الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وبما أنّ العباد قد انقسموا ـ من ناحية الطاعة ـ إلى طائفتين ، مطيعة وعاصية ، الأمر الذي يقتضي أن يوجد يوم يجمع فيه العباد على صعيد واحد ليحاسب فيه العاصون على مخالفتهم ويُثاب فيه المطيعون على طاعتهم.

وبعبارة أُخرى : انّ الربوبية تلازم العبودية ، وفي الحقيقة انّه تكمن في حقيقة العبودية المسئولية ، وإلّا لا معنى للمسئولية بدون المؤاخذة ، والمساءلة والاستجواب عن الأعمال والأفعال ، ولا شكّ انّ ذلك كلّه لا يمكن تصوّره من دون أن يكون هناك يوم يُعدّ للحساب والمساءلة والمؤاخذة ، ولذلك فإنّ هذا الأمر يقتضي أن يوجد ذلك اليوم الذي تتجلّى فيه ربوبية الله سبحانه ، ولعلّه من هذا المنطلق جاءت كلمة «الرب» في الآية المذكورة بدل كلمة «الله» أو «الخالق» أو ما شابه ذلك ، قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ). (١)

ولعلّه لنفس النكتة اعتبر في آية أُخرى إنكار المعاد ملازماً لإنكار الربوبية حيث قال سبحانه :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ...) (٢).

وتتّضح من خلال البيان السابق الملازمة بين إنكار المعاد وإنكار الربوبية ، وذلك لأنّ الإنسان إذا سلم بأنّ له ربّاً وانّه مملوك لذلك الرب ، فلا ينبغي بحال من الأحوال أن ينكر أنّه لا بدّ أن يقف أمام هذا الرب والمالك للحساب والمساءلة والمؤاخذة ، وإلّا لا يمكن تصوّر مقام المالكية والربوبية والعبودية منفكّاً عن

__________________

(١). الانشقاق : ٦.

(٢). الرعد : ٥.

٢٠١

المحاسبة والمؤاخذة الكاملة لعباده ومربوبه ومملوكيه.

من هنا يتحيّر الإنسان لطبيعة النظم القرآني والموازنة والمقارنة الدقيقة ويقف بإعجاب أمام ذلك البيان الدقيق ، حيث يرى بأنّه لا يمكن إبدال كلمة مكان أُخرى ، لأنّ أدنى تغيير أو تبدّل سوف يقلب المعنى بصورة جذرية. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٩ / ٣١ ـ ٥٢.

٢٠٢

١٠١

شبهة الآكل والمأكول

سؤال : من الإشكالات والشبهات التي أُثيرت من قبل منكري المعاد هي الشبهة المعروفة ب «شبهة الآكل والمأكول» فما هو الجواب الأمثل عن هذه الشبهة؟ بل كيف يمكن لنا أن نتصوّر محاسبة الإنسان بعد أن تحوّل بدنه إلى نباتات وأعشاب أو إلى موجودات أُخرى؟

الجواب : إنّ محور الإشكال قائم على أساس الفكرة التالية : إنّ الإنسان إذا تحوّل إلى طعام لإنسان آخر وأصبح جزءاً من ذلك الإنسان ، سواء كان بصورة مباشرة كما إذا اتّفق أن أكل إنسان إنساناً ، أو كان بصورة غير مباشرة كما لو تحوّل بدن الإنسان الميت إلى تراب ثمّ إلى نبات ثمّ تحوّل هذا النبات إلى بدن حيوان فتغذّى الإنسان بلحم ذلك الحيوان ، أو أنّ الإنسان تناول ذلك النبات بصورة مباشرة ، فحينئذٍ يطرح التساؤل عن كيفية معاد الإنسان الأوّل من جهة؟ وعن كيفية معاد الإنسان الثاني من جهة أُخرى؟

ومن الجدير هنا أن نشير إلى النكات التي يمكن أن تعالج كلّ واحدة ـ وبنحو ما منها جانباً من جوانب الشبهة :

٢٠٣

١. لقد أثبتت البحوث العلمية أنّ بدن الإنسان بمنزلة العين الجارية ، بحيث يتحوّل وفي ضوء الفعل والانفعالات الطبيعية وبصورة مستمرة من حالة إلى أُخرى ، حيث تنمو أجزاء جديدة من جهة وتفنى في مقابلها أجزاء أُخرى غيرها ، بل توصل العلم إلى أدق من ذلك حيث اكتشف انّ الإنسان ينزع بدنه ويبدله ببدن آخر في كلّ ثمانية أعوام من عمره ، فالإنسان الذي يعمّر أربعة وستين عاماً يستبدل بدنه خلال هذه الفترة ثماني مرّات ينزع ثوباً ويرتدي ثوباً غيره حاله حال العين النابعة التي لا يقف نبعها ، من هنا نعلم أنّ عملية التحوّل والتبدّل مستمرة ومتواصلة في حياة الإنسان ، إلّا أنّها تتم بصورة تدريجية وعلى امتداد فترة طويلة لا يشعر بها.

