الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

إنّ حقيقة الإنسان وقيمته الواقعية تكمن في علمه ومعرفته ، وعلى أقلّ تقدير انّها تشكّل الجزء الأهم في شخصيته ، فالإنسان العاري من العلم والمعرفة إنسان غير متكامل ، بل لا بدّ من إدراجه ووضعه في ضمن قائمة البهائم ، ولقد أفرغ الشاعر الإيراني مولوي هذه الحقيقة في بيت من الشعر يخاطب فيه الإنسان بما معناه :

أيّها الإنسان إنّما حقيقتك علمك ومعرفتك ، وما عدا ذلك تكون مجموعة من العظام والعصب.

كما أشار الشاعر العربي المعروف المتنبّي إلى هذا المعنى وتلك الحقيقة بقوله :

لو لا العقولُ لكانَ أدنى ضَيغَمٍ

أدْنى إلى شرف من الإنسانِ (١)

ولقد حاز ربيب الرسول الأكرم وسيد الأوصياء وإمام العلم والبلاغة أمير المؤمنين قصب السبق في هذا المجال حيث عبّر عن تلك الحقيقة بأبلغ عبارة وأفصحها عند ما قالعليه‌السلام :

__________________

(١). ديوان المتنبي : ٤ / ٣٠٨.

٥

«قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه».

ونحن إذا ألقينا نظرة على تاريخ حياة المفكّرين والعلماء وأصحاب الاختراعات والاكتشافات العلميّة تتجلّى لنا حقيقة مهمّة في شخصيّة هؤلاء العظام وهي : أنّهم كثيرو التفكير والتأمّل والإمعان في الأُمور ، وقليلو الكلام.

لقد ركّزت آيات الذكر الحكيم على أهمية التفكير والتأمّل والتعمّق وخاصة التفكير في خلق السماوات والأرض والتّفكير في النفس الإنسانيّة وحقيقتها. وفي سائر المخلوقات والوجودات حيث قال سبحانه :

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (١)

وفي آية أُخرى يدعو سبحانه وتعالى الإنسان إلى التفكير والتأمّل في نفسه وخلقه :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ). (٢)

وقبل أن يلتفت الغرب إلى أهميّة التجربة والتحليل وكيفية الاستفادة منها في تحصيل العلم ، كان القرآن الكريم قد دعا المسلمين إلى الاستفادة من ذلك الأُسلوب والمنهج العلمي قبل أربعة عشر قرناً حيث قال سبحانه :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (٣)

ومن المسلّم به انّ هذه الدعوة القرآنية للنظر في السماوات والأرض لا يراد منها النظرة السطحية العابرة ، بل المراد حقيقة النظرة المقرونة بالتفكير والتعمّق والتأمّل التي تستطيع أن تفتح أبواب السماء بوجه الإنسان.

إنّ هذه الآيات وغيرها من آيات الذكر الحكيم التي تحثّ الإنسان وتدعوه إلى أعماق فكره والاستفادة من قدراته العقلية دليل واضح على أهمية التفكير

__________________

(١). آل عمران : ١٩٢.

(٢). فصلت : ٥٤.

(٣). يونس : ١٠١.

٦

والتأمّل في خلق الإنسان والعالم. ثمّ إنّ الذين يمرّون على تلك الحوادث مرور الكرام ولا يولونها أهمية تذكر هؤلاء بعيدون كلّ البعد عن حقيقة وأهمية تلك الآيات القرآنية ، ولكن الذين يقفون عند كلّ صغيرة وكبيرة في هذا العالم ويولونها أهمية كبرى ويمنحونها قسطاً من التفكير والتأمّل حتّى لو كانت الحادثة من البساطة بدرجة سقوط تفاحة من شجرة ما في فضاء هادئ وبعيد عن أعين الناس فإنّهم يجنون نتاج هذا الفكر والاهتمام والاستفادة من تلك الحوادث ، فتكون النتيجة اكتشاف قانون يُعدّ من أهمّ القوانين العلمية والذي أصبح له الفضل الكبير في نتاجات أُخرى واكتشافات جديدة ، ألا وهو قانون الجاذبية ، الذي اكتشفه ذلك العالم المفكّر ، وكانت نقطة الانطلاق في هذا الاكتشاف العظيم سقوط تفاحة من شجرة قد شاهد مئات الآلاف ـ إن لم أقل أكثر من ذلك ـ هذه الظاهرة ولكنّهم مرّوا عليها مرور الكرام ولم يولوها أيّ أهمية تذكر.

