الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

وعلى هذا الأساس لا شكّ أنّ مفهوم «الأهل» له معنى واسع بحيث يشمل كلّ من له صلة بالرجل والبيت صلة وطيدة من نسب أو سبب ، فهو يشمل الأولاد والزوجة أو الزوجات ولا يمكن تخصيصه بالزوجة أو الزوجات فقط.

نعم روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم أنّه قال : «قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى «خمّاً» بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «... وأنا تارك فيكم ثقلين : كتاب الله ... ، وأهل بيتي».

فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته قال : لا وأيم الله انّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. (١)

وبالطبع انّ هذا التفسير ناظر لبيان الدرجة العليا من الأهل ، فإذا صرفنا النظر عن ذلك التفسير ، فحينئذٍ تدخل الزوجة تحت هذا المفهوم ما دامت تربطها بالرجل علاقة الزوجية ولم تنفصل عنه.

والعجب من بعض المحسوبين على العلم والفكر أنّه قد فسّر المسألة بصورة معكوسة حيث قال : إنّ لفظة «أهل البيت» تطلق على زوجات الرجل حقيقة وعلى أولاده وأقاربه بنحو المجاز (٢). ثمّ يدّعي أنّه استنتج هذه العبارة من كلمات اللغويين. والحال أنّه قد نقل كلمات اللغويّين والتي تخالف ما ذهب إليه.

فقد نقل عن صاحب قاموس اللغة قوله : «وللنبي أزواجه وبناته».

كذلك نقل شارح القاموس قوله : «والأهل للرجل زوجه ويدخل فيه أولاده» ، وكذلك ينقل عن «لسان العرب» : «لأهل الرجل أخصّ الناس به».

__________________

(١). صحيح مسلم : ٧ / ١٢٢ ، باب فضائل علي عليه‌السلام ؛ جامع الأُصول : ١٠ / ١٠٣.

(٢). الشيعة وأهل البيت : ١٦.

٤٠١

وقال في «مجمع البحرين» : «أهل الرجل آله وهم أشياعه وأتباعه».

وقال في «أقرب الموارد» : «أهل الرجل عشيرته وأقربائه».

والخلاصة : انّنا إذا لم نقل انّ «أهل بيت الرجل» مفهوم يختصّ بمن يرتبط بالرجل ارتباطاً ثابتاً وقويماً ، فعلى أقل التقدير لا يمكن الذهاب إلى أنّ المفهوم يطلق حقيقة على زوجات الرجل ومجازاً على أولاده وأقاربه ، وإذا كانت بعض كتب اللغة قد فسرت «أهل الرجل» بزوجاته ، فإنّ ذلك من قبيل التفسير بذكر المثال ، وإلّا فإنّ كلّ من يرتبط برب البيت بأيّ نحو من الأنحاء يصدق عليه أنّه من «أهل البيت».

اتّضح من ذلك أنّ مفهوم «الأهل» ينطبق على أولاد الرجل وزوجاته لغة ، ويبقى الكلام في الزوجات فإنّ المفهوم ينطبق عليهن لغة ، وكذلك في الذكر الحكيم حيث هناك العديد من الآيات التي تؤكد ذلك والتي منها :

(إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ). (١)

إنّ استثناء (امْرَأَتَكَ) من لفظ (أَهْلَكَ) يدلّ بوضوح على شمول مفهوم «الأهل» للزوجات أيضاً ، ولا دليل على اعتبار هذا الاستثناء من قبيل الاستثناء المنقطع.

كذلك نقرأ في قصة موسى حينما رجع من مدين إلى مصر أنّه قد شاهد ناراً ، وقد وصف القرآن تلك الحادثة بقوله تعالى :

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢)

__________________

(١). العنكبوت : ٣٣.

(٢). القصص : ٢٩.

٤٠٢

وبهذا المضمون وردت الآية السابعة من سورة النمل.

كذلك نقرأ في قصة إبراهيم عليه‌السلام قوله تعالى : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ). (١)

إنّ هذه الآيات ونظائرها تدلّ على أنّ زوجات الرجل يدخلن تحت مفهوم «الأهل» ، كما أنّ الأولاد يدخلون تحت هذا المفهوم أيضاً حقيقة.

تحديد مصداق أهل البيت

إلى هنا استطعنا أن نوضّح لفظ أهل البيت من ناحية المفهوم ، وقد حان الوقت لبيان المصداق المراد من الآية حين نزولها.

