الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

مِنَ النِّساءِ) ، وما هذا إلّا لقرابتهن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلتهنّ بأهل بيته.

وهكذا يتّضح جليّاً من خلال هذا البيان أنّ طرح عصمة أهل البيت في أثناء الآيات المتعلّقة بنساء النبي يعتبر من أبلغ الكلام وأحسنه.

الدليل الثاني على استقلالها

لا يمكن أن تكون هذه الآية ـ وبأي نحو من الأنحاء ـ تتعلّق بنساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأنّ لغة الآيات الواردة حول نساء النبي لغة الإنذار والتهديد ولكن لغة الآية المرتبطة بأهل البيت عليهم‌السلام لغة مدح وثناء وتعريف ، فجعل الآيتين آية واحدة وإرجاع الجميع إليهنّ ممّا لا يقبله الذوق السليم ، فلا مناصة ، بل من المستحسن أن نقول : إنّ الآية نزلت بصورة مستقلّة عن باقي الآيات وانّها أُدرجت بين تلك الآيات لمصلحة ما.

الدليل الثالث على استقلالها

الدليل الثالث على استقلالية الآية هو أنّنا إذا رفعنا آية التطهير من ذيل الآية الثالثة والثلاثين لا يحدث أدنى خلل في نظم الآية ومضمونها.

انّه تعالى يقول في الآية ٣٣ : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ ...).

وفي الآية ٣٤ : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً).

فلو رفعنا قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ ...) وضممنا الآية ٣٤ إليها جاءت الآية تامّة من دون حدوث أيّ خلل بالمعنى والنظم ، سواء قلنا : إنّ مجموع الآيتين آية واحدة أو أنّهما آيتان ، فالنتيجة واحدة ، وإن كان الاحتمال

٤٢١

الأوّل هو المتعيّن ، لحفظ فواصل الآيات ، لأنّه لا يمكن اعتبار جملة (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) نهاية آية أو بحسب الاصطلاح فاصلة الآية.

وحينئذٍ يطرح التساؤل التالي نفسه ، ما هو السر في جعل الآية جزءاً من الآيات الأُخرى؟

والجواب : انّ تاريخ صدر الإسلام يحدّثنا عن أنّ الكثير من المسلمين كانت في نفوسهم حسّاسية خاصة بالنسبة إلى علي وأهل بيته فما من قبيلة أو عشيرة إلّا وقد قتل عليٌّ أحد رجالها في أثناء الحروب والغزوات الإسلامية ، ولذلك كانت نفوسهم تغلي كالمرجل حقداً وبغضاً وحسداً لعليّ حتّى أنّهم تمكّنوا من الانتقام من علي وأهل بيته بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبسبب هذه الحساسية وهذه المواقف من قريش وأمثالها أمر سبحانه وتعالى نبيّه أن يضع تلك الآية التي تدلّ على طهارة وعصمة أهل بيت النبي في طيات الآيات التي تتحدّث عن نساء النبي لكي لا ينكشف الأمر بصورة جلية جداً ، ثمّ لكي لا يقع الناس في الاشتباه والخطأ قام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الحديث والسنّة بتوضيح مفاد الآية وأزاح الستار عن مراد الآية الحقيقي.

وهذا العمل شبيه بما يقوم به العقلاء والحكماء من وضع الحاجات القيّمة والثمينة بين الأشياء التي لا تثير انتباه الناس الأجانب وإن كان الأمر واضحاً وجلياً لأفراد العائلة. وهذا عين ما نجده في الآية الثالثة من سورة المائدة :

(... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...).

٤٢٢

فإنّ الآية تتحدّث عن أحكام اللحوم ، وهي تتكون من ثلاثة مقاطع :

١. (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...).

٢. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...).

٣. (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ...).

