الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

الْمُبْطِلُونَ). (١)

فلو كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترة صباه قد تعلّم القراءة والكتابة وأنّه قد سعى إلى الكتاتيب ودور التعليم كباقي الصبية الذين حضروا تلك الدروس وتعلّموا القراءة والكتابة ، فهل يا ترى يكون بإمكانه أن يصرح بعد نزول الوحي عليه وفي مجتمع يعرف كلّ خصوصياته بهذه الآية التي تنفي عنه القراءة والكتابة ويناديهم وبصوت عال أيّها الناس أنّكم تعلمون أنّني لم أقرأ ولم أكتب أبداً ، فكيف جاز لكم أن تنسبوا مضامين آيات القرآن الكريم إلى الكتب الأُخرى؟!

لا ريب أنّ المتكلّم عند ما يقول : «ما جاءني من أحد» فإنّ لفظة «من» زائدة جيء بها لتأكيد عموم النفي بمعنى أنّه لم يأت إليه أيُّ إنسان أبداً ، وأمّا إذا قال : «ما جاءني أحدٌ» ففي هذه الجملة من الممكن أنّه قد جاءه شخص أو شخصان إلّا أنّ المتكلّم ـ ومن باب المسامحة ـ لم يحسب هذا المجيء ، ولذلك تقوم العرب ولنفي هذا الاحتمال وتأكيده بوضع كلمة «من» قبل الشيء المنفي فتقول «ما جاءني من أحد».

ومن الواضح أنّ الآية الكريمة جاءت مطابقة لتلك القاعدة البلاغية حيث استعملت كلمة «من» في قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) لتأكيد عمومية وشمولية النفي بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقرأ ولم يكتب أيّ كتاب كان. فالخلاصة انّ من قواعد اللغة العربية انّ النكرة إذا وقعت في سياق النفي تدلّ على العموم والشمول خاصة إذا اقترنت ب «من» كما في الآية المذكورة : (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ).

__________________

(١). العنكبوت : ٤٨.

٢٨١

ولم يكتف القرآن الكريم بهذه الآية في ردّ هذه الأفكار الواهية ، بل نجده في آية أُخرى يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يخاطب العرب ويذكرهم بتاريخ حياته وانّه قد لبث فيهم عمراً يناهز الأربعين ، وأنّهم يعرفون جيداً انّه لم يقرأ كتاباً ولم يخط صحيفة ، فكيف جاز لكم رميي بالإفك الشائن وتطلبون مني أن أُبدّل القرآن ، حيث قال تعالى :

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). (١)

بمعنى : إذا كنتم تعتقدون انّ القرآن نتاج فكري الخاص وترشحات ذهني وأنّني قد قمت بذلك العمل في ظلّ الاستفادة من القراءة والكتابة والاتّصال بالعلماء والمفكّرين من الأديان الأُخرى ولذلك أراكم الآن تطلبون مني أن أُبدّل هذا القرآن بكتاب آخر ، فمن الحريّ بكم أن تلقوا نظرة إلى تاريخ حياتي لتعرفوا هل أملك هذه القدرة سابقاً ، وممّا لا ريب فيه أنّني لو كنت أملك ذلك لذكرت الكثير من تلك المعاني والمضامين قبل البعثة في مجالسكم ونواديكم ، إذ لبثت فيكم قبل ذلك أربعين سنة ولكنّكم لم تجدوا شيئاً من ذلك أبداً فلما ذا كلّ ذلك التفكير الخاطئ (أفلا تعقلون)؟!

من هنا يتّضح جليّاً انّ النبي الأكرم ـ ولسلسلة من المصالح الاجتماعية ـ لم يكن قبل البعثة يعرف القراءة والكتابة وانّه كان رجلاً أُميّاً لم يتعلم عند أحد من الناس ، وكذلك لم يتعلم القراءة والكتابة عن طريق

__________________

(١). يونس : ١٦.

٢٨٢

الغيب ، لأنّه لو كان يعرف القراءة والكتابة من خلال الغيب مثلاً لما خاطبه القرآن الكريم ووصفه ب «الأُميّ» ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد تعلّم القراءة والكتابة ـ وإن كان عن طريق الغيب ـ فإنّه قد تحوّل حينئذٍ من الحالة التي كان عليها حين ولادته إلى حالة أُخرى تختلف عنها ، والحال انّنا نجد انّ القرآن الكريم يقول له : إنّك ما زلت على الحالة التي أنت عليها حين ولدتك أُمّك من ناحية القراءة والكتابة وانّك «أُمّيّ». (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ٧ / ٢٤٨ ـ ٢٦٠.