لا شكّ أنّه إذا لم يوجد دليل في الآية أو خارجها يدلّ على تخصيص هذا المفهوم الوسيع فلا مناص حينئذٍ من تطبيق المفهوم على جميع الأفراد الذين يشملهم وحمله عليهم بحيث نقول :

إنّ المقصود من الأهل هو كلّ من يرتبط بالنبي برابطة نسبية أو سببية فانّه يدخل ضمن مفهوم أهل البيت ، ولكن إذا كانت هناك قرائن قطعية تدلّ على تخصيص هذا المفهوم بأفراد معيّنين وتوجد شواهد في الآية أو في كلمات الرسول الأكرم تدلّ هي الأُخرى على الاختصاص ، فلا يمكن حينئذٍ تجاوز تلك القرائن وتلك الأدلّة القطعية.

القرائن الدالّة على تحديد مصاديق الآية

هناك قرائن داخلية وخارجية تشهد وبوضوح أنّ المراد من «أهل البيت»

__________________

(١). الذاريات : ٢٦.

٤٠٣

مجموعة محددة من الناس ولا تشمل زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقية أقاربه ، وها نحن نذكر تلك القرائن بصورة مرتّبة لتوضيح الأمر وكشف الحقيقة بصورة جلية :

ألف. المقصود من «البيت» بيت معهود لا مطلق البيوت

لا بدّ أوّلاً من تحديد الألف واللام في البيت فهل يراد منها الجنس أو الاستغراق أو العهد؟

لا يمكن حمل اللام في البيت على الاحتمال الأوّل (الجنس) ، لأنّه يناسب ما إذا أراد المتكلّم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً)(١)

ومن المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت.

كذلك لا يصحّ الاحتمال الثاني (الاستغراق) ، إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب أن يأتي بصيغة الجمع فيقول (أهل البيوت) كما أتى بها في أوّل الآية حيث قال : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) ، وحينئذٍ يتعيّن الاحتمال الثالث ، أي «العهد» ، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص معهود بين المتكلّم والمخاطب ، وهذا البيت ليس إلّا بيت علي وفاطمة عليهما‌السلام الذي يتّفق جميع المفسرين على شمول الآية له ، لأنّه لا يوجد أحد من المفسّرين والمحدّثين قد تردّد في شمول الآية لبيت علي وفاطمة إلّا اثنين من الخوارج ، هما : عكرمة ومقاتل ، وإذا ما كان هناك بحث فإنّه في شموله للبيوت الأُخرى ، وبما أنّ المعهود هو بيت خاص ، فلا تكون الآية ناظرة إلى البيوت الأُخرى ، وإلّا استلزم ذلك بطلان كون الألف واللام للعهد.

__________________

(١). المعارج : ١٩.

٤٠٤

الخلاصة : إنّ الآية ناظرة إلى أهل بيت معهود ومشخّص وهذا البيت هو بيت الإمام علي عليه‌السلام لا غير ، وإنّ كلّ محاولة للتوسيع تستلزم المخالفة لاتّفاق المسلمين أو تنفي كون الألف واللام للعهد ، وانّ المعهود بيت خاص ؛ فإذا قلنا : إنّ مقصود الآية هو بيت عائشة أو بيت حفصة ، فلا ريب أنّه في هذه الحالة يخرج بيت فاطمة من تحت الآية ، وهذا ما يخالف اتّفاق المسلمين ، وأمّا إذا قلنا : إنّ البيت يشمل جميع البيوت ، فلازم ذلك إبطال عهدية الألف واللام.

ولكن يمكن القول : إنّ المراد من البيت هو بيت «أُمّ سلمة» ، لأنّ الآية قد نزلت في بيتها ـ رضي الله عنها ـ ولكن حادثة إلقاء الكساء على مجموعة خاصة في نفس البيت وتطبيق الآية عليهم ينفي هذا الاحتمال ويخرج السيدة «أُمّ سلمة» من تحت الآية ، ولو لا حديث الكساء هذا ـ الذي روته أُمّ سلمة نفسها ـ لقلنا : إنّ الآية تشملها.

ب. المراد بيت النبوة لا البيت المبني من الأحجار

كان الدليل السابق قائماً على التسليم بأنّ المراد من «البيت» هو البيت المبني من الأحجار والآجر والأخشاب ، ولكن لا يمكن حمل البيت على هذا المعنى إذ ليس هو المقصود، بل المقصود منه هو «بيت النبوة» و «مركز الوحي» و «مهبط النور الإلهي».

