الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

وليست هذه هي الحالة الوحيدة التي لم يدركها الإنسان ، بل توجد الكثير من العوامل الخفية التي لها تأثيرها في حياة الإنسان ولم يتوصل إليها الإنسان ذلك المغرور بعقله وعلمه الناقص.

إذن هذا الحديث الشريف ونظائره في الروايات الكثيرة تكشف لنا انّ الحياة الاجتماعية هي حياة قائمة على أساس علاقات عضوية (١) بحيث تتأثّر المجاميع فيما بينها فعلاً وانفعالاً ، وإن كان بعضها متنفّراً ومتبرّماً من البعض الآخر.

٢. إنّ الإسلام يؤكّد من جهة على تزكية النفس وتهذيب الأخلاق والحثّ على العبادات والطاعات الفردية والدعاء والتوسّل ويؤكد دائماً على حرية الإنسان وانتخابه واستقلاليته حيث يقول سبحانه :

(... لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ...). (٢)

ولا يسمح للإنسان الفرد أن يتدرّج ـ لتبرير انحرافه ـ بانحراف المجتمع وفساده وانّه تابع للمجتمع وخاضع له ، ولا يسمح للإنسان أن يغفل عن تطهير نفسه وتزكيتها تحت هذه الذريعة.

إنّه سبحانه يخاطب يوم القيامة الناس الذين وقع عليهم الظلم والعدوان واستضعفوا في الأرض وتلوّثوا بقذارات المجتمع الظالم وعيوبه ، بقوله سبحانه :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً

__________________

(١). إنّ العلاقات العضوية تقابل العلاقات الميكانيكية ، ففي النحو الأوّل من العلاقات يكون للمجتمع روح واحدة تحكمه وتهيمن عليه ، ولكن في العلاقات الميكانيكية يفتقد المجتمع هذا النوع من العلاقة والرابطة وتكون العلاقة فيه مجرّد علاقة آلية لا غير.

(٢). المائدة : ١٠٥.

١٢١

فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (١)

إنّ هذه الآية ونظائرها تصرح بأنّ الإنسان هو الذي يصنع مصيره وتصرّح بإرادته واختياره ، ولذلك لا يمكن أن نقول بأنّ شخصية الفرد تذوب وتفنى في المجتمع بصورة كاملة.

٣. ولكن من جهة أُخرى نرى القرآن يؤكد أنّ العوامل الاجتماعية تؤثر في حياة الإنسان ، ولذلك يدعو ويحثّ الناس لتطهير المجتمع من خلال فريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ويحذر الناس من فتنة خطرة تعمّ الجميع حيث يقول سبحانه :

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...). (٢)

كما أنّ للإمام الباقر عليه‌السلام في هذا المجال كلاماً قيّماً يُعدّ من جواهر الكلام ودرره حيث يقول عليه‌السلام :

«فأنكروا بقلوبكم ، وألفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم ... فجاهدوهم بأبدانكم ، وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً». (٣)

فإذا كانت إرادة الفرد أسيرة لإرادة المجتمع وذائبة فيها ، فلا معنى حينئذٍ لمثل هذا الطلب والحثّ على الجد والمثابرة والسعي من أجل تزكية النفس ومواجهة الظالمين والمنحرفين.

وأخيراً نؤكّد على نكتة مهمة جداً وهي انّ الاعتقاد بوجود هذا البعد

__________________

(١). النساء : ٩٧.

(٢). الأنفال : ٢٥.

(٣). الكافي : ٥ / ٥٦.

