الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-154-8
الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

نحو القومية والوطنية قد اشتدّ في العالم الغربي ، وأنّ الكثير من المفكّرين الغربيّين قد دعوا إلى هذا النهج وجنحوا نحو هذا التفكير الاجتماعي والسياسي ودافعوا عن ذلك بقوة وتحت واجهات مختلفة ، إلّا أنّه لم تمرّ فترة طويلة إلّا ووجدناهم قد دعوا إلى نظرية أُخرى مخالفة لسابقتها حيث مالوا للنظرية الأُممية والدعوة نحو تشكيل حكومة عالمية واحدة ، وأدركوا بحسّهم الخاص أنّ هذه الحدود المصطنعة بين الدول والشعوب لا بدّ أن تزول ، لأنّها هي السبب الأساسي وراء اندلاع الحروب والمعارك بين الشعوب وإراقة الدماء البشرية ، وأنّه لا منجي من تلك الورطة والبأساء إلّا بالقضاء على تلك الحدود المصطنعة وإزالتها من الوجود ، ووضع الناس كافة تحت راية وحكومة واحدة.

ولقد تمخّض عن الحرب العالمية الأُولى ـ التي فتكت بالعالم بأسره ـ نشوء «عصبة الأُمم» والتي شكلت من ٢٦ عضواً ليتسنّى لهم من خلال ذلك التشكيل أن يقفوا أمام الحروب والحدّ من النزف الدموي وحلّ المشاكل العالمية من خلال الحوار والأسلوب الدبلوماسي ، ولكن لم يوفّق ذلك التشكيل من تحقيق الأهداف التي أُسس من أجلها ، وذلك لأنّه ومن الأساس تأسّس بصورة ناقصة وفيها الكثير من الثغرات ونقاط الخلل ، ولذلك نجده لم يتمكن من الحيلولة دون نشوب الحرب العالمية الثانية.

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية فكّر ساسة العالم ومفكّروه في تأسيس كيان أكثر فاعلية من سابقه يتحلّى بالواقعية والمتانة ، ولذلك تمّ تأسيس «هيئة الأُمم المتحدة والاتّحادات الدولية» ، وقد جاء في ميثاق الأُمم المتحدة الهدف من تأسيسها ، ويتوقع المفكّرون السياسيون وكبار ساسة العالم أنّه من الممكن أن تتحول هيئة الأُمم المتحدة ـ التي هي في الواقع بمثابة برلمان عالمي ـ إلى مركز حكومة عالمية واحدة تعلن خلالها وحدة البشرية والمساواة بين الجميع.

١٠١

وبالطبع نحن لا ندّعي أنّ هذه المنظمات استطاعت أن تحقّق الأهداف التي رسمتها ، بل الذي نريد التأكيد عليه أنّ مثل هذه الأفكار الوحدوية تجول في ذهن الإنسان وقد يأتي اليوم الذي تتحقّق فيه تلك الأهداف.

إنّ هذه المؤسسات الدولية والمنظمات العالمية تشهد على أنّ إلغاء الوطنية والحدود الإقليمية وإدغام الجميع في مجتمع واحد ، وتحويل الحكومات المتعدّدة إلى حكومة عالمية واحدة ، ليس بالأمر المستحيل وغير الممكن ، بل انّ ذلك ما دعا إليه بعض المفكّرين من حماة العولمة ـ في المؤتمر الذي عقد في طوكيو عام ١٩٦٣ م ـ حيث رسموا في البيان الصادر عن المؤتمر الخطوط العريضة لتلك الدولة والتي تتشكّل من :

١. مجلس نيابي واحد.

٢. مجلس إداري عالٍ.

٣. جيش عالمي.

٤. محكمة عالمية. (١)

إنّ هذا النوع من التفكير وتشكيل تلك المؤتمرات وعرض المشاريع الحدودية والعالمية يكشف أنّ هدف الأنبياء والصالحين في طريقه إلى التكوين والتشكّل ، وانّ البذرة التي بذرها الأنبياء في طريقها إلى النمو والتفتّح ، وانّ حكومة العدل الإلهية المتمثّلة في حكومة المهدي المنتظر والتي تدعو إلى الوحدة المقترنة بوحدة الثقافة والحضارة ، هي أمر ممكن وقريب الوقوع وأنّ علاماتها تلوح في الأُفق. (٢)

__________________

(١). لمزيد الاطّلاع حول هذه الخطوط العريضة وما يتعلّق بالحكومة الإسلامية راجع الجزء الثاني من مفاهيم القرآن في معالم الحكومة الإسلامية للشيخ جعفر السبحاني.

(٢). منشور جاويد : ١ / ٣٦٢ ـ ٣٦٥.

١٠٢

٨٦

الصدفة التاريخية ونقض قانون العلّية والمعلولية

سؤال : إذا قلنا إنّ المجتمعات محكومة بقانون وسنّة معينة ، فكيف نفسّر الصدفة التاريخية؟ وهل أنّ هذه الصدفة نقض لقانون العلّية والمعلولية؟

الجواب : إنّ للصدفة معاني مختلفة ومتعددة ، وكلّ معنى منها يتطلّب لنفسه حكماً خاصاً به ، وهذه المعاني عبارة عن :

١. الصدفة : بمعنى وجود الشيء من دون علّة ، الأعم من العلّة الطبيعية وغير الطبيعية.