ومن هنا نعلم أنّ البيت تارة يطلق ويراد منه البيت المبني من الأحجار والآجر ، وحينئذٍ يُراد بالأهل في قولنا : أهل البيت من يقطن في هذا البيت على أساس علل وأسباب مشتركة ، كما ورد في أوّل الآية حيث خاطب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمرهنَّ بالبقاء في بيوتهنّ وألّا يتصرفن تصرّف النساء الجاهليات في المجتمعات العامّة حيث قال سبحانه وتعالى :

٤٠٥

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى). (١)

وبما أنّ نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لكلّ واحدة منهنّ حجرة خاصة بها أطلق على تلك الحجرات عنوان البيوت ، وأُمرن بالاستقرار فيها ولا يخرجن بصورة غير لائقة بشأنهنّ.

ولكن الإمعان بالآية يظهر أنّ المراد من البيت ليس هو البيت بالمعنى المتقدّم المبني من الحجر والآجر ، بل المراد هو بيت النبوة والوحي ، وانّ المراد من الأهل فيه هم المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة ، وإنّما عبّر عن ذلك بلفظ البيوت من باب قياس المعقول بالمحسوس ، وعلى هذا الفرض لا يشمل اللفظ حينئذٍ إلّا أفراداً معدودة تتميز عن غيرها بالطهارة والنقاء والعلم والمعرفة بدرجة عالية جداً بحيث يصدق أن يطلق عليهم أهل البيت ، ومن المعلوم في هذا الفرض أنّه لا ينحصر الأمر بالانتساب المادي ، بل لا بدّ من الانتساب المعنوي ، وهذا ما ينحصر بعدد قليل جداً.

وعلى هذا تكون إضافة «أهل» إلى «البيت» في الآية من قبيل إضافة كلمة «أهل» إلى «الكتاب» و «الإنجيل» التي وردت في القرآن الكريم بمعنى من له علاقة ورابطة بالكتاب أو بخصوص الإنجيل ويدور حولهما وينطلق منهما ، كقوله تعالى :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...) (٢)

وكقوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ...). (٣)

__________________

(١). الأحزاب : ٣٣.

(٢). آل عمران : ٦٤.

(٣). المائدة : ٤٧.

٤٠٦

الخلاصة : إنّ المقصود من البيت هو «بيت النبوّة» و «مهبط الوحي» و «مركز التنزيل» ، وإنّ المقصود من الأهل مَن تربطهم ببيت النبي رابطة فكرية وروحية خاصة ، لا كلّ من تربطه بالنبي رابطة مادية نسبية أو حسبية وإن كان مخالفاً من الناحية الروحية والفكرية والعقائدية للرسول الأكرم أو انّه في مرتبة واطئة جداً من الناحية الروحية والفكرية.

ولقد تفطّن الزمخشري لهذه النكتة عند تفسيره للآية ٧٣ من سورة هود ، وانّ من يلاحظ تفسيره لسورة الأحزاب يتّضح له الأمر بصورة أجلى.

فلقد وصف القرآن الكريم حال السيدة سارة زوجة إبراهيم عليه‌السلام حينما عرضت عليهم الملائكة البشارة بإسحاق ، وكيف أنّها تعجّبت من ذلك وأبدت استغرابها من تحقّق تلك البشارة؟ إذ كيف يتسنّى لها أن تلد وهي امرأة عجوز وبعلها شيخ كبير؟!

فأجابتها الملائكة : (... أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ). (١)

فوجّه الزمخشري في كشافه إطلاق لفظ (أهل البيت) على السيدة سارة بقوله : لأنّها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأُمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة ، وأن تسبّح الله وتمجّده مكان التعجّب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها :

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ).

أرادوا إنّ هذه وأمثالها ممّا يكرمكم به ربّ العزّة ويخصّكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة. (٢)

__________________

(١). هود : ٧٣.

(٢). الكشاف : ٢ / ١٧.

٤٠٧

وعلى هذا الأساس يكون البيت هنا كناية عن محل النبوة ومركز الوحي ومهبط الرسالة، وأنّ أهل هذا البيت هم الذين ينسجمون مع صاحب الرسالة من جميع الجهات المعنوية ، وأمّا الانتساب النسبي والحسبي بدون الانسجام الروحي والمعنوي فلا يكفي للدخول تحت هذا العنوان.

ولقد جرت بين قتادة ـ المفسّر المعروف ـ وبين الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام محادثة لطيفة أرشده الإمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه.

قال قتادة عند ما جلس أمام الباقر عليه‌السلام : لقد جلست بين الفقهاء فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك.

قال له أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ...) (١) فأنت ثَم ونحن أُولئك».

وقال له قتادة : صدقت والله ، جعلني الله فداك ، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين. (٢)

ثمّ إنّه لو فرضنا أنّ هذا الاحتمال لم يكن قطعياً في وقت نزول الآية ، ولكن بمرور الزمن تعيّن لفظ أهل البيت في معنى بيت النبوة ولا يوجد معنى آخر غيره يخطر في الذهن ، وكذلك الأمر الآن فإنّ الذي يخطر بالذهن هو هذا المعنى.

