الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

الظاهرية ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدافعاً وسنداً للخائنين ، ولكن تلك القواعد والضوابط القضائية قد لا تصيب الواقع ، وفي النتيجة يضيع حق إنسان بريء ، ولذلك نجد أنّ اللطف والعناية الإلهية قد امتدّت إلى النبي الأكرم على الفور لتطلعه على حقيقة الأمر (بِما أَراكَ اللهُ) ولتنقذه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوقوع في الخطأ أو الاشتباه في الحكم.

ولكنّه سبحانه أراد بذلك الخطاب الحاد تحقير وإسقاط تلك المجموعة التي سعت عالمة للدفاع عن السارق والشهادة زوراً ببراءته من السرقة ، فوجّه سبحانه الخطاب إلى النبي الأكرم لتعرف تلك الطائفة خطورة وقبح العمل الذي ارتكبته ، ولتعرف موقعها في هذه الواقعة الدنيئة.

٣. انّ الله سبحانه وتعالى قد أصدر في سورة الإسراء مجموعة من الأوامر الحكيمة التي عبّرنا عنها بعنوان «منشور جاويد» أي «الميثاق الخالد» ، وانّ هذه الأوامر الحكيمة تبدأ وتنتهي بمضمون واحد حيث قال سبحانه : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً). (١)

وفي ختام ذلك الميثاق يقول سبحانه : (... وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً). (٢)

إنّ نظرة تحليلية إلى هذه الخطابات والأوامر تظهر بأنّها واحدة وانّها ـ جميعاً ـ ناظرة إلى جهة واحدة أو جهتين هما :

١. إنّ صدور الذنب أو الخطأ من المعصوم ـ باعتباره إنساناً ـ أمر ممكن ومتوقع ، وإنّ هذه الخطابات ناظرة إلى هذه الخصيصة ـ الجانب البشري في

__________________

(١). الإسراء : ٢٢.

(٢). الإسراء : ٣٩.

٣٠١

المعصوم ـ وليست ناظرة إلى كونه معصوماً من الخطأ والذنب.

٢. إنّ مصبّ الخطاب ـ ظاهراً ـ هو النبي الأكرم ولكن المخاطب الحقيقي والواقعي الأُمّة الإسلامية ، ولا ريب أنّ هذا النوع من أساليب الخطاب رائج بين شعوب العالم كافّة ، وبالالتفات إلى هذين البيانين وتلك الآيات التي ذكرناها نكتفي بذكر ذلك المقدار فلا حاجة إلى ذكر باقي الآيات المباركة. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٧ / ٢٦٨ ـ ٢٨٢.

٣٠٢

٥١

العصمة وطلب المغفرة

سؤال : هناك الكثير من الآيات التي نجد فيها النبي الأكرم يطلب المغفرة من الله سبحانه ، فما هي فلسفة ذلك الطلب وما هو الهدف المنشود منه؟

الجواب : لا ريب أنّ القرآن الكريم قد خاطب النبي وفي آيات كثيرة وأمره بطلب المغفرة من الله سبحانه ، وفي بعض الآيات نجد بالإضافة إلى طلب المغفرة إضافة كلمة (الذنب) ، كما ورد ذلك في سورة النساء مثلاً حيث قال سبحانه : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). (١)

وفي سورة غافر قال تعالى : (... وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ). (٢)

وفي سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية ١٩ جاء الأمر الإلهي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطلب المغفرة له وللمؤمنين حيث قال سبحانه : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ).

__________________

(١). النساء : ١٠٦.

(٢). غافر : ٥٥.

