الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (١). (٢)

ثمّ إنّ هذا النظام وتلك المحاسبات لا تختص بالظواهر الكونية فقط ، بل انّ الحوادث والتحوّلات والوقائع التي تتعلّق بحياة الإنسان الفردية أو الاجتماعية تخضع لذلك القانون وتشملها تلك الحسابات ، وهذا ما عبّر عنه في القرآن الكريم بمصطلح «سنّة الله». (٣)

فأعمال الإنسان ـ حسنها وسيئها ـ تؤثر تأثيراً فاعلاً في مصير الإنسان على المستوى الفردي أو الاجتماعي ، وتكون سبباً لانحطاطه أو تكامله ، شقائه وسعادته ، انهزامه ونصره و ....

ثمّ إنّ هذه السنّة لا تختص بحياة الإنسان الدنيوية ، بل تجري في حياته الأُخروية وفي العالم الآخر ، وانّ الإنسان يحصد في عالم الآخرة ما يزرعه في هذه الدنيا «الدُّنْيا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ» ، وانّ قانون الثواب والعقاب الأُخروي ووفقاً للكثير من الآيات يقوم على هذا الأساس المتين.

فإذاً بناءً على نظرية الحساب التكويني تكون شمولية الحساب وعموميته من الأُمور البديهية والواضحة ، لأنّ جميع الناس من المؤمنين والمشركين والمتّقين والمجرمين ، وبالتعبير القرآني : المقربون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال كلّهم يحاسبون على أعمالهم وما اقترفوه في هذه الدنيا ، وينال كلّ منهم جزاءه أو ثوابه.

__________________

(١). الرحمن : ٥.

(٢). انظر الآيات ٣٨ و ٣٩ و ٤٠ من سورة يس.

(٣). انظر الأحزاب : ٣٨ و ٦٢ ، فاطر : ٤٣ ، غافر : ٨٥ ، الفتح : ٢٣ ، الإسراء : ٧٧.

٢٦١

الحساب التدويني

النوع الآخر من الحساب هو الحساب التدويني ، وهو النمط المعروف والرائج في أوساط العقلاء من الناس في حياتهم الاعتيادية ، فلكلّ إنسان أو جماعة يقومون بعملية إحصاء ومحاسبة دقيقة لوارداتهم وصادراتهم ، دخلهم ومصرفهم ، ونفعهم وخسارتهم ، ويبنون حياتهم على أساس نتائج تلك الحسابات.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى المحاكم وديوان المحاسبات التي تشرف على مؤسسات الدولة فانّها تخضع تلك المؤسسات والموظفين فيها إلى مراقبة ومحاسبة مالية دقيقة لتعلم جيداً انّ الأموال التي حوّلت إليهم هل صرفت في مجالاتها المخصصة لها بصورة صحيحة أم لا؟ وكذلك مراقبة النظام الإداري من ناحية وقت العمل ، وكيف يقضي العاملون ساعات الدوام الإداري.

الذي يظهر أنّ الحساب في عالم الآخرة هو من قبيل الحساب التدويني ولكن بنحو ونمط آخر ، بمعنى أنّ الله سبحانه خلق العالم وخلق الإنسان ومنحه تلك الثروة العظيمة من الحياة والنعم الوافرة ليستفيد منها ورسم لهم منهجاً وأمره بالسير على وفقه ، ولذلك سيوقفه يوم القيامة أمام محكمة العدل ليحاسبه عن كلّ النعم التي وهبها له وعن حياته والمنهج الذي سار عليه. وكيف استفاد من تلك الثروة العظيمة ، ويكون حسابه قائماً على أساس قانون إلهي ، وتنشر صحائف الأعمال وتفتح الكتب التي دوّنت أعمال العباد حسنها وقبيحها ، وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً). (١)

__________________

(١). الانشقاق : ٧ ـ ٨.

٢٦٢

وهناك طائفة أُخرى تتلقّى كتابها بشمالها فتكون عاقبتها الخيبة والخسران والندامة والذل والمسكنة والحياء والخجل من ذلك المصير الأسود والمشئوم ، وحينئذٍ تتمنّى لو أنّها لم تر صحيفة أعمالها السيئة تلك ، يقول سبحانه :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (١). (٢)

__________________

(١). الحاقة : ٢٥.

(٢). منشور جاويد : ٩ / ٢٩٣ ـ ٢٩٨.

