الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

قال العلّامة الطبرسي في تفسير مصطلحي «فجّرت» و «سجّرت» : أي «أُرسل عذبها على مالحها ومالحها على عذبها حتى امتلأت» ....

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) : أي «فتح ببعضها في بعض ، عذبها في ملحها وملحها في عذبها فصارت بحراً واحداً». (١) فيصير الجميع بحراً واحداً على خلاف ما في هذه الدنيا.

وهذا التفسير هو الأصحّ بالنسبة إلى باقي التفاسير التي ذكرها المفسّرون للمصطلحين ، والشاهد على أصحّية هذا التفسير انّ القرآن الكريم عند ما يتحدّث عن خصائص البحار في هذه الدنيا يؤكّد على حقيقة انفصال الماء العذب عن الماء الأُجاج (المالح) ، وانّه يوجد برزخ وفاصل بين البحرين حيث قال سبحانه :

(... هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً). (٢)

وبقرينة ما جاء في ذيل الآية من قوله سبحانه : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) يتّضح أنّ المراد من قوله : (مَرَجَ) ليس هو المزج والخلط ، بل التقارن المكاني والتلاقي.

والشاهد على هذا المطلب أيضاً قوله تعالى في آية أُخرى :

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ). (٣)

ومن أنسب التفاسير التي ذكرت لتفسير الآية هو : انّ هذه الآية تشير إلى

__________________

(١). مجمع البيان : ٥ / ٤٤٣ و ٤٤٩.

(٢). الفرقان : ٥٣.

(٣). الرحمن : ١٩ ـ ٢٠.

٢٤١

بيان عظمة الحكمة والتدبير الإلهي في خلق البحار بالنحو الذي يوفّر الأرضية المناسبة والشروط الصحيحة بنحو كامل لحياة المخلوقات الحيّة وخاصة الإنسان منها ، وذلك لأنّه وفقاً لنظرية علماء الطبيعة والبيئة أنّ ثلاثة أرباع سطح الكرة الأرضية تغمره المياه المالحة ، وانّ لهذه النسبة من المياه دوراً بارزاً في تلطيف ونقاء الهواء ، والأُمور الأُخرى التي تحتاج إليها حياة الموجودات الحيّة ، هذا من جهة ومن جهة أُخرى انّ المياه العذبة تخزّن في أعماق الأرض وتظهر إلى السطح من خلال العيون والآبار وغير ذلك ، لتوفّر الشرط المهم والعنصر الأساسي للحياة.

وهذان النوعان من المياه لا يمتزجان أبداً بنحو يتحوّل الماء المالح بأكمله إلى ماء عذب ، أو يتحوّل الماء العذب بأكمله إلى ماء مالح ، وذلك لأنّه على هذا الفرض تنعدم إمكانية استمرار الحياة بالنسبة للموجودات الحيّة.

أمّا إذا انتهى عمر الدنيا وانهار النظام الكوني ، فحينئذٍ يرتفع الفاصل والحاجز بين المياه المالحة والعذبة ، والذي يبيّن ويؤكد تلك الحقيقة قوله تعالى : (سُجِّرَتْ) أو (فُجِّرَتْ). (١)

حالة الجب الأوان قيام الساعة

وأمّا الجبال فقد وصف القرآن الكريم حالها في أكثر الآيات التي تحدّثت عن حالة الأرض يوم القيامة ، وهذه الآيات جميعها تشير إلى صورة مرعبة عن وضع العالم في تلك اللحظات العسيرة ، ومن هذه الآيات قوله تعالى :

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً). (٢)

__________________

(١). انظر الميزان : ٢٠ / ١١٢.

(٢). النبأ : ٢٠.

٢٤٢

ومن الواضح انّ معنى السراب هو توهّم وتخيّل الماء ، ولكنّه في الحقيقة أُطلق هنا في الآية بنحو من التوسّع على كلّ شيء لا حقيقة له ، ولكن قد يتوهّم انّ له حقيقة ، والظاهر أن معنى الآية هنا انّها تريد أنّ الجبال بالرغم من عظمتها سوف تتلاشى وتندك بنحو لا يبقى من تلك الهيبة والعظمة أثر يذكر ، وتنعدم تلك الموجودات وكأنّها لا حقيقة لها ولا أثر في الخارج إلّا صورة وهمية.