٣٠٣

وجاء في سورة النصر في الآية الثالثة قوله سبحانه : (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

وحينئذٍ يطرح السؤال التالي نفسه ، كيف يا ترى ينسجم طلب المغفرة مع القول بعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وجواب عن ذلك يتّضح من خلال التعرّف على المسئوليات والمهام الخطيرة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن الواضح والمسلّم به بين العقلاء أنّ عظمة الشخصية وخطر المسئولية يقتضيان أن تكون النظرة إلى تلك الشخصية تختلف اختلافاً جوهرياً عن غيرها ، فربّ عمل يُعدّ صدوره من شخص جرماً ومخالفة ولكنّه لا يُعدّ كذلك إذا صدر من إنسان آخر أقلّ شأناً من سابقه ، بل قد يكون عمل ما بحكم العقل جرماً وذنباً إذا وقع في محيط معين ولا يُعدّ ذلك العمل نفسه جرماً إذا وقع في مكان آخر مغاير لذلك المكان السابق.

ولتوضيح الأمر جليّاً نقول : إنّ الأحكام الإلهية لا تنحصر في الواجبات والمحرمات فقط ، بل هناك إلى جنب الواجب يوجد المستحب وإلى جنب المحرم يوجد المكروه ولا محيص عن الإتيان بالواجب وترك الحرام ، وإنّ ترك الواجب يؤدي إلى المؤاخذة والعقاب وكذلك فعل المحرم.

وأمّا المستحبات والمكروهات ففي الوقت الذي لا يكون لتركها أو ارتكابها أي مؤاخذة قانونية ولكن قد تتوفر بعض الشروط بنحو يحكم العقل فيها بوجوب المستحب وحرمة المكروه. وبالطبع انّ هذا لا يعني أنّ المستحب قد تحول إلى واجب شرعي وانّ المكروه قد تحول إلى حرام شرعي ، وذلك لأنّ الحدود والأحكام الإلهية لا تتغير أبداً ، بل المراد من ذلك أنّ العقل وبالالتفات

٣٠٤

إلى تلك الشرائط يحكم بوجوب القيام بالمندوب ووجوب ترك المكروه ويرى ذلك أمراً ضرورياً ، ويعدُّ ذلك نوعاً من الواجب في إطار العقل بحيث إذا لم يصغ الإنسان ـ وفي تلك الشروط ـ إلى نداء العقل يُعدّ عمله ذلك «تركاً للأولى» حسب الاصطلاح الشرعي ويعتبر ذنباً وجرماً حسب حكم العقل ، إذ من الصحيح انّ عمل المستحبات وترك المكروهات سبب للجمال وتزيين الأفعال والأعمال ، وانّ مخالفتها لا تستدعي أي أثر ، ولكن قد يحكم العقل وبسبب وجود سلسلة من الشرائط كالعلم والمعرفة العالية بمقام الأمر والنهي الإلهي ، وعظم المسئولية ، التي يتحلّى بها النبي وخطورتها بوجوب المستحب وحرمة المكروه.

ويحكم على النبي في حال المخالفة بوجوب إظهار الاعتذار وطلب المغفرة.

ولكي يتّضح الأمر جلياً نشير إلى مثالين في المقام هما :

١. إذا لاحظنا حياة الإنسان البدوي قياساً إلى حال الإنسان المتحضّر نجد أنّ الإنسان البدوي يتحلّى بنوع من الآداب والرسوم البسيطة ، وذلك لبعده عن الحياة المدنية المتحضّرة ، ولذلك لا يرتقب منه أن يتحلّى بآداب ورسوم الإنسان المدني والمتحضّر ، وهذا بخلاف الإنسان المتحضّر فالمرجو منه القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الإنسانية ، فإذا لم يراع ذلك الإنسان المتحضّر آداب ورسوم المدنية فانّه يقع مورداً للذم والتوبيخ والعتاب.

