الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وبعبارة أوضح : انّ الآية تريد الإشارة إلى نكتة مهمة وهي انّ الله سبحانه حينما يصف القرآن بأنّه «عربي مبين» يعني أنّ هذا القرآن وضع مطابقاً للأُسلوب العربي والقواعد العربية المحكمة وليس على طريقة الأعاجم الذي يجهلون اللغة العربية ويرصفون كلمة إلى جنب كلمة أُخرى ظناً منهم انّهم يتكلّمون اللغة العربية ، بل أنّ هذا الكتاب موافق لأُسس اللغة العربية وانّه مصون وبعيد من التحريف والخطأ والإغماض والتعقيد في العبارة.

ونختم الحديث هنا بكلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، حينما أرسل ابن عباس للاحتجاج على الخوارج ومناظرتهم ، فقال له عليه‌السلام :

«لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن ذو وجوه وحمال ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً». (١)

فإنّ هذه الفقرة القيمة توضح وبجلاء انّ بعض آيات القرآن تحتمل عدّة وجوه ومحتملات ، ولا يمكن معرفة المراد منها إلّا بعد أن نطوي مجموعة من المقدّمات ولا يمكن الاكتفاء بالمعرفة ببعض الأُصول الأدبية واللغوية لرفع هذا الإبهام.

وهذا الكلام يرشدنا إلى أنّ جميع آيات الذكر الحكيم ليست من الكلام المحكم والصريح ، بل يوجد فيها الكثير من المتشابه الذي يحتاج في بيانه إلى مجموعة من المقدّمات العلمية الأُخرى. (٢)

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ٧٧.

(٢). منشور جاويد : ٣ / ٣١٢ ـ ٣١٤.

٢١

٦٩

المراد من التأويل

سؤال : لقد ورد في القرآن كثيراً مصطلح «التأويل» ، ما هو المراد من هذا المصطلح؟ وما ذا يعني تأويل الآية؟

الجواب : يقول الراغب في مفرداته : «التفسير» يقال فيما يختص بمفردات الألفاظ. (١) والحال انّ التأويل أكثر ما يستعمل في المعاني والجمل ، فقال الراغب : التأويل : من الأول ، أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه. (٢)

قال صاحب «كشف الظنون» : قال الراغب : التفسير أعمّ من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية.

وقال غيره : التفسير بيان لفظ لا يحتاج إلّا وجهاً واحداً ، والتأويل توجيه لفظ متوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلّة. (٣)

__________________

(١). مفردات الراغب : ٣٨٠ ، مادة «فسّر».

(٢). مفردات الراغب : ٣١ ، مادة «أول».

(٣). كشف الظنون : ١ / ٢٤٢ بحث «علم التأويل» ، و ٢٩٧ بحث «علم التفسير» وقد ذكر في هذين البحثين نظريات وآراء متقاربة جداً حول التفاوت والاختلاف بين التأويل والتفسير ، أعرضنا عن ذكرها روماً للاختصار.

٢٢

ومن خلال هذه التعاريف والتعاريف الأُخرى للتأويل والتفسير يتّضح أنّ تفسير الآية لدى طائفة من المفسّرين غير تأويلها. فتوضيح الآية من جهة مفرداتها ، والهيئة التركيبية وباقي الخصوصيات المتعلّقة بظاهر الآية يكون تفسيراً للآية ، والحال انّ إرجاع الآية إلى المراد النهائي منها وبالاستعانة بالآيات الأُخرى والروايات وسائر الأدلّة العقلية والنقلية ، يكون تأويلاً للآية.

إنّ الاتّجاه العام لدى المفسّرين في القرنين الثالث والرابع (كالطبري) في تفسيره «جامع البيان» يميلون إلى الترادف بين مصطلحي «التأويل» و «التفسير» ، ولذلك نراهم يطلقون على تفسير الآية لفظ «تأويل الآية» ، وهذا النوع من الاستعمال يشعر بأنّهم يذهبون إلى الترادف بين المصطلحين كما قلنا ، إلّا أنّ الاتّجاه الآخر ـ وهو اتّجاه من تأخّر عنهم من المفسّرين ـ يذهب إلى أنّ التفسير يخالف التأويل ، وانّ لكلّ من المصطلحين مجاله الخاص به.