ومن الآيات الأُخرى التي أشارت إلى وضع الجبال في ذلك اليوم :

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ). (١)

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ). (٢)

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً). (٣)

ومن الأوصاف التي وصف القرآن الكريم بها الجبال في ذلك اليوم بعد وصفي السراب والسير :

١. العهن المنفوش :

(تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ). (٤)

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). (٥)

٢. النسف :

(وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ). (٦)

__________________

(١). التكوير : ٣.

(٢). الكهف : ٤٧.

(٣). الطور : ١٠.

(٤). المعارج : ٩.

(٥). القارعة : ٥.

(٦). المرسلات : ١١.

٢٤٣

٣. الرجف : الحركة الشديدة :

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ...). (١)

٤. الكثيب المهيل :

(وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً). (٢)

٥. البسّ.

٦. الهباء المنبث.

كما جاء في قوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا* فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا). (٣)

٧. الدك :

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً). (٤)

نعم هذا هو مصير الجبال في نهاية عمر الدنيا ، وهذه هي خاتمتها بالصورة التي بيّنتها الآيات الكريمة بعد أن كانت تلك الجبال مضرب الأمثال للثبات والصلابة والاستقامة ، والتي كانت تمثل أوتاد الأرض التي تحفظها من أن تميد ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«ووطّد بالصخور ميدان أرضه». (٥)

كما أنّ القرآن قد وصفها في الدنيا بقوله :

__________________

(١). المزمل : ١٥.

(٢). المزمل : ١٥.

(٣). الواقعة : ٥ و ٦.

(٤). الحاقة : ١٤.

(٥). نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

٢٤٤

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً). (١)

(وَالْجِبالَ أَرْساها) (٢)

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ). (٣)

فهذه الجبال بعظمتها وهيبتها تقلع من وجه الأرض وتسير وتكون كالسراب وتتحوّل إلى تل من التراب ، أو تصبح كالعهن المنفوش ، أي كالصوف المنفوش ، وفي النهاية تتحوّل إلى ذرات متناثرة ، في هذا الكون. أيّ صورة مهيبة ومرعبة ترسمها لنا ريشة الجلال الإلهي ، بنحو يختل كلّ النظام الكوني ويعيش العالم في ظلام دامس وموحش وجمود وذبول باعث على الغم.

وبهذا يُطوى ملف الحياة الدنيا ، ولكن ذلك لا يعني بوجه من الوجوه نهاية الحياة الحقيقية ، بل هو في الواقع يمثّل البشارة والأمل في بداية حياة جديدة وخالدة ، الحياة التي عبّر عنها القرآن الكريم بالقيامة ، واعتبر تلك الحوادث العجيبة والغريبة في العالم علامات وأشراط لقرب تلك الحياة الجديدة والأبدية. (٤)

__________________

(١). النبأ : ٧.

(٢). النازعات : ٣٢.

(٣). الغاشية : ١٩.

(٤). منشور جاويد : ٩ / ٢٤٢ ـ ٢٦٨.

٢٤٥

١٠٦

القيامة ومحاسبة الأعمال

سؤال : ما المقصود من المحاسبة يوم القيامة ، وما هو الهدف منها؟

الجواب : من الأسماء التي أطلقها الله سبحانه على يوم القيامة «يوم الحساب». (١) ، أي اليوم الذي يوقف فيه الله سبحانه عباده ليحاسبهم على ما اقترفوه من أعمال في الحياة الدنيا ، وهذا الأمر بدرجة من الوضوح والتسليم به ممّا جعل الإمام علياً عليه‌السلام يعتبر التفريق بين الحياة الدنيا والآخرة قائماً على هذا الأساس ، حيث اعتبر الأُولى دار العمل والثانية دار الحساب ، فقال عليه‌السلام :

«واليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل». (٢)

كما وردت في هذا المجال روايات كثيرة بالإضافة إلى الآيات ، وقد جاءت في تلك الآيات والروايات سلسلة من العناوين الجديرة بالبحث والدراسة ، لما فيها من المعاني والمفاهيم الشامخة ، ولاشتمالها على البحوث المهمة التي يمكن أن تكون مفتاحاً لحلّ الكثير من الإشكالات والشبهات التي قد تثار في هذا المجال.