١٢٢

(الثالث) في المجتمع له تأثير عجيب في إصلاح المجتمع واستقامته ، فأيّ الاتجاهين الفكريّين يصلح المجتمع ويقوّمه؟ هل هو المنهج الذي يرى أنّ العالم يعيش حالة اللامبالاة وعدم الاهتمام بما يصدر من الإنسان من أفعال حسنة كانت أو سيّئة ، ويرى أنّ العالم موجود أعمى وأصم ولا شعور له ولا حياة فلذلك لا يفعل ولا ينفعل بعمل الإنسان وما يصدر منه من ظلم أو عدل؟ أم انّ الذي يصلح المجتمع المنهج الفكري الذي يرى أنّ للعالم شعوراً وإدراكاً وانفعالاً وانّ كلّ عمل يصدر من الإنسان لا يفلت من قبضة العالم أبداً ، بل لا بدّ أن يقابل بردة فعل تتناسب مع الفعل حسنة وسيّئة صالحة وطالحة؟

وعلى هذا الأساس ووفقاً لهذه النظرية لا بدّ أن يتصدّى لحكومة المجتمع وإدارة شئونه طبقة من الناس الذين يدركون وجود هذا البعد في المجتمع وهذه العلاقات والروابط الاجتماعية لكي يتسنّى لهم سن القوانين والمقررات الصحيحة والمناسبة آخذين بنظر الاعتبار هذا العنصر الفاعل.

وبتعبير آخر : أي لا يغفلون هذا البعد حال رسمهم الخطط والبرامج الحياتية وسنّهم للقوانين التي تقوم عليها حركة المجتمع. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١ / ٣٢٤ ـ ٣٣١ بتلخيص.

١٢٣

٨٩

فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع

سؤال : من العلوم الإنسانية الرائجة حالياً فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع ، ما المقصود من هذين العلمين أوّلاً؟ وما هي الفوارق الأساسية بين العلمين ثانياً؟

الجواب : المراد من فلسفة التاريخ هو : الاطّلاع على القوانين الكلية للمجتمع والتاريخ ، والعلم بالتحولات والتطورات التي تحدث في المجتمعات من مرحلة إلى مرحلة ، والعلم بالقوانين الحاكمة على تلك التحوّلات.

وإنّ أوّل من التفت إلى هذه المسألة وأزاح الستار عن تلك القوانين الكلية للتاريخ ، ووضع أُسس هذا العلم ، هو العالم المغربي المعروف «عبد الرحمن بن خلدون» المتوفّى عام ٨٠٨ ه‍. ق. فقد كتب هذا الرجل موسوعة تاريخية تحت عنوان «العبر وديوان المبتدأ والخبر» في سبع مجلدات ، ولكن هذه الموسوعة التاريخية لم تحظ بشهرة واسعة ، ولكنّه في نفس الوقت كتب مقدمة لهذا التاريخ اشتهرت باسم «مقدمة ابن خلدون» هذه المقدّمة نالت حظاً وافراً من الشهرة في الأوساط العلمية حتّى أنّها ترجمت إلى أكثر من لغة ، ثمّ جاء من

١٢٤

بعد ابن خلدون علماء ومفكّرون واصلوا المسير في هذا المجال حتّى تمّت أركان هذا العلم وظهر في الساحة كعلم مستقل له أُسسه وقوانينه.

يوجد إلى جانب هذا العلم علم آخر هو «علم الاجتماع» يقترب بنحو خاص من علم فلسفة التاريخ ، ولكن يوجد تفاوت أساسي وواضح بين العلمين ، فبما أنّ علم فلسفة التاريخ يدرس القوانين الكلية التي تحكم المجتمع والتاريخ ، فلذلك لا محيص من مطالعة ودراسة التاريخ البشري بصورة كاملة وتامّة ، ثمّ معرفة القوانين الكلّية التي تحكمه وتسيطر عليه ، ولا يمكن أبداً الاكتفاء بدراسة مقطع خاص من التاريخ أو دراسة تاريخ مجتمع خاص من المجتمعات البشرية بصورة مبتورة عن التواريخ أو المجتمعات الأُخرى.

وليس الأمر كذلك في «علم الاجتماع» ، إذ يكتفي العالم الاجتماعي بدراسة الحوادث والتحوّلات والمشاكل الحاكمة على مجتمع ما ، إذ بإمكانه أن يأخذ مقطعاً زمانياً أو مكانياً خاصاً ويسلّط الأضواء عليه طبقاً لقوانين علم الاجتماع.

