الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

الحسيني والمسيح عليه‌السلام تلك القدرة بلطفه ومنّه.

ثمّ إنّ نفس هذا الكلام يجري في الإجابة عن مسألة التوسّل بالأرواح المقدّسة لأولياء الله الذين ضمّت الأرض أجسادهم الطاهرة ، وأرواحهم فإنّها حيّة في عالم الغيب.

ولأُستاذنا الإمام الخميني قدس‌سره في هذا المجال كلام يسلّط الضوء فيه على حقيقة الأمر، نأتي بخلاصته : إذا اعتقدنا ألوهية أحد ، أو اعتقدنا أنّ له القدرة على التأثير بصورة مستقلّة ، وتوسّلنا به لقضاء حاجاتنا اعتماداً على هذا المعتقد ، فلا شك انّنا حينئذٍ قد وقعنا في الشرك. ولكن لو طلبنا حاجتنا ونحن نحمل اعتقاداً مغايراً لذلك ، وذلك بأن اعتقدنا أنّ الله القادر على كلّ شيء قد منح التراب تلك الخصوصية إكراماً للإمام الذي أُريق دمه وضحّى بكلّ وجوده وكيانه من أجل الدين الحنيف ، فلا شكّ أنّه لا توجد أيّ شائبة شرك في فعلنا هذا.

فإذا قال العبد : إنّ الله الذي منح الدواء القدرة على الشفاء ، هو نفسه الذي منح التراب الذي أُريق عليه دم سيد الشهداء المظلوم تلك القدرة على الشفاء ، فيستحيل أن نصف عمله واعتقاده هذا بالشرك ، وأن نصف ما توسّل به أنّه [إله] له يعبده من دون الله. (١)

وما نقرأه في المعارف الإسلامية العالية : «إنّ الله هو المسبّب والمعطّل».

فإنّ المقصود من ذلك أنّ الله سبحانه فتارة يمنح الظاهرة خاصية التأثير ، وتارة أُخرى يسلب منها ذلك الأثر. فتارة يمنح التراب الأسود أثراً خاصاً بحيث إذا امتزج مع الحلّي أن يكون عِجلاً له خوار ، كما جاء ذلك في قصة السامري

__________________

(١). كشف الأسرار : ٥٣.

٦١

حينما سأله موسى عليه‌السلام عمّا فعله (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ). (١) فأجابه السامري بقوله : (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي). (٢)

فعلّل السامري عمله هذا بأنّه أخذ قبضة من أثر الرسول فعالج بها مطلوبه ، فعاد العجل له خوار.

إذاً فليس عجيباً من الله تعالى الذي منح قبضة التراب التي مرّت عليها أقدام الرسول الحيّ موسى عليه‌السلام هذه القدرة العجيبة أن يمنح التراب ـ الذي أُريق عليه أزكى وأطهر دمٍ ، ألا وهو الدم الخالد لسيد الشهداء عليه‌السلام والعصابة المؤمنة التي أُريقت دماؤهم على تلك التربة ـ القدرة على الشفاء تحت شرائط خاصة ، فلا يُعدّ ذلك أمراً عجيباً ، بل أنّ التمسك بمثل ذلك المعتقد يعتبر عين التوحيد ؛ وتارة أُخرى نجد أنّ الله سبحانه قد منح قميص يوسف ذلك الأثر العجيب بحيث بمجرد أن أُلقي على وجه أبيه يعقوب عليه‌السلام ارتدّ بصيراً ، وهذا ما تحدّثنا عنه الآية المباركة : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ...). (٣)

وعلى هذا الأساس فلا منافاة بين التوحيد وبين التوسّل بالأسباب وإن كانت غير طبيعية.

ثمّ هل من الصحيح مع ملاحظة تلك النماذج التي تطرق لها القرآن الكريم عدّ التوسّل بالأسباب غير الطبيعية سبباً للشرك وعبادة لغير الله؟!

__________________

(١) «. طه : ٩٥.

(٢). طه : ٩٦.

(٣). يوسف : ٩٦.

