الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

ثمّ إنّه لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة مهمة وهي انّه ليس من الصحيح الاكتفاء في تفسير القرآن بآية واحدة واعتبارها هي المعيار والمقياس الأساسي للحق أو الباطل وغضّ النظر عن الآيات الأُخرى ، بل الحقيقة إنّ آيات القرآن الكريم يفسر بعضها بعضاً ويبيّن بعضها البعض الآخر ، ولأمير المؤمنين عليه‌السلام عبارة ذهبية ينبغي على جميع المفسّرين والراغبين في معرفة المفاهيم القرآنية هضمها واعتمادها منهجاً أساسياً في التفسير وبيان الحقائق القرآنية حيث يقول عليه‌السلام : «وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض». (١)

ونحن حينما ندرس الآيات الأُخرى التي تتعلّق برسالة النبي الأكرم نجدها تعلّق هداية ونجاة أهل الكتاب على شرط واضح ، وهو انّ هذه الهداية والنجاة مشروطان باعتناق الدين الإسلامي والعمل وفق شريعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث يقول سبحانه في هذا المجال : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ...). (٢)

وحينئذٍ لا بدّ من العودة لمعرفة عقيدة المسلمين وأنّهم بأيّ شيء آمنوا وما هو كتابهم لنرى هل اليهود والنصارى حقّقوا ذلك الشرط أو لا؟

إنّ المسلمين يؤمنون أنّ الرسول هو خاتم الأنبياء والرسل وبه أوصد باب النبوّات يقول سبحانه :

(... وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ...). (٣)

كذلك يعتقدون أنّ الرسول الأكرم قد جاء برسالة شاملة وشريعة كاملة وعالمية ، وأنّ شريعته أكمل الشرائع ، وأنّ كتابه خاتم الكتب والمهيمن والرقيب

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ ، طبعة عبده.

(٢). البقرة : ١٣٧.

(٣). الأحزاب : ٤٠.

٣٦١

عليها حيث يقول سبحانه :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ...). (١)

ولا ريب أنّ المهيمن بمعنى الحافظ والحارس والشاهد والمراقب ، وعلى هذا الأساس يكون القرآن الكريم حافظاً لأُصول الكتب السماوية السابقة ورقيباً عليها ، فيكون مقصود الآية أنّه كلّما وقع التحريف في الكتب السماوية السابقة ، فإنّ القرآن الكريم هو المراقب والشاهد والحامي لأُصولها بحيث تكفي مراجعته لإثبات الحقّ من الأُصول ومعرفة نقاط التحريف ونفي الباطل الذي حدث بسبب التحريف.

ثمّ إنّ المسلمين يعتقدون كذلك بأنّ المبعوث بهذا القرآن بما أنّه يمثل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأنبياء ، وانّ رسالته وشريعته أكمل الرسائل وأتمّ الشرائع ، وأنّها رسالة عالمية لا تنحصر بجيل دون جيل أو بقوم دون قوم ، لذلك نجده يخاطب العالم أجمع بقوله :

(... يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ...) (٢)

حيث يؤكّد لهم أنّ رسالته لهم جميعاً ، وأنّه لا مبرر لهم ـ بعد رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في اعتناق أيّة رسالة ، أو العمل بأي شريعة غير الإسلام ، ولذلك نجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتصدّى وبصورة عملية في السنة السابعة والثامنة من الهجرة لإثبات تلك الحقيقة ، حيث كتب كتباً وأرسل وفوداً إلى رؤساء الممالك التي تعتنق الديانات

__________________

(١). المائدة : ٤٨.

(٢). الأعراف : ١٥٨ ، وهناك آيات أُخرى تدلّ على عالمية رسالته واستمراريتها ذكرنا بعضها في البحوث السابقة.