فعلى سبيل المثال : بإمكان العالم الاجتماعي دراسة المجتمع الإيراني في العصر الراهن قبل الثورة الإسلامية أو ما بعدها حيث بإمكانه أن يسلّط الأضواء على المسائل الاجتماعية والمشاكل الموجودة من قبيل مشكلة الإقطاعيّين والفلاحين ، وأصحاب المصانع والعمّال ، والطبقات الأُخرى من كأصحاب الشهادات ـ الدبلوم والبكالوريوس والماجستير و ... ـ وكذلك مسألة العاطلين عن العمل ، وغير ذلك من القضايا الاجتماعية ، وأمّا دراسة العوامل المحركة للتاريخ والقوانين الكلية الحاكمة على المجتمع فإنّها من مهام

١٢٥

ومسئوليات علم «فلسفة التاريخ».

بعد أن اتّضح لنا الفارق الأساسي بين العلمين ، يلزم التعرّف على مفهوم «المجتمع» وتسليط الأضواء عليه.

إنّ أوّل بحث يطرح في المجتمع والتاريخ ، هو التعرف على معنى الحياة الفردية والحياة الاجتماعية ، وبعد التعرف على حقيقة هاتين الحياتين يتّضح وبصورة قهرية مفهوم «المجتمع».

إنّ الحياة الفردية في الحقيقة هي ما يقابل الحياة الاجتماعية حيث يتّخذ الإنسان لنفسه نمطاً من العيش يفتقر لجميع القوانين والسنن والبرامج وتوزيع الاحتياجات والمنافع ، بنحو يتحمّل كلّ إنسان مسئولية تلبية متطلّبات حياته بمفرده ويتحمّل مسئولية توفير كلّ ذلك بمعزل عن الآخرين ولم يستعن بأحد من الناس في كلّ ذلك ، وهكذا ينفرد لوحده بالمنافع التي يحصل عليها والثمار التي يجنيها من خلال جهوده ومثابرته.

إنّ هذا النمط من الحياة ـ وفقاً لرؤية العلماء ـ مخالف للطبيعة الإنسانية ولا بدّ للإنسان عاجلاً أم آجلاً أن يفلت من هذا النمط الحياتي ويولّي وجهه صوب الحياة الاجتماعية.

ففي الحياة الاجتماعية تكون للحياة ماهية اجتماعية وانّ حياة الأفراد تتمّ على أساس تقسيم الثروة والمنافع ، وانّ هذا التقسيم محكوم بسنن وقوانين لا يحق للأفراد تجاوزها ويجب عليهم العمل طبقها والالتزام بها.

إنّه في إطار التقسيم القائم على أساس الاحتياجات والمنافع تتولّد بين الأفراد وحدة في الفكر وفي الإيديولوجية والأهداف ، وفي الأخلاق والطبائع والخصال ، تربط الأفراد فيما بينهم بصورة أكبر بحيث تغرق الناس جميعاً في

١٢٦

نمط حياة مشتركة وتربطهم بمصير واحد كمثل ركاب السفينة الواحدة أو الطائرة واحدة الذين يشتركون في وحدة المكان ، ووحدة المصير على متن الطائرة أو السفينة.

ويطلق على هذا النمط من الحياة والأفراد الذين يشكّلون هذا النوع من الحياة ، اسم المجتمع.

إذاً ، الأساس في الحياة الاجتماعية هو مسألة تقسيم الأعمال والمنافع ، وحكومة الآداب والسنن ، ووحدة الخلق والطبائع ، ووحدة الأهداف والثقافة ، وليس وحدة الماء والهواء والعيش في محيط جغرافي خاص.

