الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

وأُخرى «العباد» ، وثالثة «أعمال العباد» ، وأُخرى «ذنوب العباد».

ثمّ إنّ بعض المفسّرين فسّروا وصف البصير بحضور المبصرات عنده سبحانه ، وهذا المعنى يصحّ في مورد الأشياء القابلة للرؤية ، ولكن في بعض الموارد أُطلق لفظ البصير في أُمور غير قابلة للرؤية ، مثل «الذنوب» ، لأنّ كثيراً من الذنوب غير قابلة للرؤية ، وبالطبع لا بدّ أن يكون المقصود بالبصير هنا العلم بالجزئيات ، والشاهد على ذلك إنّنا نرى في الموارد التي تكون فيها الذنوب متعلّقاً للبصير نراها مقترنة بلفظ «الخبير» ، كما يقول سبحانه : (بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

ولعلّ هدف الآيات المباركة أنّ الله يعلم علماً تفصيلياً بما يجري في العالم لا علماً إجمالياً ، وكلّ شيء في السرّ والعلن لا يخرج عن ساحة قدسه سبحانه.

من هذا البيان يتّضح أنّ نظرية المنكرين لتعلّق علم الله بالجزئيات ، بذريعة أنّ ذلك يستلزم التغيّر في الذات الإلهية لا تنسجم مع ظاهر هذه الآيات. ولعلّه لكون لفظة بصير تتضمن في اللغة العربية معنى الدقة والإمعان ، لذا استعمل القرآن تلك اللفظة في الموارد التالية :

١. التعرف على خصوصيات النفس : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ). (١)

والمقصود من الخصوصيات هنا الصفات والسجايا الحسنة والسيئة والميول الجميلة والقبيحة.

٢. أسرار العالم الخفية. وهذا ما يظهر لنا من قصة السامري ، حيث قال

__________________

(١). القيامة : ١٤.

٤١

لموسى عليه‌السلام : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ...). (١)

إلى هنا اتّضح لنا معنى البصير ، وسوف نشرع بتفسير لفظ (السميع).

تفسير وصف السميع

يظهر من القرآن الكريم أنّه استعمل لفظ السميع في معنيين :

الأوّل : بمعنى حضور المسموعات عنده سبحانه وتعالى ، وهذا المعنى له السهم الأوفر في الاستعمال.

والمعنى الثاني : (المجيب) يقول تعالى : (... سَمِيعُ الدُّعاءِ). (٢)

والحقّ أنّه لا يوجد للسميع إلّا معنى واحد ، وهو (السمع) وأنّ الله سبحانه في كلّ حال يسمع دعاء عباده ، ولكن تارة يقترن السمع بالإجابة ، وأُخرى لا يقترن ، وجملة (سَمِيعُ الدُّعاءِ) جامعة لكلا المعنيين ، وإذا فرضنا انّ المقصود من لفظ (سَمِيعُ الدُّعاءِ) أنّه مجيب الدعاء ، فإنّ تلك الخصوصية لا تستفاد من اللفظ ، وإنّما نستفيدها من القرائن الخارجية.

السمع والبصر بدون أدوات طبيعية

لا يخفى على الجميع أنّ الرؤية عند الإنسان وأيّ حيوان آخر إنّما تحدث بواسطة سلسلة من العمليات الفيزياوية والطبيعية ، وعلى هذا الأساس لا يمكن تصوّر السمع في حقّه سبحانه من خلال هذا الطريق ، ولذلك لا مناص من التمسّك بقاعدة «خذ الغايات ، واترك المبادئ» ، لأنّه لا هدف للإبصار غير العلم بالمبصرات ، وهكذا الهدف من السمع وهو العلم بالأمواج الصوتية ،

__________________

(١). طه : ٩٦.

(٢). آل عمران : ٣٨.

٤٢

فكلّما تحقّقت تلك الغاية بدون الحاجة إلى سلسلة من الأدوات والوسائل والفعّاليات الفيزياوية ، ففي مثل هذه الحالة تحصل حقيقة السامع والبصير ، وأنّ الآيات القرآنية المباركة لا تثبت أكثر من ذلك ، وهو كون الله بصيراً وسميعاً ، وأمّا أنّه سبحانه يمتلك خصوصيات الوجودات الإمكانية فلا تدلّ عليه الآيات.