التدبّر في آيات الذكر الحكيم

لقد حثّ الرسول الأكرم وأهل بيته عليهم‌السلام على تلاوة القرآن الكريم لما لها من الثواب والفاعلية في سمو الروح ونقاء القلب ، ولكن من المسلم أنّ الهدف من هذه الدعوة لا ينحصر في ذلك ، بل الهدف النهائي المتوخّى من تلاوة القرآن الكريم أن تكون التلاوة مقدّمة للتدبّر في معاني القرآن الكريم ومفاهيمه السامية والعمل وفقاً لما ورد فيها من أوامر ونواهي وإرشادات ، بل القرآن يعتبر التدبّر هو أحد الأهداف المتوخّاة من نزول القرآن حيث قال سبحانه :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). (١)

__________________

(١). ص : ٢٩.

٧

ثمّ إنّ التدبّر في آيات الذكر الحكيم يتمّ بصورتين :

الأُولى : وهي أن يستعرض المفسّر أو المفكّر آيات السورة بصورة متسلسلة ويمعن النظر فيها ويكشف حقائقها ويصل إلى مرادها ، وهذا الأُسلوب هو الأُسلوب المتّبع قديماً حيث يفسّرون القرآن الكريم بصورة ترتيبية ، ولقد دوّنوا دورات تفسيرية كثيرة اعتماداً على هذا الأُسلوب.

الثانية : انّ القرآن الكريم تحدّث عن الكثير من الحقائق والموضوعات ، سواء ما كان يتعلّق بالآفاق أو الأنفس ، أو ما يتعلّق بالأُمور الفردية أو الاجتماعية ، أو الأُمور التشريعية والتكوينية ، وفي مناسبات مختلفة حيث نرى أنّه يعاود الحديث عن الموضوع في أكثر من آية وفي أكثر من سورة وفي كلّ مرّة يسلّط الضوء على جانب من جوانب ذلك الموضوع ، فقد تتوزع الآيات التي تتحدث عن موضوع محدد على أكثر من عشر سور من سور القرآن الكريم. وحينئذٍ فلو تصدى المفسّر ـ الذي يريد إدراك حقيقة ذلك الموضوع واكتشاف مكنونه ـ لجمع تلك الآيات المتفرقة ووضع بعضها إلى جنب البعض الآخر ودراستها دراسة متناسقة مترابطة ، لانفتحت أمامه آفاق كثيرة من العلم والمعرفة وانكشفت الحقيقة بأجلى صورها.

فعلى سبيل المثال هناك كم هائل من الآيات المباركة المتفرقة في السور القرآنية قد تحدّثت عن خلق الإنسان ، ولا ريب أنّ اكتشاف حقيقة الرؤية القرآنية ونيل النتيجة المتوخّاة يكمن في إطار جمع تلك الآيات على صعيد واحد ودراستها بصورة منظمة من خلال ضم بعضها إلى البعض الآخر ، وحينئذٍ ينكشف الغموض ويرتفع الإبهام وتتجلّى الحقيقة ويتضح الهدف والمراد النهائي من تلك الآيات بصورة مجتمعة.

وهذا هو المنهج والطريق الذي سلكناه منذ سنوات ، وكانت أوّل ثمار

٨

ذلك الجهد المبارك والمنهج القويم الذي اعتمدناه والذي أطلقنا عليه اسم «التفسير الموضوعي» هي أن صدر لنا عام ١٣٩٢ ه‍ الجزء الأوّل من موسوعة «مفاهيم القرآن» ، وقد اشتملت هذه الموسوعة على مواضيع عقائدية متنوعة انطلاقاً من رؤية قرآنية ، وتقع تلك الموسوعة في عشر مجلدات ، انجز الجزء الأخير منها عام ١٤٢٠ ه‍.

وبما أنّ تلك الموسوعة كانت باللغة العربية فلقد ارتأينا ولسد الفراغ والخلل في المكتبة الفارسية وحل مشكلة الشباب الناطقين باللغة الفارسية الذين تتوق نفوسهم وبشدة إلى التفسير الموضوعي ، أن ندون لهم تفسيراً موضوعياً تحت عنوان «منشور جاويد» أي «الميثاق الخالد» وبصورة أشمل وأوسع حيث اشتملت الموسوعة على أربعة عشر جزءاً.