فلو فرضنا أنّ البدن الأخير أصبح طعمة لإنسان آخر ، فهذا لا يعني أنّ الأبدان الأُخرى للإنسان اقترنت بالمانع ، إذ من الممكن أن يبعث الإنسان وينشر يوم الحساب بأحد الأبدان الأُخرى ، وحتى لو فرضنا أنّ بقية الأبدان كالبدن السادس أو السابع مثلاً تصدق فيها شبهة الآكل والمأكول ، فلا شكّ أنّ بقية الأبدان ليست كذلك ، إذ من المستبعد جداً أنّ جميع أبدان الإنسان نابتة من بدن إنسان آخر وانّها عرضة للإشكال المطروح.

٢. لو افترضنا أنّ البدن الأخير وما تقدّمه من الأبدان قد ابتلي بنفس المصير وانّه صادف المانع وأصبح جزءاً من إنسان آخر ، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولكن من الواضح أنّه ليس عامّة الأجزاء من كلّ بدن مأكولاً لفرد آخر ، وإنّما يطرح القسم الأكبر منه خارجاً ، ويبقى جزء قليل منه ضمن البدن الآخر ، وعندئذٍ فما هو المانع أن يحشر هذا الإنسان ولو ببدن نحيف ، إذ اللازم أن يبعث الإنسان بنفس البدن الدنيوي ، ولا يوجد دليل شرعي يدلّ على اشتراط بعثة الإنسان بعين بدنه الدنيوي من ناحية السمن والضعف ، فلو بعث الإنسان ببدن

٢٠٤

نحيف فإنّه حينئذٍ يبعث ببدنه الأصلي مع فارق يسير جدّاً في الكمية والحجم ، وهذا المقدار لا يضرّ ولا يعتبر دليلاً على التغاير الكامل.

٣. لو افترضنا ـ جدلاً ـ أن تتحوّل أغلب الأجزاء من كلّ بدن إلى بدن إنسان آخر ، بحيث يكون الباقي كافياً في تشكيل بدن المأكول ، وحينئذٍ يمكن الإجابة عن ذلك بوجهين :

الف : ما المانع أن يرجع الإنسان الآكل ـ على فرض خلوه من الموانع ـ الأجزاء التي أخذها من بدن الإنسان المأكول ، وحينئذٍ يحشر الإنسان الآكل ببدن فارغ من الموانع؟

ب : ولو فرضنا ـ وإن كان فرضاً نادراً ـ أنّ بدني الآكل والمأكول اقترنا بالمانع ، على نحو لو فرضنا انّ اعادة الأجزاء المأكولة إلى صاحبها أو أصحابها لا يتقي للآكل شيئاً لكي يحشر فيه ، فما المانع من إكمال البدن بالاستعانة بأجزاء ترابية وهوائية أُخرى ليتم من خلالها إكمال بدن الإنسان بصورة تامة ، إذ من الواجب في الحشر وحدة البدن العرفية لا العقلية ، أي بمعنى أنّه يكفي أن تصدق الإشارة إليه عرفاً أنّه البدن السابق.

ونحن إذا أمعنّا النظر في الآيات القرآنية والروايات الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام ، نجد أنّها تركّز على أنّ كفاية كون البدن المحشور مثل البدن الدنيوي ، ولا تصرّ على أن يكون هذا البدن هو عين البدن الدنيوي بنحو لو اختلّ هذا الشرط فإنّه سيؤثر على مسألة المعاد والحشر واستحالة المعاد.

وبالطبع إذا كانت العينية متيسّرة وانّ جميع أجزاء بدن الإنسان باقية في التراب ، فلا ريب أنّه لا حاجة حينئذٍ إلى الاستعانة بأجزاء جديدة ، بل الواجب أن تحشر نفس تلك الأجزاء. وإنّما نحتاج إلى المثلية في حالة واحدة نادرة جداً ، وهي

٢٠٥

فيما إذا لم يبق من بدن الإنسان المأكول شيء لكي يتم إحياؤه مرّة أُخرى.

قال تعالى :

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). (١)

فمن الواضح أنّه قد استعمل في الآية لفظ : (مِثْلَهُمْ) لا «عينهم».

روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«فإذا قبضه الله إليه صيّر تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا». (٢)

فالآية الكريمة والرواية الشريفة تشهدان على أنّ المحور في المعاد هو حفظ صورة الإنسان بنحو يكفي أن يكون الإنسان المبعوث بهيئة الإنسان وشكله الدنيوي ، ولا دليل أبداً على أنّ الإنسان يجب أن يبعث بنفس المادة التي خلق منها في الدنيا وبنفس ذراته وأجزائه الترابية.

ولا بدّ من إعادة التأكيد على أنّه على فرض إمكانية حشر البدن الدنيوي من دون أي موانع ، فلا دليل للعدول منه إلى مادة أُخرى جديدة.

شبهة الآكل والمأكول والعدل الإلهي

في هذا المجال تطرح الشبهة المذكورة بأُسلوب جديد وهو : إذا كان الإنسان المؤمن مأكولاً للكافر ، يلزم أن يعذب المؤمن بتعذيب الكافر ، أو بالعكس إذا كان المأكول كافراً فإنّه ينعم بنعيم المؤمن ، وهذا خلاف العدل الإلهي.