٢٨٣

٥٠

أدلّة عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

سؤال : ما هي الأدلّة التي يمكن إقامتها لإثبات عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

الجواب : إنّ عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العصيان والخطأ كعصمة باقي الأنبياءعليهم‌السلام ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم في المراحل الثلاثة التالية :

١. مرحلة تلقّي الوحي وحفظه وأدائه إلى الأُمّة.

٢. العصمة في مرحلة القول والفعل.

٣. العصمة في مرحلة تطبيق الشريعة في حياته الفردية والاجتماعية.

إنّ جميع الأدلّة العقلية والنقلية التي دلّت على عصمة الأنبياء والتي ذكرناها سابقاً هي بعينها تجري وبصورة واضحة وجليّة في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك فلا حاجة لتكرار البحث فيها هنا ، إلّا أنّ الأمر الذي دعانا إلى العودة لفتح موضوع العصمة وبحث عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة مستقلة هو :

ألف : وجود عدد من الآيات الدالّة أو المشعرة بعصمة النبي الأكرم بصورة خاصة وإن كنّا هنا لم نذكر منها إلّا آيتين فقط.

ب : إنّنا في البحوث السابقة لم نتعرض لدراسة عصمة الأنبياء في الأُمور

٢٨٤

العادية أي في غير مرحلة التبليغ وتبيين الشريعة ولذلك اقتضى الأمر أن نعود مرة أُخرى للبحث في المسألتين :

الأُولى : خصوص عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثانية : عصمة مطلق الأنبياء عن الخطأ والزلل.

وبما أنّنا قد تعرّضنا سابقاً لبيان الدليل العقلي (وبصورة مفصّلة) على عصمة الأنبياء من الذنب ، ولذلك سنقتصر في المرحلة الأُولى على ذكر الأدلّة النقلية فقط الدالّة على عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا في المرحلة الثانية ـ العصمة عن الخطأ سهواً ـ فانّنا سنتطرق إلى بيان الأدلّة العقلية مقرونة بذكر الأدلّة النقلية من آيات الذكر الحكيم.

العصمة من الذنب

بالإضافة إلى الآيات الكثيرة السابقة التي تدلّ على عصمة الأنبياء من العصيان والخلاف هناك آية أُخرى تدلّ على عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث جاء في سورة الإسراء قوله تعالى :

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً). (١)

ومن الواضح أنّ الآية المباركة تشير إلى حركة حثيثة وجهود كبيرة قام بها المشركون لمحاولة فتنة الرسول الأكرم وإخراجه عن الطريق القويم من خلال الافتراء على الله سبحانه ، وفي هذه الأجواء العصيبة والمحاولات الخطرة والدسائس الخبيثة تمتدُّ يد اللطف الإلهي إلى النبيّ الأكرم لمساعدته والأخذ بيده لتجاوز هذا

__________________

(١). الإسراء : ٧٣.

٢٨٥

المنعطف الخطر والمنزلق الحاد حيث قال سبحانه وتعالى مخاطباً النبي الأكرم :

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً). (١)

ثمّ يبيّن سبحانه للنبي الأكرم عاقبة الركون للمشركين فيقول سبحانه :

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً). (٢)

لقد ذكر المفسّرون وجوهاً متعدّدة لبيان سبب نزول هذه الآيات ، ولكن أوضح هذه الوجوه ما ذكره الطبرسي في مجمعه : انّ المشركين قالوا له : كفّ عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان حتى نجالسك ونسمع منك ، فطمع في إسلامهم فنزلت الآية. (٣)

وليس المهم هنا البحث في سبب نزول الآيات المباركة ، فإنّه على كلّ حال لا يؤثر على مفاد الآية ، ولذلك سنركّز البحث على قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) ولتوضيح دلالتها على العصمة نشير إلى عدّة نقاط هي :

١. إنّ بعض ضيقي الأُفق سعوا لاتّخاذ الآية دليلاً على عدم عصمة النبي الأكرم ، إلّا أنّ المحقّقين من العلماء وأصحاب النظر الثاقب والفكر العميق اعتبروا الآية من الأدلّة النقلية الدالّة على عصمة النبي الأكرم حقيقة ، ومن العجب أن تقع آية واحدة مطرحاً لكلتا الطائفتين فيفسرها كلّ حسب ما يتوخّاه مع أنّ الآية لا تتحمل إلّا معنى واحداً.