ولا ريب أنّ الإنسان في حالة اختيار نمط الحياة الفردية لم يكن مسئولاً تجاه الأفراد الآخرين بأيّ نحو من أنحاء المسئولية ، ولذلك يعيش حالة الاستقلال والحرية على العكس من الإنسان الذي يحيا حياة اجتماعية فإنّه مسئول تجاه الآخرين ، ولذلك نراه يفقد قسماً من حرّياته ، وتكون حرّيته محدّدة بمصلحة ومنافع سائر أفراد المجتمع وانّها تكون محترمة مدى التزم الإنسان بمراعاة حقوق الآخرين.

وانطلاقاً من وحدة المصير هذه التي تحكم أفراد المجتمع ، يكون التظاهر بالذنوب وارتكاب المعاصي جهراً وأمام الملأ العام من الأُمور المحظورة جداً في الإسلام وانّ قسماً من المسائل المتعلّقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتعلّق بهذا الموضوع ، ولذلك نجد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرحها بقوله :

«إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلّا صاحبها ، وإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرّت العامّة». (١)

__________________

(١). وسائل الشيعة : ١١ / ٤٠٧ ، باب ٤ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ١.

١٢٧

فلسفة الرقابة العامّة

من هذا المنطلق تتّضح لنا فلسفة الرقابة العامة والتي أشار إليها القرآن الكريم تحت عنوان «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في عشرة موارد ، ومن خلال ملاحظة وحدة الرابطة والعلاقة بين أفراد المجتمع والحكم الواحد الذي يخضع له المجتمع ، لا يمكن اعتبار الرقابة العامة ـ التي تتم من خلال كافة أفراد المجتمع ، ومن خلال إجراء المقررات ، وتنفيذ القوانين وتطبيق العقوبات على المخالفين ـ مخالفة لقوانين وسنن الحرية والاستقلال ، وذلك لأنّ الحياة الاجتماعية لا يمكن بحال من الأحوال أن تقوم من دون تلك المراقبة ومن دون تنفيذ القوانين والمقررات ، هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى انّ كلّ فرد حينما يختار الحياة الاجتماعية لا بدّ أنّه قد اختار أيضاً تلك المقررات والقوانين التي ـ وبلا شكّ ـ سوف تحدُّ من صلاحياته واستقلاله وحريته.

ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن «الرقابة العامّة» بصورة مفصّلة ، بل كان غرضنا في الواقع بيان قسم من القوانين والسنن التي تحكم المجتمع والتاريخ في القرآن الكريم.

وبسبب كون الحياة الاجتماعية هي حياة المسئوليات والتعهّدات الاجتماعية ، نجد القرآن الكريم قد أولاها أهمية خاصّة ، ووضع على عاتق الإنسان المسلم الكثير من المسئوليات والتكاليف تجاه المجتمع والتي تشكّل القسم الأكبر من سنن ومقررات الفقه الإسلامي ، حتّى أنّها تفوق المقررات والقوانين والأحكام الفردية للإنسان المسلم. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١ / ٣١٢ ـ ٣١٥.

١٢٨

الفصل الرابع :

الأخلاق والعرفان

١٢٩
١٣٠

٩٠

آثار العبودية لله

سؤال : ما هي الآثار والعوائد التي يحصل عليها عباد الله من خلال سلوك طريق العبودية لله سبحانه؟

الجواب : لقد ذكر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإنسان الكثير من المواهب والاستعدادات والقابليات الغريبة والعجيبة والمحيّرة ، كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بيّن أنّ الطريق الصحيح لكسب المعارف العميقة والبعيدة الغور والإصغاء لنداء الحق وكسب الكمالات الأُخرى يكمن في طريق واحد ، وهو طريق العبودية لله سبحانه.

وتوجد في الكتب الأخلاقية والعرفانية جملة معروفة ـ التي وللأسف غالباً ما تفسر تفسيراً غير صحيح ـ وهي :

«الْعُبُودِيَّةُ جَوْهَرَهٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ».

