الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

٦٢

النبي ، الرسول ، الإمام

سؤال : ما هي الفروق التي يمكن تصوّرها بين المفاهيم التالية : النبي ، الرسول ، الإمام؟

الجواب : انّ لفظ «النبي» مأخوذ من «النبأ» بمعنى الخبر الخطير والعظيم ويكون معناه اللغوي : هو الحامل للخبر العظيم أو المخبر عنه. (١)

لقد أُطلق لفظ «النبي» في القرآن الكريم على الأشخاص الذين تلقّوا الوحي الإلهي من الله سبحانه ، وبطرق مختلفة ، وهذه هي حقيقة «النبي» ، وكلّ ما ذكر للنبي من صفات وخصائص ومميزات في الكتب اللغوية أو التفسيرية أو الحديثية ، فإنّها جميعاً خارجة عن مفهوم «النبي» ، ولا دخل لها في حقيقته ، ولا ينطبق عليها لفظ «النبي» وإنّما تستفاد تلك المعاني من قرائن خارجية.

يقول الشيخ الطوسي في تعريفه :

__________________

(١). إذا كانت صيغة «نبي» لازمة فحينئذٍ تعطي المعنى الأوّل ، وإذا كانت متعدّية فحينئذٍ تشير إلى المعنى الثاني ، وإن كان الظاهر هو المعنى الثاني والذي ينسجم بنحو ما مع معنى «الرسول».

٣٨١

«إنّه مؤد من الله بلا واسطة من البشر». (١)

ف «النبي» بمعنى متلقّي «النبأ» أو المخبر عن الله سبحانه ، وأمّا لفظ «الرسول» ـ إذا كانت رسالته من الله لا من البشر (٢) فحينئذٍ تكون رسالته في إطار مفهوم النبوة ـ فيكون معنى «الرسول» : هو عبارة عمّن تحمّل رسالة من إبلاغ كلام أو تنفيذ عمل من جانب الله سبحانه.

وبعبارة أُخرى : أنّ هذين المفهومين «النبوة» و «الرسالة» حينما يشيران إلى خصوصية أو خصوصيات من تلقّى الوحي من الأنبياء ، فحينئذٍ إذا لوحظ خصوصية حمل النبأ وتلقّي الوحي فقط فهذا هو النبي ، وأمّا إذا لوحظت خصوصية تبليغ الوحي ونشره فحينئذٍ يطلق على صاحبها مفهوم الرسول.

هذا هو المعنى الحقيقي والواقعي لكلا المفهومين ، وإنّ جميع ما ذكر من الخصوصيات والمميزات في كتب اللغة والتفسير والكلام لهذين المفهومين لا علاقة له بالمعنى الحقيقي لهما.

«فالنبي» و «الرسول» وفقاً لهذه النظرية ليس لهما إلّا مهمة الإنذار والتحذير والتبليغ والإرشاد فقط لا الأمر والنهي وإصدار الأوامر والمقرّرات وإنّما وظيفتهم انعكاس الوحي الإلهي ونشر الأوامر والنواهي الإلهية ، ولقد وصف القرآن الكريم الأنبياء والرسل وبصورة كلّية حيث قال سبحانه :

(... فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...). (٣)

__________________

(١). الرسائل العشر : ١١١ ، وعبارة الشيخ تحكي عن أنّه أخذ لفظ «النبي» متعدياً لا لازماً ، وتحكي أنّه نفى في مفهوم النبي وساطة البشر لا وساطة الملائكة.

(٢). كقوله : «فلمّا جاءه الرسول» (يوسف : ٥٠) حيث أشارت الآية إلى الرسول الذي بعثه عزيز مصر إلى يوسف عليه‌السلام.

(٣). البقرة : ٢١٣.

٣٨٢

وقال تعالى في خصوص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ). (١)

فهاتان الآيتان وبالإضافة إلى قوله تعالى : (... فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٢) ، تشيران ـ بالإضافة إلى ما قلنا سابقاً من أنّ النبي لا يأمر ولا ينهى من تلقاء نفسه ـ إلى حقيقة أُخرى وهي : انّ حقيقة دور الأنبياء ودعوتهم هو الإرشاد والهداية.

إنّ الأنبياء الإلهيّين حينما يتحركون في دائرة النبوة والرسالة يسعون وبجد للهداية وبيان الخطوط الحمراء للشريعة والنواهي والأوامر الإلهية ، وبيان طريق السعادة والفلاح للناس منطلقين في ذلك كلّه من تلقّي الوحي والأوامر الإلهية ، وليس لهم في هذا المجال نظر ورأي بصورة مستقلّة عن الوحي وكلّ ما يقولونه ويفعلونه هو كلام الله وأوامره ، فهم في الواقع ترجمان للوحي الإلهي.