٣٦٢

الأُخرى كالزرتشتية والمسيحية ودعاهم إلى اعتناق الدين الإسلامي وألزمهم بذلك ، ورأى أنّ ذلك يجب عليهم ، ولقد نقل لنا التاريخ تلك الكتب والرسائل بما لا ريب فيه. (١)

نتيجة البحث

إنّ الهدف من الآية هو نفي الامتيازات الموهومة التي جعلها اليهود والنصارى لأنفسهم ، وأمّا البحث عن أحقيّة أي رسالة ووجوب تبعية واعتناق أي دين للفوز بالسعادة والخلود فهذا ممّا يفهم من الآيات الأُخرى والأحاديث النبوية ، ولحسن الحظ انّها تتّفق جميعاً على وجوب اعتناق الدين الإسلامي والعمل بالشريعة المحمدية الخاتمة وانّ الرسالات السابقة رسالات تختص كلّ منها بزمان خاص لا تتجاوزه. (٢)

__________________

(١). للاطّلاع على هذه الرسائل يراجع كتاب «مكاتيب الرسول» للميانجي.

(٢). منشور جاويد : ٣ / ٢٢٢ ـ ٢٢٦.

٣٦٣
٣٦٤

الفصل الثالث

الإمامة

٣٦٥
٣٦٦

٥٩

معنى الإمامة

سؤال : ما المقصود من مفهوم الإمام عند أهل اللغة والقرآن الكريم؟

الجواب : لقد عرّف أئمّة اللغة الإمام تعاريف عديدة نذكر قسماً منها :

قال ابن فارس في تعريفه :

«الإمام : كلّ مَن اقتدي به وقدِّم في الأُمور ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام الأئمّة والخليفة إمام الرعية والقرآن إمام المسلمين». (١)

وأمّا ابن منظور فقد عرفه في «لسان العرب» بقوله :

«الإمام من ائتم به من رئيس وغيره وفي التنزيل : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم ، الذين ضعفاءهم تبع لهم».

ثمّ قال :

«إمام كلّ شيء قيِّمُه والمصلح له والقرآن إمام المسلمين ...». (٢)

__________________

(١). مقاييس اللغة : ١ / ٢٨.

(٢). لسان العرب : ١٢ / ٢٤ مادة «أمم».

٣٦٧

وأمّا الفيروزآبادي في «القاموس» فقد أورد نفس عبارة اللسان ولم يضف عليها شيئاً ولكنّه ركّز القول على ذكر مصاديق الإمام وعدَّ من معاني الإمام : القرآن والنبي والخليفة وقائد الجيش ، ثمّ قال بعد ذلك :

«وما يتعلمه الغلام كلّ يوم وما امتثل عليه المثالُ ، والدليل ... وخشبة يسوّى عليها البناء». (١)

إنّ هذه التعريفات جميعها تشير إلى معنى واحد تقريباً ، وهو الشيء الذي ينبغي للإنسان الاقتداء والائتمام به واعتباره أُسوة وقدوة ومتبوعاً له ، سواء كان ذلك الشيء إنساناً أو أمراً آخر فإنّه يطلق عليه لفظ الإمام حتّى يطلق ذلك على المثال الذي يضربه المعلم لتلاميذه ويرسمه لهم وعلى قبّان البناء ، وكذلك على الشاقول و ... ، وذلك لأنّ كلّ من المثال أو الخط أو القبّان أو الشاقول أو خيط البناء كلّها تعتبر أُسوة ونموذجاً للعمل ينبغي اعتمادها واتّباعها وتطبيق العمل وإنجازه على وفقها.

وأمّا الإمام في الاصطلاح فهو :

الإنسان الملكوتي الكامل والمثالي ، الذي يقع في قمة هرم الهداة ، وهو المحور الذي يأخذ بيد الأُمّة إلى الكمال والرقي في المجالات الفردية والاجتماعية والذي يجب على الأُمّة امتثال أوامره وتوجيهاته واعتباره أُسوة وقدوة لها في أعماله وأفعاله وتقريراته.

مفهوم الإمامة في القرآن

لقد ورد لفظ الإمام مع بعض مشتقّاته في القرآن الكريم اثنتا عشرة مرة :

__________________

(١). القاموس المحيط : مادة «أمم».