كما اشتملت الموسوعة الفارسية على موضوعات ومسائل كثيرة ومتنوعة : عقائدية ، اجتماعية ، أخلاقية ، تاريخية ، بالإضافة إلى وجود الكم الهائل من التساؤلات والإشارات والإشكالات والحلول القويمة والمعمّقة لها.

ولأهمية تلك التساؤلات وقيمة تلك الحلول والإجابات بالنسبة إلى الكثير من الخطباء والمحدّثين والكتّاب ، فقد تصدّى سماحة الشيخ أكبر أسد علي زاده مسئول قسم الإجابة عن الأسئلة في مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام وبمساعدة الشيخ سعيد ديني ـ ومن خلال مراجعتهم المستمرة للموسوعة المذكورة لاستخراج الإجابة منها للرد على الاستفسارات الكثيرة التي ترد إلى المؤسسة ـ إلى تدوين تلك الإجابات وتنظيمها في مجلدين مستقلين ، شكر الله مساعيهم الحثيثة وجهودهم المباركة ، سائلاً المولى أن يوفّقهما للمزيد من العطاء العلمي والفكري انّه سميع الدعاء.

٩

كما أتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل إلى الشيخ الفاضل الجليل خضر آتش فراز (ذو الفقاري) وهو أحد المحقّقين الكفوئين في مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قام بترجمة الكتاب ونقله إلى اللغة العربية بأُسلوب رصين ، ودقة متناهية ، وأمانة خالصة كما هو شأنه ؛ كما بذل جهوداً حثيثة بتقويم نصّ الكتاب وضبطه ، وتهذيب عباراته ، ومراجعة النصوص مع مصادرها الأصلية ، وتصحيحه بدقة حتّى ظهر بهذا الشكل اللائق ، فشكر الله سعيه وجزاه عن الإسلام خير الجزاء ووفّقه للمزيد من البذل والعطاء.

وفي الختام أود أن أُعرب عن ارتياحي الكبير ، وارتياح أعضاء مؤسسة الإمام الصادقعليه‌السلام ورواد تفسير القرآن الكريم ، لهذا العمل القيم وهذه الخطوة المباركة داعياً المولى القدير أن تكون مناراً يهتدي به أبناؤنا وبناتنا الشباب ، وأن يكون المركب الأمين الذي يقلّهم إلى ساحل الأمن والنجاة في هذا المعترك الفكري الخطير الذي يتلقّف الشباب فيه الكثير من الأفكار المتضادّة والنظريات المتباينة.

جعفر السبحاني

قم ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

١٧ ربيع الأوّل ، ١٤٢٥ ه‍. ق

١٠

الفصل الأوّل :

معرفة الله

١١
١٢

١

مفهوم الربّ

سؤال : هناك العديد من المفاهيم والمصطلحات التي قد يقع التوهّم أو الخلط في مداليلها ، ومن تلك المفاهيم مفهوم «الربّ» ، الرجاء تسليط الضوء على هذا المفهوم.

الجواب : ينبغي لمن يتوخّى معرفة الحقيقة والوصول إلى كنه الأُمور التي يروم البحث والتحقيق فيها والخوض في مسائلها أن يطّلع وبصورة دقيقة على معرفة المفاهيم والمصطلحات التي تكوّن الأساس في العلم الذي يريد الخوض في غماره ، أو على الأقل يكثر تداولها في ذلك العلم ، ومن المعلوم أنّ مفهومي الربّ والإله من المفاهيم الجوهرية في علم الكلام ، ونظراً لأهميّة الموضوع وحيويّته فقد أفردنا رسالة خاصة لمعالجة هذه القضية تحت عنوان «الأسماء الثلاثة» ، وسنوضّح هنا بصورة مختصرة أحد هذه الأسماء والذي ورد في متن السؤال ، فنقول :

من الأسماء التي تطلق على الله سبحانه «الربّ» ولفظة «الربّ» وإن كانت لم تستعمل إلّا مضافة ، مثل : (رَبُّ الْعَرْشِ) ، (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، (بِرَبِّ النَّاسِ) ، (بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (رَبَّكُمُ) ، (رَبَّنا)

١٣

و ... وبالرغم من ذلك نرى من اللائق أن نبحث عن كلمة «الربّ» بصورة مستقلة.