٢٦٣

١٠٩

مواقف القيامة

سؤال : ما المقصود من مواقف يوم القيامة وعقباتها؟

الجواب : لقد أشارت الروايات إلى أنّ ليوم القيامة مواقف وعقبات متنوّعة ومختلفة يقف المجرمون والمذنبون في كلّ واحدة منها ألف سنة من سنيّ الدنيا ، ولذلك لا بدّ من التركيز على هذه القضية لمعرفة حقيقة ذلك.

ولا بدّ من إلفات النظر إلى أنّ المتكلّمين المسلمين قد أطلقوا على هذه المواقف : مصطلح «القنطرة» تارة ، ومصطلح «العقبة» تارة أُخرى ، ومن الواضح أنّ المتكلّمين قد أخذوا ذلك الاصطلاح من الآيات والروايات الواردة في هذا المجال.

إنّ مصطلح «الموقف» بمعنى محل الوقوف ، ومصطلح «القنطرة» بمعنى «الجسر» ، ومصطلح «العقبة» بمعنى الحاجز والعائق.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيته المعروفة لولده الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام :

«وَاعْلَمْ أَنَّ أَمامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً ، الْمُخِفُّ فِيها أَحْسَنُ حالاً مِنَ الْمُثْقِلِ ، وَالمُبْطِئُ عَلَيْها أَقْبَحُ حالاً مِنَ الْمُسْرِع ، وَأنّ مَهْبِطَكَ

٢٦٤

بِها لا مَحالَةَ إِمّا عَلى جَنَّةٍ أَوْ عَلى نارٍ ...». (١)

مواقف القيامة من وجهة نظر المتكلّمين المسلمين

لقد مرّ بعض المتكلّمين المسلمين على هذه المسألة مروراً سريعاً وبنحو الإجمال ولم يولوها أهمية كبيرة ، ولكن علمين كبيرين من أعلام الشيعة الكبار قد اهتما بهذه المسألة اهتماماً خاصاً ، فكان لكلّ واحد منهما نظرية خاصة في هذا المجال ، وهذان العلمان هما : «الشيخ الصدوق المتوفّى ٣٨١ ه‍» و «الشيخ المفيد المتوفّى ٤١٣ ه‍» ، وها نحن نعرض هاتين النظريتين ليطّلع عليها القرّاء الكرام.

العقبات عند الشيخ الصدوق

إنّ للشيخ الصدوق قدس‌سره تفسيراً ونظرية خاصة في المجال تنطلق من منهجه الذي اعتمده في دراسة باقي المسائل ، وهو منهج الاعتماد على ظواهر الآيات والروايات حيث قال قدس‌سره :

اعتقادنا في العقبات التي على طريق المحشر انّ لكلّ عقبة منها اسمها اسم فرض وأمر ونهي ، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها فرض وكان قد قصّر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحق الله فيها ، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه أو برحمة تداركه نجا منها إلى عقبة أُخرى ، فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة ، ويحبس عند كلّ عقبة فيسأل عمّا قصّر فيه من معنى اسمها ، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، وسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وسكن في جوار الله مع أنبيائه وحججه والصدّيقين والشهداء والصالحين من عباده ، وإن حبس على عقبة فطولب بحقّ قصر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه

__________________

(١). نهج البلاغة ، قسم الرسائل والوصايا ، رقم ٣١ ، ط. صبحي الصالح.

٢٦٥

ولا أدركته من الله عزوجل رحمة زلت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنم ـ نعوذ بالله منها ـ وهذه العقبات كلّها على الصراط ، اسم عقبة منها الولاية ، يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده عليهم‌السلام ، فمن أتى بها نجا وجاز ، ومن لم يأت بها بقي فهوى ، وذلك قول الله عزوجل : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ، وأهم عقبة منها المرصاد وهو قول الله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ). (١)

ويقول عزوجل : وعزّتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ، واسم عقبة منها الرحم ، واسم عقبة منها الأمانة ، واسم عقبة منها الصلاة ، وباسم كلّ فرض أو أمر أو نهي عقبة يحبس عندها العبد فيسأل. (٢)

ولقد حذر الإمام علي عليه‌السلام الظالمين بقوله : «وَلَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ وَهو لَهُ بِالْمِرصادِ عَلى مَجَازِ طَريقِهِ». (٣)

وكما قلنا : إنّ نظرية المرحوم الشيخ الصدوق في خصوص «مواقف القيامة وعقباتها» في واقعها تلخيص لما ورد في الروايات في هذا المجال ، وها نحن نذكر نماذج من تلك الروايات:

١. روى الصدوق في أماليه عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «لمّا نزلت هذه الآية : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) سئل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أخبرني الروح الأمين أنّ الله ـ لا إله غيره ـ إذا جمع الأوّلين والآخرين أُتي بجهنّم تقاد بألف زمام ....