وعلى كلّ حال سواء قلنا : إنّ هذا التفصيل بين التأويل والتفسير صحيح أم لا ، فإنّ المفسّرين ولقرون متمادية قد ساروا على هذا المنهج واعتبروا انّ تفسير الآية يغاير تأويلها ، حيث اعتبروا التفسير هو كشف الستار وتوضيح وبيان مفردات الآية وجملها. والحال انّ التأويل هو إرجاع الآية إلى المراد النهائي منها.

ثمّ إنّ لأُستاذنا الكبير العلّامة الطباطبائي في هذا المجال نظرية خاصة ذكرها في تفسيره للآية السابعة من سورة آل عمران.

ولا ريب انّ مصطلحي «التأويل» و «التفسير» كلاهما يستعمل ويستفاد منه لرفع الإبهام والغموض الموجود في الآية ، ولكن كلّما كان الإبهام والغموض يتعلّق بمعاني مفردات الآية ومضمون الجملة أو الجمل ، يطلق على هذا الرفع عنوان التفسير ، وأمّا إذا كان الإبهام والغموض متعلّقاً بالمقصود النهائي من الآية

٢٣

وناتجاً من كثرة الاحتمالات وتعدّد الوجوه المرادة من الآية ، فحينئذٍ يطلق على عملية رفع الإبهام هنا وتعيين المحتمل النهائي أو الوجه المراد منها ، لفظ التأويل.

وبعبارة أُخرى : انّ التفسير : إزاحة الستار عن معنى ومضمون مفردات وجمل الآية بنحو يتّضح فيه معنى ألفاظ وجمل الآية الواردة فيها ، ومن المعلوم هنا أنّه لا يمكن القول إنّ للتفسير مرحلتين : المرحلة الأوّلية ، والمرحلة النهائية ، أو المراد الأوّلي والمراد النهائي ، وإنّما يوجد مضمون واحد لا غير يتّضح وبصورة تامّة من خلال معرفة معاني المفردات والجمل ، أو من خلال التعرّف على سبب النزول أو سياق الآيات.

والحال انّ في «التأويل» مضمون الآية ـ مفردات وجمل ـ واضح جدّاً ، ولكن نفس هذا المضمون قد يكون كناية عن المراد النهائي أو يكون جسراً للعبور إلى المعنى الآخر للآية ، وحينئذٍ تكون عملية إرجاع الآية إلى المراد والمقصود النهائي تأويلاً للآية ، ويطلق على تلك العملية «تأويل الآية». (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٣ / ٢٢٧ ، ٢٢٩ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨.

٢٤

٧٠

المراد من قوله : (قُلِ الرُّوحُ)

سؤال : ورد في القرآن الكريم وبالتحديد في سورة الإسراء الآية ٨٥ قوله تعالى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ...).

ما المراد من الروح هنا؟

الجواب : انّ الأحاديث والروايات الإسلامية الواردة في تفسير الآية تشير إلى أنّ المراد من الروح في الآية هو مَلَك كبير ، ومن بين مجموع الروايات الاثنتي عشرة التي ذكرها صاحب تفسير «البرهان» (١) والروايات السبع التي رواها صاحب «نور الثقلين» (٢) توجد رواية واحدة تفسّر الروح ، بروح الإنسان.

كما أورد السيوطي في تفسير «الدرّ المنثور» روايات كثيرة لتفسير الآية من المحتمل أنّه لا توجد فيها أكثر من رواية واحدة تفسّر الروح بالروح الإنسانية والحيوانية.

__________________

(١). تفسير البرهان : ٢ / ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

(٢). نور الثقلين : ٣ / ٢١٥ ـ ٢١٩.