ولا ريب أنّ القسم الثاني لا علاقة له بالقسم الأوّل وكذلك لا علاقة له بالقسم الثالث حتّى أنّنا إذا رفعنا هذا القسم من الآية لا يتأثر مضمون الآية بأيّ وجه من الوجوه ، نعم المصالح السياسية ورفع الحساسية اقتضت أن يوضع هذا المقطع في وسط تلك الآية التي تتحدث عن أحكام اللحوم.

وقد حان الوقت لتسليط الضوء على ما ادّعي من نزول الآية في خصوص نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نزولها في نسائه عليه الصلاة والسلام

قد تعرفت على دلائل القول وقرائنه ومؤيداته وأحاديثه المتواترة التي أطبق على نقلها تسع وأربعون صحابياً وصحابية من أُمهات المؤمنين ، وقد تلقته الأُمّة بالقبول في القرون الماضية ، وأمّا القول الثاني أعني نزولها في نسائه وزوجاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد نسب إلى أشخاص نقل عنهم ، منهم :

١. ابن عباس.

٢. عكرمة.

٣. عروة بن الزبير.

٤. مقاتل بن سليمان.

٤٢٣

أمّا الأوّل : فقد نقل عنه تارة ، عن طريق سعيد بن جبير ، وأُخرى عن طريق عكرمة ، قال السيوطي في الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس عن قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ ...) قال : نزلت في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال أيضاً : أخرج ابن مردويه عن طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا الثاني : أعني عكرمة ، فقد نقله عنه الطبري ، عن طريق «علقمة» وانّ عكرمة كان ينادي في السوق : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ...) نزلت في نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ونقل في الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن عكرمة في قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ...) إنّه قال ليس بالذي تذهبون إليه إنّما هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا الثالث : أعني : عروة بن الزبير ، فقال السيوطي : وأخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير انّه قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قال : أزواج النبي نزلت في بيت عائشة.

وأمّا الرابع : فقد نقل عنه في أسباب النزول. (١)

تحليل هذه النقول

أمّا نقله عن ابن عباس فليس بثابت ، بل نقل عنه خلاف ذلك ، فقد نقل

__________________

(١). تفسير الطبري : ٢٢ / ٧ و ٨ ؛ والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي : ٥ / ١٩٨ ؛ وأسباب النزول للواحدي : ٢٠٤.

٤٢٤

السيوطي في «الدر المنثور» قال : وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)».

وليس ابن مردويه فريداً في هذا النقل ، فقد نقله عنه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (١) بسند ينتهي إلى أبي صالح ، عن ابن عباس : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) نزلت في رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين. والرجس: الشك.

كما نقله الحافظ الحسين بن الحكم الحبري في «تنزيل الآيات» عن أبي صالح بمثل ما سبق. (٢)

وممن رواه عن ابن عباس صاحب أرجح المطالب ص ٥٤ طبع لاهور ، والعلّامة إسماعيل النقشبندي «في مناقب العترة».

أضف إلى ذلك أنّ من البعيد أن يخفى على ابن عباس حبر الأُمّة ما اطّلع عليه عيون الصحابة وأُمّهات المؤمنين ، وقد أنهى بعض الفضلاء السادة (٣) عدد رواة الحديث من الصحابة إلى تسعة وأربعين صحابياً. وجمعها من مصادر الفريقين في الفضائل والمناقب.

وأمّا عكرمة

فقد ثبت تقوّله بذلك كما عرفت ، لكنّ في نفس كلامه دليلاً واضحاً على أنّ

__________________

(١). شواهد التنزيل : ٢ / ٣٠.

(٢). تنزيل الآيات : ٢٤ «مخطوط» منه نسخة في جامعة طهران. لاحظ إحقاق الحق : ١٤ / ٥٣.

(٣). آية التطهير في حديث الفريقين.

