الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

الإنسان أُلعوبة ووسيلة في قبضة الغرائز والميول الجامحة ، فإنّ النتيجة تكون فناء الإنسان والقضاء عليه وإبادته ، يقول سبحانه :

(... وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...). (١)

إذاً ووفقاً للنظرية القرآنية انّ الّذين يضعون زمام أُمورهم في قبضة النفس والغرائز غير المهذبة وغير المتّزنة هم عبدة الهوى وأتباع الميول والغرائز حيث يقول سبحانه :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ...). (٢)

وفي الواقع انّ الهوى هنا هو عين الغرائز والميول الحيوانية الجامحة والتي لا تعرف الحدود أبداً ، وإذا ما رأينا الإسلام يحاول تنظيم تلك الغرائز وتعديلها ورسم الحدود لها ووضع الخطوط الحمراء التي لا يحق لأي إنسان تجاوزها انسياقاً مع الغرائز والميول ، فهذا لا يعني انّ الإسلام يريد القضاء على تلك الميول والغرائز ، بل هو في الواقع سعي جاد من قبل الإسلام للحفاظ على النسل البشري وبقاء وديمومة النوع الإنساني واستمرار الحياة من خلال عملية الموازنة والتعديل والتنظيم.

٣. رفيق السوء

من الأُمور الفطرية للإنسان أن يبحث عن مصاحب ورفيق له يناسبه في السن والفكر والنوع ، وهذا الأمر لا يمكن الردع عنه أو الوقوف أمامه بأيّ حال من الأحوال ، لأنّ مواجهة الأمر الغريزي في الواقع كالسير عكس التيار الذي لا

__________________

(١). ص : ٢٦

(٢). الجاثية : ٢٣.

١٦١

تكون نتيجته إلّا الاندحار والهزيمة ، ولكن في نفس الوقت لا بدّ من الإذعان أمام حقيقة واضحة وجلية ، وهي أنّه ليس كلّ إنسان يليق أن يتّخذ صاحباً ورفيقاً في الحياة ، لأنّ الإنسان الذي تكون صحبته سبباً للانفلات الشرعي والأخلاقي والخروج عن حدود الإنسانية ليس جديراً بمقام الصحبة والصداقة ، ولذلك نجد القرآن الكريم يصرح بهذه الحقيقة ويشير إلى شدة الحسرة والندم اللّذين يملآن نفس الإنسان حينما يواجه مصيره المشئوم ، ويتذكّر أنّ سبب تعاسته وسوء عاقبته ما هو إلّا اختياره للصديق المنحرف ، يقول سبحانه :

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي). (١)

ونحن إذا راجعنا التاريخ نعثر على الكثير من القصص التي تتحدّث عن صديق السوء وآثاره ودوره السلبي في حياة رفيقه ، لأنّنا نعلم جيداً أنّه كثيراً ما انفرط عقد الحياة الأُسرية وتشتّتت عوائل وتمزّقت أُسر كانت مستحكمة وقوية ومنسجمة بسبب هذه الصحبة السيّئة.

٤. الاقتداء والتأسّي غير المتّزن بالقادة

يعتبر القرآن الكريم من عوامل الانحراف والضلال الاقتداء والتأسّي برؤساء وقادة القبائل والعشائر ، وقد أشار إلى اعتراف هؤلاء المضلّلين والمنحرفين بأنّ سبب انحرافهم وضلالهم هو الاقتداء والتأسّي غير المدروس وغير المتّزن برؤسائهم وشيوخهم :

__________________

(١). الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩.

١٦٢

(... يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا* وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (١).

وفي آية أُخرى يشير سبحانه وتعالى إلى هذا العامل وإلى حالة التنافر واللعن التي يعيشها أصحاب الجحيم ، لأنّهم يرون أنّ كلّ أُمّة هي ضحية الأُمّة السابقة والتي أطاعتها بلا وعي ولا إدراك فأوردتها الجحيم ، يقول سبحانه :

(... كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ...). (٢)

ففي هذه الآية عبّر عن الرؤساء والشيوخ والقادة بلفظ «أُولاهم» بمعنى طليعتهم ومقدّمة الركب وقادة القافلة.