ثمّ يوضع عليها صراط أدقّ من حدّ السيف عليه ثلاث قناطر : أمّا واحدة

__________________

(١). الحجر : ١٤.

(٢). بحار الأنوار : ٧ / ١٢٨ ، الحديث ١١.

(٣). نهج البلاغة : الخطبة ٧١.

٢٦٦

فعليها الأمانة والرحم ، وأمّا الأُخرى فعليها الصلاة ، وأمّا الأُخرى فعليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره ؛ فيكلّفون الممرّ عليه فتحبسهم الرحم والأمانة ، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين جلّ وعزّ ، وهو قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) والناس على الصراط فمتعلّق ، وقدم تزل ، وقدم تستمسك ، والملائكة حولهم ينادون : يا حليم اغفر واصفح وعد بفضلك وسلّم وسلّم ، والناس يتهافتون فيها كالفراش ، وإذا نجا ناج برحمة الله عزوجل نظر إليها فقال : الحمد لله الذي نجّاني منك بعد أياس بمنّه وفضله ، إنّ ربّنا لغفور شكور». (١)

٢. روى الصدوق قدس‌سره في «ثواب الأعمال» عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أنّه قال : «قَنْطَرةٌ عَلَى الصِّراطِ لا يَجُوزُها عَبْدٌ بِمَظْلمَةٍ». (٢)

٣. روى ابن عباس في تفسير قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قال : إنّ على جسر جهنم سبع محابس : يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلّا الله ، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تامّاً جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحجّ ، فإن جاء به تامّاً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم ، فإن خرج منها ، وإلّا يقال : انظروا ، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله ، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة. (٣)

__________________

(١). بحار الأنوار : ٧ / ١٢٥ ، الحديث ١١ وج ٨ / ٦٥ ، الباب ٢٢ ، ح ٢.

(٢). بحار الأنوار : ٨ / ٦٦.

(٣). بحار الأنوار : ٨ / ٦٤.

٢٦٧

ومن الواضح أنّ ظاهر الروايات المذكورة وغيرها يدلّ على أنّ في يوم القيامة توجد مواقف وقناطر نصبت على الصراط وفي كلّ موقف من هذه المواقف يسأل الإنسان عن فريضة من الفرائض الإلهية ، هذه هي نظرية الشيخ الصدوق قدس‌سره.

نظرية الشيخ المفيد

من المعروف أنّ الشيخ المفيد قدس‌سره اعتمد المنهج العقلي بصورة أكثر في المباحث الكلامية ، وسلك ذلك الطريق في تفسيره لتلك المسائل الكلامية ، وحاصل كلامه في شرحه لكلام الصدوق قدس‌سره :

إنّ المراد من العقبات هي الفرائض ، فيسأل الإنسان عنها ، دون أن يكون في البين جبال وعقبات يعبرها الإنسان حتّى يصل إلى الجنة أو النار ، وإنّما سمّيت الفرائض بالعقبات لأنّ إطاعتها لا تخلو من صعوبة ومشقة. (١)

ثمّ أضاف قدس‌سره : وليس كما ظنّه الحشوية من أنّ في الآخرة جبالاً وعقبات يحتاج الإنسان إلى قطعها ماشياً وراكباً ، وذلك لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء ، ولا وجه لخلق عقبات تسمّى بالصلاة والزكاة والصيام والحجّ وغيرها من الفرائض يلزم الإنسان أن يصعدها ، فإن كان مقصراً في طاعة الله ، حال ذلك بينه وبين صعودها ، إذ كان الغرض في القيامة المواقفة على الأعمال والجزاء عليها بالثواب والعقاب ، وذلك غير مفتقر إلى تسمية عقبات ، وخلق جبال وتكليف قطع ذلك وتصعيبه أو تسهيله ، مع أنّه لم يرد خبر صحيح بذلك على التفصيل فيعتمد عليه وتخرج له الوجوه ، وإذا لم يثبت بذلك خبر كان الأمر فيه ما ذكرناه. (٢)

__________________

(١). وعلى هذا الأساس لا يمكن الجمود على ظواهر الروايات ، بل حمل هذه التعابير على نحو التشبيه والتمثيل لتقريب الحقائق غير المحسوسة التي لا يمكن إدراكها.