٣٦٨

سبع منها جاء بصورة «المفرد» ، وخمس منها جاء بنحو «الجمع» ، وفي جميع تلك الموارد جاءت لفظة الإمام وصفاً لأشياء متعدّدة نذكرها على نحو الإجمال :

١. الإنسان : وهو الشخص الذي يتحمّل مسئولية إمامة وقيادة مجموعة من الناس ، قال سبحانه : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). (١)

فتارة يكون هذا الإمام مفيداً ونافعاً للمأمومين وللتابعين كما في المثال الذي ورد في الآية الكريمة ، وتارة أُخرى يكون هذا الإمام مضراً لتابعيه إلى حد يوردهم المهالك ويوقعهم في المهاوي في الدارين الدنيا والآخرة ، كما يقول سبحانه : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ). (٢)

فالإمام بكلا مصداقيه سواء أكان إمام حقّ أم باطل لا يختصّ بهذا العالم ، بل هما يتحمّلان مسئولية الإمامة في الدارين ، كما يقول سبحانه وتعالى وبصورة شاملة : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ...). (٣)

ويقول في خصوص إمامة فرعون : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ...). (٤)

٢. الكتاب : قال تعالى : (... وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ...). (٥)

٣. الطريق : قال تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ). (٦)

ففي هذه الآية عبّر عن «الطريق» بلفظ الإمام ، وذلك لأنّ المسافر يتّخذ من الطريق إماماً وهادياً له ويتبعه للوصول إلى المقصد الذي يريده.

__________________

(١). البقرة : ١٢٤.

(٢). القصص : ٤١.

(٣). الإسراء : ٧١.

(٤). هود : ٩٨.

(٥). هود : ١٧.

(٦). الحجر : ٧٩.

٣٦٩

٤. اللوح المحفوظ : كقوله تعالى : (... وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ). (١)

وبما أنّه قد عبّر عن اللوح المحفوظ بعنوان الكتاب ، فحينئذٍ يمكن دمج هذا القسم في القسم الثاني ، ولكن بما أنّ حقيقة وواقعية «اللوح المحفوظ» غير معلومة لنا لذلك ذكرناها هنا بصورة مستقلّة ، وأمّا إذا فسّرنا هذه الآية في الإمام المعصوم ، فحينئذٍ يدخل هذا القسم في القسم الأوّل.

فبالالتفات إلى المعنى اللغوي للإمام حينئذٍ يطرح السؤال التالي وبصورة جدّية : ما المقصود من جعل الإمامة في الآية؟ ونحن في مقام الإجابة عن هذا التساؤل المهم نحاول تسليط الضوء على أهم شيء في هذه المسألة وهو تحليل ومعرفة ماهية وحقيقة الإمامة من خلال البحوث الآتية.

ومن العجب أنّ كثيراً من المفسّرين مرّوا على هذه المسألة المهمة مرور الكرام ولم يولوها الأهمية التي تستحقّها من البحث والتحقيق.

الإمامة في الأحاديث الإسلامية

لقد وردت روايات كثيرة على لسان المعصومين عليهم‌السلام في هذا المجال نكتفي بذكر البعض منها ، وهي :

لقد وصف الإمام الثامن عليه‌السلام الإمامة كالتالي :

«إنّ الإمامَةَ زِمامُ الدِّينِ ، وَنِظامُ الْمُسْلِمينَ ، وَصَلاحُ الدُّنْيا ، وَعِزُّ الْمُسلِمينَ». (٢)

__________________

(١). يس : ١٢.

(٢). الكافي : ١ / ٢٠٠ ، كتاب الحجة باب فضل الإمام ، طبع دار الكتب الإسلامية.