٦٢

إنّ التوسّل بالأرواح المقدّسة والاستمداد بالنفوس الطاهرة الخالدة عند ربّها نوعٌ من التمسك بالأسباب غير الطبيعية ، وأمّا البحث عن أنّ هذه الأرواح والنفوس هل في مقدورها أن تغيث من يستغيث بها أو لا؟ فهو خارج عمّا نحن بصدده الآن ، فإنّ ما يهمّنا هنا هو البحث عن مسألة التوسّل بتلك الأسباب غير الطبيعية ، هل تنسجم مع التوحيد في العبادة ، أو أنّها نوع شرك؟

فإذا اعتقد الإنسان ولسبب ـ صحيح أو غير صحيح ـ أنّه في حالة عجز الأسباب الطبيعية عن تلبية مراده فإنّ الله سبحانه قد منح الأرواح المقدّسة القدرة على حلّ المشكلات بإذن الله تعالى ، وأنّه يستطيع من خلال الاعتماد على العامل الغيبي حلّ مشكلاته ، إنّ هكذا اعتقاد يستحيل أن يُعدّ شركاً وثنويةً في العبادة ، نعم هناك بحثٌ آخر : هل أنّ هذا الاعتقاد صحيح أو غير صحيح؟ لسنا بصدد البحث عن هذه المسألة فعلاً ، ويمكن بحثها في مجالٍ آخر. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٢ / ٤١١ ـ ٤١٧.

٦٣

١٦

طلب الشفاعة من غير الله سبحانه

سؤال : هل طلب الشفاعة من غيره سبحانه يُعدّ عملاً محرّماً؟

الجواب : من الأدلّة التي تمسّك بها الوهابيّون لتحريم طلب الشفاعة من أولياء الله أنّهم قالوا : إنّ القرآن الكريم قد نهى عن دعاء غير الله سبحانه ، وإنّ طلب الشفاعة من غيره سبحانه يُعدُّ نوع دعاءٍ وطلب من غيره ، قال تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً). (١)

فإذا كان دعاء غير الله أمراً محرّماً ، ومن جهةٍ ثانية كانت الشفاعة حقّاً ثابتاً لأولياء الله ، فإنّ طريق الجمع هو أن نطلب الشفاعة من الله لا من الأولياء ، ثمّ قالوا : والشاهد على أنّ هذا النوع من الدعاء ، عبادة ، الآية التالية :

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ). (٢)

فإذا أمعنّا النظر نجد أنّ الآية في بدايتها استعملت لفظ الدعوة وفي آخرها استعملت لفظ العبادة ، وهذا شاهد على أنّ مفهومي الدعوة والعبادة يعتبران مفهوماً واحداً.

__________________

(١). الجن : ١٨.

(٢). غافر : ٦٠.

٦٤

وقد ورد في كتاب «إرشاد القلوب» والكتب الأخلاقية الأُخرى : «الدُّعاء مُخّ الْعِبادَة». هذه هي الشبهة التي أثارها الوهابيون. (١)

جواب الشبهة

أوّلاً : ليس المقصود من تحريم دعاء غير الله في قوله سبحانه : (فَلا تَدْعُوا) تحريم مطلق دعاء غير الله ، بل المنهي عنه عبادة غيره سبحانه ، بشهادة صدر الآية حيث يقول سبحانه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ، فهذه الجملة دليل على أنّ المقصود في الآية هو النهي عن دعاءٍ خاص كان يُعدّ ملازماً للعبادة ، والنهي عن القيام المقترن بالذلّة والخضوع غير المتناهيين مقابل من يعتقد أنّ إدارة العالم بيده وأنّه الحاكم المطلق في الخلق. (٢)

ولا شكّ أنّ هذه القيود غير موجودة في طلب الشفاعة من إنسان يعتقد أنّ الله أعطاه حقّ الشفاعة بإذنه سبحانه.

ثانياً : إنّ الّذي حُرّم في الآية المباركة هو أن ندعو مع الله غيره ، وأن نعتبر المدعو في رتبة الله سبحانه ، ويوضح ذلك بجلاء قوله تعالى : (مَعَ اللهِ) ، فإذا توسّل إنسان بشخص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طالباً منه أن يدعو له ربّه ليغفر له ذنوبه أو يقضي له حاجته ، فإنّ ذلك الإنسان بلا شكّ ولا ريب لم يدعُ (مع الله) أحداً ، بل في الواقع أنّ هذا الدعاء لا يخرج عن كونه دعاءً لله وحده.