٤٢٥

الرأي العام يوم ذاك في شأن نزول الأُمّة هو نزولها في حق فاطمة ، وانّما تفرّد هو بذلك ، ولأجله رفع عقيرته في السوق بقوله : ليس بالذي تذهبون إليه وإنّما هو نساء النبي. أضف إلى ذلك : انّ تخصيص هذه الآية بالنداء في السوق وانّها نزلت في نساء النبي يعرب عن موقفه الخاص بالنسبة إلى من اشتهر نزول الآية في حقهم ، وإلّا فالمتعارف بين الناس هو الجهر بالحقيقة بشكل معقول لا بهذه الصورة المعربة عن الانحراف عنهم.

هذا كله حول ما نقل عنه ، وأمّا تحليل شخصيته وموقفه من الأمانة والوثاقة ، وانحرافه عن علي وانحيازه إلى الخوارج وطمعه الشديد بما في أيدي الأُمراء فحدث عنه ولا حرج ، ولأجل إيقاف القارئ على قليل مما ذكره أئمّة الجرح والتعديل في حقه نأتي ببعض ما ذكره الإمام شمس الدين الذهبي نقّاد الفن في كتابيه : «تذكرة الحفاظ» ، و «سير أعلام النبلاء» ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب الجرح والتعديل.

نقل الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفّى ٧٤٨ ه‍ في «سير أعلام النبلاء» هذه الكلمات في حق عكرمة :

١. قال أيوب : «قال عكرمة : إنّي لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلّم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم ...» ما معنى هذه الكلمة؟ وهل يقولها إنسان يملك شيئاً من العقل والوقار؟!

٢. قال ابن لهيعة : وكان يحدّث برأي نجدة الحروري (١) وأتاه ، فأقام عنده ستة أشهر ، ثمّ أتى ابن عباس فسلّم ، فقال ابن عباس : قد جاء الخبيث.

__________________

(١). هو نجدة بن عامر الحروري الحنفي من بني حنيفة رأس الفرقة النجدية ، انفرد عن سائر الخوارج بآرائه.

٤٢٦

٣. قال سعيد بن أبي مريم ، عن أبي لهيعة ، عن أبي الأسود قال : كنت أوّل من سبّب لعكرمة الخروج إلى المغرب وذلك أنّي قدمت من مصر إلى المدينة فلقيني عكرمة وسألني عن أهل المغرب ، فأخبرته بغفلتهم ، قال : فخرج إليهم وكان أوّل ما أحدث فيهم رأي الصفريّة. (١)

٤. قال يحيى بن بكير : قدم عكرمة مصر ونزل هذه الدار وخرج إلى المغرب ، فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا.

٥. قال علي بن المديني : كان عكرمة يرى رأي نجدة الحروري.

٦. وقال أحمد بن زهير : سمعت يحيى بن معين يقول : إنّما لم يذكر مالك عكرمة ـ يعني في الموطأ ـ قال : لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفريّة.

٧. وروى عمر بن قيس المكي ، عن عطاء قال : كان عكرمة أباضياً. (٢)

٨. وعن أبي مريم قال : كان عكرمة بيهسياً. (٣)

٩. وقال إبراهيم الجوزجاني : سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة ، أكان يرى رأي الأباضية؟

فقال : يقال : انّه كان صفرياً ، قلت : أتى البربر؟ قال : نعم ، وأتى خراسان يطوف على الأُمراء يأخذ منهم.

١٠. وقال علي بن المديني : حكى عن يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلّا كافر. قال : وكان يرى رأي الاباضية. (٤)

__________________

(١). هم فرقة من الخوارج أتباع زياد بن الأصفر.

(٢). هم أتباع عبد الله بن أباض ، رأس الأباضية.

(٣). فرقة من الصفرية أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعي رأس الفرقة البيهسية من الخوارج.

(٤). لاحظ سير أعلام النبلاء للذهبي : ٥ / ١٨ ـ ٢٢.