٣٧٠

وقال عليه‌السلام أيضاً :

«الإمامُ يُحَلِّلُ حَلالَ اللهِ وَيُحَرِّمُ حَرامَهُ ، وَيُقيمُ حُدُودَ اللهِ ، وَيَذُبُّ عَنْ دينِ اللهِ ، وَيَدْعُو إلى سَبيلِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْحُجَّةِ الْبالِغَةِ ... عالِمٌ بِالسِّياسَةِ ، مُسْتَحِقٌّ لِلرِّئاسَةِ». (١)

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام :

«اتَّقُوا الْحُكُومَةَ فَإِنَّ الْحُكُومَةَ إِنَّما هِيَ لِلإمامِ ، العالِمِ بِالقَضاءِ ، العادِلِ في المُسْلِمينَ». (٢)

وقال الإمام علي عليه‌السلام :

«... والإِمامَةَ نِظاماً لِلأُمَّةِ ، وَالطّاعَةَ تَعْظِيماً لِلإِمامَةِ» (٣). (٤)

__________________

(١). تحف العقول : ص ٤٤٠ ، مؤسسة النشر الإسلامي. ويمكن أيضاً مراجعة كتاب الكافي : ١ / ٢٠٠ ، كتاب الحجة مع اختلاف يسير مثل باب ما يجب من حق الإمام وغيره.

(٢). وسائل الشيعة : ١٨ / ٧ ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب ١ ، الحديث ٣.

(٣). نهج البلاغة : الحكمة ٢٥٢.

(٤). منشور جاويد : ٥ / ٢٢٩ ـ ٢٣١ و ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٣٧١

٦٠

موقع الإمامة في الفكر الشيعي

سؤال : ما هي الأهمية التي يوليها الشيعة للإمامة ، وما هو موقعها ومنزلتها في الفكر الشيعي؟

الجواب : احتلت الإمامة في الفكر الشيعي مقاماً مرموقاً حيث أولاها مفكّرو الشيعة أهمية كبرى ، إذ اعتبروا الإمامة مقاماً ومنصباً إلهياً لا بدّ لصاحبه أن ينصب من قبل الله تعالى.

وبعبارة أُخرى : كما أنّ مقام النبوة مقام ومنصب إلهي ، ولا بدّ أن يعيّن النبي أو الرسول من قبل الله سبحانه ، ويستحيل على أيّ إنسان مهما كان أن يصل إلى هذا المقام السامي وهذه المرتبة العالية من خلال انتخاب الأُمّة له ، كذلك الأمر في مقام الإمامة فإنّه مقام إلهي يستحيل فيه على الإنسان أن يناله من خلال انتخاب الأُمّة أو من خلال انتخاب أهل الحلِّ والعقد له ، أو من خلال الشورى أو ما شابه ذلك.

وفي الحقيقة انّ الناس قد انقسموا في مسألة النبوة إلى طائفتين : طائفة مؤمنة ، وأُخرى كافرة ، ويستحيل على الأُمّة كالحكومات الديمقراطية أن يكون لها برنامج خاص في انتخاب النبي أو عدم انتخابه ، وذلك لأنّ قضية النبوة

٣٧٢

خارجة في الواقع عن إطار الانتخابات والديمقراطية والشورى وغيرها ، ولا معنى لكلّ هذه المناهج هنا ، وذلك لأنّ النبوة في الواقع ترتبط بمسألة المعرفة وعدم المعرفة ، والإيمان والإنكار، والتصديق والتكذيب وهذه الأُمور لها أُسلوب خاص ومنهج معين لمعالجتها لا يتماشى أبداً مع أُسس الانتخابات والشورى وغيرها.

فلو أنّ جميع سكّان المعمورة انتخبوا وبحرية تامّة إنساناً ما (كمسيلمة الكذّاب) لمقام النبوة ولم يخالف في ذلك أحد ، وفي نفس الوقت لو أعرض الجميع عن إعطاء رأيهم إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينبغي للديمقراطيين والليبراليين أن يعتبروا لذلك الانتخاب والرد أدنى قيمة موضوعية ، كذلك لا معنى هنا لمفاهيم ونظريات أُخرى كالوراثة ، والتنصيب أو الانتخاب البشري ، أو الغلبة والانتصار و ... ، إذ انّ منصب النبوة ومقام الرسالة منصب إلهي ومقام سماوي لا يخضع لجميع تلك المعايير التي ذكرناها والتي يعتمدها أبناء النوع الإنساني لتعيين وتنصيب المسئولين والحكام.