وليس المقصود من الربوبية هنا الألوهية ، لأنّ الإنسان الممكن يستحيل عليه أن يتجاوز حدود الإمكان ، بل المقصود منها : التوجّه إلى الله وكسب الكمالات والقدرات والطاقات العليا والسامية ، ونحن هنا نشير إلى الآثار البنّاءة والعجيبة والمحيّرة النابعة من طي طريق العبودية لله سبحانه وسلوك الصراط المستقيم استناداً إلى الآيات القرآنية ، والتي منها هيمنة الإنسان وسيطرته على نفسه وروحه وبدنه والعالم :

١٣١

١. الهيمنة على النفس

إنّ النتيجة والثمرة الأُولى للعبودية هي هيمنة الإنسان على الرغبات والميول والنزعات النفسانية ، ثمّ السيطرة على «النفس الأمّارة» وتقييدها وولاية الروح الإنسانية على النفس بحيث يصل الإنسان إلى درجة قصوى من الكمال الروحي يتمكّن من خلاله الإمساك بزمام «النفس الأمّارة» وكبح جماحها ، بحيث يكون اختيارها بيده ، وانّ هذه المرحلة من مراحل الكمال الإنساني يطلق عليها مصطلح «الولاية على النفس».

ولقد أشارت الآيات القرآنية إلى هذه المرحلة من مراحل التكامل البشري حيث قال سبحانه :

(... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ...). (١)

بمعنى أنّ الصلاة تخلق في الإنسان ظاهرة وحالة يمكن للمصلّي من خلالها الابتعاد عن الذنوب والمعاصي.

كذلك يقول سبحانه :

(... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). (٢)

إنّ الصيام نوع من العبودية والطاعة للذات الإلهية المقدّسة والذي يخلق في الإنسان ملكة التقوى والسيطرة والهيمنة على النفس والإمساك بزمامها ، وحفظ النفس من السقوط في مهاوي الذنوب والخطايا ، ثمّ الولاية على النفس والتغلّب على الهوى وخفّة العقل.

__________________

(١). العنكبوت : ٤٥.

(٢). البقرة : ١٨٣.

١٣٢

٢. البصيرة الخاصة

من ثمار العبودية لله سبحانه أن يكتسب الإنسان ـ وفي ظل الصفاء الروحي والنور الإلهي ـ رؤية وبصيرة خاصة ، يميّز من خلالها الحق عن الباطل وتجنّبه السقوط في المعاصي والذنوب والانحراف.

يقول سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ...). (١)

إنّ المراد من (الفرقان) هو هذه البصيرة الخاصة والرؤية النافذة التي تجعل الإنسان يعرف الحق والباطل معرفة جيدة ، وفي آية أُخرى يقول سبحانه :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ...). (٢)

٣. السيطرة على الأفكار المتشتّتة

من الآمال التي يحلم بها الإنسان هو أن يتمكّن في أثناء أدائه للطقوس العبادية من السيطرة على قواه العقلية وتركيزها في مركز واحد ، وهو الالتفات لله تعالى وطرد ما سواه عن دائرة الفكر والذهن. إنّ الذين يفتقدون الحضور القلبي في أثناء العبادة وتسرح أفكارهم يميناً وشمالاً هؤلاء وبلا ريب تنقصهم الولاية والسيطرة على أفكارهم المتشتّتة والناتجة عن القوّة الخيالية ، ولذلك تجدهم يقومون بأداء الصلاة وأفكارهم سارحة في حقول أُخرى وأرواحهم طائرة إلى أماكن بعيدة ومحاور أُخرى غير المحور الذي ينبغي التوجّه إليه ، ولذلك تتحوّل أبدانهم أثناء الصلاة إلى مجرد هياكل مادية تتحرك حركات رياضية لا غير.

__________________

(١). الأنفال : ٢٩.

(٢). العنكبوت : ٦٩.