٢. من اللازم تعيين الفاعل للفعل «كادوا» في قوله : (وَإِنْ كادُوا

__________________

(١). الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢). الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣). مجمع البيان : ٣ / ٤٣١.

٢٨٦

لَيَفْتِنُونَكَ) ، فبالإمعان في الضمير في كلا الفعلين «كادوا» و «يفتنونك» يتّضح انّ الضمير يرجع إلى المشركين فيكون معنى الآية انّها تخبر عن دنو المشركين من إزلاله وصرفه عمّا أُوحي إليه لا عن دنو النبي وقربه من الزلل والانصراف عمّا أُوحي إليه ، ولا ريب انّ بين المعنيين فرقاً واضحاً.

٣. إنّ قوله سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) مركب من جملتين : الأُولى شرطية ، والأُخرى جزائية. أمّا الأُولى فقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) والأُخرى : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) ، وبما أنّ لو لا في الآية امتناعية تدلّ على امتناع الجزاء لوجود التثبيت ، فيكون معنى الآية : لو لا تثبيتنا لقد كدت تركن إليهم ، وهذا يدلّ على عدم تحقّق الركون إليهم لوجود الشرط ، وهو التثبيت من قبل الله سبحانه للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤. انّ هذا التثبيت الإلهي في الواقع هو تثبيت في مرحلتي التفكير والعمل معاً ، بمعنى أنّ التثبيت في مجال التطبيق متفرع على التثبيت في مجال التفكير ، إذ لا يستقيم عمل إنسان ما لم يستقم تفكيره ، وهذا يعني أنّ اللطف الإلهي كان بصورة بحيث إنّه أحاط الرسول الأكرم بلطفه سبحانه بدرجة لم يقترب من المشركين ولم يساومهم في خصوص عبادة أوثانهم ، لا في مجال الفكر لدرجة لم يخطر في ذهنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، وكذلك في مقام العمل فلم يصدر منه عمل من هذا القبيل.

ولا ريب أنّ هذا التثبيت هو عين العصمة والتسديد الإلهي لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة روح القدس وغيره.

٥. انّ تثبيته سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية لم يكن أمراً مختصّاً بتلك الواقعة الخاصة التي أشارت إليها الآية الكريمة ، بل كان التثبيت والتسديد أمراً

٢٨٧

عاماً وشاملاً لجميع الوقائع المشابهة لتلك الواقعة ، لأنّ السبب الذي أوجب إفاضة التثبيت عليه فيها يوجب إفاضته عليه في جميع الوقائع المشابهة ، ولا معنى لتثبيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في واقعة وتركه لحاله أمام وقائع أُخرى قد تؤدي به إلى الانزلاق.

٦. انّ تثبيته سبحانه لنبيّه لا يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كونه فاعلاً مختاراً حيث لا يستطيع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخالفة ، بل انّه وبالرغم من التثبيت والتسديد الإلهي له يبقى قادراً على الطاعة والعصيان والنقض والإبرام ، ومن هذا المنطلق نجد الآية الثالثة تخاطب النبي الأكرم بالقول : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً).

وعلى ضوء ما ذكرنا من النكات يتّضح جلياً أنّ الآية المباركة تنسجم انسجاماً تامّاً مع مذاق «العدلية» القائلين بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام وتبعث الأمل في نفوسهم ، وذلك انّها تدلّ دلالة واضحة على أنّ الله سبحانه وتعالى لا يترك نبيّه لحاله ولا يكله إلى نفسه طرفة عين أبداً ، وانّه سبحانه يأخذ بيده في كلّ المواقع التي يتعرض فيها إلى الخطر والزلل والانحراف ، ويمنحه الثبات والتسديد ، ويبعده عن الاقتراب من الذنب فضلاً عن ارتكابه ، وفي الحقيقة انّ جملة : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ) ، نظير قوله سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ). (١)

لكن الآية الأُولى راجعة إلى صيانته عن العصيان ، والثانية ناظرة إلى تسديده عن السهو والخطأ في الحياة ، وبغض النظر عن هذا التفاوت بين الآيتين فإنّ طريقة البيان وكيفية الدلالة في الآيتين متّحدة ، وبعد تمام البحث في هذه

__________________

(١). النساء : ١١٣.

٢٨٨

النقطة نشرع في البحث في خصوص عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخطأ.

