الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الفكر الخالد في بيان العقائد - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: اللجنة العلميّة في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-153-X
الصفحات: ٤٤٩
الجزء ١ الجزء ٢

للقانون.

ويرد على هذه النظرية وهذا النحو من التفكير أوّلاً : انّ الوجود لا يساوي المادة ، بل هو أوسع منها ، وعلى هذا الأساس إذا ما فقدت الظاهرة العلل الطبيعية فهذا لا يعني فقدان العلّة مطلقاً ، بل أقصى ما يدلّ عليه عدم وجود العلّة المادية ، ومن المعلوم أنّ فقدان الأخصّ (العلل المادية) لا يدلّ على فقدان الأعم أصل العلّة.

إذ من الممكن أن تفتقد الظاهرة العلّة المادية ولكنّها في نفس الوقت تنشأ من علّة غير مادية مجرّدة خارجة عن إطار الحسّ والتجربة.

كما يمكن الإجابة بجواب آخر وهو انّ العلل الطبيعية تنقسم إلى نوعين :

الف : علل طبيعية معروفة.

ب : علل طبيعية غير معروفة.

فإنّ مجال العلم هو كشف العلل من القسم الثاني ، ولذلك إذا كانت المعجزة فاقدة للعلل الطبيعية المعروفة فلا يعني ذلك أنّها فاقدة للعلل الطبيعية مطلقاً ، إذ من الممكن انّ الأنبياء يستفيدون من العلل الطبيعية غير المعروفة ، وبالطبع انّ هذا مجرد احتمال لا أكثر ، ويكفي في رفع الإشكال الدليل العقلي ، وهذا ما سنوضحه هنا.

علّة المعجزة

يتّضح ممّا ذكرنا أنّ المعجزة ليست ظاهرة من دون علّة وإن لم تكن علّتها ـ كالعلل الطبيعية ـ معروفة للناس ، وحينئذٍ لا بدّ من البحث لمعرفة علّة تلك الظاهرة. وفي هذا المجال هناك ثلاث فرضيات هي :

٢٦١

١. المعجزة معلولة للعوامل الغيبية : من الممكن أن تكون المعجزة معلولة للعوامل الغيبية من قبيل الملائكة الإلهية ، بحيث حينما يطلب النبي من الله سبحانه عملاً خارقاً للعادة تتدخل تلك العوامل الغيبية ـ وبإذن من الله ـ في إنجاز ذلك العمل وتحقيق تلك المعجزة.

٢. المعجزة معلولة لعوامل طبيعية غير معروفة : انّ الفرضية الثانية تذهب إلى أنّ علل المعاجز أُمور طبيعية غير معروفة ، وبما أنّ الأنبياء يتوفّرون على علم واسع وكبير وانّهم على اطّلاع بأسرار الطبيعة لذلك يستفيدون من تلك العوامل ـ الغير المعروفة لدى غيرهم ـ للإتيان بالأُمور الخارقة للعادة.

٣. انّ علل المعاجز هي النفس والإرادة القوية للأنبياء عليهم‌السلام : الاحتمال الثالث هو أنّ معاجز الأنبياء معلولة لنفس الأنبياء وإرادتهم القوية ، وعلى هذا الأساس تكون أعمال الأنبياء والأولياء الخارقة للعادة غير معلولة للأسباب الغيبية ولا العوامل المادية والطبيعية الغير المعروفة ، بل تكون معلولة للنفس القوية والإرادة القطعية للأنبياء.

إذ انّ نفوسهم عليهم‌السلام وفي إطار التهذيب والتزكية وقطع العلائق المادية والتوجه والتقرب إلى مبدأ الخلق تصل إلى درجة وحدٍّ من الكمال والاقتدار بحيث تصبح بموجبه قادرة على التصرف بعالم الطبيعة وإخضاعه لإرادتها وتسخيره في خدمتها. كما أنّ نفوس الناس العاديين تقدر على الهيمنة والتصرف في قوى البدن المادية فكذلك نفوس الأولياء قادرة على التأثير في الموجودات الأُخرى وإخضاعها لخدمتها. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١٠ / ٢٩١ ـ ٢٩٤.