٢٥

عقيدة اليهود حول جبرئيل

إنّ آيات الذكر الحكيم والروايات الصادرة لبيان سبب نزول تلك الآيات تحكي لنا أنّ المجتمع اليهودي ، أو على أقلّ تقدير ، انّ اليهود المعاصرين للنبي الأكرم كانوا ينظرون إلى جبرئيل عليه‌السلام نظرة عداء ويعتبرونه خصماً وعدواً لدوراً لهم ويطلقون عليه صفة ملك العذاب ، كما أنّهم يعتقدون أنّ الله تعالى أمره بوضع النبوة في سلالة بني إسرائيل ، ولكنّه وضعها في أبناء إسماعيل ، ولذلك فإنّ عبارة «خان الأمين» التي ينسبها الجهلة من الكتّاب المتعصّبين إلى الشيعة ظلماً إنّما هي في الواقع عبارة هؤلاء اليهود.

وقد أشار الطبرسي إلى عداوة اليهود لجبرئيل : قال صوريا ـ أحد أحبار اليهود ـ للنبي : أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جبريل. قال صوريا : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب ، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء ، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنّا بك. (١)

فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية في ردّ معتقدهم فقال سبحانه :

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). (٢)

وقال سبحانه أيضاً :

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ). (٣)

__________________

(١). تفسير الفخر الرازي : ١ / ٤٣٧ ، ط مصر ١٣٠٨ ؛ مجمع البيان : ١ / ٣٢٥ ، دار المعرفة.

(٢). البقرة : ٩٧.

(٣). البقرة : ٩٨.

٢٦

اتّضح جلياً من هذه الآيات أنّهم كانوا ولأسباب معينة يعتبرون «الروح الأمين» عدوّاً لهم ، إلّا أنّ القرآن الكريم يعتبره معصوماً من الزلل والخطأ ويصفه بأنّه رسول الله ، كما أنّ القرآن يردُّ على اتّهام اليهود لجبرئيل عليه‌السلام بالخيانة بوصفه عليه‌السلام بالأمين ، فيقول سبحانه:

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). (١)

وبالالتفات إلى هذه المقدّمات وخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار انّ اليهود الذين أثاروا التساؤل ، وانّ عقيدتهم بجبرئيل كانت عقيدة خاصة ، وانّ موقفهم منه سلبي ، وانّه عندهم ملك العذاب الذي أخبر عن زوال مملكة بني إسرائيل على يد نبوخذنصر ، وهو الذي خان في مسألة النبوة حيث نقلها من نسل بني إسرائيل إلى نسل آخر. نعم بالالتفات إلى كلّ هذه القرائن والمطالب يمكن القول انّ مرادهم من السؤال هو «الروح الأمين» حيث كانوا يسعون إلى معرفة رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه لعله يكون موافقاً لرأيهم فيتّخذون ذلك وسيلة للاستفادة منه. وأمّا إذا كان رأي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخالفاً لرأيهم فانّهم في هذه الصورة يخالفونه ، ولذلك نجدهم يطلبون من قريش أن يوجّهوا نفس التساؤل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن «الروح».

وعلى هذا الأساس من المستبعد أن يكون المراد من الروح هي «الروح» التي هي بداية الحياة ، إضافة إلى أنّ هذا التفسير لم يرو إلّا في رواية واحدة ، وأبعد من ذلك أن يقال: انّ المقصود من السؤال هو معرفة قدم أو حدوث الروح ، أي هل الروح قديمة أو حادثة؟ وذلك لأنّ هذا المفهوم من المفاهيم التي كانت بعيدة عن الذهن العربي أو اليهودي في ذلك ولم يكن ذلك هو مرادهم قطعاً.