وهذا المعنى للصدفة مرفوض من قبل المفكّرين والعلماء ، ولا يوجد مفكّر ـ حقّاً ـ يؤمن بهذا المعنى من الصدفة.

نعم يوجد مفكّر واحد فقط أنكر قانون العلّيّة والمعلولية وهو الفيلسوف الإنجليزي «هيوم» ، وأنّ الذي دعاه إلى اتّخاذ هذا الموقف هو انّه يعتقد أنّ الطريق الوحيد لإثبات العلوم هو الحس والتجربة فقط ، وبما أنّ هذا القانون خارج عن مجال الحسّ والتجربة ، ولا يمكن إثباته من خلالهما ، فلذلك أنكر هيوم هذا القانون. (١)

__________________

(١). لمزيد الاطّلاع انظر كتاب «نظرية المعرفة» للأُستاذ آية الله السبحاني (دام ظله).

١٠٣

وإذا ما وجد من يصطلح على بعض التحوّلات الطبيعية أو التاريخية مصطلح «الصدفة» فليس مراده ـ قطعاً ـ انّ هذه التحوّلات قد حدثت من دون علّة ، بل مراده هنا من لفظ «الصدفة» هو «الاتّفاق».

٢. الصدفة : بمعنى صدور النظم والسنن عن سلسلة من العلل غير العاقلة وغير المدركة ومن دون أي محاسبات عقلية ، وحسب الاصطلاح : تفسير العالم على أنّه وليد سلسلة من العلل المادية الفاقدة للشعور والإدراك.

إنّ الصدفة بهذا المعنى قبلها وتبنّاها المفكّرون الماديون ودافعوا عنها حيث إنّهم اعتقدوا أنّ النظام العالمي وليد انفجار هائل حدث في عالم المادة فأوجد حالات كثيرة من الفعل والانفعال أدّت إلى وجود العديد من النظم ، ثمّ ومن خلال اجتماع تلك النظم الصغيرة ، تولّد ذلك النظام العالمي المحيّر للعقول ، فعلى هذا الأساس لا يكون النظام العالمي مولوداً بدون علّة وإنّما هم يسلّمون أنّه وليد علّة ما ، ولكنّهم لا يفسّرون تلك العلّة بالعلّة العاقلة المدركة والواعية.

والحال أنّ التساؤل التالي يطرح نفسه وبقوة : هل يا ترى يمكن لهذا العالم الواسع والبديع والعجيب المبتني على النظام من الذرة إلى المجرّة ، أن يكون وليد تلك الصدفة والمادة الصمّاء؟!!

ونحن هنا لسنا بصدد الإجابة عن هذا التساؤل ولكن نقول على نحو الإجمال : إنّه يستحيل لهذه الصدف ان تولد حالة واحدة من مليارات الحالات المنظمة في العالم فضلاً عن تكوين كلّ هذا النظم.

٣. الصدفة : بمعنى حدوث الظواهر الكونية أو التاريخية من خلال علّة وعامل ، إلّا أنّ هذا العامل وهذا السبب لا يخضع لقانون وضابطة كلّية عامّة ، ولا يمكن اعتبار ظهور تلك الحوادث ـ بعد ذلك العامل أو السبب ـ قانوناً كلّياً

١٠٤

وقاعدة عامة.

إنّ الصدفة بهذا المعنى من المصطلحات الرائجة على ألسنة عموم الناس ، مثلاً يقول : لقد صادفت في سفري إلى كربلاء صديقي فلاناً بعد سنين طويلة من الفراق ، أو أنّه حفر بئراً فصادف كنزاً ، أو غير ذلك من الأمثلة.

ومن المسلّم به انّ ظهور وحدوث تلك الوقائع ـ مشاهدة الصديق أو العثور على الكنز ـ تحت تلك الشروط لا يخضع لضابطة كلّية وقانون عام ، بمعنى أنّه ليس كلّ من يسافر فإنّه سيلتقي لا محالة بصديق قد افتقده مدّة طويلة ، أو كلّ مَن يحفر بئراً يعثر على كنز ، بل هناك علل وشروط خاصة اقتضت أن يعثر في هذا البئر على الكنز ، ولكن ذلك لا يمثل ـ أبداً ـ قاعدة كلّية وقانوناً عامّاً ودائماً.

وبالنتيجة هناك فرق أساسي بين عدم وجود العلّة أساساً وبين عدم عمومية وكلّية هذه العلّة ، وحسب التعبير الفلسفي «انّ هذه الظاهرة ليست ملازمة لنوع العلّة» بمعنى أنّه «ليس كلّ حفر بئر يؤدي إلى العثور على الكنز» وإن كان الحفر في حالة خاصة قد أدّى إلى الوصول إلى تلك النتيجة.