كذلك الأمر بين سكان المدن أنفسهم ، فإنّ المترقّب والمتوقّع من الإنسان المتعلّم غير المترقّب من الإنسان الجاهل وإن كان الجميع يقطنون في مدينة واحدة ، كذلك لا يكون المرجو من سكان مراكز المحافظات وعواصم

٣٠٥

البلدان كالمترقّب من الساكنين في الأقضية والنواحي. وعلى هذا الأساس فما يصدر من الناس العاديّين لو صدر من إنسان آخر أرقى منزلة وأعلى درجة يعدّ قبيحاً ومذموماً ويلام عليه عند العقلاء ، ولذلك نجد أنّ الانضباط في الأوساط العسكرية يكون بدرجة عالية جداً بحيث تعدُّ المخالفة في العرف العسكري ـ مهما ـ كانت صغيرة جداً ، ذنباً وخطأ لا يمكن السكوت عليه ، الأمر الذي يقتضي أن يكون الفرد العسكري عالماً بجزئيات القوانين العسكرية الحاكمة. إذاً كلّما كان مقام الشخص عالياً ومنزلته ساميةً ورفيعةً وكانت مسئولياته خطيرة وعظيمة تزداد تكاليفه وواجباته وانّ ما يتوقّع منه أكبر ممّا يتوقّع من غيره من الناس العاديين.

٢. المثال الآخر الذي يقرّب لنا الفكرة ويصبّها في قالب المحسوس هو مثال العاشقين، فإنّنا إذا نظرنا إلى حال العاشق الولهان نجده هائماً بمعشوقته وذائباً بكلّ وجوده وإحساساته ومشاعره في معشوقه ومحبوبه قلباً وفكراً وروحاً بحيث لا تغيب عن مخيّلته صورة حبيبه ولو لحظة واحدة ، هذه هي لغة الحبّ وقانون العاشقين ، ولذلك تعدُّ أدنى غفلة عن المعشوق ـ ولو كانت لأداء الحاجات الضرورية ـ ذنباً وجرماً حسب لغة العاشقين ، لأنّ قيمة الحبّ تكمن في الاستمرار بالتذكر والذوبان في الخليل ، ومن هذا المنطلق لو غفل العاشق ولو لحظة يرى من اللازم عليه التوبة وطلب الاعتذار حتّى لو كانت غفلته ناشئة من القيام بما يحتاجه من الأُمور الطبيعية المباحة كالأكل والشرب ، لأنّ قانون الحبّ ولغته لا يسمحان له بذلك ويعتبران ما صدر منه جرماً ، ولذلك نرى العاشقين يعرضون عن الأكل والشرب ويهجرون النوم والراحة ويكتفون من ذلك بالنزر اليسير الذي يكفي لسدّ الرمق فقط.

٣٠٦

يتّضح من خلال هذين المثالين وبجلاء الهدف من الاستغفار كما يتّضح المراد من الذنب المذكور في الآيات.

لا ريب انّ النبي الأكرم ـ وبحكم آيات العصمة ـ معصوم ومصون من أي مخالفة للقوانين والأحكام الإلهية ويستحيل أن يترك الواجب أو يفعل الحرام ، ولكن هناك نكتة جديرة بالاهتمام وهي أنّ الوظائف العرفانية والأخلاقية للرسول الأكرم لا تنحصر في هذين القسمين (العمل بالواجبات وترك المحرمات) بل مقتضى عرفانه ومعرفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقام الربوبي يستوجبان أن لا ينقطع الرسول عن ذلك المقام ولو لحظة واحدة ، وينبغي عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوم بمراعاة جميع آداب الشأن الإلهي بالنحو الأكمل وأن يقدّم الأليق على اللائق دائماً ، فلو فرضنا أنّ الرسول انقطع ولو لحظة واحدة لشأنه الخاص باعتباره إنساناً ، فانّ هذا الانقطاع اليسير جداً يُعدُّ في منطق العرفان ذنباً وجرماً يتطلّب التوبة والمغفرة والإنابة وإن كان في منطق الشرع وطبقاً لموازين الكتاب والسنّة لا يُعدُّ جرماً ولا ذنباً.