قال ابن فارس : الربّ : المالك ، والخالق ، والصاحب ، والمصلح. (١)

كما عرفه الفيروزآبادي بقوله : ربّ كلّ شيء مالكه ومستحقّه أو صاحبه. (٢)

وقد استخدمت كلمة «الربّ» في القرآن الكريم ومعاجم اللغة في موارد متعددة ، ولكنّها جميعاً تحمل في حقيقتها معنى واحداً ، وإليك بيانها :

١. التربية : مثل ربّ الولد ، رباه.

٢. الإصلاح والرعاية : مثل ربّ الضيعة.

٣. الحكومة والسياسة : مثل فلان ربّ قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

٤. المالك : كما جاء في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أربّ غنم أم ربّ إبل».

٥. الصاحب : ربّ الدار ، أو كما جاء في القرآن الكريم : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ). (٣)

لا شكّ أنّ لفظة الرب وإن استعملت في هذه الموارد وما يشابهها ، ولكنّها ـ جميعاً ـ ترجع إلى معنى واحد أصيل ، وهو : من بيده أمر التدبير والإدارة ، والتصرّف.

وعلى هذا الأساس إذا قيل لصاحب المزرعة أنّه (ربّ الضيعة) فلأجل أنّ إصلاح أُمور الضيعة مرتبط به وفي قبضته.

__________________

(١). مقاييس اللغة : ٢ / ٣٨١ ، ط ١ ، دار إحياء الكتب العربية.

(٢). القاموس المحيط : ١ / ٢٠٦ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط ١ ، ١٤١٢ ه‍.

(٣). قريش : ٣.

١٤

وهكذا إذا أُطلق على سائس القوم صفة الرب ، فلأنّ أُمور البلد والشعب مفوضة إليه ؛ وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالك الشيء اسم (الرب) ، فلأنّه فوّض إليه أمر تلك الدار وإدارتها والتصرّف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربّي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب مصاديق وصوراً لمعنى واحد ، ولا ينبغي أن نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الربّ ، بل أنّ معنى (الرب) المشتق من (رَبَبَ) لا (ربّى) هو : من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرّف ، وإذا أمعنا النظر في آيات الذكر الحكيم يظهر لنا وبجلاء هذا المعنى ، فإذا أطلق يوسف عليه‌السلام لفظ الرب على عزيز مصر الذي كان يعيش في داره وفي كنفه حيث قال : (... إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ...). (١) فما ذلك إلّا لأجل أنّ يوسف الصديق عليه‌السلام قد تربّى في بيت عزيز مصر وفي كنفه ، وكان العزيز متكفّلاً بتربيته الظاهرية وقائماً بشئونه.

وكذلك الأمر في وصف يوسف عزيز مصر بكونه ربّاً لصاحبه في السجن ، حيث قال : (... أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ...). (٢) فلأنه كان سيد مصر وزعيمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً في شئونها ومالكاً لزمامها.

وأمّا وصف القرآن الكريم اليهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله تعالى بقوله سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ...). (٣) فلأجل أنّهم منحوهم السلطة على التقنين ، وأعطوهم زمام تشريع الحلال والحرام ، واعتبروهم أصحاب سلطة في تحليل الحرام وتحريم

__________________

(١). يوسف : ٢٣.

(٢). يوسف : ٤١.

(٣). التوبة : ٣١.

١٥

الحلال.

وحينما يصف الله نفسه بأنّه «ربّ البيت» ، فلأنّ أُمور هذا البيت مادّيها ومعنويّها ترجع إليه سبحانه ، ولا حق لأحد غيره في التصرّف فيه سواه مهما كان هذا الغير.

وهكذا إذا وصف الله نفسه بأنّه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) (١) و (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٢) ، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها والمتصرّف في عالم الخلق كلّه. بما في ذلك كوكب (الشعرى) ، وأنّ شئون هذا العالم بيده وتحت سلطته واختياره سبحانه.

يتّضح من هذا البيان أنّ لفظة «الرب» لها معنى واحد لا غير وأنّ سائر المعاني مصاديق مختلفة لواقعية واحدة ، وفي كلّ الموارد يوجد معنى واحد محفوظ وهو الاختيار والإرادة.

