الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

فيه إلى الإسلام. ولقد تعرضت كتب التاريخ والسير لتلك الحادثة ، وإليك مضمون الكتاب المذكور :

«باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أُسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ وأمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام». (١)

وقد أضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية انّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب (٢) والتي تدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

قَدِمَ سفير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «نجران» وسلّم الكتاب إلى أُسقف نجران فأولاه عناية تامة وقرأه بإمعان وتدبّر ، ثمّ أمر بتشكيل لجنة استشارية للتداول في الأمر واتّخاذ القرار المناسب ، وكانت اللجنة تتشكّل من شخصيات سياسية ودينية بارزة وكان من بين أعضاء هذه اللجنة «شرحبيل» المعروف بحكمته ورجاحة عقله وقوة تدبيره ، فقال في معرض الإجابة عن استشارة الأسقف : إنّي ليس لي في النبوة رأي ولو كان أمر من أُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك ، ولكن إذا كان لا بدّ من الإشارة أقول : لقد سمعنا كراراً من ساداتنا وعلمائنا ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة ، وانّه لا بدّ من أن يأتي يوم تنتقل فيه النبوة

__________________

(١). البداية والنهاية ص ٥٣ ؛ بحار الأنوار : ٢١ / ٢٨٥.

(٢). الآية هي قوله تعالى : (قُلْ يا أَهل الكتاب تعالَوا إِلى كَلِمَةٍ سَواء بَيْنَنا وَبَيْنكُمْ أَلّا نعبدَ إِلّا اللهَ وَلا نُشرِكَ بهِ شَيئاً). (آل عمران : ٦٤).

٣٤١

من نسل إسحاق إلى نسل إسماعيل فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ـ يعني : محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هو النبي الموعود.

فخرج المتشاورون بنتيجة مفادها أن يبعثوا وفداً إلى المدينة للتفاوض مع الرسول الأكرم ودراسة دلائل نبوّته ، واختير لهذه المهمة ستون شخصاً من علماء نجران وعقلائهم ، وكان على رأسهم ثلاثة أشخاص من أساقفتهم ، هم :

١. «أبو حارثة بن علقمة» : أُسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

٢. «عبد المسيح» : رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه ، وتدبيره.

٣. «الأيهم» : وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران. (١)

قدم الوفد المسيحي المدينة عصراً ودخلوا المسجد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يرتدون الزيّ الكنسي وثياب الديباج والحرير ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم ، فأزعج منظرهم هذا ـ وخاصة في المسجد ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك فسألوا «عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف» وكانت بينهم صداقة قديمة ، فأشار الرجلان إلى أنّ معرفة ذلك وحلّ تلك العقدة لا يتم إلّا من خلال علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فجاءا إليه وقالا له : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

فقال عليه‌السلام : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه ، ففعلوا ذلك ثمّ دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير ملابسهم السابقة وبصورة متواضعة فسلّموا

__________________

(١). تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٦٦ ؛ السيرة الحلبية : ٣ / ٢١١ و ٢١٢.

٣٤٢

عليه ، فرد عليهم‌السلام واحترمهم وقبل بعض هداياهم التي اهدوها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ إنّ الوفد وقبل أن يبدءوا مفاوضاتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : إنّ وقت صلاتهم قد حان واستأذنوه في أدائها ، فأراد الناس منعهم ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن لهم وقال للمسلمين : «دعوهم» فاستقبلوا المشرق ، فصلّوا صلاتهم. (١)

مفاوضات الوفد مع النبي

لقد نقل جمع من كتّاب السيرة والمحدّثين الإسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ السيد ابن طاوس امتاز من بين هؤلاء بأنّه نقل نص هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدق وأكثر تفصيلاً ممّا ذكره الآخرون من المحدّثين والمؤرّخين. فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من بدايتها إلى نهايتها ناقلاً ذلك من كتاب «المباهلة» لمحمد بن عبد المطلب الشيباني وكتاب «عمل ذي الحجة» للحسن بن إسماعيل. (٢)

غير أنّ نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى ـ التي قصّر وللأسف الشديد حتّى في الإشارة إليها إشارة عابرة بعض أصحاب السير ـ أمرٌ خارج عن نطاق هذا الكتاب، ولهذا سنكتفي بنقل جانب من هذا الحوار الذي رواه الحلبي في سيرته. (٣) حيث سجّل الحلبي الحوار بالصورة التالية :

عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وفد نجران وتلا عليهم القرآن ، فامتنعوا وقالوا : قد كنّا مسلمين قبلك.