ونحن إذا أمعنّا النظر في أسباب نزول بعض الآيات والقرائن الحافّة بها يتّضح لنا جلياً أنّ استغفار النبي من تلك الأُمور ناشئ من المعرفة العالية والعرفان السامي للنبي الأكرم الذي يوجب عليه القيام بالأُمور بشكل وطريقة أُخرى ، وهذا ما يصطلح عليه المفسّرون «ترك الأولى».

فإذا كان النبي الأكرم قد أُمِرَ بطلب المغفرة في تلك الآيات أو أنّ الأنبياء قد طلبوا المغفرة كنوح وإبراهيم وموسى ، فانّ طلبهم هذا يندرج تحت المعنى الذي ذكرناه ، فعلى سبيل المثال نجد أنّ النبيّ نوحاً عليه‌السلام يطلب المغفرة ويناجي ربه بقوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ...). (١)

__________________

(١). نوح : ٢٨.

٣٠٧

وإبراهيم عليه‌السلام يقول : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (١)

وموسى عليه‌السلام يقول : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). (٢)

وهذا النبي الأكرم يقول : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (٣)

إنّ جميع الطلبات تلك تدخل في المعنى الذي بيّناه سابقاً ، وإنّ الإنسان مهما سعى وجدّ لكسب رضى الله سبحانه وتعالى عند ما يزن عمله مهما كبر وعظم بالنسبة إلى المقام الربوبي يجد أنّه لم يؤد حقّ الله كما ينبغي له سبحانه ويعترف حينئذٍ بعجزه وقصوره عن إدراك ذلك ويعبّر عن عجزه بقوله : «ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ».

ولقد روى مسلم في صحيحه عن المزني أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّه ليغان على قلبي وإنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (٤). (٥)

__________________

(١). إبراهيم : ٤١.

(٢). الأعراف : ١٥١.

(٣). البقرة : ٢٨٥.

(٤). صحيح مسلم : ٨ / ٧٢ ، باب استحباب الاستغفار.

(٥). منشور جاويد : ٧ / ٢٨٢ ـ ٢٨٧.

٣٠٨

٥٢

العفو الإلهي وعصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

سؤال : كيف ينسجم القول بعصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ما ورد في سورة التوبة ، الآية ٤٣ ، حيث قال سبحانه : (عَفَا اللهُ عَنْكَ)؟

الجواب : إذا رجعنا إلى دراسة الواقع التاريخي للآية المباركة نجدها نزلت حينما كان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدُّ العدّة ويهيِّئ الجيوش في مواجهة الروم ومحاربتهم في تبوك إلّا أنّ المنافقين أبوا الاشتراك في تلك المعركة والالتحاق بصفوف المجاهدين وتعلّقوا بأعذار كاذبة واستأذنوا الرسول بالإقامة في المدينة وعدم الخروج فأذن لهم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبل عذرهم ظاهراً ، فنزلت الآية المباركة : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ). (١)

ومن الواضح أنّ الآية تتضمّن التصريح بعفوه سبحانه كما يقول : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) كما تتضمن نوع اعتراض على النبي حيث أذن لهم في عدم الاشتراك كما يقول سبحانه : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).

وحينئذٍ يطرح التساؤلان التاليان :

__________________

(١). التوبة : ٤٣.

٣٠٩

الف : كيف ينسجم العفو مع العصمة؟

ب : كيف يوجه الاعتراض والعتاب الصادر من الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟

وللإجابة عن التساؤل الأوّل نقول : إنّ جملة (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يمكن أن تفسّر بمعنيين كلاهما ينطبق على قواعد وقوانين اللغة العربية ، ولتعيين أحد المعنيين لا بدّ من وجود قرينة تؤيد ذلك المعنى ، وهذان المعنيان هما :

١. انّها جملة خبرية حاكية عن شمول عفوه سبحانه للنبي في الزمان الماضي ، أي أنّها إخبار عن تحقّق العفو ، كما في قولنا : «نصر زيدٌ عمراً» فإنّها جملة خبرية ولكن لا بمعنى الإخبار عن الماضي ، وإنّما المراد منها الإنشاء وطلب العفو كما في قوله : «أيّدك الله».