وفي الحقيقة انّه لا يوجد في هذه الساحة إلّا هاد ومرشد واحد وقائد متفرّد وهو الله سبحانه وتعالى ، وانّ سلسلة الأنبياء والرسل مأمورون له سبحانه ، وانّ من ينقاد في هذه الأُمّة ويؤمن فإنّما ينقاد له سبحانه ويؤمن به ، وكذلك من يعصي ويتمرد ويكفر فإنّما يكفر بالله سبحانه ويتمرّد عليه سبحانه وليس للأنبياء طاعة ولا عصيان خاص بهم بصورة مستقلة ، وقد عبّر القرآن عن هذه الحقيقة بقوله :

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ...). (٣)

وذلك لأنّ الآمر الحقيقي هو الله ، والرسول متلقٍّ لكلامه سبحانه ومترجم

__________________

(١). الغاشية : ٢١ ـ ٢٢.

(٢). المائدة : ٩٢.

(٣). النساء : ٨٠.

٣٨٣

لوحيه.

وأمّا قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ...). (١)

فلا يعني أنّ للنبي أو للرسول إطاعة وعصياناً مستقلاً عن إطاعة الله ومعصيته سبحانه ، بل أنّ جملة (بِإِذْنِ اللهِ) تشير إلى أنّ الرسول ليس هو المطاع الواقعي ، بل المطاع الواقعي هو الله سبحانه وتعالى ، وإطاعة الرسول تبعاً لإطاعة الله.

وإذا أردنا أن نعبّر عن هذه الحقيقة بمصطلح علمي لا بدّ من القول : إنّ إطاعة الله سبحانه لها موضوعية ، وأمّا إطاعة الرسول فمأخوذة على نحو الطريقية ، ونحن إنّما نطيع الرسول لأنّ إطاعته هي عين إطاعة الله سبحانه وطريق إليها لا أنّها شيء آخر.

إلى هنا تبين لنا المعنى الحقيقي للفظ النبي والرسول ، وقد حان الوقت لبيان المقام المعنوي الآخر الذي ينتظر هاتين الطائفتين ، فكلّما أُدخل النبي والرسول بوتقة الاختبار وتعرض لسلسلة من الاختبارات والابتلاءات الصعبة بحيث استطاع أن يرتقي بكمالاته واستعداداته من مرحلة القوة إلى الفعلية ، ويصل في مجال العشق الإلهي إلى مرحلة الذوبان والوله ، بدرجة يهيمن العشق الإلهي على قلبه وأحاسيسه ومشاعره ويفرغ قلبه من كلّ شيء إلّا الله سبحانه ، فحينما يصل إلى هذه المرحلة من العشق والذوبان المطلق في الذات الإلهية يجتبيه الله سبحانه وينصبه لمقام إدارة أُمور الأُمّة بالإضافة إلى مقامي تلقي الوحي والتبليغ والتبشير والإنذار ، وهذا المقام هو مقام الإمامة الذي يمتلك من خلاله حق الأمر والنهي والتكليف والردع وإدارة المجتمع بالصورة الصحيحة ليوصله

__________________

(١). النساء : ٦٤.

٣٨٤

إلى حدّ الكمال.

كذلك ليس لأيّ إنسان (مهما كانت درجة كماله) حق الولاية على الآخرين ، بل الولاية حق لله سبحانه وتعالى وحده. نعم يمكن أن يمنح الله ـ ولمصالح معينة واعتماداً على ولايته المطلقة ـ هذا الحق للإنسان الكامل الذي اجتاز الاختبار وتقلّبات الحياة بنجاح ويمنحه مقام الإمامة والولاية والطاعة والقيادة بحيث يمتلك حق الأمر والنهي والتكليف وتكون له طاعة مستقلة.

ولا شكّ أنّ هذا المقام غير مقام النبوة والرسالة الذي يتلخّص في تلقّي الوحي وتبليغ الأحكام والأوامر الإلهية ، فإذا وصل إلى مقام الإمامة فحينئذٍ يرتقي إلى منزلة ومرتبة أُخرى ، وهي تحمّل مسئولية وقيادة الأُمّة وتنظيم المجتمع وإدارة شئونهم كما قلنا.