(٢). بحار الأنوار : ٧ / ١٢٩.

٢٦٨

ويدلّ على صحّة ما ذكره المفيد هو أنّه سبحانه سمّى بعض الفرائض بالعقبات ، فقد سمّى فك الرقبة أو الإطعام في يوم المسغبة عقبة ، فقال سبحانه :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ). (١)

والّذي يلاحظ المنهج القرآني يرى أنّه يعتمد كثيراً على أُسلوب التمثيل والتشبيه لبيان وتفهيم المعارف العميقة والتعاليم العالية ، ومن خلال هذا المنهج يسهل على الأذهان المتوسطة إدراك وفهم تلك المفاهيم العميقة والمفاهيم العالية.

وإنّ بحث ودراسة هذه الآيات التمثيلية خارج عن مجال بحثنا هنا ، وهو بحاجة إلى بحث مستقل.

وإنّ الآية المذكورة هي إحدى الآيات التمثيلية التي وردت في القرآن الكريم ، حيث تشبّه لنا الحقائق غير المحسوسة بالأُمور المحسوسة ، إذ انّ الجميع على علم بالجبال وقممها والسلاسل صعبة العبور ويدركون شدّة الصعاب التي تواجه الإنسان في محاولة العبور منها واجتيازها للوصول إلى الأهداف والمقاصد الدنيوية ، ومن هذا المنطلق يؤكّد القرآن الكريم على حقيقة أنّ نيل المقاصد الأُخروية السامية مقرون باجتياز مجموعة من العقبات وتحمّل المشاكل والمحن ، وانّ الوصول إلى الهدف متوقّف على الالتزام بالقوانين والأحكام الإلهية ، وبما أنّ رعاية الأحكام الإلهية في الحقيقة تتصادم وتتضاد مع الميول والشهوات النفسية ، ولذلك يكون العبور منها يشبه إلى حدّ كبير العبور واجتياز العقبات الطبيعية من الجبال والأنهار و ... ، ولذلك فالإنسان الذي يوفّق في الحياة الدنيا لعبور العقبات من خلال الالتزام بالقوانين الإلهية والأحكام والدساتير الشرعية بصورة كاملة ،

__________________

(١). البلد : ١١ ـ ١٦.

٢٦٩

فإنّه بلا شكّ سوف يتجاوز العقبات في العالم الآخر ، ويسهل عليه «الحساب» يوم القيامة.

والشاهد على ذلك الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ* عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ). (١)

وحصيلة المعنى بعد جمع الآيات الواردة في سورة البلد ، هو انّ شقاء الإنسان وسعادته في الآخرة رهن عبور تلك العقبات ، وما هي إلّا فك الرقبة أو إطعام الأيتام والفقراء والمساكين والأمر بالصبر والمرحمة ، إلى غير ذلك من الفرائض ، فينتهي أمره إلى أن يكون من أصحاب الميمنة ، كما أنّ عكسه ينتهي إلى أن يكون من أصحاب المشأمة ، دون أن تكون هناك عقبات ومنعرجات صعبة العبور يؤمر أهل المحشر بطيّها وعبورها. ويدلّك على صحّة ما ذكره الشيخ المفيد أنّ طي العقبات الدنيوية رهن الكفاءات الذاتية ، دون العقبات الأُخروية فإنّها رهن الإيمان والعمل الصالح ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ العقبات كناية عن العمل بالفرائض التي يتوقّف العمل بها على الصبر والإيمان الراسخ بالله والصبر على طاعته. (٢)

__________________

(١). البلد : ١٧ ـ ٢٠.

(٢). منشور جاويد : ٩ / ٣٠٩ ـ ٣١٦.

٢٧٠

١١٠

ميزان الأعمال

سؤال : من الأُمور التي تمّ التأكيد عليها في آيات الذكر الحكيم هو وجود ميزان للأعمال يوم القيامة ما هي حقيقة ذلك الميزان؟

الجواب : من الأُمور التي تتعلّق ببحث يوم القيامة بحث ميزان الأعمال ، وأنّ أعمال العباد الحسنة والسيئة توزن ويحاسب عليها ، وحينئذٍ يطرح الكلام الذي جاء في متن السؤال وانّه ما هي حقيقة هذا الميزان ، وما هي واقعية ذلك التوزين ، وبأيّ نحو تتم؟

من المسلّم به أنّه يوجد في ذلك العالم «ميزان» ، وأنّ هذا الأمر من الأُمور المنصوصة ، حيث أكّد الوحي وجود ذلك ، كذلك اتّفقت الروايات وكلمات المتكلّمين عليه ، إذاً مسألة «الميزان» من المسائل التي لا يمكن إنكارها أبداً ، فلنستعرض أوّلاً الآيات الواردة في هذا المجال.