__________________

(١). يس : ٨١.

(٢). بحار الأنوار : ٦ / ٢٢٩ ، باب أحوال البرزخ ، الحديث ٣٢.

٢٠٦

ومن الواضح هنا أنّ محور الإشكال مبني على مسألة الثواب والعقاب والعدل الإلهي ، والحال أنّ الإشكال في الصورة الأُولى مبني على عدم وفاء المادة لحشر كلّ إنسان على النحو الأكمل.

ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال المذكور بوجهين :

الوجه الأوّل : إذا تحوّل عضو من بدن المؤمن وأصبح جزءاً من بدن الإنسان الكافر ، فحينئذٍ ـ وبلا ريب ـ يكون تعذيبه تعذيباً للكافر لا للمؤمن ، لأنّ هذا العضو انقطعت صلته بالمأكول واندكّ في الآكل على نحو صار جزءاً منه ، فتعذيبه أو تنعيمه يرجع إلى الآكل لا إلى المأكول ، وهذا نظير زرع الأعضاء الرائج في الطب الحديث ، فإنّ الكلية مثلاً إذا أُخذت من بدن شخص وزرعت في بدن شخص آخر بنحو التحمت مع سائر الأعضاء فتعذيبها وتنعيمها يرجع إلى البدن المنقولة له لا البدن الأوّل ، وكذلك الأمر في مسألة الآكل والمأكول.

الوجه الثاني : إنّ الشبهة نابعة من التفكير المادي الذي يحصر الإنسان في اللحم والجلد والعظام والمواد الطبيعية لا غير ، مع أنّ واقع الإنسان وحقيقته أعمق من ذلك وهي روحه ونفسه ، فإذا صار عضو من الإنسان جزءاً من إنسان آخر انقطعت صلة الروح عن الجزء المقطوع ، فلا يكون مدبّراً للنفس ، فتكون الآلام واللّذات منصبّة على الآكل لا على المأكول وعلى المنقول له لا على المنقول منه.

وفي الختام نؤكّد انّ مركز الآلام واللّذات هو الروح والنفس الإنسانية ، وانّ البدن لا يتجاوز عن كونه وسيلة لإدراك الآلام واللّذات الجسدية لا أكثر ، والمفروض انّ هذا العضو لا علاقة له بالبدن السابق ليؤثر في نعيمه أو عذابه. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٩ / ١٥٠ ـ ١٥٦.

٢٠٧

١٠٢

التناسخ وأدلّة بطلانه

سؤال : ما المراد من التناسخ؟ وما هي الأدلّة والبراهين التي يمكن إقامتها على بطلانه؟

الجواب : التناسخ مأخوذ من «نسخ» والذي يستفاد من كلمات علماء اللغة حول هذا المصطلح أنّهم أخذوا في هذا المصطلح خصوصيتين ، هما :

١. التحوّل والانتقال.

٢. التعاقب. (١)

ومن هنا أُطلق في الشريعة على الحكم الذي يزيل حكماً آخر لفظ «النسخ» ، وانّ هاتين الخصوصيتين موجودتان وبوضوح في هذا المجال ، ولكن باعتبار أنّ اللفظ في المسائل الكلامية أُخذ بمعنى «التناسخ» اكتفي بذكر الخصوصية الأُولى فقط ولم تذكر الخصوصية الثانية ، فإنّنا سنقول مثلاً : «إنّ

__________________

(١). قال في «أقرب الموارد» : النسخ في الأصل : النقل.

وقال الراغب في مفرداته : النسخ إزالة شيء بشيء يتعاقبه ، كنسخ الشمس الظلَّ ، والظلّ الشمس ، والشيب الشباب.

٢٠٨

التناسخ خروج النفس من بدن وانتقالها إلى بدن آخر» ، فقد أخذ هنا خصوصية التحوّل والانتقال ولم تلحظ خصوصية التعاقب.

ثمّ إنّ القائلين بالتناسخ طرحوا ثلاث نظريات ، وهي :

الف : التناسخ المطلق أو اللامحدود.

ب : التناسخ النزولي المحدود.

ج : التناسخ الصعودي المحدود.

إنّ هذه النظريات الثلاث جميعها تشترك ـ من جهة الإشكال ـ في كونها مضادة للمعاد ولا تنسجم معه (١) ، وذلك لأنّ النوع الأوّل باطل من وجهة النظر الفلسفية ويتعارض مع المعاد تعارضاً تامّاً ، وأمّا النوع الثالث فإنّه غير صحيح من وجهة النظر الفلسفية فقط ، وإن كان الاعتقاد به لا يتنافى مع فكرة المعاد ، وكذلك الكلام في النوع الثاني فإنّه لا يتنافى مع المعاد من جميع الجهات ، ولكن باعتبار أنّ

__________________

(١). وللمحقّق اللاهيجي في هذا الصدد كلام قال فيه : أمّا التناسخ فلم يقل به من الحكماء المشائين أحدٌ ، ولقد كان أرسطاطاليس وأتباعه من قدماء المشّائين المسلمين من الجادِّين في إبطال نظرية التناسخ شكر الله سعيهم.