ومن هنا وباعتبار أنّ جميع الوجودات الإمكانية حاضرة لديه سبحانه ، فلا شكّ أنّ المبصرات والمسموعات تكون هي أيضاً حاضرة لديه بصورة قهرية.

من هذا المنطلق نرى الكثير من المحقّقين يذهبون إلى أنّ هذين الوصفين ـ السميع والبصير ـ من شعب علم الله سبحانه بالجزئيات ، وأنّ حقيقة العلم هي حضور المعلوم لدى العالم لا غير ، وإذا ذهب بعض المتكلّمين إلى أنّ سمع الله يرجع إلى علم الله بالمسموعات فأنّ قوله هذا صحيح ، إذ من المسلم أنّ حضور الموجودات لدى الله سبحانه أعلى من حضورها لدى الإنسان عن طريق الصورة الذهنية.

من هنا يطرح السؤال التالي : إذا كان حضور المسموعات والمبصرات لديه سبحانه مصحّحاً لتوصيفه بالسميع والبصير ، فليكن هذا بعينه مصحّحاً لتوصيفه بأنّه لامس وذائق وشام؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة وهي : إنّ شرف وكرامة هذه الأوصاف لا يمكن قياسه مع وصفي السميع والبصير ، لأنّ أكثر علم الإنسان بالأشياء يحصل من خلال طريق السمع والبصر من هذه الجهة أنّ وصف الله بهذين الوصفين لا يلازم وصفه سبحانه بباقي الصفات المذكورة.

إضافة إلى ذلك إنّ لازم كون أسمائه سبحانه توقيفية ـ وإن كنّا لا نقول بذلك ـ الاكتفاء بالأسماء والصفات التي وصف اللهُ بها في الكتاب والسنّة.

٤٣

وفي الختام نشير إلى أنّ فرقة الأشاعرة استعملوا لفظ السميع والبصير في حقّه تعالى بنفس المعنى الذي يستعمل عند الإنسان ، ولكنّهم للفرار من القول بالتجسيم أضافوا قيداً إلى كلامهم وهو «بدون كيف» ، ولكنّنا بيّنا في بحوثنا المتعلّقة بعقائد الأشاعرة ، وبالخصوص في كتابنا «بحوث في الملل والنحل» إنّ إضافة مثل هذا القيد لا تجدي نفعاً ، ومن أراد التفصيل فعليه مراجعة الكتاب المذكور.

الروايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والبصير لا بتفريق آلة ، والشاهد لا بمماسّة». (١)

وقال عليه‌السلام : «يسمع لا بخروق وأدوات». (٢)

وقال عليه‌السلام في خطبة أُخرى : «بصير لا يوصف بالحاسّة». (٣)

وقد جمع المعنى كلّه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام في قوله : «سميع بصير ، أي سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويُبصر بنفسه» (٤). (٥)

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٥.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

(٣). نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٩.

(٤). توحيد الصدوق : ١٤٤.

(٥). منشور جاويد : ٢ / ١٦١ ـ ١٦٦.

٤٤

١١

تعدّد الصفات وبساطة الذات

سؤال : كيف يتناسب القول بتعدّد صفات الله سبحانه مع بساطة ذاته سبحانه؟

الجواب : إنّ السؤال إنّما يتوجّه إذا كان كلّ واحد من هذه الصفات يكون جزءاً خاصّاً ويحتل موضعاً معيّناً من ذاته سبحانه ، فحينئذٍ يمكن القول بأنّه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه ، ولكن إذا قلنا بأنّ كلّ واحد من هذه الصفات يكوّن «تمام» الذات ، برمّتها وبأسرها ، فلا يبقى حينئذٍ أيّ مجال لتصوّر التركيب في شأنه تعالى ، إذ ما المانع من أن يكون شيء على درجة من الكمال بحيث تكون ذاته ، علماً كلّها ، وقدرة كلّها ، وحياة كلّها ، دون أن تظهر أيّة كثرة في ذاته ، نعم لو كانت هناك كثرة فإنّما هي في عالم الاعتبار والذهن دون الواقع الخارجي ، إذ يكون في هذه الصورة مصداق العلم في الله نفس مصداق القدرة ، ويكون كلاهما نفس مصداق الذات بلا مغايرة ولا تعدّد.