ففي النبوة والرسالة المجردتين عن الإمامة تكون إطاعة الرسول هي عين إطاعة الله سبحانه ، ولا يوجد ـ أبداً ـ نوعان من الطاعة ، ولكن حينما يرتقي الرسول إلى مقام الإمامة وينال وسام النصب الإلهي لمنصب الإمامة ، يكون حينئذٍ له حقّ الأمر والنهي ، وتكون له طاعة مستقلة. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ٢٥٠ ـ ٢٥٣.

٣٨٥

٦٣

عصمة الأئمّة

سؤال : ما هي الأدلّة العقلية والنقلية التي يمكن إقامتها لإثبات عصمة الأئمّة؟

الجواب : يجب على الإمام أن يكون معصوماً ومنزّهاً من الذنب ، لأنّه ما لم يتّصف الإمام بصفة العصمة لا يكون حينئذٍ موضوعاً لوثوق الناس بقوله وفعله ، ولا يمكن أن يكون قدوة وأُسوة لهم ، كذلك لا يتسنّى له بدون العصمة ان ينفذ إلى قلوب الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم ، وعلى هذا الأساس فلا بدّ للإمام ـ ولجلب وثوق الناس به واعتمادهم عليه ونفوذه في عقولهم وتفكيرهم ـ أن يكون معصوماً من كلّ أنواع الزلل والخطأ العمدي والسهوي. (١)

ثمّ إنّه كما ازدادت شروط الإمامة وفقاً للمذهب الشيعي ـ بالإضافة إلى الكفاءات الذاتية والعدالة أُضيفت شروط أُخرى ك «سعة العلم» و «العصمة» ـ كذلك ازدادت وظائفه ومهامه ، إذ بالإضافة إلى تأمين العدالة الاجتماعية وتحكيم

__________________

(١). بما أنّ الإمام مبين لأحكام الحوادث المستجدة ومفسرٌ لآيات القرآن الكريم و ... فهذا يعني أنّه يمتلك نفس الوظائف التي كانت للرسول ، وبالطبع فانّ الدليل العقلي الذي يحكم بلزوم عصمة النبي نفسه يجري في حقّ الإمام ويحكم بلزوم عصمته.

٣٨٦

الأمن ونشر الإسلام وغير ذلك من الأُمور المشابهة لها يكون الإمام مسئولاً عن تحقيق مسألتين هما :

١. بيان أُصول وفروع الإسلام وتلبية جميع متطلّبات المجتمع الإسلامي العلمية والفكرية والسياسية.

٢. صيانة الدين من كلّ أنواع الانحراف لتصل المعارف والأحكام الإلهية إلى الناس نقية خالصة من كلّ شين وعيب ، بحيث تنتقل ـ هكذا ـ من الخلف إلى السلف ولا يتمكّن النفعيون وتجار الحديث والتاريخ وأعداء الإسلام التلاعب بحقائق الدين الإسلامي.

الدليل الآخر على العصمة

لقد تبيّن في البحوث السابقة وبصورة جليّة نظرية المدرستين ـ المدرسة الإمامية ومدرسة الخلفاء ـ في مسألة الإمامة والخلافة وتبيّن سبب اشتراط المدرسة الشيعية «العصمة» في الإمام ولم يشترط ذلك في المدرسة الأُخرى ، بل نظروا إلى هذا الشرط نظرة التعجب والحيرة.

ففي أصل النظرية الشيعية ـ التي ترى أنّ الإمامة استمرار لوظائف النبوة والرسالة وانّ جميع وظائف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حوّلت إلى الإمام باستثناء وظيفة تأسيس الدين وكونه الطرف المباشر لتلقّي الوحي ـ يكون الإمام بعد النبي معصوماً أيضاً ، وإلّا فإنّه لا يستطيع أن يقوم بأداء الوظائف المحولة إليه ، وأمّا وفق النظرية السنية ـ التي ترى أنّ مقام الإمامة كمقام رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ـ فإنّهم يكتفون بما تتطلّبه تلك الوظائف من الكفاءة والدراية في إدارة البلاد وإن لم يكن قادراً على القيام بباقي وظائف ومهام النبوة والرسالة.

ونحن إذا راجعنا كتب الملل والنحل أو الكتب الكلامية لأهل السنّة نجد

٣٨٧

أنّهم يعتبرون إحدى نقاط الضعف في المذهب الشيعي هو القول بعصمة الإمام علي وأولادهعليهم‌السلام ، ويتعجّبون بل يستوحشون من هذه النظرية كما نتعجّب نحن من نظرية «المجبرة».