ج. تذكير الضمائر

حينما تحدّث القرآن الكريم مخاطباً زوجات النبي في سورة الأحزاب من

__________________

(١). النور : ٣٦.

(٢). فروع الكافي : ٦ / ٢٥٦.

٤٠٨

الآية ٢٩ إلى الآية ٣٤ نجده يخاطبهنّ وحسب قواعد اللغة العربية بضمائر التأنيث حيث تكرر ذلك أكثر من ٢٠ مرة ، وهي :

(كُنْتُنَّ* فَتَعالَيْنَ * أُمَتِّعْكُنَ * أُسَرِّحْكُنَ * تُرِدْنَ * لَسْتُنَ * اتَّقَيْتُنَ * فَلا تَخْضَعْنَ* قُلْنَ * قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ * تَبَرَّجْنَ * آتِينَ * أَطِعْنَ * وَاذْكُرْنَ * و ...).

ولكنّه عند ما يصل إلى الحديث عن قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ ...) يغيّر صيغة الخطاب من التأنيث وينتقل إلى الإتيان بصيغة التذكير كما في قوله : (عَنْكُمُ الرِّجْسَ) و (يُطَهِّرَكُمْ) ، وحينئذٍ فلا بدّ من إمعان النظر في ذلك الانتقال والتدقيق لبيان السرّ في هذا التحول وما هو الهدف من هذا الانتقال من التأنيث إلى التذكير؟

إنّ هذا التحوّل لا يمكن أن يصحّ إذا قلنا : إنّه انتقال للحديث عن مجموعة أُخرى مغايرة للمجموعة السابقة وإن كان السياق واحداً ، وحينئذٍ يطرح التساؤل التالي نفسه : ما هو السرّ في هذا التداخل؟ ولما ذا جاء الحديث عن أهل البيت في ضمن الحديث عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث نجد انقلاب الخطاب من الحديث مع نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ إلى الحديث عن غيرهن ثمّ العودة مرّة أُخرى للحديث عن النساء؟

ونحن لا نريد الحديث عن هذا النقطة فعلاً ، ولكن الذين حاولوا وبإصرار أن يفسّروا الآية بأنّها تتعلّق بنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وقعوا في حالة من التكلّف والحيرة في توجيه وتفسير مسألة تغاير الضمائر ، فلا حاجة لبذل الوقت في نقل تلك الكلمات التي لا طائل من نقلها.

د. الإرادة تكوينية لا تشريعية

إنّ الإرادة في قوله : (إِنَّما يُرِيدُ ...) هي إرادة تكوينية لا تشريعية.

٤٠٩

وبعبارة أُخرى : هي الإرادة التي لا ينفك المراد فيها عن الإرادة ولا بدّ أن تتحقّق ، لا من قبيل الإرادة التي يمكن أن يتحقّق متعلّقها وقد لا يتحقّق. أي أنّ الإرادة هنا شبيهة لإرادة خلق السماوات والأرض التي لا ينفك فيها المراد عن الإرادة ، وليست من قبيل إرادة الإيمان والتقوى والصلاة والصوم التي قد تقع من قبل بعض المكلّفين ولا تقع من البعض الآخر ، وهذا ما يعبّر عنه بالإرادة التشريعية.

وعلى هذا الأساس يكون معنى الإرادة هنا : هو أنّ سلب وإزالة جميع أنواع الرجس والقذارة الروحية والمعنوية وتطهير أهل البيت من كلّ أصناف الذنب والمخالفة قد تحقّق فعلاً ، وانّ «أهل البيت» الوارد ذكرهم في الآية معصومون من الذنب ومنزّهون من الخطأ والمخالفة ، ولا ريب انّ ذلك لا يصدق إلّا على جماعة محدودة جداً ، ولا يمكن القول انّ ذلك المفهوم ينطبق على كلّ من ينتسب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيّ نوع من الانتساب ، نسبياً كان أو سببياً.

كما أنّه لا يوجد من يدّعي العصمة لهؤلاء جميعاً.

أهل البيت على لسان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ القرائن الموجودة في متن الآية والتي ذكرناها قد أزاحت الستار عن المراد من أهل البيت وأثبتت أنّ المقصود منهم مجموعة خاصّة محدّدة ، وإن كانت الآية لم تذكر أسماءهم ومشخّصاتهم بصورة صريحة وجلية.

وقد حان الوقت للرجوع إلى أحاديث وكلمات النبي الأكرم لتعيين مصاديق الآية وحلّ العقدة من خلال هذا الطريق.