ولتقريب هذا المعنى الدقيق نشير إلى مثال له في عالم الممكنات.

ولنأخذ مثلاً : (الإنسان) فكلّ وجوده مخلوق لله ، بينما هو أيضاً بكلّه

٤٥

معلوم له سبحانه دون أن يكون معنى ذلك أنّ جزءاً من ذات الإنسان معلوم لله والجزء الآخر مخلوق له سبحانه ، بل كلّه معلوم لله في عين كونه مخلوقاً كلّه له سبحانه ، وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

وللمزيد من التوضيح لاحظ النور ، فإنّ الإضاءة والحرارة من خواص النور ولكن ليست الكاشفية والإضاءة مرتبطة بناحية خاصة من وجوده ، بل الإضاءة والكاشفية خاصّية تمامه دون تبعّض ، كما أنّ الحرارة هي أيضاً خاصّية تمام وجوده دون أن يستلزم ذلك أيّ تعدد في ذات النور وحقيقته.

٤٦

١٢

مراتب التوحيد

سؤال : لننقل الحديث إلى مراتب التوحيد ، فما هي أقسام ومراتب التوحيد؟

الجواب : انّ للتوحيد مراتب فصّلها العلماء في كتبهم الكلامية والاعتقادية ، وحدّدوها في أربعة أقسام نشير إليها بصورة إجمالية :

الاوّل : التوحيد في الذات

والمراد منه هو أنّه سبحانه واحد لا نظير له ، فردٌ لا مثيل له ، بل لا يمكن أن يكون له نظير أو مثيل.

وليس هو سبحانه لا نظير له ولا مثيل ، بل أنّ ذاته سبحانه بسيط مطلق ، منزّه عن التركيب والأجزاء. وفي هذا القسم أُشير إلى نوعين من التوحيد :

١. في ذاته لا نظير له في الوجود ولا مثيل.

٢. انّه بسيط ومنزّه عن التركيب.

الثاني : التوحيد في الصفات

نحن نعتقد أنّ الله تعالى موصوف بكلّ الصفات الكمالية فإنّه عالم ،

٤٧

قادر ، حيّ و ... ولكن هذه الصفات تتفاوت فيما بينها من حيث المفهوم ، فما نفهمه من لفظة عالم غير ما نفهمه من لفظة قادر. ولكن النقطة الجديرة بالبحث هي أنّ هذه الصفات متغايرة مفهوماً ولكنّها في الخارج متحدة وانّها جميعاً عين ذاته سبحانه.

فمثلاً علم الله عين ذاته ، وأنّ ذاته سبحانه علمٌ كلّها وفي نفس الوقت ذاته سبحانه عين قدرته ، وليس معنى ذلك أنّ واقع علمه سبحانه في ذاته شيء وواقع قدرته شيء آخر ، بل كلٌ منهما عين الأُخرى والجميع عين ذاته.

ولتقريب هذا المعنى الدقيق نشير إلى المثال التالي : من المعلوم أنّ كلّ واحد منّا مخلوق لله بينما هو أيضاً معلومٌ له سبحانه ، وصحيح أنّ مفهوم «المعلوم» غير مفهوم «المخلوق» ، ولكن في مقام التطبيق جميع وجودنا معلوم له ، وكذلك جميع وجودنا مخلوق له دون أن يكون معنى ذلك أنّ جزءاً من ذاتنا معلوم لله والجزء الآخر مخلوق له سبحانه ، بل كلّه معلوم لله في عين كونه مخلوقاً كلّه له ، ولكن في مقام المصداق كلّ صفة من الصفتين عين الأُخرى والمجموع عين ذاتنا.

الثالث : التوحيد في الأفعال

نحن نعلم أنّ هناك في عالم الطبيعة سلسلة من العلل والأسباب الطبيعية لها آثار خاصّة مثل الشمس والإشراق الذي هو أثرها ومعلولها ، والنار والإحراق الذي هو أثرها ومعلولها ، والسيف والقطع الذي هو أثره ومعلوله ، والتوحيد الأفعالي هو أن نعتقد بأنّ هذه الآثار مخلوقة هي أيضاً لله تعالى كما أنّ عللها مخلوقة له سبحانه.