نعم إذا عُدَّ التوسّل وطلب الحاجة من الأوثان نوعاً من الشرك ، فإنّما ذلك بسبب أن المشركين كانوا يعتقدون أنّ الأوثان قادرة على تلبية حاجاتهم وتوفير

__________________

(١). إرشاد القلوب للديلمي : ١٣٥.

(٢). في الواقع أنّ معنى الآية هو : فلا تعبدوا مع الله أحداً كما ورد في قوله سبحانه : «ولا تدعوا مع الله إلهاً آخر».

٦٥

متطلّباتهم ، والحال أنّها في الواقع أعجز من أن تفعل شيئاً لنفسها فضلاً عن غيرها ، ولذلك ذمّ القرآن الكريم اعتقادهم هذا بقوله : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ). (١)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ...). (٢)

وبعبارة مختصرة : إنّ المشركين اعتقدوا أنّ الأوثان تمتلك القدرة الخارقة على الفعل ، ولذلك وقفوا أمامها بمنتهى الذلّة والخضوع ، مستمدّين منها العون لقضاء حوائجهم ، ومعتقدين أنّها الفاعل التام والمتصرف المطلق في عالم الخلق.

وبالطبع أنّ طلب الحاجة بهذا النحو من الاعتقاد يعدّ وبلا شكّ ولا ريب حراماً قطعاً وشركاً جليّاً لا يمكن الفرار منه.

وأمّا الدعاء وطلب الشفاعة من شخص قد منحه الله ذلك المقام فلا يُعدُّ شركاً ، لعدم توفر شروط الشرك فيه.

ثالثاً : إنّ للدعاء معنىً وسيعاً وشاملاً ، وأحياناً يطلق على العبادة على نحو الاستعمال المجازي ، كما في قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ...). (٣)

وكما ورد في الحديث : «الدُّعاء مخّ العبادة». (٤) والذي استدلّ به المانع لطلب الشفاعة من البشر ، والحال أنّ مثل هذه الاستعمالات الجزئية والمجازية لا تعتبر مبرراً ودليلاً لتفسير الدعاء بالعبادة دائماً ، ورفض طلب الحاجة من غير الله ودعائه ، واعتبار ذلك أمراً غير معقول وأنّه شرك. (٥)

__________________

(١). الأعراف : ١٩٧.

(٢). الأعراف : ١٩٤.

(٣). غافر : ٦٠.

(٤). إرشاد القلوب للديلمي : ١٣٥.

(٥). منشور جاويد : ٨ / ١٤١ ـ ١٤٣.

٦٦

١٧

الاعتقاد بالسلطة الغيبية ومسألة الشرك

سؤال : هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية سببٌ للشرك؟

الجواب : لا شكّ في أنّ طلب الحاجة من أحد ـ بصورة جدية ـ إنّما يصحّ إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّ المطلوب منه قادرٌ على إنجاز حاجته.

وهذه القدرة قد تكون قدرة ظاهرية ومادية ، كأن نطلب من أحدٍ أن يسقينا ماءً ويجعله تحت تصرفنا ومتناول أيدينا.

وقد تكون القدرة قدرة غيبية خارجة عن نطاق المجالات الطبيعية والقوانين المادية ، كأن يعتقد أحدٌ بأنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام قلع باب خيبر بقدرة خارجة عن قدرة الإنسان العادي ، وأنّه قلعه بقدرةٍ غيبية. أو يعتقد أنّ المسيح عليه‌السلام كان يقدر بقدرة غيبية على منح الشفاء لمن استعصى علاجه من دون أن يستعمل دواء أو يقوم بإجراء عملية جراحية للمريض.

إنّ الاعتقاد بمثل هذه القدرة الغيبية إن كان ينطوي على الإيمان بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهي والمشيئة والقدرة الإلهية ، فهي حينئذٍ لا تختلف عن القدرة المادية الظاهرية ، بل هي كالقدرة المادية التي لا يستلزم الاعتقاد بها الشرك ، لأنّه سبحانه الذي أعطى القدرة المادية لذلك الفرد هو أيضاً أعطى

٦٧

القدرة الغيبية لآخر ، دون أن يُعدّ المخلوق خالقاً وأن يتصوّر استغناءه عن الله سبحانه وتعالى.