وأمّا جواب الشطر الثاني من السؤال فهو :

إنّ تفسير الحوادث التاريخية من خلال الصدفة يتماشى مع التفسير الثالث للصدفة ، فعلى سبيل المثال : يذكر المؤرخون في سبب نشوب الحرب العالمية الأُولى : انّ الحرب نشبت على أثر اغتيال ولي عهد النمسا ، ممّا أدّى إلى إشعال فتيل الحرب في أُوروبا بأسرها ثمّ العالم ، وهذا يعني أنّ حدثاً صغيراً قد وقع والذي قتل على أثره أحد الأُمراء ، سبّب وقوع تلك الفاجعة العظيمة في العالم.

فهنا إطلاق الصدفة يراد منه أنّه وبسبب بعض الشروط والأسباب الخاصة

١٠٥

في المنطقة ، اشتعل فتيل الحرب ، وصار ذلك الحدث ذريعة لدخول الجيوش ميدان القتال وساحات الحرب واتّساع نطاقها ليشمل جميع العالم. ولكن هذا الحدث الناتج من قتل الأمير النمساوي ، لا يمكن اعتباره قانوناً كلّياً وضابطة عامة لنشوب حروب عالمية ، لأنّه طالما قتل أُمراء وأولياء عهد في العالم ومع ذلك لم تحدث في العالم أدنى ردّة فعل ولو يسيرة جداً ، فضلاً عن حدوث تلك الفاجعة العظيمة.

وبالطبع أنّه كان يختفي وراء نشوب الحرب العديد من الأسباب والشروط الكثيرة من الاضطراب والفوضى السياسية والاقتصادية ، والتضاد الفكري ، التي برمّتها تمثّل الأرضية الأساسية للحدث وأنّ قتل ولي العهد لا يعدو عن كونه مثّل الفتيل والصاعق الذي فجر مخزن المتفجرات لا غير.

الصدفة التاريخية

حدّثنا التاريخ عن الكثير من الوقائع والحوادث ومصير الأُمم السالفة ، التي من الممكن تفسيرها على أساس الصدفة بالمعنى الثالث ، ويوجد في هذا المجال كم هائل من القصص بحيث لا يمكن الركون إليها جميعاً والاعتماد عليها ، كذلك لا يمكن لنا نقل القسم الأكبر منها هنا ، لأنّ ذلك خارج عن رسالة الكتاب ، ولكن نكتفي بذكر قصتين منها فقط :

١. حاصر عماد الدولة الديلمي مدينتي اصفهان وفارس وأخرج منهما ممثل الخليفة وواليه. ولكن واجهته مشكلة خطيرة جداً كادت أن تخلق له أزمة حقيقية وهي نفاد الخزينة التي أعدّها للحرب والمواجهة ، ولذلك أقلقه هذا الأمر جداً خوفاً من أن يشعر الجنود بخلو الخزينة ونفادها ، ممّا يضطرهم إلى الاعتداء والتجاوز على أموال الناس وممتلكاتهم الأمر الذي يولّد ردة فعل لدى

١٠٦

الجماهير لا تحمد عقباها أبداً. فأخذ يفكر في الأمر جلياً ليرى ما ذا يفعل لمعالجة هذه الأزمة الخطيرة ، فرفع رأسه إلى سقف الدار وإذا بأفعى تخرج رأسها من فجوة ثمّ تختفي وراءها ، وهكذا تكررت الحالة أكثر من مرّة ، فأمر عماد الدولة الديلمي جنوده بإزالة سقف الدار ومتابعة أمر هذه الأفعى ، فامتثل الجنود أوامره وتابعوا مسير الأفعى وإذا بهم يعثرون على خزين من العملة الذهبية القاجارية والتي كانت يطلق عليها لفظ (أشرفي) كان قد أعدّها حاكم الولاية السابق ليوم بؤسه وفاقته ، فكانت من نصيب عماد الدولة وجيشه.

٢. القصة الثانية في هذا المجال : انّ الأمير الساماني إسماعيل حينما هاجم «هراة» نفدت خزينته ، ولكي لا يعتدي الجنود على أموال الناس أمر الجيش أن يعسكر خارج المدينة ، فامتثل الجيش أوامره وخرجوا من دون تحديد الجهة والمكان الذي يريدون النزول بها ، فإذا بهم يرون في السماء غراباً يحمل في منقاره قلادة ، تابعوا الغراب وإذا به يضع تلك القلادة في بئر ، فنزل الجنود إلى أسفل البئر فوجدوا صندوقاً من المجوهرات ، اتّضح فيما بعد أنّ غلمان الأمير الصفاري عمرو بن ليث قد سرقوه من الخزينة أيام المحنة وألقوه في هذا المكان ، ولكنّهم لم يوفّقوا لإخراجه والاستفادة منه.