٤٨

ثمّ إنّ التوحيد الأفعالي لا يعني إنكار العلل الطبيعية ، بل يعني الاعتراف بأنّ للعلل كالشمس والنار والسيف تمام المشاركة في ظهور آثارها ، وأنّ هذه الآثار هي من خواص هذه العلل ، ومع هذا الاعتراف لا بدّ من الإذعان بأنّه لا مؤثّر حقيقة في صفحة الوجود إلّا الله ، وأنّ تأثيره سبحانه على نحو الاستقلال وأمّا تأثير ما سواه من المؤثرات إنّما هو في ظل قدرته تعالى ، فمنه تكتسب الشمس القدرة على الإشراق والإضاءة ، ومنه تكتسب النار خاصية الإحراق والحرارة ، وأنّه تعالى هو الذي منح هذه العلل والأسباب هذه الخواص وأعطاها هذه الآثار كما منحها وجودها قبل ذلك.

الرابع : التوحيد في العبادة

يعني أنّ العبادة لا تكون إلّا لله وحده ، وأنّه لا يستحقّ أحدٌ أن يتخذ معبوداً مهما بلغ من الكمال والجلال وحاز من الشرف والعلاء ، ذلك لأنّ الخضوع العبودي أمام كلّ أحد لا يجوز إلّا لأحد سببين لا يتوفران إلّا في الله تعالى :

١. أن يبلغ المعبود حدّاً من الكمال يخلو معه عن أي عيب أو نقص ، فيستوجب ذلك الكمال أن يخضع له كلّ منصفٍ ويعبده كلّ من يعرف قيمة ذلك الكمال المطلق.

فمثلاً الشيء الذي يتحلّى بالوجود اللامتناهي الذي لا يشوبه عدم ، والعلم اللامحدود الذي لا يخالطه جهل ، والقدرة المطلقة التي لا يمازجها عجز ، والحياة والبصر والسمع اللامتناهي ، هذه الأُمور تدفع كلّ ذي وجدان سليم وضمير حي إلى التعظيم والخضوع لصاحبها وإظهار العبودية أمامه

٤٩

والتذلّل له.

٢. أن يكون ذلك المعبود بيديه مبدأ العالم والإنسان ومنشأ حياته ، فيكون خالقه وواهب الجسم والروح له ومانح الأنعم والبركات ومسبغها عليه بحيث لو قطع عنه فيضه لحظة من اللحظات عاد عدماً واستحال خبراً بعد أثر.

هذا والجدير بالذكر أنّ عبادة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين لله سبحانه لم تكن إلّا لكمال ذلك المعبود المطلق ، فهم لمعرفتهم الفضلى واطّلاعهم الأعمق على عالم الغيب عبدوا الله سبحانه لما وجدوا فيه من الجمال المطلق والكمال اللامحدود ، ولأجل أنّهم وجدوه أهلاً للعبادة والتقديس والخضوع والتعظيم عبدوه وقدّسوه وخضعوا له وعظموه. حتى أنّهم كانوا سيعبدونه «حتماً» حتّى ولو لم يكن هناك العامل والسبب الثاني للعبادة ، في حين أنّ الآخرين إنّما يعبدون الله لكونه خالقهم ومصدر وجودهم وسابغ الأنعم عليهم وواهب القدرة لهم ، ولأنّ بيده مفتاح كلّ شيء.

على كلّ حال سواء كانت علّة العبادة هي كمال المعبود ، أو كانت ملاكاً آخر ، فإنّ العبادة لكلا الملاكين المذكورين مخصوصة بالله وليس معه في ذلك شريك أبداً ، وبذلك تكون عبادة غير الله أمراً مرفوضاً في منطق العقل والشرع على السواء.