إلى هنا اتّضح جلياً انّ المراد من «الروح» في متن السؤال هو «الروح الأمين

__________________

(١). الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

٢٧

جبرئيل» ، وهنا لا بدّ من العودة إلى القرآن الكريم واستنطاقه لمعرفة الجواب القرآني عن هذا التساؤل ما هو؟

وبعبارة أُخرى : لقد ثبت أنّ المراد من الروح في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) هو «الروح الأمين» ، ولكن لا بدّ من معرفة المراد من الجواب القرآني (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ما هو؟

يقول ابن عباس : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبرائيل : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟» فنزل :

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (١). (٢)

وهكذا يتّضح أنّ قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) هي جواب عن تساؤلات أحبار اليهود ورهبانهم الذين حاولوا الحصول على ما يسند معتقدهم وموقفهم ضد جبرئيلعليه‌السلام ، إلّا أنّ الجواب كان رادعاً ودامغاً لهم حيث أثبت أنّ جبرئيل عليه‌السلام هو أحد رسل الله سبحانه الذين لا يعصونه أبداً (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، وأنّه قد سخّر كلّ وجوده لإطاعة أمره سبحانه وتنفيذ ما يوكل إليه من المهام بكلّ دقة وأمانة ، وقد وصل إلى درجة من الالتزام حتى تجسّدت فيه تلك الصفات وترسّخت ، كالإنسان الذي يصل من جهة العدالة والنزاهة والطهارة إلى درجة يصبح كأنّه العدل والعدالة نفسهما. (٣)

__________________

(١). مريم : ٦٤.

(٢). مجمع البيان : ٣ / ٥٢١.

(٣). منشور جاويد : ٣ / ٢٠٤ ـ ٢١١ و ٢١٥ و ٢١٦.

٢٨

٧١

الراسخون في العلم

سؤال : ورد في سورة آل عمران قوله تعالى : (... وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ...). (١)

ما المراد من قوله : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)؟ ومن هم هؤلاء الذين تعنيهم الآية أو تشملهم؟

الجواب : الرسوخ لغة بمعنى «الثبات» و «النفوذ» ، والمقصود من الآية الشريفة أنّ علم الإنسان ومعارفه لها أصالتها وجذورها ، ولأجل هذا التناسب أطلق القرآن الكريم على بعض علماء اليهود ـ الذين يتحلّون بسعة من العلم والمعرفة في مجال الدين ـ وصف «الراسخون في العلم» ، وقال تعالى في حقّهم :

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً). (٢)

__________________

(١). آل عمران : ٧.

(٢). النساء : ١٦٢.

٢٩

ففي هذه الآية أُطلق هذا الوصف على طائفة من بني إسرائيل الذين لهم معرفة واسعة وشاملة بالتوراة ويعلمون بالبشارة التي وردت فيها بحقّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصفته التي ذكرها النبي موسى عليه‌السلام في توراته.

وهذا الاستعمال للآية في علماء بني إسرائيل يفيد بأنّ الآية ذات مفهوم واسع وشامل بحيث يشمل كلّ العلماء والمفكّرين الذين لهم قدم راسخة ومعرفة أصيلة وعميقة في العلم والمعرفة.

وإذا ما لاحظنا في بعض الروايات انّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام قد وصفوا أنفسهم بصفة «الراسخون في العلم» ففي حقيقة الأمر انّ ذلك من قبيل تطبيق المفهوم على المصداق الأكمل والفرد الممتاز واللامع ، إذ انّ أهل البيت ـ وبلا ريب ـ هم أشهر وألمع الشخصيات الإسلامية في سماء العلم والمعرفة والفهم.

ونحن هنا نذكر كنموذج ؛ رواية واحدة في هذا المجال ، ومن أراد المزيد من الاطّلاع فعليه مراجعة المصادر التي نذكرها في الهامش. (١)

قال الإمام الصادق عليه‌السلام :

«نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله». (٢)

والذين يدركون منهج أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير آيات الذكر الحكيم ، يعرفون جيداً انّ منهجهم عليهم‌السلام هو تطبيق المفاهيم الكلّية على المصاديق الممتازة ، أو المنسية والمهمولة ، ومن الطبيعي انّ هذا ليس من باب الحصر ، بل من باب التطبيق على المصاديق الممتازة كما قلنا ، ولذلك يمكن تطبيق تلك المفاهيم على مصاديق أُخرى تتحلّى بالوصف الذي يوجد في المفهوم الوارد في الآية.