٤٢٧

وقال في «ميزان الاعتدال» (١) : وقد وثقه جماعة ، واعتمده البخاري ، وأمّا مسلم فتجنّبه ، وروى له قليلاً مقروناً بغيره ، وأعرض عنه مالك ، وتحايده إلّا في حديث أو حديثين.

عفان ، حدثنا وهيب قال : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب ، فذكرا عكرمة فقال يحيى : كذاب ، وقال أيوب : لم يكن بكذاب.

عن عبد الله بن الحارث : دخلت على علي بن عبد الله بن عباس فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت : ألا تتقي الله؟ قال : إنّ هذا الخبيث يكذب على أبي.

سئل محمد بن سيرين عن عكرمة؟ فقال : ما يسؤني أن يكون من أهل الجنة ولكنّه كذّاب.

هشام بن عبد الله المخزومي : سمعت ابن أبي ذئب يقول : رأيت عكرمة وكان غير ثقة.

وعن بريد بن هارون قال : قدم عكرمة البصرة ، فأتاه أيوب ويونس وسليمان التيمي ، فسمع صوت غناء فقال : اسكتوا ، ثمّ قال : قاتله الله لقد أجاد.

وعن خالد بن أبي عمران قال : كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال : وددت أن بيدي حربة فاعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً.

وعن يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلّا كافر.

قال : ويرى رأي الأباضية ، انّ عكرمة لم يدع موضعاً إلّا خرج إليه : خراسان والشام واليمن ومصر وافريقية ، كان يأتي الأُمراء فيطلب

__________________

(١). ميزان الاعتدال : ٣ / ٩٣ ـ ٩٧.

٤٢٨

جوائزهم.

وقال عبد العزيز الدراوردي : مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فما شهدهما إلّا سودان المدينة.

وعن ابن المسيب أنّه قال لمولاه «برد» : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

أفبعد هذه الكلمات المتضافرة الحاكية عن انحراف الرجل عن جادة الحق ، وتكفيره عامّة المسلمين ، وتمنّيه أن يقتل كل من شهد الموسم ، يصح الاعتماد عليه في تفسير الذكر الحكيم؟ والأسف أنّ المفسرين نقلوا أقواله وأرسلوها ولم يلتفتوا إلى أنّ الرجل كذّاب على مولاه وعلى المسلمين ، فواجب على عشاق الكتاب العزيز وطلاب التفسير ، تهذيب الكتب عن أقوال وآراء ذلك الدجال ومن يحذو حذوه.

عروة بن الزبير

وأمّا عروة بن الزبير فيكفي في عدم حجية قوله ، عداؤه لعلي وانحرافه عنه ، ففي هذا الصدد يقول ابن أبي الحديد : روى جرير بن عبد الحميد ، عن محمد بن شيبة قال : شهدت مسجد المدينة ، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليّاً عليه‌السلام فنالا منه ، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه‌السلام ، فجاء حتى وقف عليهما ، فقال : أما أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك ، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك.

وقد روي من طرق كثيرة : أنّ عروة بن الزبير كان يقول : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزهو إلّا علي بن أبي طالب ، وأُسامة بن زيد.

وروى عاصم بن أبي عامر البجلي ، عن يحيى بن عروة قال : كان أبي إذا ذكر

٤٢٩

عليّاً نال منه ، وقال لي مرّة : يا بني والله ما أحجم الناس عنه إلّا طلباً للدنيا ، لقد بعث إليه أُسامة بن زيد أن أبعث إلي بعطائي فو الله انّك لتعلم انّك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه : إنّ هذا المال لمن جاهد عليه ، ولكن لي مالاً بالمدينة ، فأصب منه ما شئت.

قال يحيى : فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به ومن عيبه له وانحرافه عنه. (١)

مقاتل بن سليمان

وهو رابع النقلة لنزول الآية في نسائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكفي في عدم حجية قوله ما نقله الذهبي في حقه في «سير أعلام النبلاء» قال : قال ابن عيينة : قلت لمقاتل : زعموا أنّك لم تسمع من الضحاك؟ قال : يغلق علي وعليه باب فقلت في نفسي : أجل باب المدينة.