وفي مقابل هؤلاء كان حكماء الهند والصين وبابل من الجادّين في إمكان التناسخ ، بل وقوعه أيضاً. وادّعى شيخ الإشراق وأتباعه انّ قدماء حكماء اليونان ومصر وفارس مالوا جميعاً إلى التناسخ في نفوس الأشقياء فقط ، وهذه الطائفة وإن كانت مختلفة في الانتقال من النوع إلى النوع الآخر ، ولكنّهم يتّفقون على خلاص النفس وتحررها في نهاية المطاف من التردّد بين الأبدان العنصرية ، واتّصالها بعالم الأفلاك أو بعالم المثال. ثمّ إنّ هذا التردد في الأبدان العنصرية يُعدّ عقاباً وتعذيباً لتلك النفوس الشّريرة وفقاً لهذه النظرية.

وأمّا استمرار النفس بالتردّد في الأبدان العنصرية دائماً فهو مذهب جماعة من الذين ينكرون الحكمة والتوحيد والحشر والثواب والعقاب ، وهذه النظرية تعدّ في الواقع من أدنى وأسفه نظريات التناسخ المطروحة. (گوهر مراد : ٤٧٢ ، المقالة ٣ ، الباب ٤ ، الفصل ٧ وهو باللغة الفارسية).

٢٠٩

الجميع تشترك في أصل واحد وهو : «انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر» من هذه الناحية ذكرنا النوع الثالث ضمن أنواع التناسخ.

وها نحن نشرع في بيان وتوضيح الأنواع والأقسام المذكورة.

التناسخ المطلق أو اللامحدود

يراد من التناسخ هنا أنّ النفوس البشرية تخرج من بدن إلى بدن آخر على وجه الاستمرار وفي الأزمان وجميع الأفراد ، فالنفوس بعد خروجها من البدن تتعلّق ببدن آخر وثالث ورابع وخامس و ... وهكذا تستمر في تقمّصها الأبدان بصورة واضحة ومستمرة ، ووفقاً لهذه النظرية لا يكون المعاد إلّا عودة الأرواح إلى الأبدان الأُخرى لا غير.

وقد أُطلق على هذا النوع من التناسخ عنوان التناسخ المطلق أو اللامحدود ، لشموليته لجميع الأفراد من جهة ولاستمراريته في جميع الأزمان من جهة أُخرى.

يقول شمس الدين محمد الشهرزوري (المتوفّى بعد ٦٨٧ ه‍) في بيان هذا النوع من التناسخ :

«ومن القدماء من يقول بعدم تجرّد جميع النفوس بعد المفارقة وهم المعروفون ب «التناسخية» فإنّهم يزعمون انّ النفوس جرمية دائمة الانتقال في الحيوانات. وهؤلاء أضعف الحكماء وأقلّهم تحصيلاً». (١)

التناسخ النزولي المحدود

إنّ أصحاب هذه النظرية يذهبون إلى فكرة مؤدّاها انّ الناس من ناحية الحكمة العملية والنظرية ، على صنفين :

__________________

(١). شرح حكمة الإشراق : ٥١٩ ، المقالة الخامس ، فصل في بيان التناسخ.

٢١٠

صنف قد بلغ من الحكمة العملية والنظرية مرتبة لا تعود النفس حينها إلى هذه النشأة بعد خروجها من البدن ، بل تلتحق بعالم المجردات والمفارقات ، ولا مبرر لرجوعها للدنيا مرّة أُخرى ، وذلك لأنّها قد بلغت الكمال المطلوب منها.

وأمّا الصنف الآخر فهو الصنف الذي لم يبلغ من ذلك الكمال العلمي والعملي إلّا رتبة واطئة ومنزلة متدنّية ، ولم يتسنّ لتلك النفوس أن تتطهّر التطهّر الكامل من الدنس والرذائل ، ولذلك اقتضت الحاجة أن تعود تلك النفوس إلى النشأة الأُولى لغرض بلوغها الكمال المطلوب من التناسخ والتقمّص حتّى تصل النفس إلى كمالها المطلوب ، فإذا وصلت إليه انقطعت حالة التناسخ والتحقت النفس بالمجرّدات.

ومن الواضح أنّ هذا النوع من التناسخ ينطوي على نوعين من المحدودية ، هما :

١. المحدودية من جهة الأفراد ، وذلك باعتبار أنّ هذا النوع من التناسخ هو من نصيب الإنسان غير الكامل ، وأمّا الإنسان الكامل فإنّه لا يبتلي بهذا المصير ولا حاجة له إليه.

٢. المحدودية الثانية من جهة الزمان ، بمعنى أنّ هذه المجموعة من الناس الذين عادوا إلى الحياة الدنيا وتعلّقوا بأبدان أُخرى لن يستمر التناسخ عندهم ، بل سيقف عند بلوغ النفس المستنسخة الكمال المطلوب في العلم والعمل.