فإذا عرفنا ذلك نقول : إنّ الأمر نفسه يجري في مقام الإمامة ، وبتعبير أصح : إنّ ملاك الإمامة أمرٌ حقيقي وواقعي في الإمام ، كما أنّ النبوة حقيقة في النبي ، وكذلك النبوغ فانّه حقيقة واقعية في النابغة. وعلى هذا الأساس لا بدّ من السعي لمعرفة النبي أو الإمام أو النابغة لا تعيّنهم.

ومن الواضح أنّه قد يتسنّى تارة للأُمّة الوصول إلى المنهج الموضوعي لتمييز الجواهر الحقيقية عن المزيّفة. وأُخرى لا تمتلك الأُمّة هذا المنهج فلا بدّ أن تستعين بطريق آخر للتمييز ، وهذا الطريق في الواقع هو الوحي الإلهي ، ويستحيل اعتماد السنن الارستقراطية أو الانتخابات المزوّرة ، أو من خلال انتحال وخلق الفضائل الزائفة التي لا تقوم على أساس موضوعي وقاعدة

٣٧٣

مستحكمة ، أو من خلال اعتماد الطرق الرسمية والإدارية والاستعانة بالعوامل الداخلية أو الخارجية واعتماد ذلك كلّه ليكوّن الملاك لنيل ذلك المقام السامي.

فإذا ما أردنا أن نحلّل القضية بصورة أدق ونوضح أنّه لما ذا تكون مسألة النبوة أو الإمامة خارجة عن مجال الانتخابات والشورى وانّها أسمى وأجلّ من أن تخضع لهذه الأساليب والمناهج نقول :

يوجد في الواقع مقامان :

مقام ومنصب يتحقّق من خلال العوامل والأسباب الخارجة كالوكالة التي قد تتحقّق من خلال الانتخابات وصناديق الاقتراع ، وقد تحصل من خلال تنصيب المقامات العليا.

المقام الثاني هو المقام الذي لا يخضع بحال من الأحوال للانتخابات أو التنصيب البشري فعلى سبيل المثال : مقام النبوغ أو التقوى ، أو الشاعرية ، أو كون الإنسان مخترعاً أو مكتشفاً أو كاتباً أو مؤلفاً أو كونه بطلاً في ميادين الرياضة ، فإنّ هذه المقامات لا معنى لاعتماد منهج الترشيح والانتخاب فيها ، لأنّ النابغة نابغة سواء انتخب أو لم ينتخب ، بل حتى لو لم يعترف أحد بنبوغه ، وكذلك الأمر في الكاتب فانّه كاتب كذلك ، وهكذا الأمر في الشاعر ، فهل يوجد عاقل في الدنيا يمنح الشاعر صفة الشاعرية من خلال الانتخاب أو التنصيب؟!!

فمقام ومنصب كلّ من ابن سينا نابغة الفلسفة المشائية وشهاب الدين السهروردي أُستاذ الفلسفة الإشراقية ، وسيبويه رجل الأدب العربي ، والمحقّق الحلّي أُستاذ الفقه الشيعي و ... جزء من ذاتهم ولم يمنح لهم من خلال عملية

٣٧٤

انتخابية أو أوامر تنصيبية ، وحسب التعبير الفلسفي أنّ تلك المقامات من الأُمور «الحقيقية ، والواقعية» لا من الأُمور «الاعتبارية» و «الجعلية».