٥. الاقتداء والتأسّي بالآباء بلا وعي ولا اتّزان

لقد أولى الإسلام أهمية خاصة للآباء والأجداد والأسلاف وجعل لهم احتراماً ومنزلة كبيرين في التشريع والتقنين الإسلامي ، سواء على مستوى الأفراد أو الأُسر أو المجتمع ، ولكنّه في نفس الوقت حذّر من أن تصبح تلك العلاقة الباطنية والنفسية سبباً لتعطيل آلة الفكر لدى الإنسان بنحو يضع نفسه ومن دون أيّ قيد أو شرط تحت تصرف أسلافه مهما شاءوا وكيفما شاءوا.

ولذلك نرى القرآن الكريم في الوقت الذي يحثّ الإنسان على احترام أبويه وتبجيلهم وتقديرهم يذكّره أنّ لهذا الاحترام وهذه الطاعة حدوداً لا يمكن

__________________

(١). الأحزاب : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢). الأعراف : ٣٨.

١٦٣

تخطّيها وتجاوزها ، وهذه الحدود هي ألّا يدعوانه إلى الشرك بالله أو العصيان أو اقتراف الذنوب ، يقول سبحانه :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ...). (١)

كما اعتبر القرآن وفي بعض الآيات الانقياد الأعمى والتأسّي اللّاموزون بالآباء والأجداد سبباً للانحراف والضلال ، ولذلك نراه سبحانه يحكي لنا حال أُولئك الأبناء الذين أطاعوا آباءهم بغير حق وتمسّكوا بركب الآباء والأجداد وعطّلوا آلة التفكير والتعقّل عندهم بقوله سبحانه :

(... إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ* وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). (٢)

ولذلك انتقد القرآن الكريم هذا النوع من التفكير ، بل هذا التعصّب الأعمى بقوله :

(... أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). (٣)

إنّ الإنسان الحرّ هو الإنسان الذي يمزّق كلّ حجاب يحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة ، وإنّه يسعى نحو الوصول إلى الحقيقة التي يفضّلها على كلّ شيء ويحبّها أكثر من كلّ شيء ، وإن كان يحترم ويبجّل والديه ويكنّ لهم وافر الاحترام والاعتزاز ، ولكن الحقيقة والحق عنده أكثر تبجيلاً واعتزازاً واحتراماً وأحرى أن تقدّم على غيرها.

__________________

(١). لقمان : ١٥.

(٢). الزخرف : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣). المائدة : ١٠٤.

١٦٤

٦. زمرة من الجن والإنس

ينسب القرآن الانحراف والضلال إلى زمرة من الجن والإنس ويعتبرهما من أسباب ضلال الإنسان وانحرافه ، قال تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ...). (١)

ويحتمل أن يكون المراد من هذه الزمرة وهذه الطائفة الشياطين والرؤساء والقادة ورفاق السوء الذين يكون وجودهم سبباً لانحراف وضلال الإنسان ، وحينئذٍ يكون المراد من هذا النوع من التبعية هو التعصّب الأعمى والطاعة العمياء التي تحدّث عنها القرآن الكريم ، ولذلك حصر القرآن الكريم طاعة الوالدين في حدود خاصة بنحو لا تكون سبباً للعصيان والتمرّد على الله حيث قال سبحانه :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما). (٢)

٧. المجرمون

يعتبر المجرمون من عوامل الضلال والانحراف التي تميل بالإنسان من جادة الصواب والطريق المستقيم ، ولقد أفصح القرآن عن هذا العامل وعلى لسان المذنبين يوم القيامة بقوله تعالى :

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ). (٣)

__________________

(١). فصلت : ٢٩.

(٢). لقمان : ١٥.

(٣). الشعراء : ٩٩.

١٦٥

ومن الممكن أن يكون المراد من هذه الطائفة هم ساسة القبائل ورؤساء العشائر أو رفاق السوء ، أو شخص آخر والذين تحدّثنا عنهم في الفقرات السابقة ، وقلنا إنّها جميعاً تُعدّ من عوامل انحراف الإنسان وضلاله.