__________________

(١). انظر : إبراهيم : ٤١ ، وسورة ص : الآيات ٦ و ٢٦ و ٥٣ ، وسورة غافر : ٢٧.

(٢). نهج البلاغة : الخطبة ٤٢.

٢٤٦

ومن هذه التساؤلات التي تثار هنا :

١. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال؟

٢. من المحاسب؟

وسنتناول هذين التساؤلين واحداً تلو الآخر.

١. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال؟

إنّ حقيقة الحساب هي : الاطّلاع والوقوف على بعض المجهولات من خلال الاستعانة بالمعلومات المسبقة ، وبعبارة أُخرى : انّ حقيقة الحساب ليس إلّا حلّ المجهولات عن طريق المعلومات.

وعلى هذا الأساس تظهر هذه الحالة على حياة الإنسان بصورة جلية باعتبار كونها أمراً واقعياً لا ينفك عن حياته ، لأنّ الإنسان دائماً يعيش حالة من القلق على مستقبله ومصيره ويحاول معرفة ثمار ونتائج سعيه وجهده ومقتنياته المادية والمعنوية ، ولذلك يسلك طريق الحساب والمحاسبة.

ومن هنا نعلم أنّ واقعية المحاسبة والحساب الرائجة والمتداولة بين أفراد النوع الإنساني تحمل في طياتها نوعاً من الجهل وتخفي في أعماقها نوعاً من عدم المعرفة ، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى منزّه عن كلّ جهل ، وانّ السرّ والعلن والخفاء والظهور بالنسبة إليه على حدّ سواء ، فما هي الحاجة إذاً للحساب والمحاسبة يا ترى ، إذ بإمكانه سبحانه أن يعمل بعلمه المطلق ويثيب المحسن ويعاقب المسيء على أساس من الحكمة والعدل الذي يعيّنه هو سبحانه ، وحينئذٍ تكون عملية إقامة محكمة للعدل والحساب والسؤال لغواً لا طائل وراءه ، وبالنتيجة فإنّ هذا العمل لا يلائم الحكمة الإلهية ولا يتطابق معها؟

٢٤٧

والجواب عن هذه الشبهة هو : ليس الهدف من إقامة الحساب والمحاكمة يوم القيامة (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (١) هو انّ الله سبحانه يطّلع على أعمال عباده الحسنة منها والسيّئة واستحقاق الثواب أو العقاب ، من خلال طرحه سبحانه سلسلة من الأسئلة على عباده ، لأنّ الله سبحانه ـ وكما جاء في متن السؤال ـ يعلم بكلّ شيء ، ولذلك فهو غني عن إقامة المحكمة لتحقيق ذلك الغرض ، بل أنّ المقصود حقيقة من وراء إقامة محكمة الحساب شيء آخر ، وهو : إراءة عدله وجوده وحكمته سبحانه عند المحاسبة ، وليتّضح ذلك للجميع بنحو لا يرتاب فيه أحد حتى أُولئك الذين كانوا في شكّ من ذلك في الحياة الدنيا يتّضح لهم عدله ورحمته سبحانه بنحو لم يبق لهم مجال للاعتذار أو الاعتراض.

ومن هنا يمكن القول : إنّ مسألة «الحساب» في العالم الآخر ليست بمنزلة الامتحان والابتلاء والاختبار في الحياة الدنيا والتي تجري بين العباد لكسب المعرفة والتعرّف على جوهر الأفراد وحقائقهم ، أو معرفة أُمور أُخرى ، بل أنّ الامتحان الإلهي له علله وأهدافه الخاصة التي منها إقامة الحجة على العباد. (٢)

٢. مَن المحاسب؟

دلّت الأُصول التوحيدية على أنّ جميع العلل والأسباب تنتهي إلى خالق واحد ومدبّر فرد ، هو مبدأ جميع الموجودات ، وهو مسبب الأسباب كلّها.

