوبة لها طور خاص في ذلك كما يقبل القوة الناطقة متى نالت الرطوبة أو حضرتها في ذاتها شيئاً آخر من ماهية الرطوبة وطبيعتها من حيث هي ولها ظهور آخر عقلي فيه بنحو وجود عقلي مع هوية عقلية ، فانظر حكم تفاوت النش آت في ماهية واحدة لصفة واحدة ، كيف فعلت وأثرت في موضع الجسم شيء وفي قوة أُخرى شيئاً آخر ، وفي جوهر شيئاً آخر ، وكلّ من هذه الثلاثة حكاية للآخرين ، لأنّ الماهية واحدة والوجودات متخالفة ، وهذا القدر يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعد الله ورسوله أو توعّد عليه في لسان الشرع من الصور الأُخروية المرتبة على الاعتقادات الحقّة أو الباطلة أو الأخلاق الحسنة والقبيحة المستتبعة للّذات والآلام إن لم يكن من أهل المكاشفة والمشاهدة. (٢)

تجسّم الأعمال من منظار العلم

بالرغم من أنّ الأدلّة النقلية والبراهين العقلية تدعم نظرية تجسّم الأعمال ، مع ذلك كلّه يمكن الاستفادة من العلوم التجريبية لتقريب تلك النظرية العقلية الدقيقة إلى الذهن البشري ، وتوضيح ذلك :

__________________

(١). البحار : ٧ / ٢٢٨.

(٢). المبدأ والمعاد : ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٣٥١

إنّ المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، المادة عبارة عن الطاقات المتراكمة ، وربّما تتبدّل المادة في ظروف خاصة إلى الطاقة ، فتكون الطاقة وجوداً منبسطاً للمادة ، كتبدّل مادة الغذاء الذي يتناوله الإنسان إلى حركة ، وكتبدّل وقود الحافلات إلى طاقة حركية. إنّ مفهوم حفظ الطاقة أحد المفاهيم الأساسية الذي يكون حاكماً على كافة الظواهر الطبيعية بمعنى أنّ كافة التفاعلات والتحوّلات التي تحدث في عالم الطبيعة لا تخرج عن هذا الإطار العام ، وهو أنّ عموم الطاقة لا يتغير فيها أبداً.

فالطاقة يمكن أن تتبدّل إلى أنواع مختلفة وهذه الأنواع تشمل الطاقة الحركية ، الحرارية ، الكهربائية ، الكيميائية ، والنووية. (١)

حقيقة العمل في الإنسان

إنّ الإجابة عن التساؤل عن حقيقة عمل الإنسان الذي هو جزء من عالم المادة ، هي : أنّ الإنسان حينما يقوم بعمل ما ـ صالحاً كان أم طالحاً ـ فإنّ بعض ذخائره المادية تتحوّل إلى طاقة ، فإذا صلّى مثلاً ، فإنّه في الواقع في جميع حالات ولحظات الصلاة ، يحوّل قسماً من مادته إلى طاقة ، وهكذا إذا ارتكب عملاً سيئاً ، كما إذا قام بضرب إنسان بريء فإنّه كذلك يصرف مقداراً من المادة ويحوّله إلى طاقة ، وهكذا الكلام في سائر الأفعال التي يقوم بها ، سواء كانت تلك الأفعال عضويةً أو كان العمل فكرياً أو نفسياً فتعود حقيقة العمل في الإنسان إلى تبدّل المادة إلى طاقة.

إذا عرفنا ذلك فنقول : إنّ تجسّم الأعمال يبتني على القواعد التالية :

__________________

(١). دائرة المعارف البريطانية : ٦ / ٨٩٤.

٣٥٢

١. حقيقة العمل هو تبديل المادة إلى طاقة.

٢. الطاقة الموجودة في العالم ثابتة لا تتغيّر.

٣. المادة والطاقة حقيقتهما واحدة.

٤. كما أنّ المادة تتبدّل إلى طاقة ، فهكذا تتبدّل الطاقة في ظروف خاصة إلى المادة.