ومن الملاحظ أنّ الآيات الواردة هنا يمكن تقسيمها إلى طائفتين : طائفة منها تؤكّد أصل وجود «الميزان» و «التوزين» ، والطائفة الأُخرى التي تشير إلى بيان النتيجة المترتبة على ذلك.

٢٧١

وإليك الآيات من الصنف الأوّل :

١. (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ). (١)

فكلمة «الموازين» في الآية جمع «الميزان» ، وهذا يعني أنّ الموازين تنصب يوم القيامة ، وقد وصفت هذه الموازين بأنّها تمثّل وتظهر العدل والحكم الإلهي. (٢)

وبالنتيجة : انّ الآية ناظرة إلى إثبات أصل وجود الميزان في يوم القيامة.

وأمّا الآيات التي تشير إلى نتيجة إقامة الموازين يوم القيامة فهي :

٢. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ). (٣)

٣. (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ). (٤)

٤. (... الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ). (٥)

__________________

(١). الأنبياء : ٤٧.

(٢). انّ لفظ (القسط) يمكن أن يكون عطف بيان بالنسبة إلى «الموازين» ، كذلك يمكن أن يكون صفة له على تقدير الإضافة لكلمة مقدّرة هي «ذوات» بمعنى أنّ الموازين ذوات القسط ، وكأنّ الميزان ينقسم إلى قسمين:

ميزان يقوم على أساس العدل ، وميزان يقوم على خلاف العدل ، ولذلك وصف الوحي انّ هذه الموازين بالقسط لكي يذكرنا أنّ هذه الموازين علامة للقسط والعدل الإلهي.

(٣). المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٤). الرعد : ٦ ـ ٩.

(٥). الأعراف : ٨ ـ ٩.

٢٧٢

٥. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). (١)

إلى هنا اطّلعنا على الآيات التي تشير إلى أصل وجود الميزان والنتيجة المترتّبة على نصب الموازين يوم القيامة ، وحان الوقت للبحث عن حقيقة ذلك الميزان وماهيته في ذلك العالم الآخر ما هو؟

ويكون البحث في هذا المجال في محورين :

١. نظرية المفسّرين والمتكلّمين في بيان الميزان.

٢. الميزان من وجهة نظر الآيات القرآنية.

الميزان يوم القيامة كموازين الدنيا

ذهبت طائفة من متكلّمي المعتزلة وقاطبة أهل الحديث إلى تفسير «الميزان» تفسيراً حرفياً وتمسّكوا بالظهور التصوّري حيث قالوا : إنّه ينصب يوم القيامة ميزان كموازين الدنيا وتوضع الأعمال الصالحة في كفّة منه والطالحة في الكفّة الأُخرى ، فيوزن ، فلو رجحت كفّة الأعمال الصالحة فهو سعيد وإلّا فهو شقي. (٢)

إنّ هذا التفسير يُعدّ من قبيل التفسير الحرفي الذي يفتقر إلى الإمعان والتدبّر في المعنى ، وذلك لأنّ للكلام ظهورين : ظهور تصوّري بدوي ، والآخر تصديقي يدرك من خلال القرائن الحافّة بالكلام ، ومن الواضح أنّ النوع الأوّل «التفسير الحرفي» لا قيمة له في مجال التفسير وتحديد المفاهيم القرآنية.

وأمّا الطائفة الثانية من المتكلّمين فقد اعترضت على هذا التفسير وأوردت

__________________

(١). الكهف : ١٠٥.

(٢). انظر كشف المراد : ٢٩٧ ، ط. مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام.

٢٧٣

عدّة إشكالات على تلك النظرية ، ومن جملة تلك الإشكالات ، الإشكال التالي : انّ الأعمال من مقولة الأعراض ، ومن المعلوم أنّ الأعراض تفتقد الثقل فكيف توزن؟

وفي الحقيقة إذا كان الإشكال الوارد على هذه النظرية ينحصر في هذا الإشكال فقط، فهو قابل للدفع ، إذ بإمكان أصحاب النظرية دفعه بأن يقولوا :

إنّ المراد هو توزين صحائف الأعمال ، أو جعل الحسنات أجساماً نورانية والسيئات أجساماً ظلمانية.