وهنا يقع الكلام في البحث التالي : من المعلوم أنّ الله سبحانه وتعالى قد أقام النظام الدنيوي على أساس قانون العلّية والمعلولية ، وانّه منح بعض مخلوقاته

__________________

(١). إبراهيم : ٤١.

(٢). ومن الطبيعي أنّ للامتحان الإلهي أهدافاً أُخرى تذكر في محلها.

٢٤٨

صفة المدبّرية فقال سبحانه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (١) ، فهل يا ترى أنّ عالم الآخرة يقوم على أساس قانون العلّية والمعلولية أيضاً بنحو يمنح الله سبحانه بعض مخلوقاته صفة المحاسب ويوكل إليهم محاسبة العباد؟ أو أنّه سبحانه هو الذي يتكفّل بهذا الأمر الخطير والحسّاس؟

إنّ ظاهر ، بل صريح بعض الآيات ، انّ الله سبحانه هو الذي يتكفّل بعملية المحاسبة وهو المحاسب يوم القيامة ، قال سبحانه :

(... فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ). (٢)

وقال أيضاً :

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ). (٣)

وفي آية أُخرى :

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ). (٤)

ويقول عزّ من قائل :

(... وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً). (٥)

هذه الآيات صريحة في أنّ المحاسب هو الله سبحانه ، ولكنّ هناك طائفة أُخرى من الآيات الكريمة تشير إلى أنّ المحاسب في ذلك العالم هو الإنسان نفسه حيث هو يقوم بمحاسبة نفسه بنفسه من خلال قراءة كتابه بنفسه وحينئذٍ لا حاجة إلى محاسب آخر ، يقول سبحانه :

__________________

(١). النازعات : ٥.

(٢). الرعد : ٤٠.

(٣). الغاشية : ٢٥ ـ ٢٦.

(٤). الشعراء : ١١٣.

(٥). النساء : ٦ ، الأحزاب : ٣٨.

٢٤٩

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١)

ولكن الإمعان في الأمر يظهر لنا أنّ هذه الآيات لا تنافي الآيات الآنفة الذكر ، وذلك لأنّ مفاد هذه الآية انّه تتجلّى في العالم الآخر أمام الإنسان أعماله وأفعاله التي اقترفها بصورة كتاب يبرز ويظهر أمام نظر الإنسان ، بنحو يرى الإنسان واقع أفعاله التي قام بها في الحياة الدنيا بصورة لا يبقى فيها مجال لأيّ إنكار أو تخلّص أو تنصّل عن المسئولية ، ولذلك يصل الأمر بالإنسان إلى درجة يشهد هو على نفسه وعلى أعماله.

وبعبارة أُخرى : أنّ الآيات السابقة تشير إلى حقيقة جلية وهي أنّها تنفي وجود أيّ محاسب في ذلك العالم إلّا الله سبحانه وتعالى وحده ، وأمّا هذه الآية فإنّها تشير إلى كيفية المحاسبة التي يقوم بها الله سبحانه وتعالى ، وانّها تكون بالنحو الذي تعرض أعمال العباد وأفعالهم أمام كلّ واحد منهم بحيث يطّلع كلّ إنسان على ما بدر منه وما صدر من أفعال ، وليحكم هو بنفسه على نفسه.

حكم الروايات في هذه المسألة

لقد حظيت هذه المسألة باهتمام الرسول الأكرم وأهل بيته عليه وعليهم‌السلام فقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال ، فطائفة من هذه الروايات تؤيّد الرأي الأوّل الذي ذهبت إليه الآيات الكريمة ، وأنّ الله سبحانه هو المحاسب يوم القيامة ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في حقّ عائشة وخصومتها معه : «وأمّا فلانة

__________________

(١). الإسراء : ١٣ ـ ١٤.

٢٥٠

فأدركها رأي (رائحة) النساء ، وضِغْنٌ غلا في صدرها كمِرجَلِ القَيْنِ ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ ، لم تفعل ، ولها بعد حرمتها الأُولى ، والحساب على الله تعالى». (١)

ولكن يظهر من بعض الروايات الأُخرى أنّ الله سبحانه قد أوكل أمر المحاسبة إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

روى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال :

«إذا كان يوم القيامة وكّلنا الله بحساب شيعتنا». (٢)

وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام قال :

«إذا كان يوم القيامة جعل الله حساب شيعتنا إلينا». (٣)

وجاء في الزيارة الجامعة الكبيرة :

«وَإِيابُ الْخَلْقِ إِلَيْكُمْ وَحِسابُهُمْ عَلَيْكُمْ».