فعلى المعنى الأوّل تكون الجملة خبرية والهدف منها هو الإخبار عن تحقّق مفادها ، ففي هذه الصورة تكون الآية ـ بنظر البعض ـ تدلّ تلويحاً على أنّ المخاطب بها قد صدر منه فعل استحق العفو الإلهي ، ولكنّ هذا الاحتمال باطل جداً ولا أساس له من الصحّة ، وذلك لأنّ الإنسان مهما عظم وسمت مرتبته وقداسته وطهارته فإنّه ـ وبالقياس إلى المقام الربوبي ـ يبقى بحاجة إلى العفو الإلهي ، بل كلّما ازداد غناه ازدادت حاجته إلى العفو ، وكلّما ازداد سعيه ازداد ثوابه ، ولا ريب أنّ العارفين والمقرّبين من الله سبحانه حينما ينظرون إلى عظم مسئولياتهم وعظم المقام الربوبي يذعنون بقصور أعمالهم وضآلة عباداتهم وجهودهم ، وحينئذٍ يلجئون وبلا اختيار إلى التضرّع والخشوع وهم ينادونه سبحانه بقولهم : «ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ» ، فإذا كانت معاصي وذنوب الناس العاديّين تحتاج إلى طلب العفو والمغفرة الإلهية ، فإنّ ترك الأولى من المعصومين والقيام ببعض

٣١٠

المباحات من العارفين وتحت شروط خاصة تقتضي هي أيضاً طلب العفو والمغفرة.

وأمّا على الاحتمال الثاني فالجملة وإن كانت بظاهرها خبرية إلّا أنّها في الواقع جملة إنشائية تفيد إنشاء الدعاء وطلب العفو والمغفرة والرحمة ، أي بمعنى «عفا الله عنك» و «غفر الله لك» و «أيّدك الله» ، ومن الواضح جدّاً أنّ الآية حينئذٍ لا تدلّ بوجه من الوجوه على صدور الذنب والخلاف من الإنسان العادي فضلاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأنّ طلب العفو هذا يُعدّ نوع تقدير وتكريم واحترام للمخاطب ، ويستحيل أن يكون ملازماً لصدور الذنب والمعصية منه ، ونحن نرى بالوجدان انّنا حينما نخاطب إنساناً ما بقولنا : «غفر الله لك» فلا يدلّ كلامنا هذا على أنّ الشخص المخاطب قد وقع في الذنب والجريمة فعلاً لكي نطلب من الله أن يغفر له خطيئته وذنبه.

فقد اتّضح جليّاً أنّ الآية ، سواء فُسرت بالوجه الأوّل أو الثاني ، لا تدلّ على صدور الذنب ، بل أنّ ظاهر الآية أنّها جملة إنشائية تفيد الدعاء ، والغرض منها تكريم وتبجيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما أنّه قد اتّضح أيضاً ومن خلال هذا البيان الجواب عن السؤال الثاني ، وذلك لأنّه وإن كان لحن الآية لحن اعتراض ، ولكن هذا الاعتراض على أي شيء؟ لا شكّ أنّه اعتراض على ترك الأولى والأفضل لا اعتراض على ارتكاب المحرم ، والشاهد على هذا المدّعى التعليل الوارد في ذيل الآية ، لأنّ المنافقين حينما طلبوا من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإذن لهم بالبقاء وعدم الخروج للجهاد في معركة تبوك وقد أجازهم النبي وسمح لهم بالبقاء ، وهذه الحالة تحمل في طيّاتها خاصّيتين.