__________________

(١). السيرة الحلبية : ٣ / ٢١٢.

(٢). من أراد الوقوف على خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة التاريخية فليرجع إلى كتاب «الإقبال» للمرحوم السيد ابن طاوس ص ٤٩٦ ـ ٥١٣.

(٣). السيرة الحلبية : ٣ / ٢٣٩.

٣٤٣

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كَذبْتُمْ ، يمنعكم من الإسلام ثلاث : عبادتكم الصليب ، وأكلكم لحم الخنزير ، وزعمكم أنّ لله ولداً».

فقالوا : المسيح هو الله لأنّه أحيا الموتى ، وأخبر عن الغيوب ، وأبرأ من الأدواء كلّها ، وخلق من الطين طيراً.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم».

فقال أحدهم : المسيح ابن الله ، لأنّه لا أبَ له.

فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، فنزل الوحي بقوله تعالى :

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ). (١)

فقال وفد نجران : إنّا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلّا تبايناً ، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك ، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة الله على الكاذبين. (٢)

فأنزل الله عزوجل آية المباهلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ). (٣)

فدعاهم إلى المباهلة ، فقبلوا ، واتّفق الطرفان على أن يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

__________________

(١). آل عمران : ٥٩.

(٢). بحار الأنوار : ٢١ / ٣٢٥ ، ولكنّ آية المباهلة وكما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد أنّ النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداءً كما تفيد عبارة (تعالَوا ندع أَبْناءنا ...).

(٣). آل عمران : ٦١.

٣٤٤

خروج النبي للمباهلة

حان وقت المباهلة ... وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران قد اتّفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة في الصحراء ... ، فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط ، وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم ، وهؤلاء الأربعة لم يكونوا سوى علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحسن ، والحسين عليهما‌السلام ؛ لأنّه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوساً ، ولا أقوى وأعمق إيماناً.

طوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسافة بين منزله ، وبين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة ، فقد غدا محتضناً الحسين (١) آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليٌّ خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمِّنوا.

كان وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض ـ قبل أن يغدو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المباهلة ـ : انظروا محمداً في غدٍ فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فانّه ليس على شيء. وهم يقصدون أنّ النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفاً بأُبّهة مادّية وقوة ظاهرية تحفُّ به قادة الجيش والجنود ، فذلك دليل على عدم صدقه ؛ وإذا أتى بأهله وأبنائه بعيداً عن أيّة مظاهر مادية وتوجّه إلى الله بهم وتضرع إليه سبحانه كما يفعل الأنبياء ، دلّ ذلك على صدقه ، لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبِّ الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وهذا يدلّ على ثقته ويقينه بكذب خصمه.

__________________

(١). جاء في بعض الروايات انّ النبي غدا آخذاً بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليٌّ. (بحار الأنوار: ٢١ / ٣٣٨).

٣٤٥

وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الأُمور فإذا بالرسول الأكرم قد طلع عليهم هو والأغصان الأربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة ، فاضطرب الوفد وأخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب ودهشة وحيرة ، وأخذوا يتساءلون بعضهم مع البعض الآخر كيف خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابنته الوحيدة وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة ، فأدركوا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واثق من نفسه ودعوته وثوقاً عميقاً ومعتقد بذلك اعتقاداً راسخاً ، إذ انّ المتردّد غير الواثق بدعوته لا يجازف ولا يخاطر بأحبّائه وأعزّته ويعرضهم للبلاء السماوي.