وقيل : إنّه قال : سلوني عمّا دون العرش ، فقالوا : أين أمعاء النملة؟ فسكت ، وسألوه لما حج آدم من حلق رأسه؟ فقال : لا أدري. قال وكيع : كان كذّاباً.

وعن أبي حنيفة قال : أتانا من المشرق رأيان خبيثان : جهم معطل (٢) ومقاتل مشبّه ، مات مقاتل سنة نيف وخمسين ومائة ، وقال البخاري : مقاتل لا

__________________

(١). شرح النهج لابن أبي الحديد : ٤ / ١٠٢ ؛ وراجع سير أعلام النبلاء : ٤ / ٤٢١ ـ ٤٣٧ ما يدل على كونه من بغاة الدنيا وطالبيها ، وقد بنى قصراً في العقيق وأنشد شعراً في مدحه ، وكان مقرباً لدى الأمويين خصوصاً عبد الملك بن مروان.

(٢). التعطيل : هو انّ لا تثبت لله الصفات التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتشبيه : أن يُشبه الله سبحانه وتعالى بأحد من خلقه.

٤٣٠

شيء البتة. قلت : اجمعوا على تركه. (١)

تجد اتفاق المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن قبلهم على أنّ القول بالتشبيه انّما تسرب إلى الأوساط الإسلامية من مقاتل ، فهو الزعيم الركن بالقول بأنّ له سبحانه أعضاء مثل ما للإنسان من اليد والرجل والوجه وغير ذلك ، قاتل الله مقاتل ، كيف يفتري على الله سبحانه كذباً ويُفسر آياته بغير وجهها؟!

وقال الذهبي أيضاً في «ميزان الاعتدال» (٢) ، ما هذا تلخيصه : قال النسائي : كان مقاتل يكذب.

وعن يحيى : حديثه ليس بشيء. وقال الجوزجاني : كان دجّالاً جسوراً.

وقال ابن حبان : كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان يشبّه الرب بالمخلوقات ، وكان يكذب في الحديث.

وعن خارجة بن مصعب : لم استحل دم يهودي ، ولو وجدت مقاتل بن سليمان خلوة لشققت بطنه.

وقال ابن أبي حاتم : حديثه يدل على أنّه ليس بصدوق.

__________________

(١). سير أعلام النبلاء : ٧ / ٢٠٢.

(٢). ميزان الاعتدال : ٤ / ١٧٢ ـ ١٧٥.

٤٣١

٦٥

استغفار الأئمّة والعصمة

سؤال : نجد كثيراً ما يستغفر الأئمّة ربّهم ويطلبون منه العفو ، فكيف ينسجم ذلك مع القول بعصمتهم عليهم‌السلام؟ وبعبارة أُخرى مع أنّنا نذهب إلى عصمة الأئمّة عليهم‌السلام وانّهم منزّهون من الذنب والعصيان والخطأ والخلاف في نفس الوقت نجد في بعض الأدعية الصادرة عنهم عليهم‌السلام أنّهم يقرّون ـ ظاهراً ـ بارتكاب الذنب ويطلبون من ربّهم المغفرة والعفو.

فعلى سبيل المثال في دعاء «كميل» يقول الإمام علي عليه‌السلام :

«اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم ... اللهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ... اللهمّ اغفر لي كلّ ذنب أذنبته وكلّ خطيئة أخطأتها».

فهل هذه العبارات ناظرة إلى تعليم الناس طريقة التحدّث مع الله وطلب المغفرة والعفو منه؟ أو أنّ هناك حقيقة كامنة في تلك العبارات؟

والجواب : لقد لفت هذا الإشكال انتباه المفكّرين والمسلمين منذ القديم ، وأجابوا عنه بإجابات متعدّدة ، ولعلّ حقيقة هذه الإجابات تعود إلى أمر واحد

٤٣٢

وهو : أنّ الذنب والمعصية أُمور نسبية لا أنّها من قبيل الذنوب المطلقة.