١٣٣

وأمّا السائرون على طريق العبودية والباحثون عن الحقيقة ، فإنّهم مهيمنون على كلّ أفكارهم وأحاسيسهم ومشاعرهم من خلال القدرة التكاملية التي حصلوا عليها في ظل العبودية لله ، كذلك هم مسلّطون على قواهم التخيّلية التي لا تستقر في مكان واحد وكأنّها كالطير الذي ينتقل من غصن إلى غصن ومن شجرة إلى شجرة. وانّ زمام تلك القوى بأيديهم وتحت إرادتهم ولذلك تجدهم في أثناء العبادة يتحلّون بدرجة من التمركز الفكري والحضور القلبي إلى درجة لا يغفلون عن الله سبحانه طرفة عين ويغرقون في الجمال والكمال الإلهي ، حتّى يصلون إلى درجة من الفناء في الذات الإلهية بحيث يُسلّ النصل من بدنهم ، أو يسقط ابن عزيز لهم من شاهق ولم يشعروا بألم النصل أو بصراخ النساء والأطفال واستغاثتهم لسقوط الطفل إلّا بعد الفراغ من الصلاة. (١)

يقول الشيخ الرئيس ابن سينا : والعبادة عند العارف رياضة ما لهممه وقوى نفسه المتوهّمة والمتخيّلة ليجرّها بالتعويد عن جناب الغرور إلى جناب الحق ، فتصير مسالمة للسرّ الباطن حينما يستجلى الحق لا ينازعه ، فيخلص السرّ إلى الشروق الساطع ، ويصير ذلك ملكة مستقرة ، كلّما شاء السر أطلع إلى نور الحقّ غير مزاحم من الهمم ، بل مع تشييع منها له فيكون بكلّيّته منخرطاً في تلك القدس. (٢)

٤. خلع لباس البدن عن الروح

إنّ العلاقة بين الروح والبدن في عالم الطبيعة علاقة وثيقة ومبرمة فكلّ منهما محتاج إلى الآخر ، فمن جهة نجد أنّ الروح لها «علاقة تدبيرية» بالنسبة

__________________

(١). إشارة إلى ما حدث بالنسبة إلى أمير المؤمنين وحفيده السجاد عليهما‌السلام.

(٢). الإشارات : ٢ / ٣٧٠ ، النمط التاسع ، تحت عنوان «تنبيه».

١٣٤

إلى البدن تحفظه من الفساد والخراب والتفسّخ وتحافظ على حيويته ، ولكنّها من جهة أُخرى محتاجة إلى البدن في القيام بفعاليتها الخاصة ، فالروح في الواقع تسمع وترى وتتحرك و ... بواسطة أعضاء البدن المادية كالأُذن والعين والرجل و ....

ولكن مع ذلك كلّه نرى تارة أُخرى أنّ الروح تصل إلى درجة من الكمال والقدرة من خلال الطاعات والعبادات والارتباط بالحق تعالى ، إلى درجة تستغني عن الحاجة إلى البدن حتّى يكون بإمكانها أن تنزع رداء البدن.

ولا ريب أنّه من الصعب والعسير جداً تصوّر ذلك الأمر وخاصة بالنسبة إلى الشباب الذين ينظرون إلى الأُمور نظرة مادية ، ولكن ذلك لا يعسر على الباحثين عن الحق ، إذ بإمكانهم متى شاءوا خلعوا رداء البدن المادي.

٥. التصرّف في البدن

إنّ العبودية تمنح الإنسان قدرة عجيبة جداً إلى درجة تخضع البدن لإرادة وقدرة الروح وهيمنتها ، ولذلك نجد الإنسان يقوم بأعمال خارقة للعادة ، سواء في إطار بدنه الخاص أو بالنسبة إلى الآخرين.

ولقد أشار الإمام الصادق عليه‌السلام إلى هذا المعنى في الرواية التي رواها الحرّ العاملي في «وسائل الشيعة» حيث قال عليه‌السلام :

«ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة». (١)

٦. التصرّف في العالم

لا تنحصر ثمار العبادة والخضوع لله سبحانه وتعالى في الهيمنة على

__________________

(١). وسائل الشيعة : ١ / ٣٨ ؛ والكافي : ٢ / ٦٨ الحديث ٤.