ولا ريب أنّ علّة تعجّبهم وحيرتهم أنّهم نظروا إلى القضيّة من الزاوية التي ينظرون منها إلى مسألة الإمامة ، إذ أنّها عندهم لا تتجاوز كونها منصباً عادياً ، وأنّ الإمام عندهم إنسان عادي لا يمتاز عن غيره من المسلمين بغير بعض المواهب والكفاءات التي يستلزمها منصب الإدارة فقط! ومن الطبيعي وفقاً لهذه النظرية أن يكون الاعتقاد بعصمة علي وأولاده عليهم‌السلام باعثاً على الحيرة والتعجّب!!

والحال ووفقاً للنظرية الشيعية التي ترى أنّ الإمام كالنبي واسطة في نزول الفيض المعنوي من جانب الله سبحانه إلى الأُمّة ، لا يوجد أدنى مجال للتعجّب والحيرة في القول بالعصمة.

ومن خلال هذا البحث يمكن الحصول على نتيجتين :

١. انّ مقام الإمامة ـ بعد النبيّ الأكرم ـ مقام تنصيصي أي تابع للنص الإلهي ، لأنّ الإنسان العادي وإن كان من جهة العلم والمعرفة يمكن أن يحصل على درجة عالية من العلم والمعرفة إلّا أنّه ما لم يخضع للتربية الإلهية ويتلقّى العلوم النبوية عن طريق الوحي لا يتمكّن من سدّ الفراغ ورفع الإشكالات والإبهامات التي تقع في الطريق.

٢. ما لم يكن خليفة النبي معصوماً من الذنب والمخالفة ، بل من الخطأ والاشتباه ولو في مجال الأُمور التي تتعلّق بالشريعة يستحيل عليه القيام بوظائف النبي وملء الفراغ الحاصل برحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى هذا الأساس تكون التربية الإلهية والعلم الواسع والعصمة من الذنب

٣٨٨

والخطأ من الشروط الأساسية لبيان أحكام الحوادث المستجدة ، وتفسير مقاصد آيات الذكر الحكيم ، والإجابة عن الشبهات والإشكالات ، وصيانة الدين من كلّ أنواع التحريف.

أضف إلى ذلك : أنّ جميع الأدلّة العقلية التي أُقيمت لإثبات عصمة النبي من قبيل : تحقيق أهداف البعثة ، كسب ثقة الناس ، فإنّها جميعاً تجري ـ وبنحو ما ـ في حق الإمام وفقاً للنظرية الشيعية ، وإذا أردنا أن نصيغ ذلك الدليل بعبارة مختصرة نقول : إنّ عصمة الإمام لازم للنظرية التي ترى أنّ مقام الإمامة استمرار لمقام النبوة ووظائفها ، أو أنّه استمرار لمقام إمامة النبي ، ولا ريب أنّ هذه الاستمرارية لا يمكن أن تحصل من دون الإيمان بعصمة الإمام.

وقد حان الوقت لبيان الدليل السابق بصورة أُخرى مفصّلة حيث نقول :

لقد حدث وبرحيل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلسلة من الفراغات في المجتمع الإسلامي لا يمكن سدّها إلّا بوجود إمام معصوم.

وبعبارة أُخرى : إذا كان سدّ تلك الفراغات ـ التي سنذكرها ـ ضرورياً ، فلا بدّ انّها تسد بوجود الإمام المعصوم ، وإلّا فلا يمكن للإنسان العادي سدّها وملء الفراغ.

وهذه الفراغات هي :

١. بيان أحكام الحوادث المستجدة التي لا سابق لها.

٢. تفسير مقاصد وأهداف آيات الذكر الحكيم.

٣. الإجابة عن الشبهات وحلّ الإشكالات.

٤. صيانة وحفظ الرسالة الإسلامية من كلّ أنواع التحريف.

هذه هي الوظائف التي كان يقوم بها النبي الأكرم في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان بوجوده

٣٨٩

الشريف يسد الخلل الذي يحصل في تلك المجالات. وها نحن نشير و ـ حسب الترتيب ـ إلى تلك الوظائف بصورة إجمالية :

ألف. لقد كان النبي مبيّناً لأحكام جميع المسائل المستحدثة التي تحتاجها الأُمّة.

ولا ريب أنّ هذه الحاجة استمرت بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تواجه الأُمّة دائماً مسائل مستحدثة الأمر الذي يقتضي وجود شخصية تستطيع أن تبيّن للأُمّة أحكام تلك المسائل المستجدة التي لم تقع في زمن الرسول لكي يوضح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحكامها ، وقد واجهت الأُمّة بالفعل الكثير من تلك المسائل التي تحيّرت في حلّها ، ولذلك أخذت الأُمّة تشرّق وتغرّب باحثة عمّن يضع لها العلاج الناجع والحل النافع فالتجأت إلى أدلّة ظنيّة وتخيّلات لم تزدها إلّا حيرة وضياعاً.