والنتيجة الطبيعية والمنطقية لتلك المقدّمات المذكورة انّ تبدّل أعمال الإنسان وأفعاله (والتي تحوّلت إلى طاقة) تحت شروط خاصة في عالم الآخرة أمرٌ ممكن ، كما أنّ ذلك ممكن في هذا العالم ، بل يُعدّ من منظار العلم من حقائق عالم الطبيعة.

وعلى هذا الأساس فإنّ مسألة «تجسّم الأعمال» من المعارف الدقيقة والعميقة والتي لا يتسنّى لكلّ أحد إدراكها ، ولكن هناك بعض المفكّرين الكبار ومن خلال التأمّل في حالات النفس الإنسانية والاعتماد على الأُصول الفلسفية المسلّمة ، والتأمّل في آيات الذكر الحكيم ، قد اهتدوا إلى إدراك تلك النظرية الدقيقة ، كالفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألّهين ، ومن حسن الحظ أنّ العلم قد دعم هذه النظرية وساعد على إدراكها وهضمها.

ومن الجدير بالذكر أنّ المسائل التي تتعلّق بعالم الآخرة هي من الحقائق الغيبية التي لا يتسنّى للإنسان المحصور في إطار المادة والماديات إدراكها وفهمها ، إلّا إذا ارتبط ارتباطاً وثيقاً بعالم الغيب وشاهد حقائق ذلك العالم عن قرب ، وفي الحقيقة انّ الذين يصلون إلى هذا المقام السامي لا يتجاوزون العدد اليسير جداً. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٩ / ٤٢٢ ـ ٤٤٦.

٣٥٣

١١٨

الصراط

سؤال : هناك آيات وروايات كثيرة تؤكد على وجود الصراط يوم القيامة ، ما المراد من الصراط ، وما هي حقيقته؟

الجواب : الصراط في اللغة : هو الطريق ، وقد استعمل في الذكر الحكيم في نفس هذا المعنى ، قال تعالى : (... وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (١)

ومن هنا أُطلق الصراط على الطريق الذي ينتهي إلى الجحيم حيث قال سبحانه : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ). (٢)

وقال الراغب : الصراط الطريق المستسهل. (٣) وقد أُخذ في التعريف قيد السهولة ، وبالطبع هذا يكشف انّ طريق الجنة والجحيم سهل.

أمّا سهولة طريق الجنة فهي مرهونة بطبيعة الأعمال الصالحة والأفعال

__________________

(١). البقرة : ٢١٣.

(٢). الصافات : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣). مفردات الراغب : ٢٣٠.

٣٥٤

الحسنة والملكات الصالحة ، والعمل بالأحكام والقوانين الإلهية التي يتحلّى بها الإنسان المؤمن والتي تنسجم مع الفطرة وطبيعة الإنسان وطبيعته الملكوتية.

وأمّا سهولة طريق الجحيم فهي رهن الاستجابة للميول والغرائز الحيوانية.

وعلى كلّ حال قد يطلق الصراط ويراد به الجسر الذي يربط بين ضفتي النهر.

الصراط معبر عام

إنّ الإمعان في آيات الذكر الحكيم والروايات الشريفة يكشف وبوضوح أنّ الصراط معبر عام لا بدّ لجميع الخلائق اجتيازه والمرور عليه ، بلا فرق بين المتقين والمؤمنين أو الفجّار والكافرين ، وبالرغم من أنّ الآيات لم تصرّح بذلك إلّا أنّ المفسّرين حملوا الآية التالية على هذا الموضوع ، وهي قوله تعالى :

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا). (١)

ولقد ذكر المفسّرون لتفسير الضمير في قوله : (وارِدُها) احتمالين :

الاحتمال الأوّل : انّ المراد منه هو الجحيم ، ويكون الورود بمعنى الإشراف والاقتراب ، فإنّه قد يطلق في لغة العرب وغيرها من اللغات الورود على الإشراف والاقتراب ، كما يقال لمن يقترب من مدخل المدينة ويشرف عليها أنّه قد ورد المدينة.

وقد استدلّ أصحاب هذا الرأي بما ورد في قصة النبي موسى عليه‌السلام حيث قال سبحانه:

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ...). (٢)

__________________

(١). مريم : ٧١ ـ ٧٢.

(٢). القصص : ٢٣.