وتوضيح ذلك : في الأُمور الاجتماعية والأخلاقية والعلمية والتربوية والدينية لا يمكن أن يكون المرتقب والمرجو من جميع الناس باختلاف أنواعهم وطبقاتهم أمراً واحداً.

ونحن نكتفي من بين المئات من الأمثلة لبيان تلك الحقيقة بذكر مثال واحد وهو :

لو فرضنا انّ مجموعة من الناس سعت إلى القيام بعمل فيه خدمة اجتماعية كأن أرادوا بناء مستشفى لمعالجة الفقراء والمعوزين ، فلو تبرع لمساعدة هذا المشروع أحد العمال ـ الذين هم الطبقات المتدنّية من ناحية الدخل اليومي ـ بمقدار قليل من المال فلا ريب أنّ هذا العمل يكون جديراً بالاحترام والثناء والتقدير والاعتزاز.

ولكن لو فرضنا أنّ الذي تبرع بهذا المقدار القليل أحد الأغنياء المترفين ، فلا ريب حينئذٍ أنّ عمله هذا ليس فقط لا يستحقّ التقدير والثناء والاحترام ، بل يعتبر في نظر العرف وصمة عار وسبباً لنفرة الناس وعدم رضاهم من ذلك العمل.

يعني أنّ نفس هذا العمل الذي اعتبر ـ بالنسبة إلى العامل ـ عملاً مستحسناً وجديراً بالتقدير يعتبر في نفس الوقت ـ بالنسبة إلى الغني ـ عملاً قبيحاً يستحق اللوم والتحقير من قبل العرف ، وإن كان هذا الشخص الغني لم يرتكب من الناحية القانونية أي ذنب أو عمل محرم.

والدليل على هذين الموقفين هو ما قلناه في أوّل الصفحة من أنّ المتوقّع والمرجو من الناس في العلاقات الاجتماعية لم يكن بنسبة واحدة ، أي أنّ المتوقّع من كلّ إنسان يرتبط بإمكاناته وقدراته العقلية والعلمية والإيمانية وباقي قدراته واستعداداته ، إذ من الممكن أن يكون عمل ما بالنسبة إلى شخص يعدّ عين الأدب

٤٣٣

والخدمة والمحبة والعبادة ، ولكن نفس ذلك العمل يعدّ بالنسبة إلى إنسان آخر خلافاً للأدب ، ومصداقاً للخيانة ومخالفة للمودة والحب وتقصيراً في العبودية والطاعة.

إذا عرفنا هذه الحقيقة لا بدّ من البحث عن مكانة ومنزلة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام وأن ننظر إلى أعمالهم مقارنة بالنسبة إلى المقام السامي والإمكانات والاستعدادات العالية التي يتحلّون بها.

إنّهم عليهم‌السلام يرتبطون ارتباطاً مباشراً بخالق العالم وموجده ، وانّه يفيض عليهم العلم الإلهي وتشع على قلوبهم أنوار المعرفة بدرجة عالية جداً بحيث إنّهم يعلمون حقائق الكثير من الأشياء ممّا يخفى على غيرهم من الناس ، وكذلك القول في إيمانهم وتقواهم وورعهم فإنّهمعليهم‌السلام بدرجة من الإيمان لا يمكن أن نتصوّرها في غيرهم ، أي انّهم في المرتبة القصوى من الإيمان والتقوى.

والخلاصة : انّ هؤلاء الأئمّة عليهم‌السلام يتمتّعون بدرجة من القرب الإلهي والاتّصال به سبحانه بحيث تُعد اللحظة اليسيرة من الغفلة عنه سبحانه بالنسبة إليهم نوعاً من الزلل والانحراف عنه سبحانه ، فعلى هذا الأساس لا عجب إذا كانت بعض الأعمال مباحة لغيرهم أو مكروهة ، ولكنّها بالنسبة إليهم تُعدّ ذنباً لا ينبغي ارتكابه.