ب. لقد كان النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال حياته المباركة يقوم بتوضيح وتفسير قسم من الآيات وبيان الأبعاد المختلفة للقسم الآخر منها ، وكان يسد بذلك حاجة المسلمين ، لكن بقيت هذه الحاجة تلازم المسلمين بعد رحيله حتّى أنّهم انقسموا في تفسير قسم من الآيات ، بل اختلفوا حتّى في الآيات التي تتعلّق بالوضوء وحدّ السارق والفرائض اختلفوا اختلافاً شديداً.

ج. كما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتصدّى للرد على الشبهات والإشكالات التي يثيرها اليهود والنصارى وبقية الأقوام والملل القاطنة في المدينة أو الذين يتردّدون عليها. ويشهد على ذلك وبصورة جلية الآية التي تدلّ على إبطال ألوهية المسيح عليه‌السلام (١) ، ولقد بقيت هذه المهمة على قوتها بعد رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث انحدر إلى المدينة سيل من الشبهات والإشكالات التي أثارها أحبار اليهود

__________________

(١). آل عمران : ٥٩.

٣٩٠

وقساوسة النصارى وغيرهم ، وانّ تاريخ الخلفاء وعجز الكثير من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإجابة عن تلك الإشكالات وردّ الشبهات شاهد صدق على بقاء تلك الحاجة وبقاء تلك الثغرة التي تركها رحيل الرسول مفتوحة.

د. انّ مسألة حفظ وصيانة الرسالة الإسلامية من التحريف والوضع والجعل التي انبرى للقيام بها قلّة من الوضّاعين والمغرضين ، لا يمكن تجاهلها والمرور عليها مرور الكرام ، فلقد كانت محاولة الوضع والتحريف في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجودة بصورة أو أُخرى. ولكنّها راجت بصورة أكبر بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرفيق الأعلى.

ومن الطبيعي أنّ كلّ محاولة للتحريف والجعل كانت تمنى بالفشل الذريع من خلال مراجعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتصدّي من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعالجة المشكلة ، ولكن بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم وجود الشخص المعصوم ـ أو بعبارة أُخرى عدم رجوع الأُمّة إلى الإمام المعصوم الذي ينبغي الرجوع إليه ـ الذي يمكن من خلاله حلّ المشكلة والقضاء على كلّ محاولات التحريف والوضع وتمييز الحقّ عن الباطل والصحيح عن السقيم ، أوجد في المجتمع الإسلامي مشكلة كبرى بحيث تمكن تيار الدس والوضع من زرق الكم الهائل من الأحاديث والروايات المجعولة في مصادر التراث الإسلامي بحيث تمكّنت أن تقلب وجهة تاريخ الحديث في صدر الإسلام.

ثمّ إنّ مسألة التحريف لم تقتصر على مجال الحديث والرواية ، بل أنّ نشوء الفرق المختلفة بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي يشهد عليها تاريخ الملل والنحل ، يُعدّ دليلاً واضحاً على وجود عملية التحريف في مجالي الأُصول والفروع بحيث لم يمر على رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فترة طويلة إلّا والمسلمون انقسموا إلى فرق ومذاهب مختلفة وصلت إلى ما يربو على ٧٢ فرقة ، أو أكثر من ذلك ، واحدة منها ـ هي الناجية ـ على الحقّ

٣٩١

والباقية باطلة جميعها بلا ريب.

إنّ تلك المشاكل والإشكالات كانت تعالج ببركة وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ريب بعد رحيلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستبقى تلك المشكلات على حالها وقوتها ولا يوجد أحد يمتلك القدرة على التصدّي لمعالجة المرض ، نعم يوجد طريق واحد لحلّ المعضلة وهو أن نؤمن بوجود شخص يكون خليفة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتلك من الصفات والمؤهّلات التي تساعده ليكون واسطة الفيض الإلهي على الأُمّة كما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحينئذٍ تستطيع الأُمّة التخلّص ممّا يحيق بها من الأخطار وتنعم بالفيض الإلهي ، وإلّا فلا.