إنّ هاتين القصتين وغيرهما من القصص تُعدّ من الحوادث الاستثنائية التي لا يمكن اعتبارها أساساً كليّاً للحركة والعمل ، ولا يمكن أبداً بناء الحياة والتحرك السياسي أو العسكري اعتماداً على هذا النوع من الصدف ، بل الأُمم والشعوب الحيّة والواعية تحل مشكلاتها على أساس التدبير والحكمة والتخطيط الدقيق ، ولا تركن إلى الصدفة وظهور كرامات الأولياء والصالحين ، بل تعتمد الجد والمثابرة للتغلّب على المصاعب وحلّ عقد الحياة التي

١٠٧

تواجههم ، لأنّهم يدركون جيداً أنّ العالم يبتني على سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية ، وانّ المجتمع الإنساني ملزم ـ لنيل مطالبه ـ أن يطرق باب تلك العلل والأسباب ويلج هذا الطريق للوصول إلى أهدافه ومقاصده.

إنّ الأنبياء العظام والأولياء الصالحين لم يركنوا في حياتهم ـ الفردية أو الاجتماعية ـ على المعجزة والكرامة ، وما شابه ذلك ، بل كانوا ـ بالإضافة إلى الركون إلى فضله سبحانه وكرمه ـ يعدّون العدّة لكلّ شيء ، ويجدّون في العمل والمثابرة وبذل أقصى الجهود لنيل أهدافهم ، وحتّى في الحالات التي تتأزّم فيها الأُمور وتبلغ القلوب الحناجر وتحبس الأنفاس في الصدور وتوصد جميع الأبواب والسبل ، نجدهم عليهم‌السلام لا ينهزمون ولا ينحنون أمام تلك العواصف ، بل يتوجّهون إلى ربّهم بالدعاء والتوسّل ـ التي تعد أيضاً من الأسباب الطبيعية التي ينبغي التمسّك بها ـ ولذلك يعتمدون على الله وعلى أنفسهم وجهودهم ، ولا ينتظرون من الآخرين حلّ المشاكل والأزمات لهم انطلاقاً من المثل العربي السائد «نفس عصام سوّدت عصاما ...».

إنّهم عليهم‌السلام لا يعتمدون في ساحة الجهاد والحرية والاستقلال على الصدفة ، ولا يركنون إلى الأمل والتمنّي في أن تقع معجزة ما تحل لهم المشكلة. كلا أنّ ذلك لم يكن منهج الأنبياء والرسل والصالحين.

ثمّ إنّ القرآن الكريم يؤكد أنّ السعادة من نصيب الناس الذين يكون إيمانهم مقترناً بالعمل الصالح والجد والمثابرة ، وليس اعتباطاً أن تتكرر جملة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ثلاث وستين مرّة ، حيث تقرن الإيمان بالعمل ، وكأنّ الإيمان الحقيقي هو ذلك الإيمان المستتبع للعمل والجد والنشاط. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١ / ٣٤٥ ـ ٣٥٠.

١٠٨

٨٧

التركيب بين أصالة الفرد وأصالة المجتمع

سؤال : كيف يتسنّى لنا أن نذهب إلى أصالة الفرد والمجتمع في آن واحد؟ وكيف يمكن التركيب بين هذين الأصلين؟

الجواب : في البدء لا بدّ من الإشارة إلى نكتة مهمة وهي انّ النظرية الإسلامية تذهب إلى أصالة الفرد والمجتمع معاً ، وترى أنّ لكلّ منهما واقعية وحقيقة ، فلا تتبنّى النظرية الإسلامية أصالة الفرد بصورة محضة بنحو لا ترى للمجتمع أي وجود حقيقي ولا قانون ولا سنّة ، ولا انّه قابل للإدراك والمعرفة ، وانّ مصير الفرد متميّز مائة بالمائة عن مصير الأفراد الآخرين ؛ وكذلك لا تتبنّى أصالة المجتمع المحضة بنحو لا وجود إلّا للروح والشعور والإرادة الجماعية فقط ، وانّ شعور الفرد ووجدانه إنّما هو نموذج للوجدان الجماعي ، وانّ الفرد في هذا الخضم مسلوب الإرادة وفاقد للحرية والاختيار.

بل الإسلام تبنّى حلاً وسطاً واختار طريقاً معتدلاً بين النظريتين. فهو يرى أنّ للمجتمع وجوداً حقيقياً ومصيراً واقعياً وانّه قابل للإدراك والمعرفة. وفي نفس الوقت يرى أنّ للفرد شخصيته وحريته واختياره وإرادته ، وحينئذٍ لا بدّ من تسليط

١٠٩

الضوء على كيفية ذلك التنسيق ، وكيف نتصوّر أنّ للمجتمع وجوداً خاصاً وعينية مستقلة غير وجود الفرد وعينيته واستقلاله؟

وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لا بدّ من أن نعرّج لبيان وتوضيح أنواع التركيب :

١. المركّب الحقيقي الكيمياوي

المراد من التركيب الحقيقي هنا هو : انّ أجزاء مركّب ما تؤثر بعضها في البعض الآخر وتنتج ظاهرة جديدة بماهية جديدة بنحو تذوب أجزاء المركب بعضها في البعض الآخر وتدغم بصورة تفقد تلك العناصر شخصيتها وآثارها الخاصة بها. فعلى سبيل المثال : التركيب بين عنصري «الكلور» و «الصوديوم» يؤدّي إلى وجود مادة جديدة هي كلوريد الصوديوم فيذوب كلّ من العنصرين ويفتقد أثره في المركب الجديد.