ومن حسن الحظ انّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى هذا الأمر عناية وافرة لتعريف

٤١٠

أهل البيت فقام بتعريفهم من خلال الكم الهائل من الروايات بحيث اتّضحت الحقيقة بجلاء ، وكذلك اهتم المفسّرون وأهل السير والتاريخ والمحدّثون بتعريف أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولقد كان للمفسّر والمحدّث الكبير الطبري عناية خاصة بهذا الأمر ، وكذلك جلال الدين السيوطي ؛ فقد أورد الطبري في تفسيره (١) سبعة عشر حديثاً ، ونقل السيوطي في الدرّ المنثور (٢) أربعة عشر حديثاً تنتهي أسانيدها إلى الصحابة والتابعين ، وأنّ قسماً من هذه الأحاديث يعدُّ من الأحاديث الصحيحة ، ولكثرة هذه الأحاديث وتعدّد طرقها تنتفي الحاجة لبحث ودراسة أسانيدها ، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ تلك الروايات قد تناقلها وطوال قرون ـ كبار المفسّرين والمحدّثين وتلقّوها بالقبول واحتجّوا بها. ومن خلال مراجعة تلك الأحاديث في الكتب المذكورة يثبت لنا أنّ هناك عدداً محدوداً قد خصّوا بالطهارة والتنزيه من خلال الإرادة التكوينية لله سبحانه ؛ وهم عبارة عن الخمسة الطيبة : النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاطمة سيدة نساء العالمين ، سبطا النبي الأكرم : الحسن المجتبى والحسين الشهيد سلام الله عليهم أجمعين.

نعم هناك في مقابل هذه الأحاديث الكثيرة يوجد حديثان يعارضان ذلك سنتطرق لهما بالبحث والدراسة إن شاء الله.

ونحن قبل أن نبدأ بدراسة متون تلك الروايات نذكر أسماء الصحابة والتابعين الذين رووا تلك الأحاديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : روى محمد بن جرير الطبري في تفسيره (٣) سبعة عشر حديثاً عن كلّ من الشخصيات التالية أسماؤهم ،

__________________

(١). تفسير الطبري : ٢٢ / ٥ ـ ٧.

(٢). الدرّ المنثور : ٥ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٣). تفسير الطبري : ٢٢ / ٥ ـ ٧.

٤١١

وهم : ١. أبو سعيد الخدري ، ٢. أنس بن مالك ، ٣. أبو إسحاق ، ٤. واثلة بن الأسقع، ٥. أبو هريرة ، ٦. أبو الحمراء ، ٧. سعد بن أبي وقاص ، ٨. علي بن الحسين ، ٩. عائشة وأُمّ سلمة و ... حيث تنتهي أسانيد ستة أحاديث منها ب «أُمّ سلمة».

وأمّا جلال الدين السيوطي في تفسيره «الدرّ المنثور» (١) فقد نقل أربعة عشر حديثاً عن الشخصيات السابقة إضافة إلى «ابن عباس» ، وانّ مفاد مجموع تلك الروايات يحصر مفهوم الآية في الخمسة الطيبة فقط ، فهل يا ترى يمكن تجاوز تلك الروايات التي قد وردت في تفسير الآية بغضّ النظر عنها وإزاحتها جانباً؟! والحال لو أنّ معشار تلك الروايات قد ورد في مجال آخر لأخذنا به ولم نتجاوزه.

هذا ، لو أضفنا إلى تلك الروايات الكثير من الروايات الواردة عن طريق أهل بيت العصمة والطهارة والتي نقلها علماء الشيعة والتي ينتهي أسنادها إلى الرسول الأكرم وأهل بيته ، فلا يبقى حينئذٍ شكّ في المسألة بل تصل القضية إلى حدّ البداهة ، وأمّا محاولات إثارة الشكوك والجدل فيها فإنّما هي محاولات ناتجة عن العناد والتنكّر لفضائل أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لقد نقل محدّثو الشيعة روايات كثيرة في نزول الآية في الخمسة الطيبة نشير إلى خلاصتها : نقل السيد هاشم البحراني في كتابه «غاية المرام» (٢) واحداً وأربعين حديثاً من كتب أهل السنّة و ٣٤ حديثاً من كتب الشيعة ، ونقل أيضاً في كتابه تفسير «البرهان» ٦٥ حديثاً. (٣)

__________________

(١). الدرّ المنثور : ٥ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢). غاية المرام : ٢٨٧ ـ ٢٩٢.

(٣). تفسير البرهان : ٣ / ٣٠٩ ـ ٣٢٥.