التناسخ الصعودي

إنّ هذه النظرية تقوم على ركيزتين ، هما :

ألف : انّ النبات من بين الأجسام أكثر استعداداً من غيره من الأجسام لكسب فيض الحياة.

٢١١

ب : انّ الإنسان له قدر أكبر من الاستعداد لإفاضة الحياة عليه والتي قد تجاوزت مراتبها النباتية والحيوانية.

فعلى أساس هذين الأصلين (استعداد النباتات ـ ولياقة الإنسان) فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تتعلّق الحياة في سيرها التكاملي بالنبات الأقرب للحيوان ، ثمّ تنتقل منه إلى عالم الحشرات ثمّ إلى عالم الحيوانات التي هي أقرب للإنسان ، ثمّ بعد التكامل والوصول إلى المرحلة الفردية تقفز إلى الحياة قفزة لتستقر في الإنسان لغرض الاستكمال حيث تتدرج من الأدنى «النازل» إلى الدرجة الكاملة. (١)

وبعد أن عرفنا أقسام التناسخ والفرق بينها نذكر لتحليل هذه النظريات ونقدها مجموعة من المطالب :

١. التناسخ والمعاد

إنّ الإمعان في الأقسام الثلاثة التي ذكرناها للتناسخ يوضح وبجلاء ، انّ القسم الأوّل (التناسخ المطلق) على طرف النقيض مع المعاد وانّه يتنافى معه بدرجة مائة بالمائة ، وانّ القائلين بهذه النظرية لا يؤمنون بالمعاد ولو على نحو محدود جداً وعلى سبيل النموذج فقط ، وذلك لأنّه وفقاً لهذه النظرية يكون الإنسان في عودة مستمرة إلى الحياة الدنيا وانّه دائماً يرجع إلى النقطة التي بدأ منها.

والحال انّ التناسخ النزولي المحدود لا يقول بالشمولية والعمومية لا على صعيد الأفراد ولا على الصعيد الزماني ، بل يرى أنّ الإنسان الكامل لا يرجع إلى النشأة الدنيا منذ الانتقال الأوّل من البدن ، ولذلك فله معاد منذ اليوم الأوّل لوفاته ، بمعنى أنّ موتهم يكون سبباً لانتقال نفوسهم إلى عالم النور.

__________________

(١). أسرار الحكم : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٢١٢

وأمّا الإنسان الناقص أو الطبقة غير المتكاملة فإنّها ترجع إلى النشأة الدنيا فترة يسيرة حتى تتكامل ، وهذا يعني أنّ هذه الطائفة تفتقد المعاد لفترة محدودة فقط إلى أن تصل إلى كمالها النظري والعملي ، وحينئذٍ ينقطع التناسخ فلا تعود إلى الدنيا وتلتحق بطائفة المتكاملين ، ويكون حينئذٍ مصيرها المعاد وتقوم قيامتها.

وأمّا النظرية الثالثة ـ التناسخ الصعودي ـ فلا تتنافى مع القول بالمعاد أدنى منافاة.

نعم انّ نقطة الخلل في هذه النظرية هي في تبيين الخط التكاملي للإنسان حيث اعتبرت الروح الإنسانية تمرّ بدورات منفصلة ومتعدّدة حيث تنتقل من النبات إلى الحيوان إلى القرد ثمّ إلى الإنسان ، والنفس وفقاً لهذه النظرية تشبه الطائر الذي يُنقل من قفص إلى قفص آخر ومن نقطة إلى نقطة أُخرى من دون أن توجد بين تلك المراتب أيّة صلة ورابطة أبداً. فإنّ للنفس في كلّ مرحلة بدناً خاصاً بها حتى تصل إلى بدن الإنسان ومنه تنفصل ويكون مصيرها إلى المعاد.

نعم إنّ القائل بهذه النظرية لو جعل مدارج الكمال متّصلة ، لشكّلت هذه النظرية نقطة التقاء واضحة مع نظرية صدر المتألّهين (الحركة الجوهرية) ، فإنّ النفس بناء على نظريته منذ دورها الجنيني وحتّى إلى مرحلة الإنسان تمرّ بمراحل النبات والحيوان والإنسان بنحو مستمر ومتواصل دون أن يتخلّل في الوسط انفصال وخلاء في الموضوع ، وفي الختام تعرج نحو المعاد.

والخلاصة : انّ هذه النظرية وإن كانت لا تتصادم مع القول بالمعاد ، إلّا أنّها مرفوضة من وجهة النظر الفلسفية.

٢. التناسخ المطلق والعناية الإلهية

نشير هنا إلى مسألتين هما :

٢١٣

الأُولى : انّ القائلين بالتناسخ المطلق أطاحوا بفكرة المعاد ، زاعمين أنّ القول به يغني عن المعاد ، والحال أنّ الأدلّة والبراهين الفلسفية تحتّم المعاد وتعتبره أصلاً ضرورياً ، ولعلّ القائلين بهذه النظرية بسبب جهلهم بحقيقة المعاد توجّهوا صوب هذه الأساطير ، واعتبروا التناسخ بديلاً طبيعياً للمعاد ، والحال أنّ الأدلّة الستة لحتمية المعاد لا تعتبر هذا النوع من الرجوع هو الغاية من المعاد أبداً ، وذلك لأنّ الغاية من المعاد لا تنحصر في الجزاء ، ليكون القول بالتناسخ والانسجام مع الحياة السابقة مؤمّناً للعدل الإلهي ، بل لحتمية وضرورة المعاد أدلّة متعدّدة لا تؤمّن ولا تتحقّق إلّا بالقول بانتقال الإنسان إلى الحياة الأُخرى.