ولكن في (١) الحقيقة أنّ سبب وهن النظرية وعدم ثباتها انّها في الحقيقة تمثّل نظرة سطحية وساذجة لآيات الذكر الحكيم وتعتمد اعتماداً كليّاً وواضحاً على الظهور الحرفي والتصورّي للكلام ، ومن الواضح أنّ هذا المنهج لا قيمة علمية له. بل اللازم هو جمع القرائن الحافّة بالكلام وإمعان النظر في الآية والبحوث الأُخرى ثمّ الحصول على الظهور التصديقي للآية واعتماده محوراً للحكم والتفسير. ولتقريب الفكرة نستعين بذكر المثال التالي :

من المتداول على الألسن للتعبير عن الجود والسخاء أن يقال : «فلان باسط اليد ولا يغلق بابه» ، ومن الواضح أنّ هذه الجملة تشتمل على ظهورين :

أ. الظهور البدوي والتصوّري وهو : كون يده المحسوسة مبسوطة لا تجمع وانّ باب بيته لا يغلق لعدد من الأسباب والعلل.

ب. الظهور التصديقي وهو : انّ هذا الإنسان كثير العطاء والسخاء والجود ، وانّ بابه مفتوح للضيوف والمارة ، وانّه يمد يد العون للمحتاجين والمعوزين دائماً.

ولا ريب أنّ التفسير الأوّل غير صحيح قطعاً فلا بدّ من حمل الجملة على

__________________

(١). شرح المقاصد : ٣ / ٢٢٣ ، ط. آستانه.

٢٧٤

المعنى الثاني وتفسيرها وفقاً له ، ولا يحق لأحد أن يدّعي أنّ هذا النوع من التفسير لا يصحّ ، لأنّه نوع من التأويل الباطل ، كذلك لا يصحّ لنا التهرّب من تفسير المفاهيم القرآنية والمعارف الإلهية ، مثل «الميزان» و «الصراط» وأمثالها تحت ذريعة انّ هذا التفسير هو من قبيل التأويل ونصرف النظر عن الظهور التصديقي للآيات كما فعل أصحاب الحديث.

إنّ آفة تفاسير أهل الحديث تكمن في أنّهم لم يضعوا حدّاً مائزاً بين الظهور التصوّري والتصديقي. وبعبارة أُخرى : بين الظهور البدوي والاستمراري ، وتمسّكوا بالظهورات التصورية التي تزول بأدنى تأمّل.

الميزان هو العدل الإلهي

بسبب الإشكالات الواردة على النظرية السابقة ذهب البعض إلى نظرية أُخرى ، وهي: أنّ المراد من الميزان هو العدل الإلهي ، وانّ الله تعالى سيقضي بين عباده بالعدل والقسط يميّز من خلالهما بين المطيعين والعاصين ، والمؤمنين والكافرين. وينال كلّ واحد منهم جزاءه الذي يستحقّه.

لا شكّ أنّ الله تعالى يحكم يوم القيامة بين عباده بالعدل والقسط ، ولكن الكلام هنا في حقيقة «الميزان» هل أنّ حقيقة الميزان تتلخّص في ذلك ، أي في الحكم العدل ، أم أنّ للميزان بالإضافة إلى ذلك حقيقة أُخرى يمكن إدراكها واستنباطها من آيات الذكر الحكيم؟

فالخلاصة : أنّ النظرية الأُولى باطلة قطعاً ، وأنّ النظرية الثانية لا تبيّن حقيقة «الميزان» كما هي ، بل تبيّن نتيجة الميزان دون أن تشير إلى واقعه ، وانّه بعد ما يتم التوزين يتعامل سبحانه بالعدل والقسط ، وهذا الأمر في الحقيقة يحتاج إلى وسيلة لتبيين حال العباد المطيعين والعاصين ، فلا بدّ قبل القضاء والتعامل من أداة تبيّن

٢٧٥

حال العباد من الطاعة والعصيان ، حتّى تصل النوبة إلى قضائه سبحانه.