هذا ثمّ إنّ هناك مجالات أُخرى يجب توحيده سبحانه فيها ، وهي :

١. التوحيد في الحاكمية

لقد وجه القرآن الكريم عناية خاصة إلى «التوحيد في الحاكمية» بحيث يتبين بوضوح أنّ الحكم والولاية ووفقاً للنظرية القرآنية منحصران في الله تعالى

٥٠

وحده ، وانّه لا يحق لأحد أن يحكم العباد دونه ، وأنّه لا شرعية لحاكمية الآخرين إلّا إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية وقائمة بأمره تعالى ، وفي غير هذه الصورة لن يكون ذلك الحكم إلّا «حكماً طاغوتياً» لا يتّصف بالشرعية مطلقاً ولا يقرّه القرآن والشرع أبداً.

على أنّنا حينما نطرح هذا الكلام ونقول : بأنّ الحكم محض حقّ لله تعالى وأنّ الحاكمية منحصرة فيه دون سواه ، فليس يعني ذلك أنّ على الله أن يباشر هذه الحاكمية بنفسه ، ويحكم بين الناس ويدير شئون البلاد والعباد دون ما واسطة ، ليقال إنّ ذلك محال وغير ممكن ، أو يقال إنّ ذلك يشبه مقالة الخوارج إذ قالوا للإمام علي عليه‌السلام رافضين حكمه وإمارته :

«إن الحكم إلّا لله ، لا لك يا علي ، ولا لأصحابك». (١)

بل مرادنا هو : أنّ حاكمية أي شخص يريد أن يحكم البلاد والعباد ، لا بدّ أن تستمد مشروعيتها من : «الإذن الإلهي» له بممارسة الحاكمية ، فما لم تكن مستندة إلى هذا الإذن لم تكن مشروعة ولم يكن لها أي وزن ، ولا أي قيمة مطلقاً.

ونفس هذا الكلام جار في مسألة الشفاعة أيضاً ، فعند ما يصرّح القرآن وبوضوح قائلاً : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً). (٢) لا يعني أنّه لا يشفع إلّا الله ، إذ لا معنى لأن يشفع الله لأحد ، بل المفاد والمراد من هذه الآية هو أنّه ليس لأحد أن يشفع إلّا بإذن الله ، وأنّه لا تنفع الشفاعة إذا لم تكن برضاه ومشيئته.

__________________

(١). كان هذا شعار الخوارج يرددونه في المسجد وغيره من الأمكنة.

(٢). الزمر : ٤٤.

٥١

٢. التوحيد في الطاعة

كما أنّ الحاكمية على العباد مختصة بالله سبحانه ، كذلك لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً غير الله ، فالطاعة هي الأُخرى حقّ منحصر بالله سبحانه لا يشاركه فيها أحد ولا ينازعه فيها منازع.

وأمّا لو شاهدنا القرآن يأمرنا ـ في بعض الموارد ـ بطاعة غير الله ، مثل الأنبياء والأولياء فليس معنى ذلك أنّ طاعة هؤلاء واجبة بالذات ، بل معناه أنّ وجوب طاعتهم هو (عين) طاعته سبحانه ، وبأمره.

وبتعبير أجلى : حيث إنّ الله تعالى (أمر) بطاعة هؤلاء ، لهذا وجبت إطاعتهم واتّباع أوامرهم والانقياد لأقوالهم امتثالاً لأمر الله وتنفيذاً لإرادته ، فلا يكون هناك حينئذٍ إلّا (مطاع واحد) في واقع الحال وهو الله جلّ جلاله ، وأمّا إطاعة الآخرين (أي غير الله) فليست إلّا في ظلّ إطاعة الله تعالى شأنه ، وفرع منها.

٣. التوحيد في التقنين

إنّ حقّ التقنين والتشريع ـ هو الآخر ـ مختص بالله في نظر القرآن الكريم فليس لأحد سوى «الله» حقّ التقنين والتشريع وجعل الأحكام وسنّ القوانين للحياة البشرية.

ولذلك فإنّ الذين أعطوا مثل هذا الحقّ للأحبار والرهبان خرجوا من دائرة التوحيد في التقنين ودخلوا في زمرة المشركين.