ولهذا قال أسقف نجران : يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. (١)

انصراف وفد نجران عن المباهلة

لمّا رأى وفد نجران هذا الأمر ـ خروج النبي بتلك الصورة المهيبة ـ وسمعوا ما قاله أسقف نجران ، تشاوروا فيما بينهم ثمّ اتّفقوا على عدم مباهلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية مهما كانت للنبي كلّ سنة لتقوم الحكومة الإسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم ، فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك وتقرر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلةٍ من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنوياً.

ثمّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما والذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران ، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ، ولأُضرم الوادي عليهم ناراً ،

__________________

(١). بحار الأنوار : ٢١ / ٢٧٧ ؛ العمدة لابن الطريق : ١٨٩.

٣٤٦

ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله». (١)

وعن عائشة : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ـ أي يوم المباهلة ـ وعليه مرط (٢) مرجَّل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فأدخله ، ثمّ فاطمة ثمّ علي ، ثمّ قال:

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (٣)

ثمّ قال الزمخشري في نهاية هذا الكلام : وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام ، وفيه برهان على صحّة نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك. (٤)

صورة العهد النبوي لأهل نجران

بعد أن انصرف وفد نجران من المباهلة ووافقوا على دفع الجزية سألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب مقدار الجزية التي اتّفق على دفعها من قبل أهالي نجران إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يضمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمن نجران في ذلك الكتاب ، فكتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وبأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص الكتاب التالي :

«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله لنجران وحاشيتها إذا كان له عليهم حكمة في كلّ ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك لهم : ألفي حلّة من حلل الأواقي في كلّ رجب ألف

__________________

(١). بحار الأنوار : ٢١ / ٢٨١.

(٢). كساء.

(٣). الأحزاب : ٣٣.

(٤). الكشاف : ١ / ٣٢٨ «لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ...».

٣٤٧

حلّة ، وفي كلّ صفر ألف حلة ، كلّ حلّة أوقية ، وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب ، وما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب ، وعليهم في كلّ حرب كانت باليمن ثلاثون درعاً ، وثلاثون فرساً ، وثلاثون بعيراً عارية مضمونة لهم بذلك ، وعلى أهل نجران مثواة رسلي (واستضافتهم) شهراً فدونه ، ولهم بذلك جوار الله وذمّة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم ورهبانيتهم على أن لا يعشروا ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمّتي منه بريئة». (١)

وقد كتبت صورة العهد على جلد أحمر وشهد عليها اثنان من أصحاب النبي الأكرم، ثمّ ختمها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعطاها إلى رؤساء الوفد. ونحن إنّما أوردنا ذلك العهد وبصورة إجمالية لنبرهن على شدة العدالة والإنصاف في القضاء التي كان يتمتع بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولنؤكد كذلك أنّ الحكومة الإسلامية تختلف جذرياً مع الحكومات الطاغوتية التي تستغل ضعف الآخرين لتملي عليهم ضرائب باهضة وشروطاً تعجيزية لا يمكن القيام بها بحال من الأحوال على العكس من الحكومة الإسلامية التي تراعي وفي جميع الأحوال أُصول العدالة الإنسانية وتعتمد روح المسالمة ولا تتجاوز ذلك ولو بخطوة واحدة.

فضيلة كبرى

تعتبر واقعة المباهلة وما نزل فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مرّ التاريخ ، لأنّ ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مقام ومكانة من باهل بهم رسول الله والذين يتّخذهم الشيعة قادة لهم ، الأمر

__________________

(١). فتوح البلدان : ٧٦ ؛ إمتاع الأسماع : ٥٠٢ ؛ إعلام الورى : ٧٨ ـ ٧٩.

٣٤٨

الذي يقتضي من أصحاب الوجدان الحر والفطرة السليمة الإذعان بأحقّية هذه المجموعة التي خرج بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإثبات التوحيد وأحقّية الرسالة الإسلامية.

فهذه الآية اعتبرت الحسن والحسين أبناءً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام المرأة الوحيدة التي ترتبط برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصدق عليها عنوان «نساءنا» ، وقد عبّر عن عليّ عليه‌السلام بأنفسنا فكان وبحكم هذه الآية بمنزلة نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل توجد فضيلة أعظم وأسمى من ذلك؟!