٣٥٥

ومن الواضح أنّ موسى عليه‌السلام لم يطأ ماء مدين بقدميه وإنّما اقترب منه وأشرف عليه ، لأنّ الماء في أعماق البئر بشهادة أنّه سبحانه يقول بعد ذلك :

(... وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ...).

ومن الواضح أنّ الرعاة والمرأتين ـ ابنتا شعيب ـ قد أشرفوا على الماء واقتربوا منه ولم يدخلوا إلى البئر أو المشرعة.

وعلى هذا الأساس يكون مفاد الآية : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ...) أنّ أصحاب الجنة وأصحاب النار يشرفون جميعاً على النار ويقتربون منها ، ثمّ ينجي الله المؤمنين ويساقون إلى الجنة ويلقى أصحاب النار في الجحيم ، ومن هنا يكون استعمال جملة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) في حقّ المتقين استعمالاً مناسباً جداً لخطورة الموقف.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من (الورود) هو الدخول ، فيكون معنى الآية أنّ جميع أهل المحشر ـ حتّى أصحاب الجنة ـ يدخلون النار ، ثمّ يترك فيها الظالمون والكافرون ، وينجي الله سبحانه المؤمنين والمتّقين ، ومن دون أن يصيبهم أيّ أذى ، وذلك بأمر من الله سبحانه الذي خاطب النار وقال لها : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ). (١)

ولقد استدلّ أصحاب هذا الرأي على رأيهم بطائفة من الآيات والتي منها :

ألف : ما ورد في خصوص فرعون وكيف أنّه يقود قومه والفراعنة إلى النار حيث قال سبحانه :

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ...). (٢)

__________________

(١). الأنبياء : ٦٩.

(٢). هود : ٩٨.

٣٥٦

ب : ما ورد حول الآلهة المزيّفة للمشركين حيث قال سبحانه :

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ). (١)

وليس من السهل القضاء بين النظريتين ، لأنّ المعنى أو الاحتمال الأوّل «الإشراف» و «القرب» على خلاف ظاهر الآية ، وإذا ما ورد في قصتي موسى ويوسف عليهما‌السلام ، فلوجود القرينة الخاصة. وذلك لأنّ الآية في قصة موسى عليه‌السلام تقول :

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ). (٢)

وهذه قرينة واضحة على أنّه عليه‌السلام أشرف على ماء مدين ـ أي بئرها ـ لا الدخول في البئر ، ولكن مع ذلك يمكن الاستفادة انّ الآية السابقة تفيد الإشراف والقرب من جهنم ، وذلك لأنّ نجاة المتّقين كما تنسجم مع معنى الدخول كذلك تنسجم مع القول بالإشراف على جهنم.

ثمّ إنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى الاحتمال الثاني (الورود بمعنى الدخول) وفي نفس الوقت قالوا : إنّ دخول جهنم خاص بغير المتقين.

ويرد على هذا الرأي أنّه لا ينسجم مع قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) ، لأنّ نجاة المتّقين تحكي عن دخولهم فيها ، وإذا كان الورود بمعنى الدخول ، فهذا يعني أنّ الجميع يدخلون جهنم ولا وجه لاختصاصه بغير المتّقين والمؤمنين.

وعلى كلّ حال فقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الآية ناظرة إلى صراط

__________________

(١). الأنبياء : ٩٨ ـ ٩٩.

(٢). القصص : ٢٣.

٣٥٧

وطريق لا بد للجميع من المرور عليه وعبوره ، وهذه الآية هي الآية الوحيدة التي وردت في هذا المجال في القرآن الكريم. وأمّا الروايات فكثيرة ، وقد فصّلت القول في هذا البحث ، ونحن نحاول أن نسلّط الضوء على بعض تلك الروايات وبصورة مختصرة.

الصراط في الروايات

١. روى علي بن إبراهيم ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير قوله سبحانه :

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى). (١)

قال : «سئل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أخبرني الروح الأمين انّ الله لا إله غيره إذا برز الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين أتى بجهنم تقاد بألف زمام ، يقودها مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد لها هدّة وغضب وزفير وشهيق ـ إلى أن قال : ـ ثمّ يوضع عليها الصراط أدق من الشعرة وأحدّ من السيف». (٢)

٢. روى المفضّل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصراط ، قال : «هو الطريق إلى معرفة الله عزوجل ، وهما صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ؛ فأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ؛ ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة ، فتردّى في نار جهنم». (٣)

__________________

(١). الفجر : ٢٣.