الف : انّ المنافقين كانوا مصمّمين على عدم الخروج للجهاد ، سواء أذن لهم

٣١١

النبي في البقاء في المدينة أم لم يأذن ، وما كان طلبهم واستئذانهم في البقاء إلّا تظاهراً وتحايلاً يراد منه الحفاظ على ماء وجوههم ، ولكي لا تتّضح حقيقتهم وتنكشف سرائرهم ، ولقد أشارت الآية إلى ذلك المعنى بجملة (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) ثمّ أردفت ذلك بقوله تعالى :

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ). (١)

فالآية توضّح وبجلاء أنّهم كانوا عازمين على عدم المشاركة في الجهاد ولم يفكّروا بالخروج أبداً ، وما كان استئذانهم إلّا نوع تغطية لقبيح عملهم ، ولكن تظاهروا أمام الناس أنّهم لو لا إذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم في البقاء لكانوا في صفوف المجاهدين يقاتلون العدو جنباً إلى جنب ، وفي الواقع أنّ عملهم هذا من قبيل ما يقوم به المجرمون من مسح أثر الجريمة.

ب : على فرض أنّ هذه الطائفة كانت عازمة على الخروج إلى الجهاد مع المؤمنين إلّا أنّ خروجهم هذا في الواقع لا يحلّ أي عقدة ولا يزيل أي مشكلة ، بل أنّ وجودهم سيكون سبباً لانتشار الريب والشكّ والفوضى في صفوف المقاتلين المؤمنين ، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى بوضوح تام حيث قال تعالى :

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). (٢)

وعلى هذا الأساس فإنّ قبول طلب هذه الطائفة ـ التي إمّا أن تكون غير

__________________

(١). التوبة : ٤٦.

(٢). التوبة : ٤٧.

٣١٢

قاصدة للخروج للجهاد أصلاً ، أو على فرض الخروج للجهاد ، فإنّ وجودها لا يزيد المسلمين إلّا ضرراً ـ لا يفوّت على المسلمين أي مصلحة من ناحية القوة ، نعم الذي يفوت في هذا الإذن في البقاء هو مصلحة شخص النبي الأكرم ، إذ لو لم يأذن لهم في البقاء وأمرهم بالخروج للجهاد لانكشف وظهر كذبهم وخداعهم له وللمسلمين ، ولقد أشارت الآية إلى هذا المعنى حيث قال سبحانه : (... لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (١)

ولا ريب أنّ تفويت هكذا مصلحة يُعدّ من قبيل ترك الأولى.

بل يمكن القول : إنّ في هذه الواقعة لم يصدر من النبي حتّى ترك الأولى وإنّما الآية تسعى إلى إظهار معنى آخر ، وهو بيان الأخلاق العالية التي يتحلّى بها الرسول الأكرم من اللطف والرحمة و ... ، وكأنّ الآية تخاطب الرسول بقولها : يا رسول الله لما ذا تعاملت معهم بهذه الدرجة من اللين واللطف والحياء والتواضع وأذنت لهم ولم تدع ماهيتهم وحقيقتهم الزائفة تنكشف لك وليتميز لك العدو من الصديق؟!

إنّ الهدف من هذه الخطابات الحادة بيان ماهية وحقيقة المنافقين الكاذبة ، ولكن بأُسلوب غير مباشر حيث وجّهت العتاب إلى أعز وأكرم إنسان وهو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ العواطف اللامتناهية لذلك الإنسان العظيم والعزيز تمنعه من تحقير وإذلال عدوه بصورة مباشرة.

ومن الطبيعي انّه لا يدرك هذا النوع من لطيف الخطاب إلّا من عرف طريقة مخاطبة العظيم للإنسان العزيز.

وهناك نكتة مهمة لا بدّ من الإشارة إليها وهي أنّه صحيح أنّ النبي

__________________

(١). التوبة : ٣١.