٨. الأصنام والأوثان

من عوامل الضلال والانحراف ، الأوثان والأصنام ، يقول سبحانه في هذا الخصوص :

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ...). (١)

٩. الشعور بالغنى

في الوقت الذي يكون للمال والثروة والرفاه الاقتصادي دوره الواضح والبارز في تحقيق سعادة الإنسان واستقراره ، في نفس الوقت يكون وجود المال والثروة عاملاً في انحراف الإنسان وضلاله ، وذلك فيما إذا شعر الإنسان أو اعتقد أنّه غني عن الله سبحانه ولا حاجة له بالمدد الإلهي ، بل هو إنسان مستقل يعتمد على كفاءاته الذاتية وقدراته الشخصية ممّا يجعل الغنى وسيلة للطغيان ونسيان الذكر الإلهي ، يقول سبحانه :

(... وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (٢)

وفي آية أُخرى يشير إلى تلك الحقيقة بصورة أُخرى حيث يقول سبحانه :

(... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). (٣)

__________________

(١). إبراهيم : ٣٦.

(٢). الفرقان : ١٨.

(٣). العلق : ٦ ـ ٧.

١٦٦

١٠. اقتفاء أثر الأكثرية الجاهلة

اعتبر القرآن الكريم اقتفاء أثر الأكثرية الجاهلة سبباً من أسباب انحراف الإنسان وضياعه وضلاله ، حيث قال سبحانه وتعالى :

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). (١)

يستفاد من المقطع الأخير من الآية المباركة انّه ليس كلّ تبعية للأكثرية وليس كلّ اقتفاء بالأكثرية يُعدّ سبباً للضلال ، بل الذي يُعدّ كذلك هو اقتفاء أثر الأكثرية التي هي مصداق لقوله تعالى :

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ).

هذه مجموعة من العوامل التي تكون سبباً لانحراف الإنسان وضلاله وبالطبع توجد عوامل وأسباب أُخرى تؤدّي إلى نفس النتيجة لم نذكرها هنا روماً للاختصار ، فعلى سبيل المثال وجود شخصية مثل «السامري» في بني إسرائيل كانت عاملاً من عوامل الانحراف لبني إسرائيل كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم بقوله :

(... وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (٢)

هذه إشارة إجمالية لعوامل الانحراف والتي يحتاج كلّ منها إلى بحث خاص وتفصيل أكثر يمكن أن يطلب في محلّه. (٣)

__________________

(١). الأنعام : ١١٦.

(٢). طه : ٨٥.

(٣). منشور جاويد : ٣ / ١٥٦ ـ ١٦٤.

١٦٧

٩٧

عوامل بعث الأمل في النفوس

سؤال : ما هي العوامل الفاعلة في بعث الأمل وتنمية بذرة الرجاء في نفس الإنسان؟

الجواب : إذا كان الإيمان وسعي الإنسان وكفاحه في مسيرة الإيمان يمثّل الأرضية المناسبة والتمهيد لبعث الأمل والرجاء في نفسه ، فإنّ قبول شفاعة الأولياء ، وشمولية الرحمة الإلهية وسعتها تُعدّ من العوامل التي تبزرع في قلب الإنسان بذور الأمل في المراحل اللاحقة ، بمعنى أنّه بُعد الإيمان والسعي والكفاح المتواصل يأتي دور هذه العوامل التي أشار إليها القرآن ، والتي اعتبرها تمثّل المرحلة الثانية في بعث الأمل وزرع الرجاء في الروح الإنسانية ، وها نحن نشير إلى هذه العوامل :

١. المغفرة الإلهية الواسعة

إنّ العامل الأوّل لزرع الأمل في قلوب الناس المؤمنين ـ بعد السعي والجهد اللائق ـ هو الإيمان برحمة الله الواسعة ، والتيقّن بأنّ رحمة الله سبحانه

١٦٨

قد سبقت غضبه. (١)

ولقد صرّح القرآن الكريم بهذا المعنى حيث قال سبحانه :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (٢)

وفي آية أُخرى :

(... وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ...). (٣)

إنّ هذا الصنف من الآيات وخاصة الآية الثانية يشير إلى العفو والمغفرة التي تشمل تارة ما ؛ العباد من دون توبة ، وإذا ما قيل : إنّ مراد الآية هو أنّ المغفرة لا تشمل الإنسان إلّا إذا تحقّق شرط التوبة ، نقول : إنّ هذا التصوّر غير صحيح ، لأنّه حينئذٍ لا حاجة لقوله سبحانه : (عَلى ظُلْمِهِمْ).

أضف إلى ذلك : انّ لحن الآية الأُولى بنحو لا يمكن تخصيصه وحمله على حالة التوبة فقط ، وذلك لأنّ الآية لحنها لحن الحديث عن الرحمة الواسعة والمغفرة الإلهية العامّة ، والآية تهدف إلى بذر الأمل في قلوب العباد ، وتبعث في داخلهم نور الأمل والرجاء.