هذا ويستفاد من الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت أنّ المباهلة لا تختص بالنبي الأكرم ، بل يجوز أن يتباهل كلّ مسلم في القضايا الدينية مع من يخالفه ويجادله فيها ، وقد جاءت طريقة المباهلة والدعاء المخصوص بها في كتب الحديث ، وللوقوف على هذا الأمر يراجع كتاب «نور الثقلين». (١)

وقد كتب السيد الأُستاذ العلّامة الطباطبائي قدس‌سره :

تعتبر المباهلة إحدى المعجزات الخالدة للإسلام ، ولذلك يستطيع كلّ إنسان مؤمن ـ واقتداء بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من أجل أن يثبت حقيقة من الحقائق الإسلامية أن يدعو المخالفين للمباهلة ويطلب منهم ذلك ، ويدعو الله سبحانه أن يظهر الحقّ ويزهق الباطل ، ويهلك المعاند (٢). (٣)

__________________

(١). نور الثقلين : ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢). رسالة المباهلة للسيد الطباطبائي باللغة الفارسية. وقد صرحت بعض الروايات الإسلامية في هذا الموضوع. انظر أُصول الكافي : ١ / ٥٣٨ ، كتاب الدعاء ، باب المباهلة.

(٣). منشور جاويد : ٧ / ٩٥ ـ ١٠٩.

٣٤٩

٥٧

خاتمية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وأدلّتها

سؤال : ما هي الأدلّة التي يمكن إقامتها لإثبات خاتمية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الجواب : تعتبر مسألة الخاتمية من المسائل البديهية في أوساط المسلمين حيث اتّفقت الأُمّة الإسلامية على أنّ النبي محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خاتم الأنبياء ، وأنّ دينه خاتم الأديان ، وكتابه خاتم الكتب والصحف السماوية ، وقد أُوصد باب الرسالة والنبوة من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد جاء التصريح بهذه الحقيقة والتأكيد عليها في القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية المتواترة وخطب وكلمات علماء المسلمين ، وأشار إليها الشعراء في قصائدهم حتّى اعتبر لقب خاتم النبيّين من ألقابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعروفة ، ولم يشذ في ذلك إلّا حزب سياسي تستّر بستار الدين من أجل بثّ التفرقة في الأُمّة ، وهذا الحزب هو «البهائية» وبعد ظهور هذه الفرقة وبفاصلة قصيرة ظهر حزب سياسي آخر في بلاد الأديان ـ الهند ـ مرتبط بالمستعمر البريطاني ، وقد أطلق على هذا الحزب اسم «القاديانية» حيث بذور الشك والريبة في أذهان البسطاء والسذّج من أبناء تلك القارة معتمداً أُسلوباً تفسيرياً عجيباً وتأويلاً غريباً.

ولسنا هنا بصدد الإجابة عن جميع الشبهات والإشكاليات التي أُثيرت

٣٥٠

حول الخاتمية ، بل المقصود هو بيان الرؤية القرآنية في هذا المجال ، ولذلك سنقتصر في البحث على بعض الآيات الواضحة في هذا المجال.

الخاتمية في القرآن

لقد ذكرت الخاتمية في القرآن الكريم في آيات كثيرة نقتصر على ذكر بعضها كنماذج فقط :

١. (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً). (١)

توضيح ذلك : من المعروف أنّ الرسول الأكرم قد تبنّى زيداً قبل عصر الرسالة ، وكان من الأعراف الخاطئة بين العرب في ذلك الوقت أنّهم ينزلون الأدعياء منزلة الأبناء الحقيقيّين ويتعاملون معهم معاملة الابن الحقيقي ، ويرتّبون على ذلك جميع الآثار والنتائج التي تتعلّق بالابن الحقيقي كأحكام الزواج والميراث وغير ذلك ، فيمنعون على المتبنّي أن يتزوّج زوجة الولد الذي ادّعاه بعد طلاقها أو بعد موته ، فأراد الله سبحانه أن يبطل تلك العادة الجاهلية وأن ينسخ تلك السنّة الخاطئة ، فأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتزوّج زينب زوجة زيد بعد مفارقته لها.

فتزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأوجد ذلك الزواج ضجّة بين المنافقين والمتوغّلين في النزعات الجاهلية والمنساقين وراءها ، واستغلوا ذلك للتشهير بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أشاعوا أنّ محمّداً قد تزوج زوجة ابنه ، فردّ الله سبحانه على تلك المزاعم الباطلة والطعون الواهية : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ـ من الذين لم يلدهم ومنهم زيد ـ (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) ـ وهو لا يترك ما أمره الله به ـ (وَخاتَمَ

__________________

(١). الأحزاب : ٤٠.

٣٥١

النَّبِيِّينَ) ـ أي وآخرهم خُتِمت به النبوة فلا نبي بعده ولا شريعة سوى شريعته ، فنبوّته أبدية وشريعته باقية إلى يوم القيامة ـ (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)

٢. (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١)

وصريح الآية المباركة أنّ الغاية من تنزيل الفرقان على الرسول الأكرم كون القرآن نذيراً للعالمين ، أي الخلائق كلّها من بدء نزوله إلى يوم يبعثون.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسيره للعالمين : عنى به الناس ، وجعل كلّ واحد عالماً ، وقال : العالم عالمان : الكبير وهو الفلك بما فيه والصغير لأنّه مخلوق على هيئة العالم. (٢)

٣. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (٣)

والمقصود من الذكر في الآية الشريفة هو القرآن الكريم ، ويؤيد ذلك آيات أُخرى وردت في الذكر الحكيم ، كقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٤)

وقوله سبحانه : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). (٥)

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (٦)

__________________

(١). الفرقان : ١.

(٢). المفردات للراغب : ٣٤٩.

(٣). فصلت : ٤١ و ٤٢.

(٤). الحجر : ٩.

(٥). الحجر : ٦.

(٦). النحل : ٤٤.

٣٥٢

ولا ريب أنّ المقصود من الذكر في جميع الآيات هو القرآن الكريم ، والضمير في قوله: (لا يَأْتِيهِ) يرجع إلى الذكر ، وعلى هذا يكون معنى الآية انّ القرآن الكريم هو الكتاب الذي لا يتطرق إليه الباطل بأيّ وجه من الوجوه وبأيّ صورة من الصور.

وصور الباطل هي :

١. لا يأتيه الباطل : أي لا ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء.

٢. لا يأتيه الباطل بمعنى لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه ، فهو حقّ ثابت لا يبدل ولا يغيّر.

٣. لا يأتيه الباطل : أي لا يتطرق في إخباره عمّا مضى ولا في إخباره عمّا يجيء الباطل فكلّها تطابق الواقع.

ويتّضح من الآية وبصورة جلية أنّ القرآن الكريم مصون ومحفوظ من كلّ ذلك الباطل ولا طريق للباطل بكلّ أنواعه إلى القرآن الكريم إلى قيام الساعة ، وهذا يدلّ على حقّانيّته وحجّيته إلى ذلك اليوم الموعود ، لأنّه لا يمكن ووفقاً للآيات المذكورة أن يكون حجة محدودة بأمدٍ معين ، بل يكون متبعاً إلى قيام الساعة ، ونفس هذا المعنى يستفاد من آية : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

فالآيتان تدلّان على أنّ القرآن حق وثابت لا يتطرّق إليه الريب والباطل ، فإذا كان القرآن حقّاً مطلقاً ومصوناً من تسلّل الباطل إليه ، وحجة للناس إلى يوم القيامة ، فهذا يلازم دوام رسالته وثبات نبوّته وخاتمية شريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعبارة أُخرى : انّ الشريعة الجديدة ـ المفترضة النزول ـ إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة التي لا يأتيها ولا يدانيها الباطل كما أثبتنا ذلك ، أو تكون

٣٥٣

هذه الشريعة غير الشريعة الإسلامية. فعلى الفرض الأوّل لا حاجة إلى نزول الشريعة الثانية ، لأنّها مطابقة حسب الفرض للشريعة الأُولى فلا تأتي بشيء جديد.