ثمّ لا بدّ من الالتفات إلى نكتة مهمة وهي : انّ الشيعة حينما يشترطون أن يكون الإمام منصوباً من قبل الله سبحانه فإنّهم يقصدون من ذلك : انّ الإنسان الذي اجتمعت فيه شروط القيادة والإمامة أجمع لا بدّ أن يعرّف من قبل الله سبحانه وتعالى ، وفي الحقيقة يكون التنصيب الإلهي وسيلة لإزاحة الستار وكشف الواقع لا لتعيين ذلك الفرد للخلافة والإمامة ، وذلك لأنّ صاحب هذا المقام غير مردّد في الواقع حتى يحتاج إلى تعيين ، بل انّ المنصب ملازم لصاحبه الذي توفّرت فيه الشروط فيأتي الوحي الإلهي لإزاحة ستار الجهل عن هذه الحقيقة المخفية.

كذلك نشير إلى نكتة أُخرى مهمة وهي أنّ مفاهيم «النصب» و «الانتصاب» وغيرها من أدبيات النظم المستبدة والمتفرعنة حينما تطلق يقفز إلى الذهن مفاهيم أُخرى ملازمة لها كالاستبداد والقهر وسلب الحريات وهضم حقوق الآخرين. وعلى هذا الأساس يكون استعمال مثل تلك المفاهيم في البحوث العقائدية وعلى أساس قاعدة «تداعي المعاني» غير صحيح ، لأنّه يستدعي كلّ تلك المفاهيم السلبية ، ولذلك لا بدّ من البحث هنا لتوضيح أنواع التنصيب.

لا ريب أنّ تنصيب الأفراد غير الكفوئين ليشغلوا مقاعد في مجالس الأعيان أو في المجالس الاستشارية أو البلدية وغيرها من المناصب يؤدّي إلى حرمان الأفراد والشخصيات الكفوءة ولكنّ النصب الإلهي لا يؤدي أبداً إلى تلك النتيجة السلبية ، لأنّه في الواقع كشف لأستار الحقيقة وتعريف الفرد اللائق والكفوء لمقام القيادة والإمامة في جميع شئونها المادية والمعنوية والذي

٣٧٥

يستطيع بكفاءة عالية أن يقود البشرية ويأخذ بيدها إلى الكمال المطلوب ويوصلها إلى ساحل الأمان ، وإذا ما فرضنا أنّ هذا التنصيب لم يتحقّق من قبل الله سبحانه وتعالى ، فهذا يعني أنّه سبحانه لم يعرف للأُمّة الفرد اللائق والجدير للقيام بهذه المهمة ، وحينئذٍ لا يمكن للدين أن يكتمل خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار الفراغ الذي حصل بسبب رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لقد استطاع عالم الاجتماع ابن خلدون أن يبيّن حقيقة النظريتين الشيعية والسنيّة في خصوص الإمامة ، وبعبارة وجيزة حيث عرف الإمامة عند أهل السنّة بقوله :

«الإمامة ، المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأُمّة ويتعيّن القائم لها بتعيينهم».

ثمّ قال :

«الإمامة لدى الشيعة : ركن الدين وقاعدة الإسلام ، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأُمّة ، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر». (١)

وبعبارة أوضح : أنّ الإمامة والقيادة هي استمرار للقيام بوظائف الرسالة ، وأنّ الإمام يتولّى جميع وظائف الرسول. (٢) مع فارق واحد بينهما وهو أنّ الرسول

__________________

(١). مقدمة ابن خلدون : ١٩٦ ، طبع المكتبة التجارية ، مصر.

(٢). وبعبارة أدق : إنّ الإمامة ـ بعد النبوة ـ استمرار لمقام إمامة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث إنّه وبرحيل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمّت النبوة والرسالة ولكن مقام إمامته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمر بواسطة الأئمّة من بعده ، وإذا ما قد يقال : إنّ «الإمامة» استمرار لوظائف «الرسالة» ، فإنّ في ذلك التعبير نوعاً من المسامحة ، إذ في الحقيقة انّ إمامة الإمام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمرار «لإمامة» النبي الأكرم ، وذلك لأنّ النبي يمتلك بالإضافة إلى مقام «النبوّة» و «الرسالة» مقام «الإمامة» كإبراهيم الخليل عليه‌السلام.