ومن الملاحظ أنّ مضمون الزيارة الجامعة أوسع من مدلول الروايتين السابقتين ، ولا تنافي بين ذلك وبين حصر الحساب بالله سبحانه وتعالى ، إذ ممّا لا ريب فيه أنّ قيام الأئمّة بالمحاسبة ينطلق في واقعه من امتثال الأمر الإلهي ، وانّ الله سبحانه هو الذي أوكل إليهم القيام بهذا الأمر كما أوكل سبحانه إلى بعض مخلوقاته تدبير بعض الأُمور في الحياة الدنيا ، وهذا من الأُمور المسلّمة التي نطق بها القرآن الكريم.

وعلى كلّ حال فهناك روايات مستفيضة تؤكّد المنزلة السامية والمقام

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٦ ، ط صبحي الصالح.

(٢). بحار الأنوار : ٧ / ٢٦٤.

(٣). بحار الأنوار : ٧ / ٢٦٤.

٢٥١

الشامخ لأهل البيت عليهم‌السلام في يوم القيامة ، حيث جاء في بعضها أنّهم عليهم‌السلام أصحاب الأعراف ، وأصحاب الشفاعة و .... وعلى هذا الأساس من الممكن أن يوكل سبحانه إلى الأئمّة أمر محاسبة العباد جميعاً أو محاسبة بعض عباده خاصة. وبما انّ هذه المسائل من الأُمور الخارجة عن إطار حكم العقل فيها إثباتاً أو نفياً ، لذلك لا بدّ من الالتجاء إلى الوحي وطلب العون منه هنا ، فما يثبت من خلال هذا الطريق بصورة قطعية لا بدّ من الإذعان له والخضوع أمامه. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٩ / ٢٨٠ ـ ٢٨٥.

٢٥٢

١٠٧

أسئلة يوم القيامة

سؤال : ما هي الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة ويُسأل عنها؟

الجواب : من المسلّم به انّ السؤال يوم القيامة يكون عن أعمال العباد وانّ كلّ إنسان ينال نتيجة أعماله التي اقترفها في الحياة الدنيا ، ولكنّ هناك سؤالاً يلاحق الذهن البشري دائماً ، وهو : ما هي الأعمال التي يُسأل عنها؟ وما هي الأعمال التي لا بدّ أن نجيب عنها؟

ولقد اهتمت الآيات الكريمة والروايات الشريفة بهذه المسألة اهتماماً كبيراً وأولتها عناية خاصة ، وبيّنت لنا الجواب بطريقة خاصة.

ويمكن تقسيم الآيات الواردة في هذا المجال إلى طائفتين :

الطائفة الأُولى : الآيات التي تؤكد على أنّ الإنسان يُسأل عن عامّة أفعاله ، ومن هذه الآيات المباركة :

ألف. (... وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (١)

__________________

(١). النحل : ٩٣.

٢٥٣

ب. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ). (١)

ج. (... ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). (٢)

د. (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٣)

كذلك تدلّ على الشمول والعمومية الآيات المتعلّقة بالعقاب والثواب وجزاء الأعمال.

وأمّا الطائفة الثانية : فإنّها تدلّ على أنّ الإنسان يُسأل عن بعض الأُمور خاصة ، ومنها :

ألف. النعم الإلهية

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ). (٤)

والسؤال هنا وإن كان عن النعم الإلهية ، ولكن بالالتفات إلى أمرين : الأوّل : أنّه ورد في الآية كلمة «النعيم» الذي يشمل جميع النعم الإلهية ، والثاني : انّ جميع ما يستفيد منه الإنسان في حياته يُعدّ من النعم الإلهية ، إذاً على هذا الأساس يقع السؤال عن جميع أفعال الإنسان وأعماله ، وذلك لأنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان يُعدّ ـ وبنحو من الأنحاء ـ تصرّفاً في النعم الإلهية ، وبالنتيجة لا بدّ أن تدرج هذه الآية في ضمن الطائفة الأُولى من الآيات التي تدلّ على عمومية وشمولية السؤال.