٣١٣

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حُرِم من خلال هذا الطريق من معرفة المنافقين ، ولكنّ هناك طريقين آخرين عرف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وميّز من خلالهما المنافقين عن المؤمنين والكاذبين عن الصادقين ، وهذان الطريقان هما :

الف : لحن القول ، لا شكّ انّ طريقة كلام المنافقين ولحن قولهم تختلف بالكامل عن طريقة كلام المؤمنين ولحن خطابهم ، وقد تسنّى للرسول الأكرم التمييز بين الطائفتين من خلال هذه الصفة ، قال تعالى :

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ). (١)

ب. علم الغيب : وهناك طريق ثالث لمعرفة المنافقين وهو الاستعانة بعلم الغيب الذي هو ليس من العلوم الحسّية ولا العقلية ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الطريق بقوله سبحانه :

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ...). (٢)

إنّ هذه الآية ومن خلال الالتفات إلى صدرها وذيلها توضّح وبجلاء انّ الله سبحانه يطلع أنبياءه ومن خلال طريق الغيب على حقيقة المنافقين وحقيقة المؤمنين.

وعلى هذا الأساس فلو انّ النبيّ قد حُرِمَ من معرفة حقيقة هذه الطائفة من خلال الطريق الأوّل (الاختبار بالجهاد) ولم يتوفّق إلى معرفتهم ولكن لم يوصد

__________________

(١). محمد : ٣٠.

(٢). آل عمران : ١٧٩.

٣١٤

الطريق في وجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هناك طريقان آخران لتحصيل تلك المعرفة ، وهما : «لحن الخطاب» و «علم الغيب». نعم يمكن القول : إنّ المؤمنين حُرِموا من معرفة هؤلاء المنافقين ولكنّ ذلك في الواقع لا يُعدُّ ذنباً يستحق اللوم.

٣١٥

٥٣

العصمة وغفران الذنب

سؤال : انّه من المعلوم حسب القول بنظرية العصمة يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً من كلّ أنواع الذنب والعصيان والمخالفة ، فكيف ينسجم هذا القول مع ما ورد في أوّل سورة الفتح حيث أخبر سبحانه عن غفران ذنبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تقدّم منه وما تأخّر؟

الجواب : من الآيات التي تمسّك بها النافون لعصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية الواردة في سورة الفتح ، بل الآية من أقوى ما تمسّك به هؤلاء حيث قالوا : إنّ الله أخبر عن غفران ذنب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعم من المتقدّم والمتأخّر ، وهذا يعني أنّه قد صدر منه الذنب في الماضي ويتوقّع أن يصدر منه الخطأ والذنب في المستقبل ، وهذا دليل واضح على عدم العصمة ، والآية التي تمسّكوا بها هي :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (١)

__________________

(١). الفتح : ١ ـ ٣.

٣١٦

ولكن إذا أمعنّا النظر في الآيات الثلاث يتّضح لنا وبجلاء انّ المراد من الآية ليس هو الذنب الشرعي ـ أي ما اعتبره القرآن والسنّة ذنباً ـ بل المراد هو الاتهامات والنسب التي كان المشركون وخصوم الرسالة يصفونه بها ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد واجه المشركين والملحدين مواجهة صارمة وحادّة حيث سفّه أحلامهم وذمّ آلهتهم وكشف عن انحرافهم مستعيناً بالبراهين والأدلّة الساطعة والمحكمة ، فكانت ردّة فعلهم أن وصفوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه كاهن وساحر وكذّاب ، فكان النبي في نظر هؤلاء مذنباً ولم ترتفع تلك التهم والافتراءات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا بعد فتح مكة وما شاهدوه من الخلق السامي له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التعامل معهم ، فإذاً المقصود من الذنب ما كان قريش تصفه به ، كما أنّ المراد من المغفرة هو إذهاب وإزالة آثار تلك النسب من المجتمع.

ولقد أشار الإمام الرضا عليه‌السلام عند ما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال : «لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً ، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا :

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). (١)

فلمّا فتح الله عزوجل على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة قال له : يا محمد : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) (مكة) (فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله عزوجل فيما تقدّم ، وما تأخّر ، لأنّ مشركي مكة ،

__________________

(١). ص : ٥ ـ ٧.

٣١٧

أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم» فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن (١). (٢)

__________________

(١). بحار الأنوار : ١٧ / ٩٠ ، والاحتجاج : ٢ / ٢٢٢.