وعلى هذا تكون الذنوب ـ التي نسبت إلى أئمّة الدين عليهم‌السلام في بعض الآيات ، أو أنّهم ذكروها في أدعيتهم ومناجاتهم التي طلبوا من الله سبحانه فيها أن يمنّ عليهم بالمغفرة والتوبة ـ من هذا القبيل ، بمعنى أنّ مقامهم المعنوي والعلمي والإيماني بدرجة من السمو والرفعة بحيث تعدّ الغفلة منهم ـ ولو كانت جزئية وفي بعض الأُمور الاعتيادية والطبيعية ـ ذنباً ، وهذا ما عبّرت عنه الجملة المعروفة

٤٣٤

«حسنات الأبرار سيّئات المقربين».

إنّ فيلسوف الشيعة الكبير الخواجة نصير الدين الطوسي قد أوضح في أحد كتبه الإجابة السابقة بالطريقة التالية :

«كلّما اقترف الإنسان عملاً محرماً أو ترك أمراً واجباً فانّه يُعدّ عاصياً ولا بدّ له من التوبة والاستغفار ، وبالطبع هذا بالنسبة إلى الناس العاديّين ، ولكن لو ترك أمراً مستحباً أو ارتكب فعلاً مكروهاً فهذا أيضاً يُعدّ مذنباً لا بدّ له من التوبة والاستغفار ، ولكن هذا النوع من الذنب والتوبة يتعلّق بالأفراد الذين يكونون معصومين من الذنب من النوع الأوّل. ولهذا فإنّ الذنب الذي نسب في القرآن الكريم إلى بعض الأنبياء السابقين مثل : آدم ، موسى ، يونس و ... هو من الذنب من القسم الثاني لا الأوّل.

وكذلك كلّما التفت الإنسان إلى غير الله سبحانه واشتغل بالأُمور الدنيوية وغفل عنه سبحانه ، فإنّ عمله هذا يُعدّ لدى أهل الحقيقة نوعاً من الذنب لا بدّ لصاحبه من التوبة وطلب المغفرة منه تعالى.

وبهذا يتّضح أنّ ما يرد عن الرسول الأكرم وأئمّة الهدى من الأدعية التي يطلبون منها المغفرة ويعلنون فيها التوبة من الذنب ، يُعدّ من الذنب من النوع الثالث لا النوعين الأوّل والثاني». (١)

ولا بأس بإتمام الجواب من الإشارة إلى كلام العالم الشيعي الكبير المرحوم «علي بن عيسى الإربلي» في المجلد الثالث من كتابه القيم «كشف الغمة في معرفة الأئمّة» عند الحديث عن حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام حيث قال :

فائدة سنية : كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله عليه‌السلام في سجدة الشكر وهو

__________________

(١). أوصاف الأشراف : ١٧ ، باللغة الفارسية.

٤٣٥

«ربّ عصيتك بلساني ...».

فكنت أفكر في معناه وأقول كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة؟! وما اتّضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه فاجتمعت بالسيد السعيد النقيب رضي الدين أبي الحسن علي بن موسى بن طاوس العلوي رحمه‌الله ، فذكرت له ذلك ، فقال : إنّ الوزير السعيد مؤيد الدين العلقمي ـ رحمه‌الله تعالى ـ سألني عنه ، فقلت : كان يقول هذا ليعلّم الناس.

ثمّ إنّي فكرت بعد ذلك فقلت هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده من يعلّمه.