__________________

(١). الأنبياء : ٢٣.

(٢). الزمر : ٧.

(٣). الزلزلة : ٦.

(٤). التكاثر : ٨.

٢٥٤

ب. القرآن الكريم (١)

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ). (٢)

ج. الشهادة

(... سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ). (٣)

د. القتل من دون ذنب

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٤)

ه. الكذب والتهمة

قال سبحانه : (... تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (٥)

و. الصدق

قال سبحانه : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً). (٦)

وبالطبع أنّ تخصيص هذه الأُمور بالسؤال عنها لا ينافي السؤال عن عامّة الأفعال ، وانّما ذكرت تلك الأُمور لأهميتها من باب ذكر الخاص بعد العام.

ثمّ إنّ هذا التقسيم نجده أيضاً في الروايات ، فهناك طائفة من الروايات تؤكد أنّ السؤال سيكون عن جميع الأفعال والأعمال ، وفي مقابلها طائفة أُخرى ترى أنّ السؤال سيكون عن بعض الأفعال المخصوصة ، ونحن نذكر نماذج من

__________________

(١). انظر سورة الحجر : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢). الزخرف : ٤٤.

(٣). الزخرف : ١٩.

(٤). التكوير : ٨ ـ ٩.

(٥). النحل : ٥٦.

(٦). الأحزاب : ٨.

٢٥٥

تلك الروايات :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم». (١)

وكتب عليه‌السلام إلى بعض عمّاله الذي خانه واستولى على بيت المال وذهب به إلى الحجاز : «فكأنّك قد بلغت المدى ، ودفنت تحت الثرى ، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة ، ويتمنّى المضيع فيه الرجعة ، ولات حين مناص». (٢)

وطائفة أُخرى من الروايات تخصّص السؤال عن بعض الأُمور منها :

١. عمر الإنسان.

٢. الشباب.

٣. أعضاء الإنسان.

٤. الثروة التي اكتنزها ، وفي أيّ شيء صرفها.

٥. محبة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

٦. القرآن الكريم.

٧. فريضة الصلاة.

٨. النبوة والولاية.

وها نحن نذكر بعض النماذج من تلك الروايات التي تتعلّق بالعناوين التي ذكرناها :

ألف. روى الصدوق في «الخصال» و «الأمالي» بسنده عن موسى بن

__________________

(١). نهج البلاغة : قصار الحكم ، رقم ٧.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ٤١.

٢٥٦

جعفر عليه‌السلام ، عن آبائه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وشبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت». (١)

ب. روى أبو بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول :

«أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فإن قبلت قبل ما سواها». (٢)

ج. روى الصفار في «بصائر الدرجات» ، عن أبي شعيب الحداد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا أوّل قادم على الله ، ثمّ يقدم عليّ كتاب الله ، ثمّ يقدم عليّ أهل بيتي ، ثمّ يقدم عليّ أُمّتي فيقفون فيسألهم : ما فعلتم في كتابي وأهل بيت نبيّكم». (٣)

د. روى القمي في تفسيره ، عن جميل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : قول الله: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)؟ قال : «تسأل هذه الأُمّة عمّا أنعم الله عليهم برسول الله ، ثمّ بأهل بيته».

ه. روى (٤) الصدوق في «عيون أخبار الرضا» ، عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي! إنّ أوّل ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلّا الله ، وانّ محمّداً رسول الله وأنّك وليُّ المؤمنين بما جعله الله وجعلته لك ، فمن أقرّ بذلك وكان يعتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له». (٥)

__________________

(١). البحار : ٧ / ٢٥٨ ، باب محاسبة العباد ، الحديث ١. ولاحظ الأحاديث : ٣ ، ١١ و ٣١.

(٢). البحار : ٧ / ٢٦٧ ، باب محاسبة العباد ، الحديث ٣٣.

(٣). البحار : ٧ / ٢٦٥ ، باب محاسبة العباد ، الحديث ٢٢.

(٤). البحار : ٧ / ٢٧٢ ، باب محاسبة العباد ، الحديث ٣٩.