النظرية الوهابية

ثمّ إنّ الوهابيّين قالوا لو أنّ أحداً طلب من أحد أولياء الله ـ حيّاً كان أم ميّتاً ـ شفاء علّته أو ردّ ضالّته أو أداء دينه ، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغيبية في حقّ ذلك الولي ، وأنّ له سلطة على الأنظمة الطبيعية الحاكمة على الكون ، والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغير الله عين الاعتقاد بألوهية ذلك المسئول ، وطلب الحاجة في هذا الحال يكون مشركاً.

فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه ، فقد اتّبع الأنظمة الطبيعية لتحقيق مطلبه ، فلا يُعدّ ذلك شركاً ؛ أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبي موارى تحت التراب أو يعيش في مكان بعيد ، فإنّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطةٍ غيبية لهذا النبي أو الإمام بحيث يستطيع أن يوفر الماء للسائل من دون التوسّل بالأسباب والعلل المادية ، وهذا عين الاعتقاد بألوهية المسئول.

وممّن صرّح بهذا الكلام أبو الأعلى المودودي ، فإنّ عبارته تحكي عن ذلك ، حيث قال : صفوة القول إنّ التصوّر الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه ، هو ـ لا جرم ـ تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة والقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة. (١)

مناقشة نظرية المودودي

إنّ أساس الخطأ الذي وقع فيه الكاتب أنّه تصوّر أنّ الاعتقاد بالسلطة

__________________

(١). المصطلحات الأربعة : ١٧.

٦٨

الغيبية للأشخاص يُعدّ شركاً وثنويةً مطلقاً ، ولم يفرّق أو لم يرد أن يفرّق بين نوعين من الاعتقاد ، فلا شكّ أنّه يوجد فرق أساسيٌ بين الاعتقاد بالسلطة الغيبية المتكأة على السلطة والقدرة الإلهية وبين الاعتقاد بالسلطة المستقلة عن سلطة الله سبحانه ، والذي يُعدّ سبباً للشرك هو الاعتقاد الثاني دون الأوّل.

إنّ القرآن الكريم يذكر وبصراحة تامة أسماء عدد من الأشخاص الذين كانوا يتمتعون بسلطةٍ غيبية وأنّ إرادتهم كانت حاكمة على القوانين الطبيعية.

وها نحن نذكر أسماء عدد من هؤلاء الذين صرح القرآن بامتلاكهم لتلك القدرة.

١. النبي يوسف عليه‌السلام والسلطة الغيبية

لقد أمر يوسف عليه‌السلام إخوته بقوله الذي حكاه عنه القرآن الكريم : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ...* فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ...). (١)

إنّ ظاهر الآية يفيد أنّ رجوع البصر إلى يعقوب كان بإرادة يوسف ، وأنّه لم يكن فعلاً مباشرياً لله سبحانه ، وإنّ ما فعله يوسف كان بقدرة مكتسبة منه سبحانه.

ولو كان إشفاء يعقوب مستنداً إلى الله سبحانه مباشرة بلا دخالة يوسف ، لما أمر إخوته أن يلقوا قميصه على وجه أبيهم ، بل يكفي هناك دعاؤه من مكان بعيد ، وليس عمله هذا إلّا تصرّفاً لولي الله في الكون بإذنه سبحانه.

__________________

(١). يوسف : ٩٣ ـ ٩٦.

٦٩

٢. موسى عليه‌السلام والقدرة الغيبية

لقد أمر الله موسى عليه‌السلام أن يضرب بعصاه الحجر لتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً بعدد قبائل بني إسرائيل ، قال تعالى : (... اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ...). (١)

كما أمره سبحانه مرّة أُخرى أن يضرب بعصاه البحر لينفلق البحر أمام بني إسرائيل ، كما في قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). (٢)

ولا شكّ أنّه لا يمكن أن ننكر تأثير ضرب موسى بالعصا وإرادته ذلك العمل ، في تفجير العيون وتحوّل ماء البحر كالطود العظيم ، وإن كان إذنه سبحانه ومشيئته فوق إرادة موسى عليه‌السلام وعمله.