إنّ هذه الفجوات ونقاط الخلل لا يمكن أن تسد من خلال الخليفة المنتخب من قبل الأُمّة ، بل لا بدّ لحلّها ومعالجتها من وجود إمام وخليفة يتحلّى بما كان يتحلّى به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التربية الإلهية والعلم الواسع والعصمة من الذنب والخطأ ، وإلّا فستبقى تلك الفجوات والثغرات على قوتها. ولا ريب أنّ معرفة وتشخيص المصداق الذي يتحلّى بتلك الصفات والمؤهلات لا يمكن لأيّ إنسان تحصيله إلّا من خلال طريق واحد لا ثاني له وهو التنصيص الإلهي لأنّه لا بدّ لهذا الفرد ـ وكما قلنا ـ أن يخضع للتربية والإعداد والتأهيل الإلهي والتعليم الخارق للعادة ، وبعد أن تتم عملية إعداده وتأهيله تأتي مرحلة تعريفه إلى الأُمّة من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الوقت المناسب.

إنّ هذه الحسابات والمعادلات التي ذكرناها هنا بصورة مضغوطة (١) تثبت ـ بالإضافة إلى ضرورة النصّ على الإمام ـ العصمة أيضاً ، وبما أنّنا قد تعرّضنا في بحث النبوة لبيان الأدلّة العقلية لإثبات عصمة النبي الأكرم ، وأثبتنا أيضاً أنّ تلك البراهين والأدلّة تجري في حقّ الإمام أيضاً فلذلك لا نرى ضرورة لإعادتها هنا.

__________________

(١). هناك آيات أُخرى يمكن الاستدلال بها على عصمة الأئمة عليهم‌السلام صرفنا عنها النظر روماً للاختصار.

٣٩٢

ثمّ إنّه إذا كانت هناك سلسلة من الآيات التي تثبت عصمة الأنبياء بصورة عامّة وعصمة الرسول الأكرم بصورة خاصة ، فإنّ هناك آيات أُخرى تدلّ وبصورة كليّة على عصمة ومصونية الأئمّة عليهم‌السلام.

ونحن هنا نكتفي بالبحث في آيتين من الذكر الحكيم هما :

١. الآية التي تتعلّق بإمامة إبراهيم عليه‌السلام.

٢. آية التطهير. (١)

عصمة الإمام في آية الابتلاء

من المفاهيم الجديرة بالبحث والتحليل «مفهوم الإمام في القرآن» فإنّ مفهوم «الإمام» كمفاهيم : «النبي» و «الرسول» و «الصدّيقين» و «الشهداء» و «الصالحين» جدير بالبحث والدراسة والتفسير.

ولقد ذكر القرآن الكريم تلك المفاهيم مجتمعة ـ إلّا مفهوم الإمامة ـ في آية من الذكر الحكيم وهي قوله تعالى :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). (٢)

والحقّ أنّ كلّ واحد من تلك المفاهيم جدير بالاهتمام ويستحقّ البحث والدراسة والتحليل والتوضيح ، وإذا كان القرآن الكريم قد ذكر في هذه الآية المباركة المفاهيم الخمسة ، فإنّه في آيات أُخرى تعرض للإشارة ولبيان موضوع

__________________

(١). الأحزاب : ٣٣.

(٢). النساء : ٦٩.

٣٩٣

«الإمامة» و «الأئمّة» وتحدّث عن تلك المفاهيم ومن أبرز الآيات التي وردت في بحث «الإمامة» قوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). (١)

كيفية دلالة الآية على عصمة الإمام

لقد بحثنا الآية المباركة وبصورة شاملة ومفصّلة ، وسلّطنا الأضواء على جميع الجزئيات وجميع النظريات والآراء التي ذكرت للآية الشريفة في موسوعتنا «مفاهيم القرآن» ، وبيّنا هناك أنّ الآية تدلّ بما لا ريب فيه على عصمة الإمام. (٢)

ونشير هنا إلى دلالة الآية بصورة إجمالية :

١. إنّ الإمام هو القائد وهو الأُسوة والقدوة ، ولا ريب أنّ الإنسان غير المعصوم لا يمكن أن يكون أُسوة وقدوة للآخرين.

وبعبارة أُخرى : ينبغي للأُمّة أن تجري في أقوالها وأفعالها طبقاً لأقوال وأفعال الإمام. فكيف يكون الإنسان غير المعصوم من الذنب وغير المصون من الخطأ أُسوة وقدوة للأُمّة تطبق أعمالها وأقوالها على أفعاله وأقواله؟!!

٢. إنّ الإمام هو الشخص المطاع بدون قيد أو شرط ، أي أنّ إطاعته واجبة مطلقاً ، ولا شكّ أنّ من تجب إطاعته مطلقاً وبلا قيد ولا شرط لا يمكن إلّا أن يكون معصوماً.

٣. إنّ الآية تصرح بصورة واضحة وتامّة انّ الظالمين لا يمكن أن ينالهم

__________________

(١). البقرة : ١٢٤.