١٣٥

البدن وإخضاعه لإرادة الإنسان ، بل تمتدّ إلى عالم الطبيعة حيث يخضع ذلك العالم ـ وبإذن الله سبحانه ـ لإرادة الإنسان وقدراته الكمالية التي اكتسبها في ظل التقرّب إلى الله والاتّصال به والعبودية له. ولذلك يتمكّن الإنسان من القيام بسلسلة من المعجزات والكرامات والأُمور الخارقة للعادة ، وفي الواقع يمتلك قدرة التصرف والتسلط على الأُمور التكوينية.

ويرشدنا إلى هذه الحقيقة الناصعة والقدرة العجيبة مطالعة الآيات التي تحدّثت عن العديد من أنبياء الله تعالى مثل : يوسف ، داود ، سليمان و ... والأعمال العجيبة التي قاموا بها ، ممّا يوضح لنا بجلاء انّ التصرّف في عالم التكوين ليس بالأمر المشكل والمعقّد بحيث نشك في قدرة أولياء الله الصالحين على القيام به. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ١٧٢ ـ ١٧٧.

١٣٦

٩١

الوجدان أو النداء الباطني

سؤال : ما هو الدور الذي يقوم به الوجدان في داخل الإنسان وطبيعته؟

الجواب : لقد أولى علماء النفس والباحثون النفسانيون هذه المسألة أهمية كبيرة في بحوثهم النفسية وسعوا إلى تحليل مسألة الوجدان وفقاً لبحوثهم التجريبية ، وفي أثناء بحثهم عن الكثير من المسائل التي تتعلّق بذلك توصّلوا إلى الكثير من النتائج المهمّة في هذا المجال إلّا أنّ النقطة التي نالت اهتماماً أكبر وحظّاً وافراً من البحث والتحليل هي مسألة دراسة وبيان الجذور الوجودية لمسألة الوجدان في الطبيعة البشرية. ونحن أيضاً نقتفي أثرهم ونركّز البحث على هذه المسألة ، ونقدّم البحث فيها على سائر المسائل الأُخرى التي تتعلّق بالموضوع.

جذور الوجدان في الطبيعة البشرية

تشير التحاليل والاختبارات الكثيرة إلى وجود إدراك وقوّة خاصة في طبيعة الإنسان يشخّص من خلالها الأُمور الحميدة والحسنة ويميّز بين الأُمور الذميمة والسيّئة ، ولقد أطلقوا على هذا النوع من الإدراك عنوان «الوجدانيات» ولقد عدّها

١٣٧

الفلاسفة المسلمون قسماً من العقل العملي.

إنّ هذه القوة الإدراكية في تشخيص الأُمور الحسنة عن السيّئة لا تحتاج إلّا إلى تشخيص ماهية العمل أوّلاً ، وفي مقام الحكم لا تحتاج إلّا إلى محكمتها الخاصة بها ، ولا تحتاج إلى قاض من الخارج ثانياً ، وحينما يقال : «الوجدان هو المحكمة التي لا تحتاج إلى قاض» المقصود منه انّ الوجدان لا يحتاج إلى قاض خارج عنه ، بل الوجدان مستقل في قضائه وحكمه.

لقد أثبتت التجارب انّ للوجدان جذوراً في طبيعة الإنسان وخلقته ، وانّ الطفل ومنذ أوّل خطوة يخطوها على البسيطة توجد في داخله هذه القوّة وهذه الطاقة جنباً إلى جنب مع باقي الغرائز والميول والرغبات الطبيعية الأُخرى ، وتأخذ هذه «القوة» أي قوة الوجدان بالتكامل والاشتداد كلّما كبر ونمت قواه الطبيعية.

وعلى هذا الأساس نعرف انّ النداء الوجداني والتحسين والثناء أو اللوم والتوبيخ والذم ، لم يلق إلى الإنسان من الخارج ، وحسب الاصطلاح التعليمي لا يتعلّمها الإنسان من خلال وسائل وطرق التعليم الخارجية ، بل هو نداء ينبعث من داخل الإنسان وباطنه ويسمعه في أعماقه ، وهو من الأُمور الفطرية التي أُودعت في طينته وخلقته والتي تسوقه إلى طريق السعادة والفلاح.