__________________

(١). الكافي : ١ / ٢١٣ ؛ تفسير البرهان : ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١ ؛ تفسير نور الثقلين : ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦٥.

(٢). الكافي : ١ / ٢١٣.

٣٠

وإذا ما أدركنا حقيقة هذا المنهج وعرفنا المراد منه ، فحينئذٍ سوف تحلّ عقدة الكثير من الآيات الواردة في هذا المجال والتي فسّرت في أهل البيت عليهم‌السلام.

وإنّ جهل بعض الكتّاب بمنهج أهل البيت عليهم‌السلام ، في تفسير الآيات كان سبباً لطرح الروايات التي تطبق مفهوم «الراسخون في العلم» على أهل البيت عليهم‌السلام. والحال انّ هذه الروايات من الروايات التطبيقية ـ التطبيق على الفرد الأكمل ـ للمفاهيم على مصاديقها الكاملة وليست من قبيل المنهج الحصري.

نعم هناك روايات يظهر منها الانحصار وانّ مصداق الآية منحصر في أهل البيتعليهم‌السلام فقط ، ولكن يمكن الإجابة عن هذه الطائفة من الروايات : بأنّها ناظرة إلى مرتبة العلم ودرجته القصوى التي يتحلّى بها أهل البيت عليهم‌السلام والتي لا يدانيهم فيها أحدٌ من الناس. وهذا الاستعمال والحصر ليس غريباً لمن له معرفة في القرآن الكريم ، فعلى سبيل المثال: نجد الأنبياء مع عظمتهم ومنزلتهم في العلم والمعرفة التي حباهم الله بها ، ولكنّهم حينما يقارنون بين علمهم وعلمه سبحانه الغير متناهي يذعنون لتلك الحقيقة ويقولون كما قال سبحانه : (لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١). (٢)

__________________

(١). المائدة : ١٠٩.

(٢). منشور جاويد : ٢ / ٣٦١ ـ ٣٦٣.

٣١
٣٢

الفصل الثاني :

بحوث حول الإنسان

٣٣
٣٤

٧٢

معرفة الإنسان

سؤال : ما هو الهدف الكامن وراء البحث في معرفة الإنسان؟

الجواب : غالباً ما تتم دراسة معرفة الإنسان وفقاً للرؤية الإسلامية بسبب إحدى حالتين :

١. انّ معرفة الإنسان تمثّل الطريق لمعرفة الله ، وفي الحقيقة انّ طريق معرفة الله سبحانه يمرّ من خلال معرفة الإنسان ، وهناك طائفة من النصوص تشير إلى ذلك.

وقد اعتبر القرآن الكريم الصلة بين الإنسان وبين المقام الربوبي بدرجة من القوة والاستحكام ، بحيث تُعدّ الغفلة عن الله سبحانه سبباً لغفلة الإنسان عن نفسه ونسيان ذاته، ولقد أزاح القرآن الستار ـ ولأوّل مرة ـ عن هذه الحقيقة ، حيث قال سبحانه :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). (١)

__________________

(١). الحشر : ١٩.

٣٥

إنّ القرآن ـ وخلافاً للفكر الماركسي الذي يرى أنّ المعرفة الإلهية والعلاقات والروابط والأُسس الدينية سبب لضياع الإنسان وغربته عن نفسه وجهله بها ـ يرى أنّ الأواصر والعلاقات الدينية هي السبب الأساسي لعثور الإنسان على هويته ومعرفته بذاته وإدراكه لحقيقة وجوده ، وانّ إهمال هذا الأصل وقطع هذه الأواصر وتلك العلاقات يكون سبباً للضياع والتيه وفقدان الهوية ، والدليل الذي أقامه لإثبات تلك الحقيقة واضح جداً وجلي للعيان ، وذلك لأنّ الإنسان باعتبار كونه معلولاً للذات الإلهية ومخلوقاً لله سبحانه فليس له حقيقة إلّا الارتباط والتبعية لعلّته الموجدة له ، وانّ إغفال هذا الأصل وإهماله لا يعني إلّا إهمال الإنسان لنفسه ولحقيقته ، وانّ قطع هذه الآصرة ونفي هذه الرابطة تساوي نفي الإنسان لوجوده.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه». (١)