(٢). منشور جاويد : ٧ / ٢٩٢ ـ ٣٠٦.

٣١٨

٥٤

النبي الأكرم ومعاجزه

سؤال : من المعلوم أنّ النبي قد جاء بمعجزة خالدة وهي القرآن الكريم ، فهل انحصرت معاجز الرسول في القرآن فقط أو أنّه جاء بمعجزات أُخرى؟

الجواب : إنّ شبهة انحصار معاجز النبي الأكرم في القرآن الكريم قد أُثيرت ولأوّل مرّة من قبل الكتّاب المسيحيين لتقليل أهمية الدعوة المحمدية والحط من شأن الرسول الأكرم ومنزلته وعظمته حيث زعموا أنّ معاجزه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت منحصرة في القرآن الكريم وانّه كان يتحدى قومه بالقرآن فقط وكلّما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة أحالهم على القرآن ولم يظهر لهم أية معجزة غيره.

فهذا القسيس الألماني المعروف «فندر» صاحب كتاب «ميزان الحق» الذي كتبه حول حياة الرسول الأكرم يقول في كتابه المذكور ص ٣٧٧ منتقداً النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ من شروط النبوة أن يأتي مدّعيها بمعجزة لإثبات مدّعاه ولكنّ محمّداً لم يأت بأي معجزة قط. ثمّ استشهد على مدّعاه بالآية ٥٠ من سورة العنكبوت ، والآيات ٨٩ ـ ٩٣ من سورة الإسراء ، والآيتان ١٠٩ و ١١٠ من سورة الأنعام وغيرها من الآيات.

ولم ينفرد «فندر» بطرح هذه الشبهة والانتقاد ، بل أثارها قساوسة آخرون ،

٣١٩

منهم مؤلف كتاب «منار الحقّ» الذي تُرجم إلى اللغة العربية حيث أثار الشبهة في كتابه المذكور. (١)

وقد ذكر المرحوم فخر الإسلام (٢) : إنّ «المسيو جورج دوروي» ألّف كتاباً حول حياة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسم في الصفحة ١٥٧ منه صورة خيالية للنبي الأكرم وبيده ورقة من القرآن الكريم وكتب تحت الصورة : هكذا كان محمد كلّما طالبه قومهُ بمعجزة ردّهم قائلاً ليس لي ان آتيكم بمعجزة إلّا بإذن الله ولكنّ الله لم يمنّ عليّ بهذه النعمة ، أي نعمة إظهار المعاجز. (٣)

إنّ كلام هذا المستشرق يتألّف من فقرتين : الفقرة الأُولى منها هي عين الحقيقة وهي قوله : «إنّه ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلّا بإذن الله».

وهذا كلام صحيح نؤمن به ونعتقده ويؤيّده القرآن الكريم حيث قال سبحانه : (... وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ...). (٤)

وأمّا الفقرة الثانية فهي افتراء وكذب حيث ادّعى أنّ النبي الأكرم قال : «ولكنّ الله لم يمنّ عليّ بهذه النعمة ولم يعطني أيّة معجزة» ولا ريب أنّ هذا الكلام تقوّل وافتراء على الرسول الأكرم ، بل دلّت الشواهد الكثيرة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أتى بمعاجز كثيرة لقومه ، وانّ العناية واللطف الإلهي ـ في هذا المجال ـ شملته كباقي الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

كذلك من بين القساوسة القدامى نجد القسيس «اناركلي» مؤلّف كتاب

__________________

(١). أنيس الأعلام : ٥ / ٣٤٩ ـ ٣٥١.

(٢). هو قس مسيحي أسلم وكتب حول النصرانية وما فيها من تناقضات وخرافات كتابه القيّم «أنيس الأعلام» وغيره من الكتب القيّمة.

(٣). أنيس الأعلام : ٥ / ٣٥١.

(٤). الرعد : ٣٨.

٣٢٠