فطبقاً لهذه النظرية تكون القدرة الإلهية محدودة بخلق الإنسان الذي يعيش حالة متواصلة من التحوّل في عجلة التحوّلات والتقلّبات ، وكأنّه سبحانه يعجز عن أن يخلق إنساناً آخر.

الثانية : انّ النفس على القول بالتناسخ المطلق لا تخلو من حالتين : إمّا أن تكون عرضاً منطبعة في البدن الأوّل قائمة به ، أو تكون جوهراً لها حظ من التجرّد.

فعلى الفرض الأوّل يلزم انتقال العرض من موضوع إلى موضوع وهو أمر محال ، لأنّ واقع العرض قيامه بالموضوع ، وعلى فرض الانتقال تكون النفس المنطبعة في حالة الانتقال ـ الحالة الثالثة ـ بدون موضوع وتكون مستقلة.

وبعبارة أُخرى : انّ النفس المنطبعة لها ثلاث حالات :

أ. النفس في البدن الأوّل.

ب. النفس حالة الانتقال من البدن الأوّل إلى الثاني.

ج. النفس بعد الانتقال إلى البدن الثاني.

ففي الحالة الأُولى لها موضوع ، وكذلك الأمر في الحالة الثالثة ، إنّما الكلام في

٢١٤

الحالة الثانية (حال الانتقال) فيلزم في هذه الحالة قيام العرض بلا موضوع ، وهو من الأُمور المستحيلة ، وفي الحقيقة أنّ الاعتقاد بهذه الاستقلالية جمع بين النقيضين ، لأنّ وجوب القيام بالغير والاستقلال هو عين الجمع بين النقيضين.

وأمّا الفرض الثاني وهو : تعلّق النفس التي لها حظ من التجرّد بالبدن استمراراً ، وهذا الفرض يستلزم أن لا يصل الموجود الذي يمتلك اللياقة والاستعداد للتكامل والتعالي إلى مراده ومطلوبه أبداً ، وأنّه يعيش دائماً حالة المحدودية ، وذلك لأنّ التعلّق الدائم بالمادة يقتضي المحدودية ، لأنّ النفس مجردة ذاتاً ومادية فعلاً. فلو كان تعلّقها بالمادة دائمياً يلزم أن يكون فعله سبحانه على خلاف عنايته من إيصال كلّ موجود إلى كماله والواقع انّ المقصود من كمال الممكن هو كماله العلمي والعملي ، فإذا كان الإنسان يعيش متنقلاً من بدن إلى بدن آخر بصورة مستمرة ودائمة ، فمن المستحيل من الجهة العلمية أو العملية وانعكاس الحقائق على النفس وتنزيه النفس من الرذائل وتزينها بالفضائل ، أن يصل إلى حدّ الكمال.

وبالطبع أنّ النفس في عالم الإمكان تطوي المراحل العقلية الأربعة من الهيولة إلى العقل بالملكة ثمّ إلى العقل بالفعل ثمّ تصل إلى العقل المستفاد ، ولكنّها لو حصلت على التجرد التام واستقلت عن البدن بالكامل فلا شكّ انّها من ناحية الوجهة المعرفية والإدراكية للحقائق تكون أكمل ، ومن هنا حبس النفس في البدن المادي بصورة دائمة على خلاف عناية الحق تعالى ولا ينسجم مع تلك العناية. (١)

والنكتة الجديرة هنا هي : انّ إبطال الشق الثاني بالنحو الذي بيّن ، غير صحيح ، وذلك لأنّ تعلّق النفس بالبدن لا يكون مانعاً عن سيرها وصعودها نحو

__________________

(١). شرح حكمة الإشراق : ٤٧٦ ، الأسفار : ٩ / ٧.

٢١٥

الكمال ، وأساساً إذا قلنا : توجد بين تعلّق النفس بالبدن وبين حكمة الحق تعالى منافاة ، فإنّ هذا يستلزم أن يكون المعاد بصورة مطلقة روحانياً ، أو على أقلّ تقدير يكون معاد طائفة من الكمّل روحانياً ، وهذا مخالف لصريح النصوص الدينية ، فإذاً لا بدّ من توجيه آخر لإبطال الفرض الثاني ، وهذا التوجيه هو : انّ التسليم بالفرض الثاني يتنافى تماماً مع الأدلّة القطعية التي تثبت حتمية المعاد والحشر ، وتعدّ ذلك من الأُمور الضرورية ، فإذا سلّمنا بتلك الأدلّة القطعية ، فلا يبقى مجال حينئذٍ لقبول هذا الفرض الذي يرى أنّ النفس المستنسخة تتعلّق بالبدن بصورة دائمة ومستمرة.