وعلى هذا الأساس تكون وظيفة الأفراد الآخرين كالأنبياء والأئمّة بيان الأحكام ، ووظيفة الفقهاء والمجتهدين العظام هي استنباط الأحكام ومعرفة

٥٢

القوانين وطرح البرامج ، لا تقنين وتشريع الأحكام. ويمكن إدراج هذا القسم ـ أي التوحيد في التقنين ـ تحت قسم (التوحيد الأفعالي) ولكن من الأفضل أن نفرد له قسماً خاصّاً ، وبحثاً مستقلاً ، لأنّ المقصود بالأفعال في «التوحيد الأفعالي» ، هو الأفعال التكوينية ، أي المرتبطة بعالم الخلق والتكوين والطبيعة ، في حين أنّ التقنين والتشريع نوع من الأُمور الاعتبارية والجعلية العقلائية ، ومن هنا يكون فصل هذين البحثين أمراً مناسباً جدّاً.

٥٣

١٣

ملاك الشرك في العبادة

سؤال : ما هو معيار وملاك الشرك في العبادة؟

الجواب : من مراتب التوحيد ، التوحيد في العبادة بمعنى الاعتقاد بأن العبودية والعبادة تختصّ بالله تعالى ، وأنّ غيره ـ مهما كان ـ غير لائق بأن يعبد ، وهذا ما نؤكده في صلاتنا اليومية حيث نخاطبه سبحانه بقولنا :

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

ويمكن تعريف العبادة بثلاثة تعاريف مختلفة :

ألف. هي الخضوع اللفظي أو العملي النابع من الاعتقاد بألوهية المعبود.

وعلى هذا الأساس كلّ لفظ أو عمل لا ينشأ من هذا الاعتقاد لا يُعدّ عبادة.

ويؤيد ذلك الآيات التي تأمر بعبادة الله سبحانه وتنهى عن عبادة غيره.

يقول سبحانه : (... يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ...). (١)

__________________

(١). الأعراف : ٥٩.

٥٤

ب. العبادة هي الخضوع والخشوع أمام موجود يعتقد أنّه ربّه ومدبّره. شبيه صاحب البستان أو الضيعة الذي يقوم بإدارة أُمورها وتربيتها ، وهذا يعني أنّ ملاك عبادة المعبود هو الاعتقاد بربوبيته.

والشاهد على هذا التعريف الآيات التي تحصر سبب العبودية لله سبحانه بكونه هو الرب الوحيد.

١. (... وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...). (١)

٢. (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ). (٢)

٣. (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). (٣)

ج. العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه إله العالم ، أو الخضوع أمام موجود يعتقد أنّ أُمور العالم قد فوّضت إليه ، سواء كانت الأُمور التكوينية ، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة ، أو كانت من قبيل الأُمور التشريعية ، مثل التقنين والشفاعة والمغفرة.

إنّ الإنسان الموحّد يؤمن بأنّ جميع الأُمور التكوينية والتشريعية تصدر حقيقة من الله سبحانه وتعالى ، وإنّ الله سبحانه لم يفوّض أمر مخلوقاته إلى موجود آخر ، ولذلك يعبد الله سبحانه ويطيعه ؛ أمّا الإنسان المشرك وإن كان يعتقد أنّ الآلهة والأرباب الأُخرى مخلوقة للحق تعالى ، ولكنّه في نفس الوقت يعتقد أنّ بعض أو كلّ الأُمور التكوينية والتشريعية قد فوضت إليهم ، وانطلاقاً من هذا المعتقد يتوجّه إلى الكواكب والأصنام ليطلب منها هطول المطر

__________________

(١). المائدة : ٧٢.

(٢). الأنبياء : ٩٢.

(٣). آل عمران : ٥١ ، وآيات أُخرى بنفس المضمون كما في سورة يونس : ٩٩ ، الحجر : ٦٥ ، مريم : ٣٦ ، والزخرف : ٦٤.

٥٥

والشفاعة والعون والنصرة في الحق ، لأنّ تلك الأُمور قد فوّضت إليهم.