ولقد سألت إحدى زوجات النبي يوماً الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : متى يعرف الإنسان ربّه؟ فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «إذا عرف نفسه». (٢)

ويقال انّ أحد العارفين قال لنظيره : أنت تقول : «إلهي عرّفني نفسك» ولكن أنا أقول : «إلهي عرّفني نفسي». (٣)

ولقد نقل عن «أبو علي سينا» في رسالة «الحجج العشرة» أنّه قال :

روي عن سيّد الأوصياء علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّه قال : «من عَرَفَ نَفْسَهُ فقد عرَف ربّه».

__________________

(١) و (٢) أمالي المرتضى : ٢ / ٣٢٩ ، ط مصر.

(٣). اختلاف بين هذين النوعين من الطلب ، وذلك لأنّ إحدى وسائل معرفة الله سبحانه هي معرفة الإنسان نفسه ، فإنّ من يدعو الله بقوله : «إلهي عرّفني نفسك» فانّه في الحقيقة يريد أيضاً معرفة نفسه ، ولذلك جاء كلام ذلك العارف : «فإنّ معرفة النفس مرقاة معرفة الرب».

٣٦

وقال رئيس الحكماء أرسطو أيضاً : إنّ من عجز عن معرفة نفسه فهو عن معرفة ربّه أعجز ، وكيف يمكن الاعتماد على معرفة مَن هو عاجز عن إدراك نفسه؟! (١)

إنّ ما نقله أبو علي سينا عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام جاء في كتاب «غرر الحكم». (٢)

ولقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال في تفسير قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اطلب العلم ولو كان في الصين» ، «هو معرفة علم النفس وفيها معرفة الرب». (٣)

ومن المسلّم به انّ الإمام الصادق عليه‌السلام أراد بيان الفرد الممتاز والمهم والأكثر قيمة من العلوم التي ينبغي للإنسان اكتسابها وتحليلها ، إذ في الحقيقة انّ دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحثّه على طلب العلم ، تتحلّى بشمولية وسعة أكبر فلا يمكن حصرها في نوع من العلوم فقط ، نعم يمكن الإشارة إلى الأهم من تلك العلوم ، وهذا ما قام به الإمام الصادق عليه‌السلام.

٢. انّ الغرض من معرفة الإنسان هو أن تكون تلك المعرفة وسيلة لتحقيق وتوفير وتلبية حاجات الإنسان المادية والمعنوية ، فإنّ هذه المعرفة هي المقدّمة التي منها يكون الانطلاق لتحديد ورسم الخطوط التي يسير وفقها الإنسان وتحديد الإيديولوجية التي تحدد له مسار حياته من الأُمور التي ينبغي فعلها أو لا ينبغي.

ولا يتسنّى لأي مذهب مهما كان أن يحدّد للإنسان وظائفه وتكاليفه بدون معرفة الإنسان نفسه ، ولا يمكن أبداً رسم النظام الحقوقي أو السياسي ، أو

__________________

(١). رسالة «انّه الحق» نقلاً عن «رسالة الحجج العشرة» لأبي علي سينا.

(٢). غرر الحكم : ٢٨٢ ، طبع النجف.

(٣). مصباح الشريعة وغيره.

٣٧

الاقتصادي ، أو الأُسري ، أو أُسلوب ونظام الحكم ما لم تسبق كلّ ذلك معرفة الإنسان وكشف حقيقته وماهيته. فكلّ مشروع يراد له أن يحدد للإنسان مساره ويرسم له طريقه لا يمكن أن ينجح بدون تحقّق الشرط المذكور.

ومن هنا تظهر أهمية معرفة الإنسان وكشف حقيقته.