٤١٢

كذلك نقل الشيخ عبد علي العروسي في تفسيره «نور الثقلين» ٢٥ حديثاً. (١)

ومضمون تلك الأحاديث يكشف لنا أنّ النبي الأكرم قد قام بعملين واستعمل طريقتين لتعيين مصاديق الآية المذكورة ، أي مصاديق «أهل البيت» ، وهذان العملان هما :

١. إدخال جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء أو العباءة أو القطيفة ، ومنع من دخول غيرهم تحتها وأشار بيده إلى السماء وقال : «هؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي وَخاصَّتي فَأَذْهِبْ عَنْهُم الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً».

٢. كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمرُّ ببيت فاطمة ثمانية أشهر أو أكثر كلّما خرج إلى صلاة الصبح ويقول : الصلاة ، أهل البيت ، ثمّ يقرأ قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)».

وبهذا كشف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النقاب عن وجه الحقيقة وبيّن مصاديق الآية بما لا ريب فيه ؛ وها نحن نشير ـ وبصورة مختصرة ـ إلى بعض تلك الأحاديث :

١. عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نزلت هذه الآية فيَّ وفي علي وفاطمة وحسن وحسين».

٢. عن أُمّ سلمة أنّها قالت نزلت هذه الآية في بيتي (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)». (٢) قالت : وأنا جالسة عند الباب فقلت : يا رسول الله : ألست من أهل البيت؟ فقال : إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قالت : وفي البيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين. فجلّلهم بكسائه وقال : «اللهُمَّ هؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي فَأَذْهِبْ عَنْهُم الرِّجْسَ

__________________

(١). تفسير نور الثقلين : ٤ / ٢٧٠ ـ ٢٧٧.

(٢). الأحزاب : ٣٣.

٤١٣

وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً».

وفي رواية : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة ثمّ قال :

«اللهُم هؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتي وحامّتي اذْهِبْ عَنْهُم الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً».

قالت أُمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : «إنّك على خير».

ولا ريب أنّ تلك الروايات التي نقلت في المصادر الحديثية والتفسيرية تجمع بمضامينها على أنّ المراد من أهل البيت هم هؤلاء الخمسة فقط ، بل لم يسمح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تشاركهم في هذه الفضيلة حتّى أُمّ سلمة التي تعدّ من أفضل نسائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد خديجة (رض).

٣. روي أنّ النبي كان يمرُّ ببيت فاطمة عليها‌السلام كلّما خرج إلى صلاة الصبح ، أربعين يوماً ـ وفي رواية أُخرى : ثمانية أشهر وفي رواية ثالثة : تسعة أشهر ـ فيقول : الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وهذا الحديث روي عن أبي سعيد الخدري وأبي الحمراء ، وجاءت متون تلك الروايات في تفسير «الدرّ المنثور».

يقول السيد العلوي : إنّ حديث أُمّ سلمة رواه : مسلم في صحيحه ، والترمذي في جامعه ، وأحمد في مسنده ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في السنن ، وابن حبان في الصحيح ، والنسائي والطبراني في المعجم الكبير ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم كلّ في تفسيره ، وقد أذعن جماعة بصحّة سند الحديث. ونقله من الصحابة خمسة عشر صحابياً وهم : علي ، والحسنان ، وعبد الله بن جعفر ، وابن عباس ، وأُمّ سلمة ، وعائشة ، وسعد بن أبي وقاص ،

٤١٤

وأنس بن مالك ، وأبو سعيد الخدري ، وابن مسعود ، ومعقل بن يسار ، وواثلة بن الأسقع، وعمر بن أبي سلمة ، وأبو الحمراء. (١)

فهل يا ترى يمكن البحث عن مفهوم وتفسير آخر للآية المباركة مع وجود كلّ تلك الروايات الشريفة؟!

والعجب من رئيس تحرير مجلة «ترجمان الحديث» الصادرة في لاهور الباكستانية «إحسان إلهي ظهير» ـ الذي يدّعي أنّه المترجم والناطق باسم الحديث النبوي ـ أنّه قد أنكر وبوقاحة وبلا حياء دلالة واختصاص الآية بأهل البيت واعتمد في كتابه «الشيعة وأهل البيت» على رواية «عكرمة» ، وأنّ الآية نازلة في حقّ نساء النبي حقيقة وإنّما تطلق على أبنائه مجازاً.

وسوف نتعرض لدراسة تلك النظرية من بين النظريات التي ذكرت حول الآية.

علماء الإسلام وآية التطهير

من العسير جداً نقل بعض كلمات وآراء المفكّرين والعلماء من أهل السنّة ، سواء في كتبهم الحديثية أو التفسيرية حول الآية فضلاً عن نقلها جميعاً ، ولذا ينبغي لمن أراد الاطّلاع على كلماتهم بخصوص الآية فعليه مراجعة تفسير الآيات التالية :

١. آية المباهلة :

(... فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ...). (٢)

__________________

(١). القول الفصل فيما لبني هاشم وقريش من الفضل : ٩ / ٤٨.