فما هي تلك الأداة التي تكون معياراً لكثرة الطاعات أو قلّتها؟

ولبيان وإجلاء حقيقة «الميزان» في العالم الآخر لا بدّ من الإشارة إلى مقدّمتين ، هما :

ألف : الميزان واستعمالاته في القرآن

إنّ لفظ «الميزان» بالرغم من أنّه ليس له إلّا معنى واحد وهو الآلة التي يوزن بها ، مع ذلك كلّه وردت في القرآن الكريم له تطبيقات مختلفة منها :

١. الوسيلة التي يوزن بها المتاع

قال تعالى : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ...) (١). (٢)

٢. الانسجام والنظم السائدة

تارة يطلق لفظ الميزان على النظم السائدة في عالم الخلق والتي تكون سبباً لثباته واستقامته حيث قال سبحانه :

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ). (٣)

ومن الواضح أنّ قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) قرينة على أنّ المراد من «الميزان» هو منح النظام الذي قامت على أساسه السماوات والأرض ، فالمنظومة

__________________

(١). هود : ٨٥.

(٢). ورد في نفس المضمون ؛ الآية ١٥٢ من سورة الأنعام ، و ٨٥ من الأعراف و ٨٤ من سورة هود و ٩ من الرحمن.

(٣). الرحمن : ٧.

٢٧٦

الشمسية قائمة على أساس التعادل والموازنة ، ومعتمدة على قانون الجاذبية بحيث لو اختلّ ذلك القانون لانفرط عقد هذه المنظومة وغيرها من المنظومات الأُخرى.

٣. الميزان هو التشريعات والقوانين العادلة

لقد أطلق القرآن الكريم لفظ «الميزان» على القوانين والتشريعات العادلة التي تقنّن حياة الإنسان وترسم له مسير حياته وتنشر العدل والقسط في المجتمع حيث قال سبحانه :

(... وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...). (١)

فالمراد من (الْمِيزانَ) بقرينة قوله تعالى : (أَنْزَلْنا) هو التشريع السماوي الذي أنزله سبحانه بإنزال كتابه ، ويحتمل أن يكون المراد من «الميزان» هو قضاء العقل الحصيف ، ولا شكّ أنّ ذلك منزل كباقي النعم الإلهية والرحمة الإلهية التي من ضمنها الحديد الذي عبّر عنه سبحانه بقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ). (٢)

هذه بعض التطبيقات التي ذكرها القرآن الكريم لكلمة «الميزان».

ب. لكلّ شيء ميزان خاص به

إنّ الكلمات التي جاءت في القرآن الكريم لتصف يوم القيامة ومشاهده ، لها مصاديق مختلفة ومتنوعة ، فبعضها لنا معرفة به في هذا العالم ، ولكن ذلك لا يسمح لنا أن ندّعي أنّ مصاديقها واحدة ، بمعنى أنّ ما هو موجود في الدنيا هو عينه موجود في الآخرة ، ومن هذه الألفاظ كلمة «الميزان» ، فإنّ لها معنى عرفياً واضحاً ،

__________________

(١). الحديد : ٢٥.

(٢). الحديد : ٢٥.

٢٧٧

وهو الوسيلة التي يوزن بها المتاع والأشياء ، ولكن هل انّ حقيقة الميزان وواقعيته تنحصر بهذا الميزان ذي الكفتين؟ أو أنّ ذلك يمثّل أحد مصاديق «الميزان» الذي ظلّ البشر ولفترة طويلة يستعمله قبل الثورة الصناعية والتطوّر العلمي حيث ظهرت مصاديق أُخرى للميزان تختلف اختلافاً جوهرياً مع الميزان السابق ، فقد تطوّر العلم وأحدث وسائل للقياس والوزن بحيث توزن فيها أشياء لا يمكن بحال من الأحوال وزنها وقياسها بالميزان القديم أبداً ، مثل وسائل قياس درجات الحرارة والماء والكهرباء والهاتف وضغط الدم وكيفية نبض القلب ، وغير ذلك من الأُمور الدقيقة والحسّاسة جداً ، بل قفز الإنسان قفزة كبيرة من خلال صناعة الحاسوب الذي استطاع من خلاله أن يزن أدق الأُمور وأخفاها وبيان الصحيح منها من الخاطئ.

على هذا الأساس يمكن القول : إنّ لكلّ شيء ميزاناً خاصاً يناسبه وليس الميزان منحصراً بماله كفّتان ، وانّ الإنسان كلّما تطوّر علمياً وتكنولوجيّاً اخترع من وسائل الوزن ما تدهش العقول وجعل لكلّ شيء ميزاناً يناسبه.

ثمّ إنّنا إذا نظرنا إلى علم المنطق مثلاً نجده يُعدّ ميزاناً لتشخيص الأفكار الصحيحة والخاطئة والفصل بينهما ، وكذلك القضايا البديهية والقريبة من البديهية فانّها ميزان للفصل بين الحقّ والباطل في (التصديقيات).