٢. استغفار الملائكة

ومن الأُمور الأُخرى التي تبعث الأمل في قلوب العباد علمهم بأنّ الملائكة تستغفر الله لهم وتطلب منه التجاوز والصفح عن ذنوب عباده والستر عليهم وهدايتهم إلى الطريق القويم ، ومن هؤلاء الملائكة الذين يدعون

__________________

(١). يا من سبقت رحمته غضبه.

(٢). الزمر : ٥٣.

(٣). الرعد : ٦.

١٦٩

ويستغفرون للمؤمنين هم حملة العرش الإلهي ، يقول سبحانه :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ...). (١)

٣. شفاعة الأولياء

العامل الثالث من عوامل بعث الرجاء وبثّ الأمل في النفوس هو الاعتقاد بشفاعة الأولياء ، ولقد أطلق القرآن على مقام الشفاعة الذي منحه الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنوان «المقام المحمود» حيث قال سبحانه :

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٢)

وفي آية أُخرى يشير سبحانه وتعالى أنّه سيقبل شفاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحدّ الذي يرضى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو إشارة إلى شمولية وسعة شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول سبحانه :

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى). (٣)

وهنا يطرح التساؤل التالي نفسه : هل الآية الأُولى التي تشير إلى سعة المغفرة واللطف الإلهي ، تبعث الأمل والرجاء في نفوس العباد أكثر ، أم الآية التي تتعلّق بشفاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

الأحاديث والروايات الواردة عن أهل بيت الوحي والرسالة تشير إلى

__________________

(١). غافر : ٧.

(٢). الإسراء : ٧٩.

(٣). الضحى : ٥.

١٧٠

أنّ الآية الثانية هي التي تبعث الأمل والرجاء بصورة أكثر ، وإن اختار الآخرون خلاف ذلك ، ولكن نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حديثاً يؤيّد القول الأوّل. (١)

وفي الختام نشير إلى نكتة مهمة انّه بالرغم من وجود هذه الباقة العطرة والبشائر الإلهية والرحمة والمغفرة وعوامل بعث الأمل والرجاء في نفس الإنسان ، إلّا أنّه لا ينبغي للإنسان أن يخدع نفسه ويركن إلى هذه العوامل فقط ولا يحرّك ساكناً ولا يقوم بوظائفه ، بل عليه أن يعمل ويكدح ويجتهد و ... ثمّ يضم إلى جنب ذلك العمل الاعتماد على العوامل المذكورة ، ولقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى هذا المعنى بقوله عليه‌السلام : «إنّما العالم الذي لا يقنِّط الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من مكر الله» (٢). (٣)

__________________

(١). انظر : مجمع البيان : ٤ / ٥٠٣ طبع صيدا ؛ وإحياء العلوم : ٤ / ١٦٧.

(٢). الكافي : ١ / ٣٦.

(٣). منشور جاويد : ٣ / ٢٠٠ ـ ٢٠٣.

١٧١

٩٨

النفاق والمراء

سؤال : ما المراد من مفهوم النفاق ، ولما ذا يطلق على الإنسان ذي الوجهين صفة المنافق؟

الجواب : انّ مصطلح «النفاق» و «المنافق» من المصطلحات العربية والتي شاع استعمالها في اللغة الفارسية بدرجة أصبح الجميع يدرك معنى ومفهوم هذه المصطلحات بصورة واضحة.

إنّ أصحاب المعاجم اللغوية يقولون : إنّ «النفاق» مأخوذ من «النافقاء» وإنّما سمّي منافقاً ، لأنّه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه ، يقال : قد نفق به ونافق ، وله جحر آخر يقال له القاصعاء ، فإذا طلب قصع فخرج من القاصعاء فهو يدخل في النافقاء ويخرج من القاصعاء ، أو يدخل في القاصعاء ويخرج من النافقاء ، فيقال هكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه. (١)

ولا شكّ انّ من أخطر وأقبح الأمراض النفسية هو الابتلاء بمرض

__________________

(١). لسان العرب : ١ / ٣٥٩ ، مادة نفق.