٣٧٦

هو الباني والمؤسس للدين وهو الطرف المتلقّي للوحي وهو صاحب الكتاب ، فإذا استثنينا هذه الأُمور يكون الإمام نسخة أُخرى مطابقة للنبي من حيث تبيين الأحكام والأُصول والفروع وحماية الدين من التحريف وهو المرجع في جميع الأُمور الدينية والدنيوية الذي يتابع وظائف النبي ومهامه باعتباره خليفته والقائم مقامه.

وعلى أساس هذه النظرية التي أثبتنا فيها انّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة وانّ الإمام نسخة أُخرى للنبي باستثناء النبوة والوحي ، لا بدّ أن يتوفر في الإمام بالإضافة إلى الشروط السابقة شرطان آخران هما :

١. أن يكون أعلم الأُمّة في أُصول وفروع الإسلام ، وأن لا يكون علمه مكتسباً من الأفراد العاديين ، وذلك لكي يتسنّى له تبيين أُصول وفروع الإسلام وتلبية جميع الاحتياجات العلمية والمعنوية للأُمّة ، وأن لا تضطر الأُمّة ـ مع وجوده ـ إلى الاستعانة بشخص آخر غيره.

وبعبارة أُخرى يشترط أن يتوفّر في الإمام العلم الكافي والمعرفة الواسعة بالمعارف الدينية والأُصول الكلّية وفروع الأحكام ، لأنّه ما لم تتوفر لديه تلك الإمكانيات الواسعة من العلم لا يستطيع أن يسدّ الفراغ الذي أحدثه غياب الرسول الأكرم في المجتمع.

٢. أن يكون الإمام معصوماً من الذنب ومصوناً من ارتكاب الخطأ. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ١١٠ ـ ١١٤.

٣٧٧

٦١

مقام الإمامة والنبوة

سؤال : هل انّ مقام الإمامة أعلى من مقام النبوة؟

الجواب : انّ إمامة الخليل أعلى من مقام النبوة.

أوّلاً : «النبوة» في الواقع بمعنى تلقّي الوحي و «الرسالة» بمعنى تبليغ ذلك الوحي ، والحال أنّ «الإمامة» زعامة وقيادة المجتمع في جميع النواحي انطلاقاً من الأُصول والمعارف الإلهية. ولا شكّ أنّ كلّ مقام من هذه المقامات يخضع إلى سلسلة من المواهب والكفاءات والاستعدادات التي ينبغي أن تتوفر في الشخص لتشمله الرعاية واللطف الإلهي وليحمل هذا الوسام الشريف ، وإذا كانت النبوة والرسالة تحتاج إلى مجموعة من الشروط والاستعدادات ، فإنّ الإمامة تحتاج إلى شروط أُخرى أشدّ وأعقد من الشروط التي ينبغي أن تتوفّر في النبي أو الرسول. وذلك لأنّ الإنسان الإلهي المرتبط بالوحي في المرحلة الأُولى يحتاج إلى مؤهّلات وشروط تؤهّله إلى تلقّي الوحي واستلام التعاليم والأحكام الإلهية ، وفي المرحلة الثانية «الرسالة» أنّه مكلّف في نشر التعاليم الإلهية وتحقيق البرنامج الإلهي في المجتمع لكي يتسنّى للأُمّة ومن خلال القيادة

٣٧٨

الرشيدة والحكيمة أن تطوي الطريق لنيل السعادة في الدارين.