ولقد وردت الإشارة إلى تلك الحقيقة في بعض النصوص الإسلامية نشير إلى بعضها : يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«أَعْظَمُ الْجَهْلِ ، جَهْلُ الإِنْسانِ أَمْرَ نَفْسِهِ ، وَأَعْظَمُ الْحِكْمَةِ مَعْرِفَةُ الإِنْسانِ نَفْسَهُ وَوُقُوفه عِنْدَ قَدْرِهِ». (١)

فإنّ عبارة : «ووقوفه عند قدره» تشير إلى حقيقة مهمة وهي : انّه ينبغي أن تكون جميع القوانين والدساتير وخطط الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفي جميع نواحي الحياة الأُخرى ، متطابقة مع حدود قدرات وإمكانات الإنسان وميوله ، فعلى سبيل المثال : إذا عرفنا انّ الإنسان يمتلك غرائز باطنية كغريزة التديّن ، أو غريزة العلم والمعرفة ، أو الغرائز والميول الجنسية ، فلا بدّ حينئذٍ من أن يرسم لهم منهج حياة وآيديولوجية تستطيع أن ترضي كلّ هذه الغرائز : العبادة والدعاء ، العلم والمعرفة وتلبية الغرائز الجنسية ، مع الحفاظ على حالة التوازن بينها.

وفي كلام آخر لأمير المؤمنين عليه‌السلام يقول :

«الْعارِفُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَها وَنَزَّهَها عَنْ كُلّ ما يُبَعّدُها وَيُوبِقُها» (٢). (٣)

__________________

(١) و (٢). غرر الحكم ٧٧.

(٣). منشور جاويد : ٤ / ١٨٥ ـ ١٨٨.

٣٨

٧٣

مراحل خلق الإنسان

سؤال : هل الإنسان خلق دفعة واحدة أو أنّ عملية خلق الإنسان مرّت بمراحل؟ وعلى الفرض الثاني ما هي تلك المراحل وكيف تمّت؟

الجواب : انّ من أُولى البحوث التي تطرح حول الإنسان هي مسألة مراحل خلق الإنسان وانّه كيف خلق؟ ومن أيّ شيء خلق؟

ولقد أجاب القرآن الكريم ـ الذي يعتبر أصحّ مصادر الفكر الإسلامي ـ عن تلك الأسئلة وأوضح المسألة بصورة مفصّلة ، وانّ المتتبّع لآيات الذكر الحكيم التي تعرّضت للبحث في هذه القضية يدرك جلياً انّ عملية خلق الإنسان قد مرّت بثلاث مراحل ، وهي :

المرحلة الأُولى : التراب المتحوّل

١. التراب ، ٢. الطين ، ٣. الطين اللازب ، ٤. صلصال من حمأ مسنون ، ٥. سلالة من طين ٦. صلصال كالفخار.

إنّ مجموع هذه الحالات الست المختلفة ترجع في حقيقتها إلى شيء واحد ، وإنّ المادة الأساسية في كلّ هذه الحالات هي مادة واحدة ، ومن أجل التعرف على

٣٩

متون الآيات التي تتعلّق بهذه الأُمور الستة نكتفي بذكر آية واحدة لكلّ عنوان منها :

١. التراب :

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١)

٢. الطين :

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ). (٢)

انظر في هذا المجال الآية ٢ من سورة الأنعام ، والآية ١٢ من سورة الأعراف ، والآية ٦١ من سورة الإسراء ، والآيتين ٧١ و ٧٦ من سورة ص.

٣. طين لازب :

(... إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ). (٣)

٤. صلصال من حمأ مسنون :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). (٤)

وانظر أيضاً الآيتين ٢٨ و ٣٣ من نفس السورة.

٥. سلالة من طين :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ). (٥)

__________________

(١). آل عمران : ٥٩.

(٢). السجدة : ٧.

(٣). الصافات : ١١.

(٤). الحجر : ٢٦.

(٥). المؤمنون : ١٢.

٤٠