٢. المركب الحقيقي الصناعي

إنّ التركيب الصناعي ـ الذي هو أحد أنواع التركيب الحقيقي ـ يتم من خلال الربط بين أجزاء وقطع آلة معينة بنحو إذا حدث خلل أو عطب في أحد هذه القطعات والأجزاء فإنّه سيؤثر وبصورة أُوتوماتيكية على القطعات والأجزاء الأُخرى ويوقفها عن العمل أيضاً.

نعم الفارق الأساسي بين المركب الطبيعي ـ الكيمياوي ـ والصناعي انّه في المركب الطبيعي الأجزاء تفقد ذاتها أوّلاً ثمّ تفقد أثرها وتذوب ـ ذاتاً وأثراً ـ في المركّب ، ولكن في المركّب الصناعي تبقى الأجزاء محافظة على شخصيتها ووجودها ولكنّها تفقد استقلاليتها في التأثير ، ولذلك نرى أنّ الأثر الحاصل في المركب

١١٠

الصناعي هو نتيجة مجموع آثار لكلّ جزء جزء بصورة مترابطة.

فعلى سبيل المثال آلة النقل التي تنقل مجموعة من الناس من نقطة إلى أُخرى ، فإنّ هذا النقل لا هو نتيجة جزء واحد من أجزاء تلك الآلة بصورة مستقلة ، ولا هو نتيجة مجموع التأثيرات للأجزاء بصورة مستقلة وغير مترابطة ، وإنّما هو وليد تأثير الجميع حال كونها مترابطة فيما بينها.

٣. المركب الاعتباري

إنّ المراد من هذا النوع من التركيب هو التركيب الذهني والوحدة الاعتبارية المبتنية على أساس بعض الاعتبارات والملاحظات ، حيث ينتج الذهن من خلال مجموعة من الأُمور المستقلة صورة جديدة ومفهوماً جديداً ، مثلاً : عند ما يجتمع عدد من الأفراد على مائدة واحدة في مكان واحد ينتج الذهن من هذه الحالة عنواناً مستقلاً يطلق عليه مفهوم «الضيافة» ، وهكذا الأمر حينما ينظر الذهن إلى مجموعة كبيرة من الناس تخرج بمسيرة واحدة مردّدين شعاراً موحداً ، فإنّ الذهن ينتج من خلال ضم الأفراد بعضها إلى البعض الآخر مفهوماً جديداً ووجوداً جديداً يطلق عليه اسم «المسيرة السياسية» مثلاً ويعدّ جميع الأفراد مجتمعاً واحداً.

بعد أن عرفنا أنواع التركيب الثلاثة ننتقل إلى النقطة الثانية وهي : معرفة المركب الاجتماعي ، وانّه من أيّ أنواع التركيب المذكورة؟

تارة يتصوّر انّ التركيب الاجتماعي هو من نوع المركّب الاعتباري فيكون أفراد المجتمع حالهم حال أفراد الفوج العسكري الذي يجمعهم عنوان (الفوج) ، وحينئذٍ تتكون له وحدة وعنوان خاص ، أو انّ حال أفراد المجتمع حال

١١١

مجموعة من الأفراد الذين يجتمعون لغرض استماع خطبة أو محاضرة وبعد انتهاء الخطاب أو المحاضرة يتفرقون ، ولا ريب أنّ هذه الاجتماعات لا تخلق وحدة حقيقية أو مركباً حقيقياً أو صناعياً ، بل أقصى ما يوجد هو التركيب الذهني والفكري لا غير.

وقد يتصوّر انّ التركيب الاجتماعي هو تركيب ميكانيكي آلي ، وذلك باعتبار انّ التركيب الميكانيكي أو المركب الصناعي ، أحد أنواع المركّب الحقيقي وإن لم يكن طبيعياً ، فالمركّب الصناعي كتركيب الماكنة التي ترتبط جميع أجزائها وقطعاتها بعضها مع البعض الآخر مع وجود فارق واحد بين المركب الطبيعي والصناعي ، وهو انّه في المركب الطبيعي تفقد الأجزاء هويتها وتذوب في المركّب ، ولكن في المركّب الصناعي تحتفظ الأجزاء بشخصيتها وهويتها ، ولكنّها تفقد استقلاليتها أوّلاً ثمّ تفقد تأثيرها ثانياً ، إذ ترتبط الأجزاء فيما بينها في المركّب الصناعي بنحو تكون آثارها مرتبطة بعضها بالآخر فأيّ تحول في أحد الأجزاء سينعكس على الأجزاء الأُخر ، مثل كفّتي الميزان إذ التحوّل في أحدها يسبب التحوّل في الكفّة الثانية وبعد أن يتمّ التركيب الصناعي تظهر نتيجة وأثر خاص ليس هو عين أثر الأجزاء والقطعات بصورة مستقلة.