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى نكتة مهمة وهي ، أنّ الشائع بين الوهّابيين أنّهم قسّموا التوحيد إلى :

١. التوحيد في الربوبية.

٢. التوحيد في الألوهية.

وفسّروا التوحيد في الربوبية بمعنى التوحيد في الخالقية ، بمعنى أنّه لا يوجد للعالم إلّا خالق واحد وهو الله سبحانه ، وفسّروا القسم الثاني «التوحيد في الألوهية» بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه لا يوجد معبود في العالم إلّا الله تعالى.

__________________

(١). الصافات : ٥.

(٢). لنجم : ٤٩.

١٦

والحقّ أنّهم وقعوا في خطأ في فهم كلا المصطلحين ، وهذا يؤكد أهمية فهم المصطلحات ، لأنّ التوحيد الربوبي ، غير التوحيد الخالقي ، إذ انّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية ، بل معناه التدبير والإرادة ، وتصريف شئون العالم. ولذلك يمكن للإنسان أن يدّعي أنّ الخالق للعالم واحد وهو الله تعالى ، وهذا الخالق قد أوكل مهمة تدبير العالم إلى مخلوقات سماوية أو إلى الأرواح. وهذا ما كان شائعاً في زمن النبي إبراهيم عليه‌السلام ، حيث كان أهل بابل يؤمنون بوجود خالق واحد ، ولكن في نفس الوقت كانوا يعتقدون بتعدّد الأرباب مثل الشمس والقمر والكواكب.

نعم لا بدّ من الالتفات إلى نقطة جديرة بالاهتمام ، وهي أنّه ومن الناحية الواقعية ، انّ التدبير في عالم الخلق لا ينفصل عن الخالقية ، بل انّ تدبير عالم الوجود ملازم للخالقية. ولكن ليس بحثنا هنا في الواقع الخارجي ، بل بحثنا بحث مفهومي نقصد به فصل مفهوم «الرب» عن مفهوم «الخالق» ، والسبب في ذلك لأنّنا لو راجعنا المعاجم اللغوية نجدهاتعطي لكلّ من المفهومين معنى خاصاً به ، فمعنى كلمة «رب» غير معنى كلمة «خالق» ، كما أنّ معنى «المدبرية» غير معنى «الخالقية» ، وهذا الفرق يحسّه الإنسان في حياته الاعتيادية ، فالفلّاح مثلاً «رب» للبستان ، ولكنّه ليس بخالق له ، ولذلك وانطلاقاً من هذا التصور والفهم لكلا المفهومين نجد أنّ مشركي «بابل» قد ذكروا لكلّ من المفهومين ـ في الخارج ـ مصداقاً مغايراً للمصداق الآخر ، وميّزوا بين خالق العالم وربّ العالم. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٢ / ٢٤٨ ـ ٢٥١.

١٧

٢

الإنسان وغريزة الشعور الديني

سؤال : إذا استعرضنا حياة الإنسان وتاريخه تظهر أمامنا حقيقة جليّة ، وهي أنّنا نجد الإنسان يسعى وبكلّ جهد للتحقيق والبحث عن الله والدين والمسائل الميتافيزيقية «ما وراء الطبيعة» ، وهنا يطرح التساؤل التالي نفسه : ما هو السبب الّذي يدعو الإنسان لذلك ، ولما ذا كلّ هذا البحث والاهتمام؟

الجواب : انّ الشعور الديني أو الغريزة الدينية لدى الإنسان هي كباقي الغرائز النفسية ، إذ يستيقظ هذا الشعور الديني وينطلق في باطن كلّ إنسان كبقية الأحاسيس الباطنية من دون حاجة إلى معلم ومن دون إرشاد أو توصية من أحد.

فكما يحسّ الإنسان باطنياً وذاتياً في فترة من فترات حياته بميل شديد ورغبة ملحة إلى أُمور ، كالجاه أو الثروة أو الجمال أو الجنس ، وذلك تلقائياً ودون تعليم معلم ، كذلك يستيقظ في باطنه «ميل إلى الله» وإحساس تلقائي يدفعه بدون إرادته إلى التفتيش عنه ، وهو إحساس يتعاظم ويتزايد ويظهر ويتجلّى أكثر فأكثر أثناء البلوغ ، حتّى أنّ علماء النفس يتّفقون في أنّ بين «أزمة البلوغ» و «القفزة المفاجئة في المشاعر الدينية» في الفرد ارتباطاً وتلازماً لا ينكر.