١٧٢

«النفاق» ، وإنّه في الواقع يمثّل محور ومركز جميع الخبائث والقذارات الروحية والخصال الذميمة ، ومن الآثار السلبية التي تخلّفها حالة النفاق في نفس الإنسان : «الحيرة» و «الضياع» ، وهذه الآثار تظهر على ملامح المنافق وفي طيّات أفعاله بصورة متواصلة وجليّة أكثر من غيرها من الآثار السلبية الأُخرى الناتجة عن النفاق ، وذلك لأنّ المنافق يعلم جيداً انّه ذو وجهين ولذلك يسعى جاهداً أن لا يطّلع أحدٌ من الناس على ما في داخله ، وبسبب التضاد الداخلي الذي يعيشه والحيرة والضياع المتواصل التي يشعر بها تطغى عليه حالة من القلق والاضطراب والخوف ، ولذلك سرعان ما يظهر كامنه وينكشف أمره.

ولقد أشار القرآن الكريم ومن خلال المثال إلى هاتين الصفتين التي تكون إحداهما وليدة الأُخرى ، حيث يقول سبحانه واصفاً حال المنافق :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١)

ولنفرض إنسان ما يعيش في الفلاة وفي محيط مظلم جداً تحيط به الوحوش الكاسرة والسباع المفترسة والحشرات السامة ، فاستوقد لنفسه ناراً ليرى من خلالها ما يحيط به ويحترز من المخاطر التي تحوم حوله ، ولكنّه يفاجأ بإعصار عاتٍ يطفئ النار ويذهب بالنور الذي أوجده لنفسه ، فما هي الحالة التي يعيشها حينئذٍ يا ترى ، فهل هناك أمر غير الحيرة والضياع والاضطراب والقلق؟!

إنّ حالة المنافق تشبه حالة هذا الإنسان الذي أصابه الإعصار وذهب بنوره فإنّه يعيش الحيرة والضياع والاضطراب والقلق ولا يختلف عن صاحبه أبداً ، بل

__________________

(١). البقرة : ١٧.

١٧٣

انّ اضطراب هذا الشخص وذعره وقلقه أشدّ بمراتب من قلق وذعر الإنسان الذي ليس له نور من الأوّل وانّه يعيش في ظلام دامس ، كذلك حال المنافق ، وذلك لأنّ نور الإسلام والإيمان قد أضاء له محيطه وكشف له دياجير الظلام وبيّن له مكامن الخطر التي تحيط به حينما آمن أوّل مرّة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) ، ولكنّه بسبب اختياره طريق النفاق والمراء واستبدال الإيمان بالكفر قصد إلى إطفاء ذلك النور وإخماد شعلته والعيش في الظلام الدامس والإصابة بالحيرة والضياع ، ولذلك يكون حاله حال الإنسان الذي أصابه الإعصار وأطفأ نوره الذي أضاءه لنفسه.

إنّ هذا التفسير يعني أنّ الرغبة في الإسلام والميل إلى الإيمان بمنزلة النار المشتعلة التي تضيء الطريق ، وإنّ النفاق والمراء بمنزلة الإعصار الذي يخمد تلك النار ويطفئ ذلك الضياء بنحو لا يمكن الاستفادة من ذلك الضياء لا في عالم الدنيا ولا في الآخرة.

ولذلك نرى القرآن الكريم يقول في حقّ المنافقين :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (١). (٢)

__________________

(١). المنافقون : ٣.

(٢). منشور جاويد : ٤ / ٩ و ١٣٢ ، ١٣٣ و ١٧١.

١٧٤

٩٩

فلسفة التقية

سؤال : من المفاهيم التي قد يتصوّر مرادفتها للنفاق مفهوم «التقية» باعتبار انّ الرجل المتقي يشبه المنافق من جهة أنّه يحمل شعورين أو وجهين مختلفين ، هل يمكن تسليط الضوء على الفوارق الأساسية بين المفهومين؟

الجواب : يختلف مفهوم «التقية» عن مفهوم «النفاق» اختلافاً جوهرياً ، فلم يكن مفهوم «التقية» بحال من الأحوال من مقولة «النفاق» ، وبالإضافة إلى الاختلاف الجوهري والماهوي بينهما فانّهما يختلفان في الحكم (الحرمة والجواز) أيضاً.

توضيح ذلك : انّ لفظ «النفاق» في اللغة له معنى خاص (١) ، وقد أطلقه القرآن ـ ولجهة المشابهة ـ على الإنسان ذي الوجهين ، ولم يكن هذا المصطلح رائجاً قبل نزول القرآن الكريم.