وعلى الفرض الثاني فإمّا أن تكون الثانية حقّة كالأُولى ـ يعني كلاهما حق ـ فيلزم كون المتناقضين حقاً ، أو تكون إحداهما حقّة دون الأُخرى وهنا لا بدّ من بيان وتمييز الرسالة الحقّة عن الباطلة.

وبما أنّنا قد أثبتنا وبالدليل القرآني الصريح أحقّية الشريعة الإسلامية وأحقّية القرآن وأبديتهما ، فتكون النتيجة الطبيعية والمسلّمة بطلان كلّ شريعة تدّعى بعد الشريعة الإسلامية ، وكلّ من ادّعى ذلك أو سيدّعي فهو كذاب مفتر.

٤. (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). (١)

وقد فسّر المرحوم أمين الإسلام الطبرسي الآية بقوله :

أي لأُخوّف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«من بلغه إنّي أدعو إلى أن لا إله إلّا الله فقد بلغه» أي بلغته الحجة وقامت عليه ، حتى قيل : من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمع منه ، وحيثما يأتي القرآن فهو داع ونذير». (٢)

فهذه الآية هي الأُخرى تدلّ دلالة واضحة وجليّة على استمرار الرسالة المحمدية إلى يوم القيامة.

__________________

(١). الأنعام : ١٩.

(٢). مجمع البيان : ٤ / ٢٨٢.

٣٥٤

ولكن ينبغي الإشارة إلى نكتة مهمة وهي : انّ هذا المعنى إنّما يستفاد من الآية إذا عطفنا قوله تعالى : (مَنْ بَلَغَ) على الضمير في قوله : (لِأُنْذِرَكُمْ).

وقد يتصوّر انّ جملة (وَمَنْ بَلَغَ) معطوفة على الضمير الفاعل في قوله : (لِأُنْذِرَكُمْ) فيكون مفاد الآية حينئذٍ أنّني أُنذركم ، وكذلك من بلغه القرآن ووصل إليه يجب عليه هو أيضاً أن يقوم بعملية تبليغ الرسالة ونشر القرآن والمعارف الإسلامية بين الناس.

ولكنّ هذا الاحتمال لا ينسجم مع القواعد وأُصول اللغة العربية ، وذلك لأنّ الضمير المتّصل المرفوع والضمير المستتر لا يعطف عليهما ، إلّا بعد توكيدهما بالضمير المنفصل نحو «جئت أنا وزيد» و «قم أنت وعمرو» ، أو بعد أن يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل نحو (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (١).

٥. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

إنّ الإمعان والتأمّل في الآية المذكورة يرشدنا إلى كون كلمة (كَافَّةً) حالاً من الناس ، وتقدير الآية «وما أرسلناك إلّا للناس كافّة».

ويحتمل كونها حالاً من الضمير المنصوب في (أَرْسَلْناكَ) ، ويكون مفاد الآية حينئذٍ: «وما أرسلناك إلّا لتكفهم وتردعهم من خلال تذكيرهم بالعذاب الإلهي الذي سيُصيب المذنبين والعاصين وأصحاب الأفعال القبيحة والسيّئة».

ولكنّ هذا الاحتمال ضعيف جدّاً وذلك :

أوّلاً : ـ لا حاجة عندئذٍ إلى لفظة كافّة بعد ورود جملة : (بَشِيراً وَنَذِيراً) إذ لا

__________________

(١). الأنعام : ١٤٨.

(٢). سبأ : ٢٨.

٣٥٥

معنى للكف والردع إلّا تخويفهم من عذابه وعقابه حتّى يرتدعوا بالتأمل فيما أوعد الله في كتابه العزيز كما نقول لشارب الخمر : لا تشرب الخمر لأنّه سيصيبك عذاب من الله شديد، وهذا هو عين الإنذار الوارد في الآية فلا حاجة إلى كلمة كافة.

ثانياً : انّ القرآن الكريم لم يستعمل كلمة (كَافَّةً) إلّا بمعنى عامّة ، كقوله سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). (١)

وقوله :

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). (٢)

وقوله :

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). (٣)

ومن الواضح أنّ لفظة كافّة في جميع الآيات بمعنى عامّة ، وهي حال من الناس ، وتكون الآية دليلاً على كون الرسالة المحمدية رسالة عالمية ودائمة ، أي أنّه مبعوث إلى الناس إلى يوم القيامة.