عصمة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخطأ والاشتباه

إنّ عصمة ومصونية النبي الأكرم من الخطأ والاشتباه في أُموره الحياتية والحالات الاعتيادية من المسائل التي وقع فيها البحث في علم الكلام ، وقد ذكرت في هذا المجال أقوال وآراء ونظريات متعدّدة ، ولا ريب انّ العقل يحكم هنا بشرطية العصمة ، وذلك من أجل المحافظة على اعتماد الناس على النبي ووثوقهم بقوله وعمله.

وبالإمكان تصوير حكم العقل بالصورة التالية :

إنّ الخطأ والاشتباه ـ في غير التبليغ ـ يكون على نحوين :

الف : الخطأ في أداء الوظائف الشرعية الفردية منها أو الاجتماعية كالخطإ في الركعات أو قتل إنسان بريء.

ب : الخطأ في أُمور حياته اليومية.

لا ريب انّ مسألة وثوق الناس بالنبي واعتمادهم على أقواله وأفعاله من العوامل المهمة في تحقيق أهداف الأنبياء ونشر الرسالة ، وهذا يستدعي أن يلتزم النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجال العمل بالوظائف والتكاليف الفردية منها والاجتماعية وأن يكون مصوناً من الاشتباه والخطأ فيها ، وذلك لأنّ الاشتباه والخطأ في هذا القسم يولّد وبصورة تدريجية حالة الشكّ والترديد لدى الناس في تعاليم النبي وأقواله ، وحينئذٍ يتساءلون مع أنفسهم إذا كان النبي يخطأ في عمله ووظائفه فمن الذي يضمن لنا أنّه لا يخطأ أيضاً في مجال بيان الأحكام والمفاهيم الإسلامية؟

إنّ هذا الفكر يستوجب ان يصان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعماله الاعتيادية

٢٨٩

والوقائع اليومية ، وذلك لأنّ الاشتباه في هذه الموارد يسلب اعتماد الناس عليه ويؤدّي إلى التشكيك في التعاليم التي جاء بها.

تنبيه : لا يتوهّم انّنا ندّعي الملازمة بين الخطأ والاشتباه في الوظائف وبين الخطأ في تبليغ التعاليم والأحكام ، إذ من الممكن أن يكون الإنسان معصوماً من قبل الله تعالى في القسم الثاني ، لكنّه لا يكون معصوماً في أُمور حياته الاعتيادية ، فقد يقع في الخطأ والاشتباه والزلل فيها ، ولا شكّ انّ التفكيك بين الحالتين صحيح جدّاً.

إنّ هذا التفكيك من الأُمور الجليّة والمقبولة عند العلماء والمفكّرين ، ولكنّ الكلام هنا مع الناس الآخرين الذين لا يستطيعون التمييز بين تلك المسائل ولا ينظرون إلى حالة التفكيك بين القضيتين ، بل ينظرون إلى الجميع نظرة واحدة ويسوقون الجميع بعصا واحدة ، ويرون أنّ وجود الشكّ والترديد أو الخطأ والاشتباه في الحياة الاعتيادية للنبي موجب لنمو حالة الشكّ والترديد في بقية الأُمور المتعلّقة بالنبوة.

إنّ الله سبحانه وتعالى من أجل تحقّق الغرض من البعثة وأهدافها لا بدّ من أنْ يجهز ويزود النبي بصفة العصمة ، لكي لا تخدش حالة الاعتماد على النبيّ بين الناس ولو يسيراً ، أي أنّ حالة الوثوق والاعتماد تبقى بدرجة مائة بالمائة. وحينئذٍ ستتحقّق أهداف ومقاصد البعثة التي تتمثل في تربية الناس وهدايتهم إلى طريق الخير والصلاح. لقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «روح القدس تحمل النبوة ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو». (١)

إلى هنا تمّ الكلام في بيان حكم العقل بوجوب عصمة الأنبياء من الخطأ

__________________

(١). بصائر الدرجات : ١٣٤.

٢٩٠

والسهو وحان الوقت للحديث عن بيان منطق القرآن في هذا الخصوص ، ولا ريب أنّ منطق القرآن والعقل متطابقان هنا ولا يوجد أدنى اختلاف بينهما.