إنّ نفس هذا التصوّر ـ المركّب الصناعي ـ يمكن تصوّره في المركب الاجتماعي ، وذلك لأنّ المجتمع يتشكّل من مؤسسات وهيئات أصلية وفرعية تمثّل مفاصل المجتمع ، وترتبط هذه المؤسسات والأفراد بعضها بالبعض الآخر ، بحيث يكون التغيير أو التحوّل في أي مؤسسة ـ سواء كانت ثقافية أو دينية أو اقتصادية أو سياسية أو تربوية أو قضائية ـ موجباً للتحوّل والتغيير في المؤسسات الأُخرى ، وبهذا تظهر إلى الوجود ظاهرة جديدة هي الحياة الاجتماعية ـ باعتبار كونها أثراً

١١٢

قائماً في الكلّ ـ ولكن من دون أن يفقد الأفراد هويتهم وشخصيتهم الخاصة بهم. (١)

ويمكن أن نشبه التركيب الاجتماعي بأفراد المسرح الواحد ، حيث إنّ قسماً منهم يقوم بدور الممثّلين والقسم الآخر يقوم بدور المشاهدين والمتفرجين ، ولكنّهم باجتماعهم في مكان واحد ـ جميعاً ـ أفراد مسرح واحد بصورة أُوتوماتيكية.

الرؤية القرآنية للوحدة الاجتماعية

إنّ الرؤية القرآنية للتركيب الاجتماعي بنحو آخر ، إذ يمكن القول : إنّ القرآن يرى المركب الاجتماعي من قبيل المركب الحقيقي لا الاعتباري ولا الصناعي ولا المركّب الكيمياوي ، بل هو تركيب خاص لا نظير له ، وإنّ العناصر التي تتّحد في المجتمع وتتركّب ليست هي هياكل الأفراد وأجسامهم ، بل الذي يتّحد هو : الأفكار والعواطف والميول والرغبات ، والإرادات ، وبالنتيجة يكون النسيج تركيباً اقتصادياً ، سياسياً ، مذهبياً تربوياً ، ولا ريب أنّ هذا النسيج والمركب لا نظير له ولا مثيل ، وذلك لأنّه حينما يتّحد الأفراد بطاقاتهم الفطرية والمكتسبة وينزلون إلى ساحة الحياة الاجتماعية ، فإنّ كلّ واحد منهم يؤثر تأثيراً مباشراً في الجهات الروحية لبقية الأفراد ، يفعل وينفعل ، وحينئذ يكتسب المجتمع روحاً واحدة.

إنّ المجتمع الإنساني ـ وفقاً لقوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مجتمع مؤسساتي ، بمعنى أنّه في الوقت الذي يكون فيها للأفراد شخصيتهم واستقلالهم ، بنحو يمكن أن يقوم بعضهم ضد البعض الآخر ، ولكن مع ذلك

__________________

(١). جامعة وتاريخ : ١٧ ـ ١٨.

١١٣

كلّه يكون الحاكم عليهم روح المجتمع الذي يمكن أن يسخر الجميع له ، ويكون كلّ فرد بمنزلة الخلية في الجسم ، فيكون المجتمع حينئذٍ موجوداً حيّاً له حياة وعمر وأجل معين خاصّ به ، وانّ هذه الوحدة وهذه الحياة خاصة به ولا يشابهه فيها أيّ مخلوق آخر ، وانّ هذه الوحدة وحدة حقيقية صرفة ولا شائبة فيها أبداً للوحدة المجازية.

إنّ النظرية القرآنية في خصوص أصالة المجتمع تشبهها بعض النظريات الاجتماعية كنظرية العالم الاجتماعي «دوركهيم» حيث يرى «أنّ للمجتمع تشخّصاً ووجوداً وحياة وأصالة» مع وجود تفاوت بين النظريتين حيث إنّه يميل كثيراً نحو أصالة المجتمع إلى حدٍّ يرى اعتبارية الفرد ، فلا يستحقّ الاهتمام والالتفات إليه ، بل ينبغي أن يلقى جانباً ، ولكن الرؤية القرآنية بالإضافة إلى الاعتقاد بأصالة المجتمع ترى أنّ للفرد واقعية واستقلالاً وأصالة واختياراً ، ولذلك ترى أنّ المركّب الاجتماعي مركّب حقيقي وليس طبيعياً ولا صناعياً فضلاً عن كونه اعتبارياً.

فكلّما قلنا : إنّ للمجتمع أصالة فإنّ لازم ذلك ـ وبصورة قهرية ـ أن تحفظ روح المجتمع وشخصيته ووحدته ، كخلايا البدن الإنساني تموت وتتغيّر بصورة طبيعية ، ولكن مع ذلك يبقى بدن الإنسان وهيكله سالماً.

خلاصة القول : إنّ الروابط والعلاقات بين أجزاء المجتمع الإنساني ليست من قبيل العلاقة بين اللاعبين ، والمتفرجين في الألعاب الأُولمبية ، الذين يجتمعون صباحاً وبعد إجراء سلسلة من الألعاب الرياضية ينفض الجميع ويذهب الكلّ إلى مكانه الذي جاء منه ، كما أنّها ليست من قبيل أعضاء قافلة سياحية تجتمع في مكان ما لتكسب قسطاً من الراحة ثمّ ينهض

١١٤

الجميع ليتوجّه كلّ منهم إلى الجهة التي يقصدها ولكنّه يحدث في الطريق حدث مفاجئ ومريع يؤدي إلى اجتماعهم مرّة أُخرى ، بل انّ العلاقات والروابط والأواصر الاجتماعية أسمى من ذلك ، إذ تحكمها روح واحدة هي روح المجتمع.