٣. النبي سليمان عليه‌السلام والسلطة الغيبية

إنّ النبيّ سليمان عليه‌السلام كان يتحلّى بمواهب وقدرات غيبية كثيرة وواسعة ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى تلك المواهب بقوله تعالى : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). (٣)

ولقد أشارت الآيات القرآنية إلى تلك المواهب بصورة مفصلة ، كما في الآيات ١٧ ـ ٤٤ من سورة النمل ، والآية ١٢ من سورة سبأ ، و ٨١ من سورة الأنبياء ، و ٣٦ ـ ٤٠ من سورة ص ، بحيث ترشدنا تلك الآيات إلى عظمة القدرة

__________________

(١). البقرة : ٦٠.

(٢). الشعراء : ٦٣.

(٣). النمل : ١٦.

٧٠

الموهوبة لسليمان عليه‌السلام ، ولكي يطلّع القرّاء الكرام بصورة إجمالية على تلك القدرات نذكر قسماً من الآيات التي تتعلّق بهذا النبي ، ليتّضح جلياً أنّ الاعتقاد بالقدرات الغيبية لأولياء الله من المسائل التي أخبر القرآن الكريم عنها.

أشار القرآن الكريم أنّه كان لسليمان سلطة على الجن والطير ، وكان يعلم لغة الطيور والحشرات ، كما ورد في قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ* وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ...). (١)

وأنت إذا اطّلعت على قصة الهدهد والمهمة التي أُوكلت إليه من قبل سليمان عليه‌السلام ليحمل رسالته إلى ملكة سبأ ، كما يصف ذلك القرآن الكريم ، تأخذك الدهشة والعجب لهذا الأمر ، لذلك ندعو إلى مطالعة الآيات ٢٠ ـ ٤٤ من سورة النمل والتدبّر وإمعان النظر فيها.

كما أنّ صريح القرآن الكريم يرشد إلى أنّ سليمان عليه‌السلام كانت له السلطة الغيبية على الريح بحيث تجري بإرادته وطبقاً لأوامره يقول تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ). (٢)

والنكتة الجديرة بالانتباه هي قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) حيث تشير إلى أنّ

__________________

(١). النمل : ١٦ ـ ١٩.

(٢). الأنبياء : ٨١.

٧١

الريح كانت تأتمر بأمر سليمان عليه‌السلام وتخضع لإرادته.

٤. المسيح عليه‌السلام والسلطة الغيبية

إنّ متابعة الآيات القرآنية المباركة يرشد إلى القدرات الغيبية التي كان يتحلّى بها السيد المسيح عليه‌السلام ونحن ـ وعلى نحو الإشارة لمقامه عليه‌السلام ـ نذكر الآية التي تحدث فيها عليه‌السلام عن قدراته ومواهبه : (... أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (١)

وإذا كان السيد المسيح قد قيّد كلّ آيةٍ يخبر بها عن نفسه ، كالخلق وإحياء الموتى (بِإِذْنِ اللهِ) فلأنّه ـ وبلا شكّ ـ لا يستطيع أيُّ نبي التصرف في الكون إلّا بإذنه سبحانه ، كما ورد ذلك في قوله سبحانه : (... وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ...). (٢)

وفي الوقت نفسه نسب السيد المسيح عليه‌السلام تلك الأفعال الغيبية لنفسه حيث يقول : أنا (أُبْرِئُ) و (أُحْيِ) و (أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) فإنّها تدلّ على المراد من البحث دلالة واضحة ، وذلك لأنّ الجميع قد ورد بصيغة المتكلّم.

وليس أنبياء الله : يوسف وموسى وسليمان والمسيح هم وحدهم يتحلّون بقدرات غيبية وسلطة على عالم الطبيعة فقط ، بل هناك الكثير من الأنبياء

__________________

(١). آل عمران : ٤٩.

(٢). الرعد : ٣٨.