(٢). انظر مفاهيم القرآن : ٥ / ١٩٧ ـ ٢٥٩.

٣٩٤

العهد الإلهي وهو «الإمامة» التي طلبها إبراهيم عليه‌السلام لذريته وقد أوضحنا في موسوعتنا «مفاهيم القرآن» انّ طلب إبراهيم قد استجيب في بعض ذرّيته عليه‌السلام ، وهذا البعض هو تلك الطائفة من ولده عليه‌السلام الذي لا توجد في صفحة حياتهم أي نقطة ضعف أو خلل ، وأمّا غيرهم من ذريته وإن كانوا في حال التصدّي يتحلّون بالنقاء والطهارة ولكن مع ذلك لا ينالهم ذلك العهد الإلهي ويشملهم النفي الوارد في قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١). (٢)

آية التطهير وعصمة أهل البيت عليهم‌السلام

إنّ آية التطهير لا تخفى على مَن لهم معرفة بالقرآن الكريم بل حتّى أُولئك الناس الذين ليست لهم معرفة كبيرة بالقرآن الكريم يحفظون تلك الآية ، وهي قوله تعالى :

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (٣)

وقد استدلّ بها علماء الشيعة ومفكّروهم ـ منذ الأيام الأُولى لتدوين الحديث والتفسير ـ على عصمة «أهل البيت» الذين نزلت الآية بحقّهم واعتبروا الآية أحد الأدلّة على عصمة هذه المجموعة.

ومن المسائل المهمة في دراسة الآية هو توضيح وبيان معنى «الرجس» ، فقد

__________________

(١). البقرة : ١٢٤.

(٢). منشور جاويد : ٥ / ٢١٤ ـ ٢٧٨.

(٣). الأحزاب : ٣٣.

٣٩٥

عرّف اللغوي المعروف والمشهور ابن فارس «الرجس» ب «القذارة» حيث قال : هو القذارة الأعم من المادية والمعنوية. (١)

ولقد ذكرت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمانية مرات ووصفت بها أشياء متعدّدة هي: الخمر ، والميسر ، والأنصاب ، والأزلام ، والكافر ، والميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، والأوثان ، وقول الزور (٢). وإلى غير ذلك من الموارد.

ويمكن القول ومن خلال ملاحظة مجموع الآيات : إنّ «الرجس» يساوي «القذارة» التي تستنفر منها النفوس ، سواء كانت هذه القذارة مادية كالدم والميتة ، ولحم الخنزير ؛ أو كانت معنوية ، كما هو الحال في القمار والكافر وعابد الوثن ووثنه ، فهذه وإن كانت في الظاهر نظيفة ولكن بالالتفات إلى المفاسد الكامنة في القمار وعبادة الوثن وعقائد الكافر اعتبرت جميع تلك الموضوعات من «الرجس».

ولا شكّ أنّ المقصود من «الرجس» الوارد في الآية الكريمة ليس هو القذارة المادية الظاهرية ، بل المقصود هو الأعمال القبيحة عرفاً أو شرعاً ، أي القذارة المعنوية الموجودة في الكافر والعاصي ، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة ، وهذا يساوي الذنب وعدم الطاعة لا غير وإنّ تنزّه الإنسان وطهارته من هذه القذارة يلازم العصمة والصيانة من الذنب.

والشاهد على ذلك جملة : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) التي وردت تأكيداً لقوله : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) وهذه الجملة قد وردت في القرآن الكريم بمعنى التطهير والتنزيه من الذنب والصيانة من كلّ أنواع المخالفة حيث قال تعالى :

__________________

(١). المقاييس : ٢ / ٤٩.

(٢). انظر المعجم المفهرس لآيات القرآن ، مادة «رجس».

٣٩٦

(إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). (١)

ولا ريب أنّ هذا التطهير يساوي الطهارة من القذارات الروحية والمعنوية الملازم للعصمة.

وبالطبع انّ «التطهير» له مراتب ودرجات كثيرة وليست جميع مراتبه ملازمة للعصمة، كما قال سبحانه وتعالى بخصوص مسجد قبا والمصلّين فيه :

(... فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ). (٢)

وبما أنّ الآية قد نَفَتْ القذارة بنحو مطلق حيث جاءت لفظة (الرِّجْسَ) مقترنة بالألف واللام ، وهذا يعني : أنّ المنفي في الآية هو عموم الرجس ، وذلك لأنّ المنفي جنس الرجس لا نوعه ولا صنفه ، ومن المعلوم أنّ نفي الجنس يلازم نفي الطبيعة مطلقاً أي بعامة مراتبها ، ولأجل ذلك لم يكتف سبحانه بقوله : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) بل أكّده بقوله: (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، وهذا يلازم العصمة بلا ريب وبلا شكّ ، إذ لو كان المراد نفي مرتبة من مراتب الرجس كالمعاصي الكبيرة لما كان لنفي «الرجس» بنحو نفي الجنس معنى ، وكذلك لا معنى حينئذٍ لتأكيد ذلك بجملة (يُطَهِّرَكُمْ).