وبعبارة أُخرى : انّ مجال وإطار عمل الأنبياء والرسل باعتبارهم حاملين للنبوة والرسالة، هو تبيين الأحكام والتذكير ، ولكن عند ما يصلون إلى مقام الإمامة تقع على كاهلهم مسئولية خطيرة جداً ، وهي تربية الإنسان الجاهل وتأمين جميع مستلزمات البشرية في جميع الأقسام ، ولا ريب أنّ القيام بهذه المهمة الصعبة والخطرة للغاية لا يمكن أن يتحقّق ما لم يتوفر النبي الإمام على مجموعة من الصفات التي منها التحلّي بالصبر والاستقامة والثبات وتحمّل المصاعب والعناء وشدّة المحن في سبيل الله تعالى ، ومن هذا المنطلق نرى إبراهيم لم ينل مقام الإمامة إلّا بعد أن طوى سلسلة من الامتحانات الصعبة والاختبارات العسيرة التي خرج منها مرفوع الرأس بعد أن ثبت وقاوم وصبر وسيطر على نفسه وتحمل ما يعجز اللسان عن وصفه.

وعلى هذا الأساس يكون القيام بمهام الإمامة ـ الملازمة لكم هائل من العقبات والمشاكل المعقدة والمقترنة أيضاً بالمصائب والفتن ومجاهدة الأهواء والغرائز والميول والتي تستدعي الاحتراق والفناء في هذا الطريق ـ بحاجة إلى درجة عالية من العشق الإلهي والذوبان في الحب الإلهي ، وإلّا فلا يمكن بحال من الأحوال أن يوفق النبي أو الرسول للقيام بتلك المهمة الصعبة ، ولذلك نجد النبي إبراهيم عليه‌السلام مُنح هذا المقام السامي في أُخريات حياته الشريفة.

ثانياً : انّ الهداية التي تحصل من الأنبياء والرسل لا تحتاج إلى شيء غير التذكير وبيان الطريق ، والحال انّ الهداية الحاصلة من الإمامة تتحقّق من خلال الإيصال إلى المقصد المطلوب ، يعني أنّ الإمام في الواقع ينفذ إلى باطن الإنسان وروحه وأحاسيسه ومشاعره بحيث يهيمن على قلب الإنسان ويسري في

٣٧٩

دمه وعروقه ويهديه من خلال هذا الطريق. فالإمام كالشمس التي تسطع بأشعتها لتبعث الحياة في النباتات وتؤثر في نموها وازدهارها ، كذلك الإمام يفعل فعله في القلوب المستعدة ليوجد فيها حالة من الانقلاب والتحوّل الكامل.

إنّ الإمام وفي ظل القدرة الإلهية والوحي الإلهي ، يخرج القلوب المستعدة والمتهيئة من الظلمات إلى النور ، وهذا المقام السامي مُنح لإبراهيم عليه‌السلام ولأمثاله من الأنبياء بعد اجتياز سلسلة من الاختبارات الصعبة التي ولّدت فيهم تلك الروح القوية والقدرة العجيبة في التأثير.

فالإمام ـ وفقاً لهذه النظرية ـ يعد من مجاري الفيض الإلهي ، بل من علل وصول الفيض الإلهي (الهداية) إلى الناس ، فكما أنّ الفيض المادي يحتاج إلى سلسلة من المجاري والعلل المادية ، كذلك الفيض المعنوي ـ وهو الهداية التكوينية ـ يحتاج إلى سلسلة من المجاري والعلل ، ولا ريب أنّ هذا النوع من الهداية الذي يرتبط بمواهب وكفايات خاصة خارج عن إرادته واختياره ، إذ انّ النفوس المستعدة تنجذب بصورة قهرية إلى هداية الإمام وتدخل في إطار الهداية التكوينية.

الخلاصة : الأنبياء باعتبارهم يمتلكون خاصية الهداية التشريعية بحيث يستطيعون هداية المجتمع من خلال تبليغ الرسالة وإرشاد الناس وبيان الأوامر والنواهي فمن هذه الجهة يطلق عليهم وصف «النبي» ، ولكن من جهة امتلاكهم القدرة على الهداية التكوينية وكونهم السبب في كمال وسعادة الإنسان وتصرفهم في قلوب ونفوس الناس وجذبهم إلى محيط الهداية التكوينية ، يطلق عليهم من هذه الجهة وصف «الإمام». (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٥ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٣٨٠