٧٢

والملائكة يمتلكون تلك القدرات الغيبية ، وقد وصف القرآن الكريم جبرئيل بأنّه (شَدِيدُ الْقُوى) (١) ووصف الملائكة بقوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). (٢)

كما وصف القرآن الكريم الملائكة بصفات عديدة ، منها : أنّها مدبرة لشئون العالم ، وأنّها تتوفى الأنفس ، وأنّها الحافظة للإنسان والرقيب عليه ، وأنّها الكاتبة لأعمال الإنسان ، والمهلكة للأقوام والشعوب الكافرة ، وأنّه وبلا شك أنّ من يمتلك أدنى درجات الاطّلاع على القرآن الكريم يعرف وبلا ريب أنّ الملائكة تمتلك قدرات وطاقات غيبية ، وأنّها بالاتّكاء على القدرة الإلهية تقوم بأعمال خارقة للعادة.

فإذا كان الاعتقاد بالسلطة الغيبية لأحدٍ ملازماً للاعتقاد بألوهيته ، لزم أن يكون جميع هؤلاء آلهة من وجهة نظر القرآن الكريم ، وهذا ما لا يقول به أحد من الناس.

إنّ طريق حلّ هذه القضية إنّما يتم من خلال التفريق بين القدرة الاستقلالية وبين القدرة المكتسبة ، حيث إنّ الاعتقاد باستقلالية قدرة الأنبياء والملائكة وغيرهم يُعدُّ وبلا ريب شركاً ، ولكن الاعتقاد بأنّ تلك القدرات والطاقات مكتسبة من القدرة الإلهية المستقلة ومستندة إليها ، يُعدُّ عين التوحيد وروح الوحدانية.

__________________

(١). النجم : ٥.

(٢). النازعات : ٥.

٧٣

١٨

طلب الشفاعة من الأولياء ومسألة الشرك

سؤال : هل طلب الشفاعة من أولياء الله يُعدُّ شركاً في العبادة؟

الجواب : لا شكّ أنّ الشفاعة حقّ خاص بالله سبحانه ، فالآيات القرآنية ـ إضافة إلى البراهين العقلية ـ تدلّ على ذلك كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ...). (١)

ومع الالتفات إلى هذا الأصل نذكر أنّه قد دلّت آيات كثيرة أُخرى على أنّ الله تعالى أذن لفريق من عباده أن يستخدم هذا الحقّ ويشفع ـ في ظروف خاصة وشروط معينة ـ حتّى أنّ بعض هذه الآيات صرّحت بخصوصيات وأسماء طائفة من هؤلاء الشفعاء ، كقوله تعالى :

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى). (٢)

كما أنّ القرآن أثبت «المقام المحمود» لنبي الإسلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال سبحانه :

__________________

(١). الزمر : ٤٤.

(٢). النجم : ٢٦.

٧٤

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). (١)

وقال المفسّرون : إنّ المقصود بالمقام المحمود : مقام الشفاعة ، بحكم الأحاديث المتضافرة التي وردت في هذا الشأن.

كلّ هذا ممّا اتّفق عليه المسلمون ، إنّما الكلام في أنّ طلب الشفاعة ممّن أُعطي له حقّ الشفاعة ، كأن يقول : «يا رسول الله اشفع لنا» هل هو شرك أو لا؟ وهل هذا يجدي نفعاً أم لا؟

وليس البحث في المقام في كون هذا الطلب مجدياً أو لا ، أنّما الكلام في أنّ هذا الطلب هل هو عبادة أو لا؟ وهل هو شرك أم لا؟ لأنّنا فعلاً في صدد معرفة حدود التوحيد والشرك لا معرفة كونه مفيداً أو لا.

إنّه مع الاتّفاق على معيار وملاك التوحيد والشرك يتّضح بجلاء حكم المسألة المذكورة ، فلو اعتقدنا بأنّ من نطلب منهم الشفاعة لهم أن يشفعوا لمن أرادوا ومتى أرادوا نعتقد أنّهم آلهة صغيرة وأنّهم قد فوّض إليهم أمر الشفاعة بحيث يشفعون لمن شاءوا من دون رجوع إلى إذنه وإجازته سبحانه وتعالى ، فإنّ من المحتّم أنّ هذا الطلب والاستشفاع عبادة ، وأنّ الطالب يكون مشركاً ، وذلك لأنّ الشفاعة من خصائص المقام الربوبي والإلهي ، ولا شكّ أنّ طلب الفعل الإلهي وما هو من شئونه من غيره يُعدُّ شركاً.