القرآن وعصمة النبي من الخطأ والسهو

إنّه من الممكن الاستفادة من الآية التالية لإثبات عصمة النبي من الخطأ والسهو.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (١)

لقد ذكر المفسّرون في شأن نزول الآية عدّة توجيهات مختلفة لا يسع المجال لذكرها جميعاً ، وها نحن نذكر نموذجاً منها على سبيل المثال وبصورة ملخّصة وهي : أنّه قد سرق درعٌ لأحد الصحابة ، فشك صاحب الدرع بأنّ السارق هو أحد أفراد «بنو أُبيرق» وحينما أحسّ السارق بالخطر وانكشاف أمره ألقى الدرع في بيت أحد اليهود وطلب من أفراد قبيلته الذهاب إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للشهادة عنده ببراءته من تهمة السرقة وإلقاء تبعة السرقة على اليهودي باعتبار أنّ الدرع قد عُثِر عليه في بيته ، وهذا شاهد قوي على اتّهام اليهودي وبراءة السارق الحقيقي من بني أُبيرق ، وفي هذه الشرائط الحسّاسة نزلت هذه الآية والآية التي تليها.

وسواء أصحّ سبب النزول المذكور أم لم يصحّ فإنّنا نستطيع ومن خلال ملاحظة جميع الوجوه التي ذكرت لبيان أسباب نزول الآية المباركة ، أن ندرك

__________________

(١). النساء : ١١٣.

٢٩١

الحقيقة التالية ، وهي أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرّض لمؤامرة وخديعة خطيرة جداً كادت أن توقعه في فخ الحكم ـ خطأ ـ على خلاف الواقع حيث سعت تلك المجموعة المخادعة ومن خلال تصوير مشهد تمثيلي وبيان الأُمور على خلاف الواقع أن تجذب النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ساحة الحدث من أجل الحكم خلافاً للحق وتبرئة صاحبهم ، ولكن اللطف الإلهي أحاط بالنبي ليصونه من الخطأ والاشتباه ويزيح الستار عن وجه الحقيقة مبيّناً للنبي الأُمور على حقيقتها ، وكشف النقاط المبهمة فيها ، ويعلمه الحقيقة كما هي.

إذا اتّضح ذلك ينبغي أن نتعرض لبيان كيفية دلالة تلك الآيات على عصمة النبي ومصونيته من الخطأ والاشتباه ، وذلك من خلال الأُسلوب التالي :

إنّ الناظر في الآية يجد انّها تشتمل على ثلاث جمل هي :

الف : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ).

ب : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

ج : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

فالجملة الأُولى ناظرة إلى بيان مباني وأُسس القضاء ، وهما : الكتاب والسنّة (الحكمة) ، فإنّ الاطّلاع على هذين المصدرين والمعرفة التامّة بهما سبب مهم للعصمة والمصونية في مجال الأحكام الإلهية ، وبالنتيجة لا يقع النبي أبداً في مشكلة الخطأ والاشتباه في بيان الأحكام ، وذلك لأنّ جميع ما تحتاج إليه البشرية إلى قيام الساعة موجود في هذين المصدرين ، ولكن من الواضح أنّ العلم بالقوانين الكلّية لا يكون سبباً للعصمة والمصونية من الاشتباه في مجال الموضوعات والجزئيات وبحسب المصطلح في مجال تطبيق

٢٩٢

الكلّيات على مصاديقها ، بل المصونية والعصمة في هذا المجال تحتاج إلى دليل آخر لإثباتها من خلاله.

والشاهد على ذلك انّنا إذا لاحظنا سبب النزول الذي ذكر للآية حيث كاد الرسول أن يقع في مشكلة الحكم بخلاف الواقع ، إلّا أنّ اليد الإلهية قد أدركته مع العلم أنّ النبي كان عالماً ومطّلعاً على الأحكام الكلّية ولكن مع ذلك كلّه لم يكن مع علمه بتلك الكلّيات واطّلاعه عليها موجباً لعصمته ومصونيته ، بل الذي صانه هو العلم بالإضافة إلى أمر آخر ، وهذا الأمر الآخر هو ما بيّنته الجملة الثانية في الآية المباركة حيث قال تعالى : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

وحينئذٍ يطرح السؤال التالي نفسه ما هي حقيقة ذلك العلم الذي علّمه الله تعالى لنبيّه والذي لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلمه؟ فهل هو العلم بالأحكام الإلهية الكلية التي وردت في الكتاب والسنّة؟ أو أنّ المقصود من العلم هو العلم بخصوصيات الوقائع والأحداث؟

لا شكّ ولا ريب أنّ الاحتمال الأوّل باطل جدّاً ولا أساس له من الصحة ، وذلك لأنّ علم النبي بكليّات الأحكام قد أشارت إليه وبوضوح تام الجملة الأُولى فلا حاجة هنا إلى التكرار والتأكيد ، أضف إلى ذلك لا يوجد من يحتمل أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن مطّلعاً على أحكام شريعته لكي تتوفر الأرضية لذلك التأكيد من خلال الجملة الثانية.