إنّ القرآن يذهب بعيداً جداً إلى أصالة المجتمع وواقعيته إلى حدّ يرى أنّ المجتمع مسئولاً عمّا يقوم به من أعمال ، وهذا ما أكّده قوله سبحانه :

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١). (٢)

__________________

(١). البقرة : ١٣٤ و ١٤١.

(٢). منشور جاويد : ١ / ٣٣١ ـ ٣٣٧.

١١٥

٨٨

أصالة الفرد أو المجتمع

سؤال : من البحوث التي كثر تداولها في المصنّفات التي تبحث في مجال فلسفة التاريخ أو علم الاجتماع مسألة أصالة الفرد أو أصالة المجتمع ، ما المراد من ذلك؟ وهل هناك بُعدٌ ثالث؟ وما هي النظرية الإسلامية في هذا المجال؟

الجواب : انّ طبيعة الحياة الاجتماعية للإنسان تقتضي أن ترتبط حياته ـ وبنحو ما ـ بالمجتمع الذي يحيا فيه ، ولكن البحث عن نوعية هذه العلاقة وحقيقتها وما هو شكلها؟ وقد ذكرت هنا مجموعة من النظريات المختلفة ونحن نشير هنا إليها بصورة مختصرة.

الف : أصالة الفرد

المراد من أصالة الفرد هو أنّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية ينبغي أن يكون بنحو لا تتوجّه إلى حياة الفرد وشئونه الشخصية فيه أيّة ضربة ، ولا تشكل الحياة الاجتماعية أيّة مزاحمة أو مضايقة لوجوده وحرّياته الفردية ، وليس المجتمع ـ وفقاً لهذه النظرية ـ في الواقع إلّا مجموعة من الأفراد ، وانّ

١١٦

العامل الأساسي والسبب الرئيسي لهذا الاجتماع وهذه العلاقات والحياة الاجتماعية هو تأمين وتلبية متطلبات وحاجات الفرد ، والوصول إليها في ظل الحياة الاجتماعية لا غير.

وإذا ما أقدم الإنسان على سن سلسلة من القوانين والمقرّرات لتوفير النظام الاجتماعي والخضوع لها ، فانّما يفعل ذلك لسبب أساسي وهو انّه يبغي من خلال هذه المقررات والرضوخ لها الوصول إلى مصالح أكبر ومنافع أفضل.

إذن وفقاً لهذه النظرية يكون فساد المجتمع هو في الحقيقة وليد فساد الفرد ، كما أنّ إصلاح المجتمع يتحقّق من خلال إصلاح الفرد لا غير.

خلاصة القول : إنّ الفاعل والمحرك في جميع الميادين هو إرادة الفرد وميوله ورغباته ومصالحه ، وانّه انّما يقوم بإنشاء نظم وقوانين ليتسنّى له من خلالها وتحت غطائها الوصول إلى مقاصده وميوله الشخصية الكبرى.

ب : أصالة المجتمع

المراد من أصالة المجتمع هنا أنّ الحياة الفردية للإنسان تابعة وخاضعة للمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه ، وذلك لأنّ الإنسان إذا كان خاضعاً للمحيط الطبيعي الذي يعيش فيه من عدّة جهات ، فلا ريب أنّه كذلك يقع تحت قبضة المحيط الاجتماعي من عدّة جهات أيضاً.

وبعبارة أوضح : انّ الشيء الذي له تحقّق وواقعية وعينية في الخارج هو المجتمع والإنسان الاجتماعي لا الإنسان المستقلّ عن الآخرين ، وانّ ما نراه في الواقع هم الناس الاجتماعيون الذين تربطهم علاقات وروابط اجتماعية ويحيون بصورة جماعية.

وبعبارة أُخرى : كما أنّ النظام الطبيعي تشكّل فيه الظواهر الطبيعية جزءاً

١١٧

من النظام العام وليس لها استقلالية خاصة ، فعلى سبيل المثال الأرض تعتبر جزءاً من المنظومة الشمسية وانّ ظواهر الأرض داخلة ضمن النظام العام لتلك المنظومة ، كذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان فإنّ كلّ فرد من أفراد النوع الإنساني إنّما هو جزء من المجتمع وتابع له ، وإذا ما كانت للفرد رؤية أو إرادة أو غنى أو ما شابه ذلك ، فليس ذلك إلّا انعكاساً لصدى المجتمع والعوامل الاجتماعية.

إنّ مثل الفرد في المجتمع الإنساني مثل الخلية في الجسم ، إذ من الصحيح انّ للخلية حياة ونشوءاً وشكلاً خاصاً بها ، ولكنّها في نفس الوقت تابعة وخاضعة في حالات الاعتدال والانحراف والصحّة والمرض إلى البدن التي تُعد جزءاً منه ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفرد في المجتمع حيث إنّه يسير ويتحرك بالاتجاه الذي يسير ويتحرك فيه المجتمع.