أمّا لو استشفعنا لأحد هؤلاء الشفعاء ونحن نعتقد بأنّه محدود مخلوق لله لا يمكنه الشفاعة لأحدٍ إلّا بإذنه ، فهذا الطلب لا يختلف عن طلب الأمر العادي ماهيّة ، ولا يكون خارجاً عن نطاق التوحيد ، وإن تصوّر أحد انّ هذا

__________________

(١). الإسراء : ٧٩.

٧٥

العمل ـ أعني : طلب الشفاعة من أولياء الله ـ يشبه في ظاهره عمل المشركين واستشفاعهم بأصنامهم ، فهو تصوّر باطل بعيد عن الحقيقة ، لأنّ التشابه الظاهري لا يكون أبداً معياراً للحكم ، بل المعيار الحقيقي للحكم إنّما هو قصد الطالب وكيفية اعتقاده في حقّ الشافع ، ومن الواضح جدّاً أنّ المعيار هو النيّات والضمائر ، وأنّه لا مرية في أنّ اعتقاد الموحد في حقّ أولياء الله يختلف ـ تماماً ـ عن اعتقاد المشرك في حقّ الأصنام والأوثان.

فإذا كان معيار الحكم التشابه الظاهري ، فلا محيص من عدّ الطواف بالبيت ، ومسّ الحجر الأسود ، والسعي بين الصفا والمروة سبباً للشرك ، لأنّ هذه الأعمال تشبه بظاهرها أعمال المشركين ولا تختلف معها.

الوهابيّون وطلب الشفاعة

إنّ الوهابيّين يعتبرون مطلق طلب الشفاعة من أولياء الله شركاً وعبادة ويظنون أنّ القرآن لم يصف الوثنيّين بالشرك إلّا لخضوعهم وخشوعهم وتضرّعهم وبكائهم وعويلهم أمام تلك الأصنام وطلبهم الشفاعة منها ، كما يقول سبحانه :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ...). (١)

وعلى هذا فالشفاعة وإن كانت حقاً للشفعاء الحقيقيّين من أولياء الله إلّا أنّه لا يجوز طلبه منهم ، لأنّه عبادة.

إنّ الاستدلال بهذه الآية يمكن الإجابة عنه بوجهين :

__________________

(١). يونس : ١٨.

٧٦

١. ليس في الآية أدنى دلالة على مقصودهم ، وإذا ما رأينا القرآن يصف هؤلاء بالشرك ، فليس ذلك لأجل استشفاعهم بالأوثان ، بل لأجل أنّهم كانوا يعبدونها لغاية أن تشفع لهم بالمآل.

وتوضيح ذلك أنّ المشركين كانوا يقومون بعملين :

الف : كانوا يعتقدون أنّ للأصنام نفوذاً ومنزلة لدى الحضرة الإلهية ، وتصوّروا أنّه ومن خلال عبادتهم يتمكّنون من جلب رضاهم. ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى تلك الحقيقة في نفس الآية بقوله :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) ، فمن هذه الجهة كانوا مشركين.

ب : إنّهم عقدوا الأمل على تلك الأوثان وطلبوا الشفاعة منها ، ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى تلك الحقيقة بقوله :

(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ).

فمن خلال الإمعان في معنى هذه الآية وملاحظة أنّ هؤلاء المشركين كانوا يقومون بعملين : (العبادة ، وطلب الشفاعة) يتّضح جلياً أنّ علّة اتّصافهم بالشرك واستحقاقهم لهذا الوصف كانت لأجل عبادتهم لتلك الأصنام لا لاستشفاعهم بها.

ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) بعد قوله : (وَيَعْبُدُونَ ...).

إنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يحكي عن أنّ موضوع عبادة الأصنام يغاير مسألة طلب الشفاعة منها ، لأنّه في الحقيقة ، عبادة الأصنام تُعدُّ شركاً وثنوية ، وأمّا طلب الشفاعة من الأحجار والخشب يُعدُّ عملاً سفهياً لا يصدر إلّا

٧٧

من إنسان أحمق ويكون بعيداً عن لغة المنطق والعقل والعلم.

فإذا كان من المستحيل أن تكون الآية المباركة دالّة على أنّ طلب الشفاعة من الأصنام يُعدُّ عبادةً لها فمن الأولى أنّها لا تدلّ على أنّ طلب الشفاعة من أولياء الله الأحياء والمقرّبين منه سبحانه علامة ورمزاً لعبادتهم.