(٢). آل عمران : ٦١.

٤١٥

قال الترمذي في صحيحه لما نزلت الآية : «دَعا رَسُولُ اللهِ عَلِيّاً وَفاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَقالَ : اللهمَّ هَؤلاءِ أَهْلِي». (١)

٢. آية المودة :

قوله تعالى : (... قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ...). (٢)

٣. آية التطهير :

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ ...).

فإنّ الكثير من التفاسير قد أشارت حين التعرض لتفسير تلك الآيات إلى نزول آية التطهير في الخمسة المطهّرة.

٤. نقل العلّامة المجلسي نزول الآية في الخمسة المطهرة عن أربعة وثلاثين محدّثاً ومفسّراً. (٣)

٥. نقل صاحب التعاليق القيّمة على كتاب «إحقاق الحقّ» (٤) نزول الآية في الخمسة المطهّرة عن اثنين وسبعين كتاباً حديثياً وتفسيرياً ، ونقل الكثير من تلك المتون والعبارات مع الإشارة إلى مضانها حيث ذكر رقم المجلد ورقم الصفحة ومكان الطبع ممّا يجعل نزول الآية فيهم عليهم‌السلام قد وصل إلى حدّ البداهة واعتبر أنّ كلّ محاولة شكّ أو ترديد فإنّما هي في الواقع انحراف عن ولاية أهل النبي ، وذلك لأنّ جميع تلك المصادر التي ذكرها تقع تحت متناول العموم. ونحن نحيل القرّاء

__________________

(١). صحيح الترمذي : ٥ / ٣٠٢ برقم ٣٨٠٨.

(٢). الشورى : ٢٣.

(٣). بحار الأنوار : ٣٥ / ٢٠٦ ـ ٢٢٦.

(٤). راجع إحقاق الحق : ٢ / ٥٠٢ وما بعدها.

٤١٦

الكرام إلى مراجعة تلك الكتب ، وقبل أن نتعرض لشرح باقي النظريات حول الآية نجيب عن تساؤل آخر يُثار حول الآية ، وهو :

مشكلة السياق

من أهمّ التساؤلات التي تُثار حول الآية بعد تحديد مفهوم ومصداق «أهل البيت» هو : إنّ آية التطهير تقع ضمن مجموعة من الآيات التي تتحدث عن نساء النبي حيث إنّ ما يسبقها وما يتلوها خطاب لنساء النبي وحديث معهن ، وحينئذٍ يطرح التساؤل التالي : كيف يصحّ القول بأنّها راجعة إلى غيرهن مع أنّ وحدة السياق تقتضي أنّ الكلّ راجع إلى موضوع واحد؟

والجواب : لا شكّ أنّ وحدة السياق من الأمارات التي يستدلّ بها على كشف المراد ويجعل صدر الكلام ووسطه وذيله قرينة على المراد ووسيلة لتعيين المقصود منه ، ولكن وحدة السياق إنّما تكون قرينة أو أمارة إذا لم يقم دليل أقوى على خلافها ، فلو قام ترفع اليد حينئذٍ عن وحدة السياق وقرينيته ، ومن حسن الحظ انّ وحدة السياق في الآية لم تكن من الأمارات والقرائن المحكمة التي لا يوجد دليل على خلافها ، بل يوجد دليل قوي على خلافها ، لأنّ الأحاديث المتواترة والقطعية تشهد على أنّ آية التطهير قد نزلت بصورة مستقلة ثمّ بعد ذلك وضعت في ذيل الآية الثالثة والثلاثين ولم تكن أبداً متمّمة لها ، والذي يشهد على استقلالية الآية ثلاثة أدلّة :

الدليل الأوّل على استقلالية الآية

أطبقت الروايات المنتهية إلى الأصحاب وأُمّهات المؤمنين والتابعين على نزولها مستقلة ، سواء أقلنا بنزولها بحق العترة الطاهرة أو غيرهم.

٤١٧

روى السيوطي : وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال : كان يوم أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ فنزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال: فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسن وحسين وفاطمة وعلي فضمّهم إليه ونشر عليه الثوب ، والحجاب على أُمّ سلمة مضروب ثمّ قال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي اللهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت أُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ : فأنا معهم يا نبي الله؟ قال : أنت على مكانك وإنّك على خير.