إنّ أصحاب هذه النظرية يذهبون تارة ما إلى حدّ بعيد جداً حيث يرون أنّ الفرد تابع للمجتمع وخاضع له بدرجة مائة بالمائة ، وانّه لا سبيل أمامه إلّا الحياة ضمن إطار المجتمع ، وأنّ إصلاح الفرد وسداده لا يتم ، إلّا من خلال إحداث انقلاب وتحوّل في المجتمع ، فإذا ما أردنا أن نصلح الفرد فلا بدّ من إحداث انقلاب في النظام الفاسد أوّلاً لكي يتسنّى لنا من خلال ذلك إصلاح الفرد.

نعم هناك نظرية ثالثة يمكن طرحها هنا. وهذه النظرية في الواقع تمثّل منهجاً معتدلاً بين النظريتين السابقتين ، وهذه النظرية تؤيدها روح التعاليم الإسلامية ، ويمكن أن نطلق عليها أنّها مزيج من «أصالة الفرد وأصالة المجتمع».

إنّ القرآن الكريم يؤكد أنّ للمجتمع الإنساني ـ وبالإضافة إلى البعدين المذكورين ـ بُعداً ثالثاً ، وهو ما نطلق عليه اسم «البعد العالمي» أو «البعد

١١٨

الإلهي».

وخلاصة ذلك : انّ عالم الوجود لا يقف موقف اللامبالاة من عمل الإنسان وتصرّفاته ، بل انّ عمل الإنسان وتصرفه يستدعي ردة فعل مناسبة من قبل عالم الوجود فالعمل الصالح يستدعي ردة فعل حسنة ، والسيّئ ردة فعل سيّئة ، فالحسنة تجزى بالحسنة والسيّئة بالسيّئة.

توضيح ذلك : أنّ جميع الاتّجاهات الفكرية ، تنظر إلى العالم ـ باستثناء الإنسان وباقي الحيوانات ـ على أنّها وجودات جامدة فاقدة للشعور والإدراك ، ويرون أنّ موقف العالم بالنسبة إلى الأعمال الصالحة والحسنة هو موقف اللامبالاة ، فسواء قام الإنسان بالأعمال الحسنة أو اقترف الموبقات والسيّئات فلا يحدث ذلك أيّ ردة فعل من قبل الأرض ولا من قبل السماء ، فلا فرق بالنسبة إلى المجتمع بين ظلم الحكام وعدوانهم واستهتارهم بالقيم وتهوّرهم وبين عدل الصالحين والطاهرين واستقامتهم.

إلّا أنّ النظرية القرآنية على العكس من ذلك تماماً حيث يرى القرآن الكريم أنّ جميع الموجودات ذات شعور وإدراك خاص ، وأنّ العالم لا يعيش حالة اللامبالاة بالنسبة إلى عمل الإنسان وتصرفاته. كما أنّ القرآن الكريم يعتقد أيضاً انّ هذا البُعد من أبعاد المجتمع غير قابل للإدراك من خلال مرآة القلب فقط ، يقول سبحانه :

(... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ...). (١)

ولكن ما هي كيفية هذا الإدراك والشعور ، وكيفية هيمنته على العالم؟ وما هو

__________________

(١). الإسراء : ٤٤.

١١٩

نوع العلاقة بين العمل الصالح والطالح للإنسان وردة الفعل الكونية الصالحة والسيّئة؟ انّ كلّ ذلك من الأُمور الخفية التي لا سبيل لنا لإدراكها إلّا من خلال طريق واحد وهو الذي عبّرت عنه الآية : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...) (١) وإن كانت حقيقة ذلك بالنسبة إلينا واضحة وجلية ، ولكن الكلام في الكيفية ونوع العلاقة.

وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تشهد على وجود هذا البعد الثالث نذكر منها على سبيل المثال :

١. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (٢)

فالآية صريحة في أنّ لأعمالنا الحسنة والسيّئة تأثيراً في فتح أبواب رحمة الله سبحانه وإغلاقها ، وفتح وغلق بركات السماوات والأرض ، كما أنّ الإنسان لم يتوصّل بالفعل إلى جميع علل وأسباب وأسرار العالم حتّى يمكنه حينئذٍ إنكار تأثير تلك الأعمال وعلّيتها.

يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كثر الزنا ، كثر موت الفجأة» ، ولا ريب انّ الإنسان لم يدرك حتى الآن العلاقة بين الزنا وبين الموت المفاجئ ـ أو ما يصطلح عليه علمياً السكتة القلبية أو الدماغية ـ ولا طريق للإنسان لكشف هذه الحقيقة المجهولة إلّا من خلال الوحي الذي يقدر على إزاحة الستار عنها وكشف الحقيقة التي لم يتمكّن العلم ـ مع تطوره الفائق ـ إلى الوصول إليها ،

__________________

(١). البقرة : ٣.

(٢). الأعراف : ٩٦.

١٢٠