٢. إذا تجاوزنا ذلك ، فأنّ هناك فرقاً بين الاستشفاعين ، فالوثني يعتبر الصنم ربّاً مالكاً للشفاعة يمكنه أن يشفع لمن يريد وكيفما يريد ، ولا ريب أنّ هذا الاستشفاع شرك ، ولأجل ذلك يقول سبحانه منتقداً هذه العقيدة :

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ...). (١)

والحال أنّ المسلمين لا يعتقدون بأنّ أولياءهم يملكون هذا المقام ، فهم يتلون آناء الليل وأطراف النهار. قوله سبحانه :

(... مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ...). (٢)

ومع هذا التفاوت البيّن والفرق الواضح ، كيف يصحّ قياس هذا بذاك؟! فإنّ ذلك بعيد عن الإنصاف والموضوعية التي ينبغي أن يتحلّى بها الكُتّاب والمؤلّفون وأصحاب العقائد الإسلامية والمحسوبون عليها.

__________________

(١). الزمر : ٤٤.

(٢). البقرة : ٢٥٥.

٧٨

١٩

الاستعانة بغير الله ومسألة الشرك

سؤال : هل الاستعانة بغير الله تعدُّ شركاً؟

الجواب : تشهد الأدلّة العقلية على أنّ جميع شئون الممكن ، وجوده وقدرته وطاقاته كلّها من الله تعالى ، فكما أنّ الممكن محتاج في وجوده إلى الله تعالى كذلك الأمر في أعماله وأفعاله الصادرة منه ، فإنّه في جميع ذلك لا ينفك عن الحاجة إلى القدرة الإلهية.

صحيح انّ الإنسان في عمله وتصرّفاته مختار وحرّ ، ولكن كلّ عمل يعمله أو حركة يتحركها خاضع للمدد الإلهي والقدرة الإلهية ، فإذا وصلت إليه القدرة الإلهية تمكّن من القيام بعمله ، ولكن بمجرّد أن ينقطع عنه الفيض الإلهي ولو لحظة واحدة يصبح عاجزاً لا يقدر على أيّ شيء.

وهذا الأمر لا يختصّ بالإنسان في حاجته إلى الله في وجوده وحركته ، بل كلّ الأسباب والعوامل الطبيعية محتاجة إلى الله في وجودها وفي قدرتها على القيام بأيّ فعل كان. فإذا انقطع عنها الفيض والمدد الإلهي ولو لحظة واحدة تصبح تلك العوامل الطبيعية عاجزة عن القيام بعملها مهما كان ذلك الفعل.

وعلى هذا الأساس لا يوجد في عالم الوجود مؤثر وفاعل غني حقيقة ، إلّا

٧٩

ذات الله سبحانه الذي وصف نفسه ومخلوقاته في القرآن الكريم :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). (١)

وهذا يعني أنّ كلّ ما في الكون فقير ومحتاج ولا يوجد عامل أو فاعل في العالم وإن كان قوياً ومقتدراً ـ ولو كان أكبر من الشمس ألف مرة ـ فهو أيضاً محتاج وفقير ولا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الاتّكاء على القدرة الإلهية.

يتّضح من ذلك البيان وبصورة جلية أنّه يوجد في صفحة الوجود معين ومساعدٌ حقيقي واحد ، وأنّ الممكنات المستعانة به بحكم كونها فقيرة بالذات لا تستطيع أن تفعل شيئاً بدون الاتّكاء عليه ، وكذلك لا يستطيع موجود مهما أُوتي من قدرة أن يكون مانعاً من نفوذ إرادة الله القهّار ، إنّ الآية التالية ونظيراتها توضح لنا وبجلاء تلك الحقيقة :

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً). (٢)

الاستعانة بغير الله

إنّ الاستعانة بغير الله يمكن أن تتحقّق بصورتين :

١. أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّه مستند إلى الله ، بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من الله وإذنه سبحانه ، وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك عن الاستعانة بالله ذاته ، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر وأذن به وإن شاء سلبها وجرّدها منه ، فإذا استعان الزارع

__________________

(١). فاطر : ١٥.

(٢). الأحزاب : ١٧.

٨٠