وبإمعان النظر في التعاريف الثلاثة الماضية بالعبادة يتّضح جليّاً المعيار الأساسي للتوحيد والشرك في العبادة. فكلّ خضوع ناشئ من الاعتقاد بألوهية أو ربوبية المعبود أو كون المعبود قد فوض إليه أمر الموجودات يُعدُّ عبادة ، سواء أكان هذا الاعتقاد حقاً وصحيحاً ، كما في عبادة الله سبحانه ؛ أو كان الاعتقاد باطلاً وغير صحيح ، كما في عبادة الأصنام.

أمّا إذا كان خضوع الإنسان مجرّداً عن هذا الاعتقاد فلا يعدُّ خضوعه عبادة ، بل يُعدُّ تعظيماً وتقديساً ولا يعتبر الإنسان الخاضع حينئذٍ مشركاً ولا عمله شركاً.

ولكن الجدير بالذكر أنّ هذا التعظيم والاحترام غير العبادي تارةً يكون جائزاً وحلالاً ، كتعظيم الأنبياء والأولياء والمعلّمين والمربّين ؛ وأُخرى يكون حراماً وغير جائز ، مثل السجود للأنبياء والأولياء ، ولكن حرمة هذا العمل لا تنبع من كونه عبادةً ، بل بسبب الدليل الذي حرم السجود لغير الله وأنّ ما سواه سبحانه لا يستحقّ السجود له.

من هنا وبعد أن اتّضح الفرق بين التعظيم والعبادة نصل إلى النتيجة التالية ، وهي : إنّ بعض الأعمال التي يقوم بها الإنسان من قبيل تقبيل القرآن الكريم أو أضرحة الأنبياء والأولياء وما يتعلّق بهما لا يُعدُّ عبادة إذا لم يكن مقترناً باعتقاد الألوهية أو الربوبية أو التفويض.

٥٦

١٤

السجود لآدم والتوحيد في العبادة

سؤال : مع الاعتقاد بوجوب التوحيد في العبادة كيف يمكن لنا أن نوجه سجود الملائكة لآدم عليه‌السلام؟

الجواب : لقد ذكرت في هذا المجال إجابات متعدّدة ومختلفة ، ولكنّ الجواب المحكم والمتقن عن هذه الشبهة والإشكالية هو التمييز بين أنواع السجود ، فليس كلّ سجود يُعدّ عبادة للمسجود له ، بل تارةً يكون السجود عبادة ، وذلك إذا كان نابعاً من الاعتقاد بألوهية وربوبية المسجود له ـ أي الاعتقاد بأنّ المسجود له هو الله أو مصدر الأفعال الإلهية ـ أمّا إذا كان السجود مجرّداً عن هذا الاعتقاد ، كما إذا سجد احتراماً وتعظيماً للأولياء أو الآباء فلا يُعدُّ حينئذٍ عبادة ، وباعتبار أنّه ليس لسجود الملائكة لآدم علةٌ غير التعظيم والتكريم لآدم عليه‌السلام ، وأنّ الملائكة لا يحملون ذرة اعتقاد بألوهية آدم عليه‌السلام ، فلذلك لا يُعدُّ سجودهم ـ الملائكة ـ عبادة.

روى أبو بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : سجدت الملائكة لآدم عليه‌السلام ووضعوا جباههم على الأرض؟ قال : «نعم تكرمة من الله تعالى». (١)

__________________

(١). بحار الأنوار : ١١ / ١٣٩.

٥٧

وفي حديث آخر عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، قال :

«إنّ السجود من الملائكة لآدم لم يكن لآدم وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لآدم». (١)

إنّ القرآن الكريم يشهد وبجلاء أنّ أبناء يعقوب عليه‌السلام قد سجدوا أمام يوسفعليه‌السلام ليتحقّق صدق رؤيا يوسف عليه‌السلام ، حيث قال سبحانه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ...). (٢)

إنّ الآية المباركة تبيّن وبوضوح أنّ السجود للإنسان في بعض الشرائط الخاصّة لا يُعدُّ عبادة ، وأنّ ذلك كان جارياً في الشرائع السابقة ، وإن كان قد حُرِّمَ ذلك في الشريعة الإسلامية حتّى إذا كان لا يُعدُّ عبادة. (٣)

__________________

(١). بحار الأنوار : ١١ / ١٣٩ ، وفي نور الثقلين : ١ / ٤٩ نحوه.

(٢). يوسف : ١٠٠.