(٥). البحار : ٧ / ٢٧٢ باب محاسبة العباد ، الحديث ٤١.

٢٥٧

النعم الدنيوية والسؤال عنها في لسان الروايات

من البحوث المتعلّقة بالحساب يوم القيامة والتي ذكرت في الروايات بحث النعم الإلهية الدنيوية ، ويمكن تصنيف تلك الروايات إلى طوائف ، هي :

١. السؤال عن جميع النعم الدنيوية ، حلالها وحرامها.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال :

«فِي حَلالِها حِسابٌ وَفي حَرامِها عِقابٌ». (١)

وقال أيضاً :

«اتَّقُوا اللهَ في عِبادِهِ وَبِلادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقاعِ وَالبَهائِمِ». (٢)

٢. يسأل عن كلّ شيء سوى ما بذل في سبيل الله ، قال :

«كلّ نعيم مسئول عنه يوم القيامة إلّا ما كان في سبيل الله». (٣)

٣. أنّ الإنسان لا يُسأل عن ثلاثة أُمور :

أ. لا يسأل عن الطعام الذي أكله.

ب. والثوب الذي لبسه.

ج. والزوجة الصالحة.

روى الحلبي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهنّ : طعام يأكله ، وثوب يلبسه ، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن فرجها». (٤)

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٨٢.

(٢). نهج البلاغة : الخطبة ١٦٧.

(٣). بحار الأنوار : ٧ / ٢٦١ ، باب ١١ ، الحديث ١٠.

(٤). بحار الأنوار : ٧ / ٢٦٥ ، باب ١١ ، الحديث ٢٣.

٢٥٨

ونحن إذا حللنا الروايات وفسّرناها بإمعان تتّضح لنا النكات التالية :

النكتة الأُولى : انّ الرواية الثانية واضحة جداً ، لأنّها تؤكد أنّ الإنسان لا يُسأل عن النعم التي تبذل في سبيل الله سبحانه ، ولا تقع تلك النعم موضوعاً للمساءلة والعقاب والمؤاخذة.

النكتة الثانية : كذلك الأمر بالنسبة إلى الرواية الثالثة فإنّها أيضاً واضحة حيث تؤكّد أنّ بعض الأُمور لا يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة ، وذلك لأنّ هذه الأُمور المستثناة تمثّل في الواقع اللطف والكرم الإلهي والرحمة الإلهية والتي تتوقف عليها ضرورة الحياة.

النكتة الثالثة : وحينئذٍ يمكن معرفة المستثنيات من عموم الرواية الأُولى الدالّة على شمولية الحساب لكلّ شيء ، وهذا الشمول يمكن تصوّره في أمرين :

١. السؤال عن كلّ شيء سواء أُنفق في سبيل الله أو أُنفق في غير سبيل الله.

٢. ولا فرق بين العمل الصادر من المؤمن أو من غير المؤمن.

وبما أنّ هذين القسمين قد ورد ، في الروايتين الثانية والثالثة ، استثناؤهما من المحاسبة والمؤاخذة والعقاب ، وبالنتيجة انّ المعنى الكلّي والعام للطائفة الأُولى يخصّص بالمستثنيات الواردة في الروايات الأُخرى. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٩ / ٢٨٥ ـ ٢٩١.

٢٥٩

١٠٨

الحساب التكويني والتدويني

سؤال : ما المقصود من الحساب التكويني والتدويني؟

الجواب : انّ مصطلح «الحساب» الوارد في القرآن الكريم استعمل في معنيين هما :

١. الحساب التكويني.

٢. الحساب التدويني.

الحساب التكويني

المراد من الحساب التكويني أنّ الله سبحانه وتعالى خلق عالم الكون على أساس سلسلة من القوانين التي لا تتخلّف ، وعلى أساس حسابات دقيقة لا تخطأ ، كحركة الشمس والقمر وبزوغ الكواكب ومهب الرياح وهطول الأمطار واخضرار الأشجار والنباتات ونمو وتوالد الموجودات الحيّة ، وبكلمة واحدة ، انّ كلّ حوادث ووقائع العالم تخضع لقانون ومحاسبات دقيقة جداً.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حيث قال سبحانه :

٢٦٠