إذاً المقصود من الجملة هو الاحتمال الثاني ، أي إزاحة الستار عن وجه الحقيقة وكشف الأُمور والحوادث والمؤامرة التي أُريد منها إيقاع النبي في الخطأ والاشتباه وإلصاق التهمة بإنسان بريء ، وهذا ما أشارت إليه آية أُخرى تتعلّق بذلك الأمر حيث جاءت فيها جملة (بِما أَراكَ اللهُ) والآية المباركة هي : (إِنَّا

٢٩٣

أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً). (١)

ففي هذه الآية تمّ بيان أصلين لقضاء وحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما :

١. (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ).

٢. (بِما أَراكَ اللهُ).

ولا ريب أنّ (الباء) في كلمة «بما» بمعنى «السببية» ، يعني أنّ الله سبحانه قد أنزل إليك الكتاب لتستطيع من خلاله وبالإضافة إلى بيان الحقائق من قبل الله سبحانه أن تحكم بين الناس من دون أن تقع في الخطأ والاشتباه أبداً.

وعلى هذا الأساس يظهر أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالإضافة إلى علمه بالكتاب والسنّة فإنّه مسلّح ومجهز بعلم خاص ، وهو ما أشارت إليه الآية المباركة : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) وقد عبّر عن ذلك المعنى في آية أُخرى بقوله : (بِما أَراكَ اللهُ).

ولكي لا يتوهّم أنّ هذه المصونية تختص بموردٍ خاص أو تختص بمجال القضاء فقط وانّ باب الخطأ مفتوح أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحوادث الأُخرى ، جاء قوله سبحانه في الجملة الثالثة : (كانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ، ليوصد هذا الاحتمال وينفي هذا التوهّم.

إنّ الشيء الذي يصفه الله سبحانه وتعالى بالعظمة يختلف عن الشيء الذي نصفه نحن بالعظمة ولا بدّ من الفصل بينهما ، فإنّ الفضل والكرم الإلهي العظيم علامة على أنّ النبي الأكرم مصون من الخطأ والاشتباه في جميع مسير حياته ، سواء

__________________

(١). النساء : ١٠٥.

٢٩٤

على مستوى القضاء والحكم أو المعاشرة والمعاملة مع الناس أو غير ذلك.

والخلاصة : انّه وبسبب المصلحة الكامنة في أمر الرسالة ولكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة وقدوة للأُمّة فلا بدّ أن تكون حياته بنحو لا تحتمل الأُمّة في حقّه الخطأ والاشتباه ، وذلك لأجل أن لا تتحيّر الأُمّة ولا تضطرب في أمر طاعته والتسليم له.

المنكرون لعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقد تمسّك المخالفون لعصمة النبي الأكرم بسلسلة من الآيات والأحاديث التي اتّخذوها ذريعة لإثبات معتقدهم لكي يتسنّى لهم من خلال ذلك تشويش أذهان البسطاء من الناس في خصوص أمر العصمة ، ولكي يتّضح الأمر جلياً ويتم البحث على أكمل وجه لا بدّ من التعرض إلى تلك الأدلّة ودراستها ومناقشتها.

فنذكر أوّلاً الآيات المباركة وبعد ذلك نتعرض لدراسة الروايات التي استندوا إليها.

١. النهي عن اتّباع أهواء المشركين و ...

لقد خاطب الله سبحانه نبيّه بسلسلة من «القضايا الشرطية» منها قوله تعالى :

(... وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). (١)

__________________

(١). البقرة : ١٢٠.

٢٩٥

ولقد ورد نفس هذا المضمون وفي نفس السورة في الآية رقم ١٥٤ إلّا أنّه ورد فيها بدل قوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ ...) قوله تعالى : (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

كما ورد مضمون الآية الأُولى في سورة الرعد الآية ٣٧ مع فارق يسير جداً ، وهو انّه جاء بدل قوله : (وَلا نَصِيرٍ) كلمة (وَلا واقٍ).