وهكذا الروايات الأُخرى فإنّها تشهد جميعاً باستقلال الآية عن الآيات الأُخرى المتعلّقة بزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا توجد أيّة رواية من تلك الروايات تقول إنّها نزلت في ضمن الآيات النازلة في حقّ زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل حتّى الأفراد الذين شذّوا عن طريق المحدّثين والمفسّرين من أمثال «عكرمة» و «عروة» اللّذين يقولان بنزولها في حقّ زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولان أيضاً بنزول الآية بصورة مستقلّة عن باقي الآيات الأُخرى.

وبعبارة أُخرى سواء قلنا : إنّ الآية تتعلّق بالعترة الطاهرة ، أو قلنا : إنّها تتعلّق بنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ جميع المفسّرين والمحدّثين متّفقون على أنّ قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ ...) قد نزل بصورة مستقلّة ومنفصلة عن باقي الآيات.

ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا الاتفاق من المحدّثين والمفسّرين على استقلالية الآية لا يمكن الاعتماد على وحدة السياق واعتبارها دليلاً أو قرينة على المقصود ، لأنّ الروايات تؤكّد على استقلاليتها وانّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر في وضعها في مكانها الحالي.

وليست هذه هي الحالة الأُولى أو الفريدة من نوعها ، بل انّ تاريخ القرآن

٤١٨

يشهد على وجود الكثير من الحالات التي هي نظيرة لهذه الآية ، أي أنّ الآية تنزل بصورة مستقلة ثمّ توضع وبأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضمن آيات معينة. (١)

ولا ريب أنّ هذا الأمر لا يؤثر على بلاغة القرآن وفصاحته ، لأنّ ذلك من فنون البلاغة وأساليبها ، يقول الطبرسي : من عادة فصحاء العرب في كلامهم انّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه. والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم. (٢)

ونشير إلى إحدى الشواهد القرآنية التي تؤيد هذه النظرية وتثبت صحّة ما قاله المفسّرون ، وذلك الشاهد هو ما ورد في قصة يوسف عليه‌السلام فإنّه حينما انكشفت خيانة زوجة العزيز وعلم العزيز بمكرها التفت إليها مخاطباً لها :

(قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (٣)

نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها يلتفت إلى يوسف ويخاطبه بقوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ثمّ يرجع إلى الموضوع الأوّل ويخاطب زوجته بقوله : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) (٤) ، فقوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) جملة معترضة وقعت بين المخاطبين والمسوغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين وكانت له صلة تامة في الواقعة التي حدثت.

__________________

(١). يقول السيوطي في كتاب الإتقان : ١ / ١٧٦ ، الفصل الثامن عشر في جمع وترتيب القرآن ، نقلاً عن ابن الحصار : ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ضعوا آية كذا في موضع كذا».

(٢). مجمع البيان : ٨ / ٣٥٧.

(٣). يوسف : ٢٨.

(٤). يوسف : ٢٩.

٤١٩

والمهم هو أن تكون الجملة أو الآية المعترضة لها تناسب مع ما قبلها وما بعدها ، وهذا التناسب موجود بين قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ ...) وما قبله وما بعده من الكلام ، وذلك بالبيان التالي :

إنّ مطالعة مجموع الآيات ٢٨ إلى ٣٣ من سورة الأحزاب يرشد إلى أنّ الله سبحانه قد خاطب نساء النبي بلحن حاد واسلوب شديد ، وطلب منهن العمل بالمسئولية الكبرى والوظيفة الثقيلة الملقاة على عاتقهن حيث قال تعالى :

١. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا ...).

٢. (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ...).

٣. (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ...).

٤. (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ...).

في أثناء هذه الخطابات الإرشادية والمنبّهة ينتقل سبحانه وتعالى للحديث عن عصمة أهل البيت وطهارة العترة الطاهرة ليتسنّى من خلال هذا الطريق عرض نماذج التقوى ورموز الفضيلة الذي ينبغي لنساء النبي أن يقتدين بهم باعتبارهم أُسوة وقدوة ، وهذا يعني أنّ الله سبحانه وتعالى ينبه زوجات النبي على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة ثلّة طاهرة من أهل البيت طاهرة من الرجس ومطهرة من الدنس وانّها في قمة التقوى والعصمة والمصونية من الذنب ، ولذلك فمن اللائق والجدير بهن الحفاظ على شئون هذه القرابة ومراعاة ذلك الجوار الطاهر من خلال الابتعاد عن المعاصي والتحلّي بكلّ الفضائل والتقوى والطهارة ، وانّ الانتساب إلى هذه المجموعة هو في الواقع سبب لمضاعفة المسئوليات والوظائف الواجبة عليهن ، ولذلك نجده تعالى يخاطبهن بقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ

٤٢٠