(٣). منشور جاويد : ٤ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٥٨

١٥

التوسّل بالأسباب والتوحيد في الربوبية

سؤال : هل التوسّل بالأسباب الطبيعيّة والماديّة يُعدُّ شركاً؟

الجواب : إنّ التوسّل بالأسباب الطبيعية والمادية لا يُعدُّ شركاً عند جميع الشعوب والأديان ، فلا تجد شعباً أو أُمّة تعدّه من الشرك ، بل انّ أساس حياة الإنسانية قوامه بالاعتماد على هذه الأسباب الطبيعية ، ولكنّ الوهابيّين اعتبروا التمسّك بالأسباب غير الطبيعية والعادية نوعاً من الشرك ، وتصوّروا أنّ الاعتقاد بتأثير تلك الأسباب ملازم للاعتقاد بألوهيّتها ، وبنوا على هذا التصوّر أنّ التوسّل بها يُعدُّ عبادة لها.

إذا اعتقد إنسان ما ـ حقّاً أو باطلاً ـ أنّه يوجد لنيل مرامه طريقان : أحدهما : طبيعي ، والآخر : غير طبيعي ؛ فينبغي عليه أن يسلك الطريق الطبيعي في حال توفّره لنيل مطلوبه. وإذا لم يتسنّ له الوصول إلى غرضه من خلال الطريق الطبيعي ، فبإمكانه أن يسلك الطريق الغير الطبيعي الذي سيوصله إلى الغرض بعد طيّ مقدّمات وشرائط خاصة. فحينئذٍ إذا سلك الإنسان الطريق الطبيعي بهذه النيّة معتقداً أنّ الله قد منحها التأثير. (١)

__________________

(١). «هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً ...» (يونس : ٥).

٥٩

أو يسلك الطريق الغير الطبيعي في اعتقاد أنّ الله سبحانه قد جعل الشفاء ـ وتحت شرائط خاصة ـ في قبضة من التراب ، أو أنّ الله أعطى المسيح عليه‌السلام القدرة على شفاء المرضى بإذنه تعالى من خلال المسح بيده على المريض ، وكذلك منحه القدرة على أحياء الموتى ؛ فلا يُعدّ ذلك شركاً.

فإذا يئس الإنسان من تأثير العلل والأسباب الطبيعية ، ولكنّه لم ييأس ويرى أنّ نافذة الأمل ما زالت مفتوحة أمامه ويتّجه صوب تربة كربلاء أو أنفاس السيد المسيح عليه‌السلام ، فهل من الصحيح يا ترى أن نقول إنّه قد اتّخذ من التراب أو المسيح إلهاً يعبده من دون الله ، في الوقت الذي نراه يُصرّح بمعتقده : أنّ الله سبحانه هو الذي منح التراب ذلك الأثر ، وهو الذي أعطى لعبده السيد المسيح تلك القدرة؟! فإذا كان التوسّل بالأسباب غير الطبيعية يُعدُّ شركاً فلا بدّ من عدّ التوسّل بالأسباب الطبيعية شركاً أيضاً.

نعم من الممكن أن تناقش هذا الإنسان ـ الذي يعتقد أنّ الله قد منح تربة سيد الشهداء عليه‌السلام القدرة على الشفاء ، أو منح السيد المسيح عليه‌السلام القدرة على الابراء والإحياء وتخطئه ، أو تطلب منه الدليل والبرهان على معتقده ، وأن تنفي أنّ الله قد منح التربة أو السيد المسيح تلك القدرة والطاقة ، ولكن ليس من حقّك أن تعدُّه مشركاً بسبب ذلك الاعتقاد ، وذلك لأنّ أساس الاستفادة من الأسباب الطبيعية وغير الطبيعية عنده على حدّ سواء ، حيث يؤمن بأنّ الله هو الذي منح الشمس خاصية الإشراق ، ومنح القمر خاصية التلألؤ ، ومنح النار خاصية الإحراق ، والعسل خاصية الشفاء. (١)

إنّ الله الذي منح تلك الأشياء خصائصها هو نفسه الذي منح التراب

__________________

(١). «... فيه شفاء للناس» (النحل : ٦٩).

٦٠