ثمّ إنّه سألني عنه السعيد الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي رحمه‌الله فأخبرته بالسؤال الأوّل والذي قلت والذي أوردته عليه ، وقلت : ما بقي إلّا أن يكون يقوله على سبيل التواضع وما هذا معناه ، فلم تقع منّي هذه الأقوال بموقع ولا حلّت من قلبي في موضع ، ومات السيد رضي الدين رحمه‌الله فهداني الله إلى معناه ووفّقني على فحواه ، فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد السنين المتطاولة والأحوال المحرمة والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام.

وتقريره : انّ الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى وقلوبهم مملوءة به وخواطرهم متعلّقة بالملإ الأعلى وهم أبداً في المراقبة ، كما قال عليه‌السلام : «اعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تره فإنّه يراك» فهم أبداً متوجّهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه ، فمتى انحطّوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدوّه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

٤٣٦

وإلى هذا أشار عليه‌السلام بقوله : «إنّه ليران (ليغان) على قلبي وإنّي لاستغفر بالنهار سبعين مرة».

ولفظة السبعين إنّما هي لعدّ الاستغفار لا إلى الرين ، وقوله : «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» ونظيره إيضاحاً من لفظه ليكون أبلغ من التأويل ، وعلى هذا فقس البواقي وكلّما يرد عليك من أمثالها (١). (٢)

* * *

تمّ الجز الأوّل بفضل الله ومنّه ، ويليه الجزء الثاني الذي

يشتمل على ستة فصول وتتناول : العلوم القرآنية ،

والإنسانية ، وعلم الاجتماع ، والأخلاق والعرفان ،

والمعاد ، ومسائل متفرقة. نسأله تعالى

أن يوفّقنا لإتمامه ، وآخر دعوانا

أن الحمد لله ربّ

العالمين

__________________

(١). كشف الغمة : ٣ / ٤٦ ـ ٤٨.

(٢). منشور جاويد : ٧ / ٢٨٧ ـ ٢٩١.

٤٣٧
٤٣٨

فهرس محتويات الكتاب

مقدمة.......................................................................... ٥

التدبّر في آیات الذكر الحكيم...................................................... ٧

الفصل الأول

معرفة الله

١. مفهوم الرب................................................................ ١٣

٢. الإنسان وغريزة الشعور الديني................................................. ١٨

الشعور الديني أو البعد الرابع في الروح الإنسانية............................... ٢٠

الأبعاد الأربعة في الروح الإنسانية............................................ ٢٠

أ. غريزة حب الاستطلاع.................................................. ٢٠

ب. غريزة حب الخير...................................................... ٢١

ج. عريزة حب الجمال..................................................... ٢١

د. غريزة التديّن........................................................... ٢١

٤٣٩

٣. الاسم الأعظم.............................................................. ٢٢

٤. القرب الإلهي............................................................... ٢٥

٥. الله كمال مطلق............................................................. ٢٨

٦. وجود الله غير متناه.......................................................... ٣٠

٧. الصفات الجمالية والجلالية.................................................... ٣٢

إرجاع جميع الصفات إلى صفة واحدة........................................ ٣٣

نظرية القول بتعدّد الصفات................................................. ٣٤

٨. صفات الذات وصفات الفعل................................................. ٣٥

٩. الصفات النفسية والإضافية................................................... ٣٧

١٠. السميع والبصير........................................................... ٣٩

معنى كونه سبحانه سميعاً بصيراً.............................................. ٤٠

تفسير وصف السميع...................................................... ٤٢

السمع والبصر بدون أدوات طبيعية.......................................... ٤٢

الروايات الوارده عن المعصومين عليهم‌السلام........................................ ٤٤

١١. تعدّد الصفات وبساطة الذات............................................... ٤٥

١٢. مراتب التوحيد............................................................ ٤٧

الأوّل : التوحيد في الذات.................................................. ٤٧

الثاني : التوحيد في الصفات................................................ ٤٧

الثالث : التوحيد في الأفعال................................................ ٤٨

الرابع : التوحيد في العبادة.................................................. ٤٩

٤٤٠