يقول ابن منظور المصري في «لسان العرب» : وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق وما تصرف منه اسماً وفعلاً ، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى

__________________

(١). انظر ما نقلناه عن اللسان في ص ١٧٨.

١٧٥

المخصوص به ، وهو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه ، وإن كان أصله في اللغة معروفاً. (١)

وعلى هذا الأساس يكون استعمال لفظ «المنافق» في الإنسان «ذي الوجهين» استعمالاً قرآنياً ومصطلحاً إسلامياً ، لا أنّه اصطلاح عام ، وانّ القرآن أطلق ذلك على طائفة من الناس الكافرين الذين يسترون كفرهم بستار من الإيمان الظاهري حيث يقول سبحانه :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ). (٢)

فمن الواضح انّ الآية تطلق لفظ «المنافقون» على تلك الطائفة التي تضمر الكفر وتظهر الإيمان.

ومن هنا نعلم أنّ النفاق لا يطلق على كلّ حالة يختلف فيها الظاهر عن الباطن ، وكلّ حالة يظهر من صاحبها أنّه يلعب دورين ويكون ذا وجهين ، بل يراد منها حالة واحدة فقط وهي فيما إذا أضمر الكفر وأظهر الإيمان ، فحينئذٍ يقال له منافق.

ونحن إذا رجعنا إلى مصطلح «التقية» نجد الأمر على العكس من ذلك تماماً فإنّ الإنسان المتّقي يختلف موقفه اختلافاً جوهرياً عن المنافق ، حيث يظهر الكفر ويضمر في داخله الإيمان ، يقول سبحانه واصفاً مؤمن آل فرعون :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ...). (٣)

فهذه الآية من الآيات التي تتعلّق بموضوع التقية والتي تظهر بجلاء أنّ

__________________

(١). لسان العرب : ١٠ / ٣٥٩ ، مادة «نفق».

(٢). المنافقون : ١٠.

(٣). غافر : ٢٨.

١٧٦

التقية تقع في نقطة مقابلة للنفاق ، وأنّ بينهما فرقاً جوهرياً وأساسياً ، إذ الإنسان المتّقي يكتم إيمانه ويظهر الكفر لأسباب وعوامل ضغط خارجية تقتضي ذلك ، وأمّا المنافق فيعيش على العكس منه تماماً إذ يظهر إيمانه ويضمر في نفسه الكفر.

ومن هنا وعلى هذا الأساس نعرف وبوضوح أنّ مفهوم «التقية» يختلف عن مفهوم «النفاق» في الأهداف والأغراض أيضاً ، لأنّ هدف المنافق هو إفساد المجتمع وقلب النظام الإسلامي والقضاء عليه ، والحال انّ هدف الإنسان المتّقي إصلاح المجتمع أو على أقل تقدير الحفاظ على حياته وعرضه وماله أمام تهديد وضغط العوامل الخارجية التي لا يمكنه التخلّص منها إلّا من خلال هذا الطريق.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى قصة مؤمن آل فرعون وسعيه المتواصل تحت ستار التقية للحفاظ على حياة النبي موسى عليه‌السلام ، وهذا يعني أنّه كان ينسق مع فرعون ويظهر له الكفر لتحقيق هدف أكبر وهو الحفاظ على حياة النبي موسى ومن تبعه. ولذلك نراه وكما ينقل لنا القرآن الكريم ذلك يخاطب فرعون وقومه بأُسلوب دبلوماسي يدلّ على ذكائه وإيمانه العميق وهدفه السامي :

(... أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ...). (١)

فإذا كان المتّقي هدفه من إظهار الكفر الإصلاح والحفاظ على النفس والمال وسلامة المؤمنين واستقرارهم وعدم التعرض لهم من قبل الطواغيت

__________________

(١). غافر : ٢٨.

١٧٧

بالأذى والتعذيب ؛ فإنّ المنافق على عكس ذلك يظهر التنسيق مع المؤمنين والسير في ركابهم والوقوف إلى جنبهم ظاهراً ، ولكنّه يمسك بمعوله ليهدم الإسلام والمجتمع الإسلامي بطريقة خفية ، ويتستّر لتحقيق هذا الهدف المشئوم بستار الإيمان والتقوى. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٤ / ٢١ ـ ٢٣.

١٧٨

الفصل الخامس :

المعاد

١٧٩
١٨٠