٣. التناسخ النزولي والتبعية الدائمة

قد بيّنا أنّه ووفقاً لنظرية التناسخ النزولي تكون النفوس الكاملة ـ علماً وعملاً ـ مطلقة العنان وتلتحق بالمجردات والمفارقات ولا تعود إلى الدنيا ، والذي يرجع إلى هذه الدنيا النفوس الناقصة التي لم تنل حظاً وافراً من العلم والعمل. فترتبط بالمادة مرة أُخرى عن طريق الخلية النباتية أو الحيوانية أو النطفة الإنسانية.

ويكفي في نقد هذه النظرية النظر إلى حقيقة النفس الإنسانية التي تنفصل عن البدن ، فلا ريب أنّ هذه النفس التي رافقت البدن أربعين عاماً مثلاً قد اكتسبت كمالاً خاصاً وتحوّل الكثير من استعداداتها إلى كمالات فعلية ، ولا يشكّ أحد انّ النفس الإنسانية بعد أربعين عاماً لا يمكن قياسها بالنفس في مرحلة الطفولة ، فلو فرضنا أن عادت النفس بعد أربعين عاماً إلى الدنيا وتعلّقت ببدن الجنين ، فحينئذٍ لا تخرج النفس من أحد حالتين :

١. أن تتعلّق بذلك البدن الجديد مع المحافظة على كمالاتها وفعلياتها وتنقل

٢١٦

تلك الفعليات إلى الجنين الإنساني أو الجنين الحيواني ، أو البدن الحيواني الكامل.

٢. أن تتعلّق بذلك البدن بعد أن تحذف كمالاتها وفعلياتها.

أمّا الصورة الأُولى فإنّها ممتنعة ذاتاً ، لأنّه يشترط أن يكون بين النفس والبدن انسجام كامل بحيث كلّما نما البدن وسار إلى الامام تسير النفس بموازاته ، فكيف يمكن أن نتصوّر انّ النفس التي رافقت البدن السابق أربعين عاماً قادرة على تدبير خلية صغيرة لا يوجد بينها وبين الروح أيّ نوع من الانسجام؟

وبعبارة أُخرى : انّ تعلّق النفس بهكذا بدن يقتضي الجمع بين الضدين ، لأنّ المفروض انّ النفس من خلال مرافقتها للبدن السابق تمتلك من الكمالات والفعليات المحيّرة ، هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى فرض تعلّقها (بالجنين) يقتضي انّها فاقدة لتلك الكمالات والفعليات ، وهذا يعني الجمع بين الضدين أو النقيضين.

وأمّا الصورة الثانية : (تعلّق النفس مع حذف الكمالات) فغير صحيح أيضاً ، وذلك : لأنّ سلب تلك الكمالات إمّا أن يكون خصيصة ذاتية للنفس ، أو أنّه بسبب عامل خارج عن النفس.

أمّا الفرض الأوّل (الخصيصة الذاتية) فغير ممكن ، إذ معنى ذلك انّ الحركة من الكمال إلى النقص خصيصة الشيء وهو غير متصوّر.

وأمّا الفرض الثاني : فإنّه يتنافى مع العناية الإلهية ولا ينسجم معها ، وذلك لأنّ العناية الإلهية تعلّقت بإرسال القوى إلى الكمال وإيصال كلّ ممكن إلى غايته المنشودة لا سلب الكمالات والفعليات عنه.

وهذا الذي ذكرناه بيان واضح لما ذكره صدر المتألّهين ، وحصيلة لكلامه في «الأسفار». (١)

__________________

(١). انظر الأسفار : ٩ / ١٦.

٢١٧

٤. التناسخ الصعودي

كما ذكرنا أنّ التناسخ الصعودي هو عبارة عن : تكامل النفس من خلال الانتقال عبر القنوات النباتية ثمّ الحيوانية ثمّ الإنسانية بنحو يكون بينها فصل حقيقي ، باعتبار أنّ النبات أكثر استعداداً لقبول الحياة من الإنسان ، والإنسان أجدر من باقي الأنواع ، فلا بدّ أن تتعلّق النفس النباتية بالنباتات وبعد طي مدارج معينة تنتقل إلى بدن الإنسان.

ويثار حول هذه النظرية التساؤل التالي : كيف يمكن أن نتصوّر ذلك من الناحية الواقعية ، لأنّ النفس إمّا أن تكون صورة منطبعة في النبات أو الحيوان أو الإنسان ، أو تكون أمراً مجرداً.

فعلى الأوّل تكون للنفس هناك حالات ثلاث :

١. وجودها منطبعة في الموضوع الأوّل.

٢. وجودها منطبعة في الموضوع المتأخّر.

٣. حالة الانتقال من الأوّل إلى الثاني.

والإشكال يرد على الحالة الثالثة ، وذلك لقيام العرض بلا موضوع.