ويؤيد ذلك ما ورد من الروايات التي نقلها ابن سعد في طبقاته الكبرى ، وهي :

١. عن أبي هريرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أُرْسِلتُ إِلَى النّاسِ كافَّةً وَبِيَ خُتِمَ النَّبِيُّونَ».(٤)

__________________

(١). البقرة : ٢٠٨.

(٢). التوبة : ٣٦.

(٣). التوبة : ١٢٢.

(٤). الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٢.

٣٥٦

٢. وعن خالد بن معدان قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بُعِثْتُ إلَى النّاسِ كافَّةً». (١)

ومن المعلوم أنّ لفظ «كافّة» في الروايتين بمعنى «عامّة» وحال من «الناس» ، وهذا بنفسه دليل واضح على أنّ كلمة «كافّة» في الآية المذكورة بمعنى «عامة» وحال من «الناس» وفي الحقيقة يمكن القول : إنّ النبي الأكرم أشار في هاتين الروايتين إلى مضمون الآية المذكورة.

وفي الختام نشير إلى نكتة معينة ، وهي :

إنّ الآيات التي استدلّ بها على خاتمية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنقسم من ناحية الدلالة إلى نوعين :

١. قوله تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) تدلّ بصراحة تامة على إيصاد باب النبوة بصورة مطلقة ، سواء أكان المدّعي للنبوة صاحب رسالة وشريعة مستقلة ، أو كان مروّجاً لشريعة النبي الأكرم.

٢. وأمّا الآيات الأربع الأُخرى فإنّها تدلّ على استحالة مجيء كتاب سماوي آخر ينسخ القرآن الكريم والشريعة الإسلامية ، ولا تدل على أكثر من ذلك ، فالواقع أنّ غرضنا من ذكر الآيات الأربع المذكورة هو الاستدلال على هذا المعنى وإثبات بطلان دعوة من ادّعى أنّه نبي وأنّه جاء بكتاب سماوي جديد (٢). (٣)

__________________

(١). الطبقات الكبرى : ١ / ١٢٢.

(٢). الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم لم يكتف بإثبات الخاتمية بالآيات الخمس المذكورة بل هناك آيات أُخرى في هذا المجال لم نذكرها روماً للاختصار.

(٣). منشور جاويد : ٧ / ٣١٧ ـ ٣٣٦.

٣٥٧

٥٨

اعتناق الديانات الأُخرى

ومسألة النجاة

سؤال : يستدلّ البعض على أحقّية الديانات الأُخرى بالآية ٦٢ من سورة البقرة (١) حيث يدّعي أنّ الإنسان ـ ووفقاً للنظرية القرآنية ـ يكفيه للنجاة والفوز يوم القيامة اعتناق أي دين شاء ولا يجب عليه التمسّك بالدين الإسلامي والشريعة المحمدية. نرجو من سماحتكم تسليط الضوء على هذه النظرية وبيان نقاط الخلل فيها.

الجواب : انّ القرآن الكريم في هذه الآية ينتقد ـ واعتماداً على الآيات الأُخرى ـ الأفكار الواهية والمعتقدات الباطلة لليهود والنصارى الذين اعتبروا أنّ الهدى الحقيقي والنجاة يوم القيامة منوط بمجرد تحقق الاسم أو الوصف لا غير ، فيكفي للنجاة أن يسمّى الإنسان يهودياً أو نصرانياً ، وأن يعتنق اليهودية أو المسيحية ، ثمّ إنّهم ارتفعوا بالعنصر اليهودي أو المسيحي إلى درجة اعتبروهما شعب الله المختار وإنّهم أفضل من باقي الشعوب ، وقد ردّت الآية المباركة وآيات أُخرى على تلك الدعوى بنداء عالمي وشمولي حيث اعتبرت أنّ جميع

__________________

(١). وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون).