(٢). بحار الأنوار : ٨ / ٦٥ ، الباب ٢٢ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٢.

(٣). المصدر نفسه ، الحديث ٣.

٣٥٨

ويستفاد من هاتين الروايتين انّ الصراط جسر ممدود على جهنم ، وقد وصف في الحديث الأوّل بأنّه أحد من السيف وأدق من الشعرة.

قال الشيخ المفيد : الصراط في اللغة هو الطريق ، فلذلك سمّي الدين صراطاً ، لأنّه طريق إلى الصواب ، وبه يسمّى الولاء لأمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام من ذريته صراطاً.

ومن معناه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنا صراط الله المستقيم ، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها». يعني أنّ معرفته والتمسّك به طريق إلى الله سبحانه.

وقد جاء الخبر بأنّ الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمرُّ به الناس ، وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن شماله أمير المؤمنين عليه‌السلام ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (١). (٢)

وقال التفتازاني : الصراط جسر ممدود على متن جهنم يرده الأوّلون والآخرون ، أدق من الشعرة وأحدّ من السيف على ما ورد في الحديث الصحيح ، ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كلّ أحد النار على ما قال تعالى :

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ...) (٣). (٤)

هذه طائفة من الروايات وكلمات العلماء الواردة حول الصراط.

وخلاصة القول : إنّ الصراط عبارة عن الطريق الممدود على متن الجحيم يجتازه المؤمنون والمشركون على حدّ سواء ، غير أنّ الفئة الأُولى تجتازه بإذنه سبحانه والفئة الثانية تسقط في هاوية جهنم.

__________________

(١). ق : ٢٤.

(٢). تصحيح الاعتقاد : ٥٠ ، ط تبريز.

(٣). مريم : ٧١.

(٤). شرح المقاصد : ٢ / ٢٢٣ ، ط آستانة.

٣٥٩

ومع أنّ هذا هو الظاهر المتبادر ، إلّا أنّ ثمّة احتمالاً آخر وهو : أنّ الصراط كناية عن الطريق الذي يختاره كلّ من المؤمن والكافر في هذه الدنيا ، فالطريق الذي اختاره المؤمن يوصله إلى الجنة ، والطريق الذي اختاره الكافر ينتهي به إلى نار جهنم.

والمعنى الأوّل هو الأوفق بالظواهر ، ولكن المعنى الثاني أيضاً محتمل ويؤيّد الاحتمال الثاني ما روي عن علي عليه‌السلام أنّه قال :

«وَإِنَّ الْخَطايا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْها أَهْلُها وَخُلِعَتْ لُجُمها فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النّارِ وَإِنَّ التَّقْوى مَطايا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْها أَهْلُها وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها فَأَورَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ». (١)

وهذا التعبير من الإمام يؤيد الاحتمال الثاني ، وهو أنّ الطريق الذي يسلكه كلّ من المؤمن والفاجر هو صراطهما في النشأة الأُخرى ، فيوصل أحدهما إلى الغاية المنشودة والآخر إلى النار. فكلّ مَن اختار طريق الطاعة فهو يوصله إلى الجنة ، ومن اختار طريق العصيان فهو يوصله إلى الجحيم. فصراط كلّ إنسان هو الطريق الذي يسلكه في النشأة الدنيا ، ثمّ يتجسّد في الآخرة فيجتازه إمّا إلى الجنة أو إلى النار. ومع ذلك كلّه فالاحتمالان على حدّ سواء عندنا دون أن نجزم بأحدهما ، وإن كان الاحتمال الثاني ـ كما قلنا ـ يؤيّده قول أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والذي يستفاد من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام انّ طريقي الجنة والنار في الواقع يبدءان من الحياة الدنيا وينتهيان بالآخرة إلى الجنة أو النار ، وليس كما يتصوّر أنّه يوجد على جهنم طريق وصراط لا بدّ للجميع من عبوره والمرور عليه ، بل أنّ الإنسان الذي يختار في الحياة الدنيا طريق الصلاح والتقوى والورع فإنّه في الآخرة

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ١٦.

٣٦٠