الفرق بين الوجدان الفطري والوجدان الأخلاقي

نطرح المثال التالي لتمييز النداء الفطري عن غيره وإن ظهر بمظهر الأُمور الفطرية : لا شكّ انّ نقض العهود ، وخيانة الأمانة والتعدّي على حقوق

١٣٨

الآخرين ، تُعدّ من الأُمور القبيحة والذميمة والمستهجنة لدى جميع الملل والأقوام والشعوب في العالم ، وكلّ إنسان يدرك ذلك جيداً حينما يرجع إلى داخله ووجدانه ، ولذلك يذم ويوبخ القائمين بتلك الأعمال القبيحة ، انّ هذا النداء العام الذي يسمع من خلال ضمير البشر وفي كلّ بقاع العالم وبين جميع الأقوام والشعوب ، لا يمكن أن يكون وليد التعليم والتربية الاجتماعية ، أو الشروط والتحوّلات الاقتصادية أو نتيجة وسائل التبليغ والإرشاد ، وذلك لأنّ من الواضح جداً انّ شعوب العالم المختلفة لم تخضع يوماً ما إلى نظام تربوي واحد أو سياسة مشتركة أو نمط اقتصادي خاص ، بل انّها دائماً تعيش تحت شروط وحالات متفاوتة ومختلفة من الناحية الاقتصادية والسياسية والتربوية ، هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى نجد انّ هذا الإدراك الفطري موجود في زوايا جميع أبناء البشر على اختلاف جنسياتهم وألوانهم وأوطانهم ، فالكلّ ينادي : انّ الخيانة ونقض العهود والتجاوز على حقوق الآخرين أُمور قبيحة وذميمة لا ينبغي للإنسان الاتّصاف بها ، وهذا ما يكشف لنا بجلاء انّ هذا الإدراك وهذا النداء والقضاء من الأُمور الفطرية التي خلقت مع الإنسان ، وانّه من المستحيل أن تتمكّن الأفكار المستوردة أو المكتسبة من عوامل خارجية أن تخلق في الإنسان تلك الظاهرة بهذه الشمولية والسعة.

في مقابل ذلك يوجد هناك الكثير من الأعمال التي تُعدّ من الأُمور القبيحة والذميمة عند أكثر الناس ، ولكنّها لا تعدّ كذلك لدى طائفة أُخرى من الناس ، فعلى سبيل المثال الزواج من المحارم الذي اتّفقت جميع الشرائع السماوية على تحريمه ، والذي ينظر إليه أتباع الديانات السماوية نظرة اشمئزاز وتنفّر خاصة. ولكن في نفس الوقت نرى هذا العمل لا يُعدّ قبيحاً ومذموماً لدى طائفة

١٣٩

من الناس ، ولو كان قبح هذا العمل فطرياً لما اختلف فيه أبناء النوع الإنساني ، ولذلك يمكن القول : إنّ قبح هذا العمل لا ينبع من حالة فطرية في داخل الإنسان وإن ظهرت بمظهر الأُمور الفطرية ، بل هي في الواقع وليدة النهي المتواصل والتحذيرات المتكررة التي صدرت من أصحاب الشرائع السماوية والتي أدّت إلى استحكام ونفوذ قبحها وخسّتها في أعماقنا ، ولو لا وجود هذا العامل التبليغي والإرشادي المتواصل والتحذير والتحريم المتكرر لما اعتبرنا تلك الأُمور من الأُمور القبيحة والمنفورة التي يستحق فاعلها الذم والتوبيخ.

من خلال هذا التوضيح يمكن القول : لتمييز هذين النوعين ، لا بدّ من عدّ الإدراك الأوّل من قبيل «الوجدان الفطري» ، والثاني من قبيل «الوجدان الأخلاقي». (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١٤ / ١٧٣ ـ ١٧٥.

١٤٠