إنّ هذه الآيات وما يشابهها من الآيات التي سنذكرها لاحقاً لا تدلّ وبأي شكل من الأشكال على نفي عصمة النبي ، وذلك لأنّ القضية الشرطية لا تدلّ إلّا على الملازمة بين الشرط والجزاء ، لا على تحقّق الطرفين ، فالآية لا تدلّ على تحقّق الشرط «اتّباع هوى المشركين» ولا تدلّ على إمكان تحقّقه ، بل الآية على خلاف المخطئة أدلُّ حيث إنّها تنسجم انسجاماً تامّاً مع القول بالعصمة ، وهذا شبيه قوله سبحانه لنبيّه : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً). (١)

ثمّ يقول سبحانه في الآية التالية : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً). (٢)

ففي الوقت الذي يعلّق سبحانه مشيئته وإرادته في سلب الوحي من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرحها بصورة القضية الشرطية ، ومن المعلوم المقطوع به عند الجميع انّ هكذا مشيئة وإرادة لم تتحقّق أبداً وانّه سبحانه لا يستلب من نبيه ما أوحى إليه ، بل انّه سبحانه يُتم رسالته وشريعته بواسطة النبي الأكرم.

إنّنا وقبل دراسة وبيان النكتة في هذا النمط من الآيات التي تخاطب النبي

__________________

(١). الإسراء : ٨٦.

(٢). الإسراء : ٨٧.

٢٩٦

بنحو القضية الشرطية ولكن بلحن حاد وبأُسلوب تهديدي وتوبيخي ، نذكر منها آيتين فقط هما :

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). (١)

وقوله سبحانه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ). (٢)

إنّ جميع الإنذارات والتقارير الواردة بصورة الشرط «إذا» لا تدلّ على تحقّق الطرفين لكي تكون دليلاً على نفي العصمة. ولكن يبقى هنا سؤال يطرح نفسه وهو إذا كانت هذه الآيات لا تدلّ على نفي العصمة ، فما هو الهدف يا ترى من طرح مثل تلك القضايا الشرطية التي لا تتحقّق وبصورة عملية أبداً؟

ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل من خلال الإشارة إلى وجهين من الوجوه المتنوعة التي ذكرت لبيان فلسفة طرح تلك القضايا الشرطية.

١. انّ هذه الآيات تخاطب النبي بما أنّه إنسان ذو غرائز بشرية ، أي انّها ناظرة إلى الطبيعة الإنسانية للنبي والتي لا يمتنع صدور الذنب والخطأ والمخالفة منها ، وذلك لأنّ الأنبياء من طبيعة البشر ومن جنسهم وليسوا من جنس آخر فوق البشر لكي لا يتصوّر صدور الذنب والخطأ منهم ، بل أنّهم بشر كباقي الأفراد معرّضون للخطأ والاشتباه والتوبيخ لو لا العناية الإلهية واللطف الإلهي الذي يحوطهم ، وهذا ما نطلق عليه مصطلح العصمة ، فلولا ذلك فإنّ صدور الذنب والخطأ مترقّب منهم والذي يمنع من وقوعه هو العناية الإلهية

__________________

(١). الزمر : ٦٥.

(٢). الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

٢٩٧

والفيض الإلهي الذي يجعل صدور كلّ ذلك من قبيل «المحال العادي» ويضفي عليهم نوعاً من القداسة والطهارة ، فإذاً هذا القسم من الآيات ناظر إلى الجوانب البشرية للأنبياء فقط ولم تكن هنا مسألة العصمة والمصونية من الخطأ مطروحة ، وإذا ما كان الأنبياء معصومين ومنزّهين من الخطأ ، فإنّ ذلك لسبب آخر وهو كونهم موجودات إلهية يستحيل عليها أن تلج باب المعصية والذنب.

٢. انّ هذه الآيات جميعها تركّز على الجانب التربوي ، والهدف منها تعريف الناس بوظائفهم وتكاليفهم أمام الله سبحانه من خلال مخاطبة شخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ريب انّ هذا النوع من أُسلوب الخطاب الحاد والشديد اللحن لا يثير التعصّب الجاهلي والعناد ، بل يؤدّي إلى خضوعهم لتلك التعاليم وحثّهم وتحريكهم نحو الإيمان بالرسالة حيث يتساءلون حينئذٍ مع أنفسهم إذا كان النبي الأكرم مع عظمته وجلاله وقداسته يخاطب بتلك الخطابات الحادة على فرض صدور الذنب والخطأ منه وانّه يوبّخ بهذه الطريقة الحادّة ، فما ذا سيكون الموقف منّا يا ترى إذا ارتكبنا تلك الذنوب ووقعنا في الخطأ؟!