وأمّا إذا كانت النفس موجوداً مجرداً غير قائم بالبدن وإنّما تحتاج إليه في مقام الفعل والعمل فقط ، فيرد على هذه الصورة بنحو آخر وهو : كيف يمكن أن تتعلّق النفس الحيوانية في حدّها الحيواني بالبدن الإنساني ، لأنّ كمال النفس الحيوانية يكمن في كونها ذات قوة شهوية وغضبية غير معدلة ولا محددة ، وعدم التعديل والمحدودية يُعدُّ في الواقع كمالاً من نفس الحيوانية ، لأنّ كمالها يكمن في شهوتها وغضبها ، فإذا فقدت النفس الحيوانية هاتين القوتين فإنّها في الحقيقة تفقد قوتها الحقيقية وتفقد حيوانيتها وكمالها.

٢١٨

والحال انّ هاتين القوتين غير المعدّلتين لا يعدّان كمالاً للإنسان ، بل لو تعلّقت النفس الحيوانية المذكورة بالبدن الإنساني فستكون عائقاً عن تكامله ورقيّه ، لأنّ تكامل الإنسان يكمن في أن تكون قواه معدّلة وشهوته وغضبه محدّدة ، وأمّا لو فرضنا انّ النفس الحيوانية تعلّقت بالإنسان بعد تحديدها وتعديلها فسيكون ذلك نقصاً للنفس الحيوانية وسيراً نزولياً لها ، وأمّا إذا تعلّقت النفس الحيوانية بالبدن الإنساني بما لها من الخصوصيات ، فهذا لا يؤدّي إلى كمال الإنسان ورقيّه ، بل يؤدّي إلى انحطاطه وتسافله وخروجه عن درجة الإنسانية إلى حدّ الحيوانية.

وبالطبع انّ القائلين بهذا النوع من التناسخ ، أصابوا في أصل المدّعى وأخطئوا في التصوير ، إذ أنّهم عدلوا عن التكامل المتّصل ومالوا إلى القول بالتكامل المنفصل والمنقطع ، وهذه هي نقطة الخلاف الأساسية بين التناسخ بهذا المعنى ـ من التكامل المنفصل حيث الانتقال عبر القنوات النباتية ثمّ الحيوانية ثمّ الإنسانية ـ وبين الحركة الجوهرية التي تذهب إلى تكامل النفس بصورة متّصلة وفي بدن واحد.

وبتعبير أوضح : انّه وفقاً لهذه النظرية تمتلك النفس النباتية حالة من التعيّن ثمّ تتعلّق ببدن الحيوان بنفس تلك الخصوصيات ، وهذه النفس الحيوانية تنتقل إلى بدن الإنسان وهي تحمل تعيّناتها الحيوانية من الغضب والشهوة لتطوي سيرها التكاملي في بدن الإنسان ولكن في الحقيقة انّ هذا النوع من الحركة لا يُعدّ سبباً للتكامل والرقي ، بل هو موجب لانحطاط الإنسان وهبوطه إلى درجة أسفل ومرتبة أدنى ، لأنّ النفس الإنسانية المشبعة بالغضب والشهوة تحوّل الإنسان إلى مخلوق مفترس وكائن متوحّش ووجود شرسٍ لا يفهم إلّا لغة الغضب والشهوة.

والحال انّ التكامل وفق الحركة الجوهرية يطوي مسيره التكاملي من الحالة

٢١٩

الجمادية إلى الحالة الإنسانية من دون أن تصل المراتب السابقة إلى مرحلة التعيّن والتشخّص، ومن هنا يكون سير الجماد من خلال هذا الطريق سبباً للتكامل والرقي ، والحال أنّ السير حسب نظرية التناسخ يُعدُّ سبباً للجمع بين المتضادات وعاملاً للانحطاط.

فهذا النوع من التناسخ يُعدُّ أصلاً باطلاً وإن كان في حدّ ذاته لا يتنافى مع القول بالمعاد. (١)

تحليل جامع للتناسخ

إلى هنا تعرّفنا على أقسام التناسخ وبطلان كلّ قسم منها بصورة مستقلة ، وقد حان الوقت للحديث عن التناسخ بصورة جامعة وإبطاله من دون الالتفات إلى خصائص كلّ قسم من أقسامه ، ولقد ذكرت لإبطال التناسخ الكثير من الأدلّة ، نكتفي بذكر دليلين فقط، هما :

الدليل الأوّل : تعلّق نفسين في بدن واحد

إنّ لازم القول بالتناسخ المطلق هو تعلّق نفسين في بدن واحد ، واجتماع روحين في جسد واحد ، وهذا البرهان يبتني على التسليم بأصلين ، هما :

أ. كلّ جسم ـ الأعم من النباتي أو الحيواني أو الإنساني ـ حين يصل إلى مرحلة الاستعداد لتقبل الروح وتعلّقها به فإنّ الله سبحانه وتعالى يفيض عليه الروح ، وذلك لأنّ المشيئة الإلهية تعلّقت بأن يوصل كلّ ممكن إلى كماله المطلوب.

ففي هذه الحالة تطلب الخلية النباتية نفساً نباتية ، وتطلب النطفة الحيوانية

__________________

(١). انظر الأسفار : ٩ / ٢٢ ـ ٢٣.

٢٢٠