٣٥٨

أفراد النوع الإنساني متساوون أمام الله سبحانه ، ولا فضل لشعب على شعب ، ولا أُمّة على أُمّة ، وانّ مجرد التسميات ـ اليهودية والنصرانية ـ لا تغني شيئاً وأنّها مجرد ألفاظ وأسماء فارغة لا يمكن أن تبعث على السعادة والخلود ، فهي ألفاظ خالية وجوفاء لا ثمرة فيها ولا يمكنها أن تُحقّق الأمن والاطمئنان والسعادة للإنسان يوم القيامة ، بل أنّ الأساس الحقيقي للنجاة والعلّة الأساسية لطرد عوامل الخوف والحزن والفزع يوم القيامة لا تتحقّق إلّا إذا اعتقد الإنسان ومن صميم قلبه وآمن إيماناً حقيقياً بالله وقرن إيمانه بالعمل الصالح ، ومن دون هذين العاملين ـ الإيمان والعمل الصالح ـ يستحيل على أي إنسان من أيّ شعب كان أن يحصل على نافذة أمل في النجاة يوم القيامة.

وعلى هذا الأساس تكون الآية المذكورة غير ناظرة إلى مشروعية الديانات السابقة وإمضائها وقبولها فعلاً بحيث إنّ الإنسان مخيّر وحرّ في اختيار أي طريق شاء وأي رسالة اختار للفوز في النجاة ، بل الهدف من الآية هو إبطال فكرة التفوّق اليهودي أو المسيحي لمجرد كونهم يهوداً أو مسيحيين تلك الفكرة المزعومة والواهية.

وهذه الحقيقة لم تنحصر في الآية المذكورة ، بل هناك آيات أُخرى أشارت إلى ذلك المعنى ، منها قوله تعالى في سورة العصر :

(وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).

إنّ القرآن الكريم ولبيان حقيقة أنّ ملاك النجاة يكمن في الإيمان الواقعي والقيام بالتكاليف والأعمال الصالحة يؤكّد وفي نفس الآية على كلمة الإيمان حيث كرّرها في نفس الآية بقوله سبحانه :

٣٥٩

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ).

وحينئذٍ يكون المقصود من قوله (آمَنُوا) في صدر الآية هم الناس الذين اعتنقوا الإسلام ظاهراً دون أن يترسخ الإيمان في قلوبهم وإنّما أُطلق عليهم لفظ المؤمنين ظاهراً ، وانّ المقصود من (آمَنُوا) الثانية هو الإيمان الحقيقي وهو الاعتقاد الراسخ في القلب والتي تظهر آثاره في العمل ، أي الذي يكون مقروناً بالعمل.

وبالالتفات إلى هذه المقدّمة يتّضح جليّاً أنّ هدف الآية هو الردّ على الأفكار القومية «اليهودية» و «المسيحية» والردّ على نظرية تمايز أتباع هاتين الديانتين وأنّهم يمتلكون خصوصية تميزهم عن باقي أفراد البشر لدى الله سبحانه ، فتبطل الآية ذلك المدّعى وتبيّن أنّ الناس سواسية عند الله سبحانه وتعالى ، كما تبطل الآية فكرة كون الانتساب بالاسم فقط إلى الديانة المسيحية أو اليهودية موجباً للنجاة حتّى إذا تجرد عن التزكية والطهارة النفسية والإيمان القلبي والعمل الصالح.

وحينئذٍ لا يمكن القول : إنّ الآية بصدد إعطاء قاعدة عامّة ومصالحة كلّية بأنّ جميع أتباع المذاهب والديانات هم من الفائزين يوم القيامة ، وذلك لأنّ الآية المبحوث عنها ليست في مقام بيان هذه الفكرة وتوضيح هذه النظرية ، بل الآية ناظرة إلى نفي الأفكار الباطلة والنظرية الأنانية التي تقصر النجاة على اليهود والنصارى فقط ، لا إثبات أنّ اتّباع أي دين سبب للنجاة والفلاح والخلود وانّ اتّباع رسالات جميع الأنبياء تكون سبباً للخلاص والنجاة يوم القيامة ، ولذلك لا بدّ ولدراسة هذه النظرية نفياً أو إثباتاً من الرجوع إلى الآيات الأُخرى.

٣٦٠