وعلى ذلك تكون الآيات واردة بطريقة «إيّاك أعني واسمعي يا جارة» ، ولا ريب أنّ هذا الأُسلوب من الأساليب المثلى والصحيحة في التربية وتبيين الحقائق ، انّ الذين تمسّكوا بهذا النوع من الخطابات لدعم أفكارهم الخاطئة لا ريب أنّهم يجهلون ألف باء المعارف القرآنية ولا يفهمون من أُصول التربية الصحيحة شيئاً. وفي الالتفات إلى هذا الأصل يتّضح جلياً عدم صحّة أيّة فكرة تشير إلى عدم عصمة النبي الأكرم.

٢٩٨

وكذلك يتّضح من خلال هذا الأصل الهدف من الآيات الأُخرى التي تمسّك بها المنكرون للعصمة ، ومن أجل إكمال البحث نشير إلى قسم من هذه الآيات :

١. لقد كان المسلمون يتوجّهون في صلاتهم نحو بيت المقدس ، ولكنّه ولمصالح معينة اقتضت صدور الأمر الإلهي للنبي الأكرم وللمسلمين بالتوجّه في صلاتهم شطر المسجد الحرام ، وهذا ما عُبّر عنه تاريخياً بتغيير القبلة ، ولقد أثار هذا الحدث ضجّة كبيرة في أوساط اليهود والمنافقين ، وقد أشارت بعض الآيات والروايات إلى تلك الضجة ولكن القرآن الكريم وقف بصرامة وحزم شديدين أمام هذه الضجة المفتعلة ، وردّ على جميع الإشكالات التي أثارها الجاهلون بعلل الأحكام من اليهود والمنافقين ، ثمّ بعد ذلك توجّه إلى النبي الأكرم مخاطباً إيّاه بقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). (١)

كما أنّ القرآن الكريم أبطل نظرية ألوهية المسيح وأثبت أنّ ولادته من الطاهرة مريمعليها‌السلام كمثل خلق آدم عليه‌السلام حيث خلقه سبحانه من تراب ، وأثبت القرآن الكريم أنّ التولّد من مريم الطاهرة وخلق آدم من تراب لا يُعدّان دليلاً على كون آدم والمسيح عليهما‌السلام أبناءً لله جلّ جلاله ، وبعد أن أبطل ذلك بالدليل القاطع نجد القرآن الكريم يلتفت إلى النبي الأكرم مخاطباً له بقوله سبحانه : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). (٢)

ومن المعلوم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اطّلع على عالم الغيب ورأى ملك الوحي وسمع كلامه وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد بأُمّ عينه آيات الله سبحانه ليلة المعراج ، وممّا لا

__________________

(١). البقرة : ١٤٧.

(٢). آل عمران : ٦٠.

٢٩٩

ريب فيه أنّ من يكون كذلك لا يمكن أن يتطرّق الشكّ والريب إلى قلبه وفكره ، وعلى هذا الأساس لا بدّ أن تكون الآيات التي تخاطبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن لا يكون من الممترين لم تكن متوجهة إليه حقيقة ، بل جاءت لتذكير المسلمين بأن لا يقعوا فريسة سهلة أمام كيد المخادعين ولا ينجرفوا مع تيار المفترين وأن لا يتأثروا بالكلام الفارغ والدعايات الواهية لهؤلاء وأن لا يلقوا بأنفسهم في جحيم الريب والشكّ.

٢. انّ الله سبحانه خاطب نبيّه في مسألة الحكم التي مرّ تفصيلها سابقاً في البحث عن أدلّة عصمة النبي عن الخطأ والاشتباه حيث قال سبحانه : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً). (١)

وقال سبحانه في آية أُخرى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً). (٢)

إنّ هذا النوع من الخطابات يصلح لهداية وإرشاد طائفة من الناس الذين لا يتحمّلون الصراحة ، وكأنّ لسان حالهم يقول : النقد جيد ولكن بشرط أن يتوجّه للآخرين فقط.

ومن هذا المنطلق فإنّ أفضل وسيلة وأسلم طريق لمخاطبة هؤلاء هو استعمال الخطاب غير المباشر ، لأنّ الخطاب غير المباشر مهما كان حاداً ومُرّاً فإنّه لا يُثير ردود فعل شديدة اتّجاههم ، لأنّه موجّه للآخرين.

ولا ريب انّ النبي الأكرم كان مجبوراً على القضاء والحكم في مسألة الدرع المسروقة وأن يكون حكمه طبقاً لقواعد وقوانين القضاء التي تعتمد على الشواهد

__________________

(١). النساء : ١٠٧.

(٢). النساء : ١٠٥.

٣٠٠