والحاصل : انّه يمكن الاستدلال بدليلين أنّ المنفي في الآية مطلق القذارة المعنوية الأعم من الصغيرة والكبيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك :

١. انّه قد نفيت عنهم طبيعة «الرجس» و «القذارة» ، ومن المعلوم أنّ نفي الجنس يلازم نفي جميع المراتب والأفراد.

٢. انّ نفي الرجس والقذارة قد أُكد بجملة : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ومن

__________________

(١). آل عمران : ٤٢.

(٢). التوبة : ١٠٨.

٣٩٧

المعلوم أيضاً أنّه إذا كان المقصود هو نفي بعض مراتب القذارة لا جميعها ، فحينئذٍ لا يكون للتأكيد معنى مناسب جداً.

وقد اتّضح من هذا البيان أنّه لا أساس لنظرية بعض المفسّرين الذين ذهبوا إلى أنّ المراد من (الرِّجْسَ) المنفي في الآية هو الشرك أو الذنوب الكبيرة ، لأنّ هذا التفسير ينافي ظاهر الآية ، وذلك لأنّ «الرجس» ليس معناه الشرك أو الذنوب الكبيرة ، بل (للرجس) معنى أوسع وأشمل ، وقد نُفي عن أهل البيت عليهم‌السلام بنحو مطلق ، ونفي الشيء بنحو مطلق وبلا قيد وبلا شرط يلازم نفي جميع مراتب ذلك الشيء لا نفي مرتبة منه ، كما في قولنا : «لا رجل في الدار» أو «لا خير في الحياة». (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ٢٨١ ـ ٢٨٤.

٣٩٨

٦٤

أهل البيت في آية التطهير

سؤال : بعد أن بيّنتم المراد من الرجس في الآية وبيّنتم أيضاً أنّ الآية تدلّ على عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ولكن يبقى هنا سؤال وهو : من المعلوم «أنّ القضية لا تثبت موضوعها» ولذلك ينجر البحث إلى السؤال عن مصداق أهل البيت في الآية ومن هم هؤلاء الذين عنتهم الآية؟

الجواب : لقد وردت لفظة أهل البيت في القرآن الكريم مرتين إحداهما في هذه الآية ، والأُخرى في قوله تعالى : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). (١)

وقد جاء هذا اللفظ مركباً من كلمتين يمكن من خلالهما تحديد المفهوم المراد من «الأهل» ومن الموارد التي استعملت فيها كلمة «الأهل» في اللغة العربية وهي :

١. أهل الأمر.

٢. أهل الإنجيل. (٢)

__________________

(١). هود : ٧٣.

(٢). المائدة : ٤٧.

٣٩٩

٣. أهل الكتاب. (١)

٤. أهل الإسلام.

٥. أهل الرجل.

٦. أهل البيت.

٧. أهل الماء.

وقد اتّفقت كلمة أهل اللغة على أنّ «الأهل» و «الآل» كلمتان بمعنى واحد ، وأنّ أصل «الآل» هو الأهل.

يقول ابن منظور : أصلها أهل ثمّ أُبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير «أأل» ، فلمّا توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفاً. (٢)

وحينما هجم أبرهة الحبشي على مكة المكرمة أخذ عبد المطلب بحلقة باب الكعبة وأنشد قائلاً : «انصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك». (٣)

وبالالتفات إلى موارد استعمال هذه الكلمة يمكن تحديد مفهوم هذه اللفظة كالتالي :

إنّه يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه ، أي في من كان له علاقة قوية بمن أُضيف إليه ، ولذلك قال ابن منظور في «لسان العرب» : «أهل الرجل أخصّ الناس به».

وبعبارة أُخرى : كلّما أُطلقت لفظة : (أهل الرجل) فإنّه يراد منها هم أخصّ الناس به والمرتبطون والمتعلّقون به.

__________________

(١). آل عمران : ٤٦.

(٢). لسان العرب : ١١ / ٢٨ ـ ٣٠.

(٣). تاج العروس : مادة «أهل».

٤٠٠