١٨

ففي هذه الأوقات نشاهد نهضة قوية ، وقفزة نوعية ، واندفاعة شديدة في الشعور الديني حتّى عند أُولئك الذين كانوا قبل تلك الفترة غير مكترثين بالدين وقضايا الإيمان.

ويبلغ الشعور الديني ذروته في سن السادسة عشرة حسب نظرية «استانلي هال».

وإذا ما أردنا أن نطرح هذا الموضوع بصورة مضغوطة ومختصرة نرى أنّ هذا الشعور ينطلق من شخصية الشاب الذي يخضع لمجموعة من المؤثرات المختلفة ، والتي تسمح له لكشف علّة وجوده وحصرها في الله تعالى.

إنّ ظهور «الميل المفاجئ» إلى الدين وإلى الله ومسائل الإيمان دون تعليم أو توجيه لهو أحد الدلائل القاطعة على فطرية هذا الأمر ، وكون هذا الإحساس يظهر فطرياً شأن بقية الأحاسيس الإنسانية الفطرية الأُخرى ، وانّ هذه الأحاسيس تظهر في سنين خاصة من عمر الشباب ، ولكن علينا أن لا نغفل عن نقطة مهمة جدّاً ، وهي : انّ هذا الإحساس ، وكذا بقية الأحاسيس والمشاعر الإنسانية لو لم تحظ بالمراقبة الصحيحة والرعاية اللازمة يمكن ـ بل من المحتم ـ أن تعتريها سلسلة من الانحرافات والتقلّبات.

وعند ما نجد «الشعور الديني» منتشراً وسائداً في كلّ مكان من العالم ، وفي كلّ عصر من عصور التاريخ البشري ، فمن البديهي أنّنا نستنتج أنّ هذا الشعور نداء باطني فطري لا محرك له سوى الفطرة ، لأنّه لو كان للظروف الجغرافية أو العوامل الأُخرى دخل في انتشار هذا الشعور ، لوجب أن يوجد في مكان دون مكان ، ولدى شعب دون شعب ، ولدى طبقة خاصة من الناس ممّن تتوفّر لديهم الظروف الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية الخاصة ، في حين

١٩

نرى أنّ الأمر على العكس من هذا تماماً حيث شمول الظاهرة لجميع الأعصار والأزمان وجميع الأماكن والمجتمعات.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يكون لعوامل الدعاية المضادة والخاطئة أثرها في عرقلة رشد ونمو الكثير من النداءات والغرائز الإنسانية ، ولكنّها لا تستطيع القضاء عليها وإلغاءها بالكامل.

الشعور الديني أو البعد الرابع في الروح الإنسانية

إذا كان القرآن الكريم وأحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام تعتبر الشعور الديني أمراً نابعاً من الفطرة ، وراجعاً إليها ، فإنّ علماء الغرب وخاصة علماء النفس منهم يصفون هذا الشعور بأنّه البعد الرابع للروح الإنسانية.

ومع اكتشاف الشعور الديني لدى الإنسان ، وإنّ غريزة الشعور الديني تعدّ إحدى العناصر الأوّلية والثابتة والطبيعية للروح الإنسانية ، تهافتت نظرية الأبعاد الثلاثة وانكسر سورها ، وثبت انّه إضافة للأبعاد والغرائز الثلاث الموجودة في الإنسان يوجد بعد وشعور آخر هو «الشعور الديني» والذي لا يقل أصالة عن الغرائز الأُخرى.

وها نحن نشير هنا بصورة مختصرة إلى كلّ من هذه الأبعاد الأربعة :

١. غريزة حبّ الاستطلاع : والتي عبّروا عنها بغريزة الصداقة وبما أنّ هذا الاصطلاح غير موصل لمقصودهم لذلك أبدلنا كلمة «الصداقة» بكلمة «الاستطلاع».

وهذه الغريزة هي التي دفعت وتدفع الفكر الإنساني ـ منذ البداية ـ إلى البحث وإلى دراسة المسائل والمشاكل والسعي لاكتشاف المجهولات وفك الرموز واستكناه الحقائق ... ، وهي الغريزة التي نشأت في ظلها العلوم

٢٠