بناء على هذا الأصل لا يمكن تفسير «الميزان» في عالم الآخرة بما في الحياة الدنيا من وسائل «الوزن» و «القياس» ، أو تفسيرها بالعدل الإلهي ، بل أنّ مقتضى الاحتياط والتحرّز في بيان المعارف والمفاهيم الإسلامية أن نقول : إنّ الميزان المنصوب في يوم القيامة شيء أعظم ممّا توصل إليه العقل البشري يعلم به صالح الأشياء وطالحها والمحسن والمسيء.

فالخلاصة : انّنا نؤمن بوجود وسيلة للقياس والوزن يوم القيامة ولكنّها وسيلة

٢٧٨

لها عظمتها الخاصة وأفضليتها وكمالها وإن كان الإنسان الذي لم تنفتح له الآفاق على عالم الغيب يجهل حقيقتها وكنهها ولم يتّضح له محتواها.

نماذج من موازين يوم القيامة

بعد الاعتراف بأنّنا نجهل كنه وحقيقة الميزان يوم القيامة ـ وإن كنّا نعلم بأصل وجوده ـ ولكن يمكن لنا أن نستعين بالآيات الكريمة والروايات الشريفة لتزيح لنا الستار عن جانب من تلك الحقيقة المبهمة وليتّضح لنا حقيقة الميزان يوم القيامة بنحو من الأنحاء.

١. يقول سبحانه وتعالى :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ). (١)

ولقد اختلفت كلمات المفسّرين في تفسير الآية وكيفية إعرابها إلى أقوال مختلفة ومتنوعة ، نذكر منها ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أنّ الوزن مصدر بمعنى التوزين ، وهو مبتدأ خبره الحق ، والمراد أنّ توزين الأعمال ومحاسبتها أمر حق لا سترة فيه.

الثاني : أنّ الوزن بمعنى الميزان ، أي ما يوزن به ، ويكون المراد أنّ ما يوزن به هو الحقّ ، فالحقّ هو الذي يعرف به حقائق الأعمال عند قياسها إليه ، فكلّ عمل تمتع بقسط وافر من الحقّ ثقّل الميزان عندئذٍ في مقابل عمل لا يتمتع بقسط من الحقّ أو يتمتع بشيء قليل فيخفّف ميزانه. فيصبح الحق مثل الثقل في الموازين

__________________

(١). الأعراف : ٨ ـ ٩.

٢٧٩

العرفية ، غير أنّ الثقل فيها يوضع في كفّة والمتاع في كفّة أُخرى.

وأمّا الحقّ فلا يكون شيئاً منفكّاً عن العمل ، بل بمقدار ما يتمتع به ترجح كفّته.

الثالث : أنّ الحقّ بمنزلة الثقل في الموازين العرفية ، ويكون له تجسّم واقعي يوم القيامة ، فبمطابقته وعدمها يعرف صلاح الأعمال عن غيرها.

والفرق بين الثاني والثالث واضح ، فإنّ الحقّ على المعنى الثاني يكون داخلاً في جوهر الأعمال بمقدار ما يوصف به العمل من الحقّ ، وأمّا الاحتمال الثالث فالحقّ بالذات هو الموجود المجسَّم يوم القيامة ، ولا يعلم صلاح الأعمال عن ضدّها ، إلّا بعرضها على الحقّ المجسَّم ، فبمقدار ما يشبهه ويناسبه يكون موصوفاً بالحقّ ، دون ما لم يكن كذلك فيوصف بالباطل.

وهذا المعنى الثالث هو المستفاد من بعض الروايات ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) : «هم الأنبياء والأوصياء» (١) ، ولعلّ أعمال كلّ أُمّة تعرض على أنبيائهم فبالمطابقة مع أعمالهم ومخالفتها معهم يعلم كونه سعيداً أو شقياً ، ويؤيد ذلك ما نقرأه في زيارة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث ورد فيها : «السَّلامُ عَلى يَعْسُوبِ الإِيمانِ وَميزانِ الأَعْمالِ». (٢)

وكأنّ الإمام أمير المؤمنين حقّ مجسّم ، فمن شابهه فهو ممّن ثقلت موازينه ، ومن لم يشابهه فهو ممّن خفّت موازينه.

وإن شئت قلت : إنّ الإنسان المثالي أُسوة في الدنيا والآخرة يميّز به الحقّ

__________________

(١). بحار الأنوار : ٧ / ٢٤٩ ، الباب العاشر من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٦.

(٢). مفاتيح الجنان ، الزيارة الرابعة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢٨٠