٢٦٢

٤٧

الاعجاز شاهد على صدق المدّعي

سؤال : هل المعجزة دليل على صدق دعوى القائم بها أم لا؟

الجواب : لقد كان الناس وعلى مرّ التاريخ يتعاملون مع معاجز الأنبياء بأنّها دليل على صدق صاحبها وانّه مبعوث من الله حقاً ، ولذلك نجدهم يطلبون وبلا فصل من مدّعي النبوة الإتيان بآية تدلّ على صدق مدّعاه وتدعم رأيه ، ولا ريب انّ الآية هنا تعني المعجزة ، فها هم قوم صالح يطالبونه بالإتيان بالمعجزة لإثبات صدقه في دعواه يقول سبحانه : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). (١)

بل قد نجد الأنبياء أنفسهم ـ وقبل أن يطلب منهم الناس ذلك ـ يتقدّمون بالتذكير بأنّهم يملكون دليلاً على صدق دعواهم وهو المعجزة وانّهم قادرون على الإتيان بأمر خارق للعادة ، وهذا ما فعله كلّ من النبي موسى والنبي عيسى عليهما‌السلام كما يحدّثنا القرآن الكريم عن ذلك حيث يقول سبحانه حاكياً خطاب موسى لفرعون وملئه :

__________________

(١). الشعراء : ١٥٤.

٢٦٣

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ* قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). (١)

ثمّ إنّ السيد المسيح كذلك خاطب بني إسرائيل بقوله :

(... أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...). (٢)

ثمّ ذكر بعد ذلك معاجزه في ذيل الآية.

وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ المعجزة قد اعتبرت ـ ومنذ العصور السابقة ـ دليلاً على صدق القائم بها ، وانّ الناس ـ البعيدين عن الأهواء والتعصّب الأعمى ـ يسلّمون للأنبياء بمجرد رؤيتهم المعجزة ويؤمنون بهم.

ولكن البحث المهم والذي يطرح هنا هو : هل توجد علاقة منطقية ورابطة عقلية بين المعجزة وبين ما يدّعيه النبي بنحو ينتقل العقل والفطرة إلى صدق دعوى النبي بمجرد مشاهدة المعجزة ، أو أنّه لا توجد مثل تلك العلاقة المنطقية وانّ تأثير المعجزة في الواقع تأثير نفسي إقناعي فقط ، وعلى هذا الأساس لا تكون المعجزة دليلاً كافياً وبرهاناً تامّاً لإقناع العلماء والمفكّرين وأصحاب العقول من الناس ، بل يحتاج مثل هؤلاء إلى أن يقيم لهم النبي الدليل العقلي القاطع والبرهان الساطع على صدق مدّعاه ليتسنّى له جذبهم إلى الإيمان من خلال هذا الطريق ، وأمّا المعجزة فإنّه يستخدمها في مجال هداية وإرشاد العوام من الناس الذين لا يتحلّون بدرجة عالية من الفكر والتعقّل وإنّما يكتفون بظواهر الأُمور ويذعنون بها ويعتبرونها المعيار الأساسي لتمييز الحق عن الباطل.

__________________

(١). الأعراف : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢). آل عمران : ٤٩.

٢٦٤

ولقد اعتمد النظرية الثانية ـ مؤخراً ـ أحد الكتّاب المصريين حيث قال ما هذا حاصله : لا يمكن للمعجزة أن تكون دليلاً عقلياً ولا علمياً لإثبات صدق ادّعاء صاحبها ، بل هي دليل إقناعي يأتي بها الأنبياء لإقناع الناس وجذبهم إلى الدين والإيمان بالرسالة ، حيث إنّ عوام الناس كلّما شاهدوا أمراً خارقاً للعادة قد صدر من إنسان فإنّهم يقعون تحت تأثير ذلك الفعل ويمدّون لصاحبه يد الطاعة والخضوع ، والحال انّه لا توجد أيّ علاقة منطقية بين صدور المعجزة وصدق القائم بها. ولذلك ينبغي على الذين يدّعون أنّ المعجزة دليل على حقّانية الدعوى أن يثبتوا وجود العلاقة المنطقية بين القضيتين ، وفي غير هذه الحالة فإنّ ادّعاءهم لا يخرج من كونه مجرّد ادّعاء ، بل هو شبيه من يدّعي أنّ قيام الطبيب بعملية زراعة القلب ـ ولأوّل مرّة ـ دليل على نبوّته. (١) ومن هذا المنطلق تكون مهمة الأنبياء حينئذٍ إقامة الدليل والبرهان للعلماء والمفكّرين من أجل إقناعهم وإرشادهم واعتماد منهج الإتيان بالمعجزة لإقناع وجذب العوام من الناس.

ويرد على هذه النظرية بجوابين هما :

الجواب الأوّل : انّ هذه النظرية تحكي عن جهل صاحبها بكيفية دلالة المعجزة على صدق دعوى القائم بها. ولذلك نراه قد اعتبر المعجزة من الأدلّة الإقناعية لا البرهانية.

والحال انّ الأمر على عكس ذلك تماماً ، فإنّ دلالة المعجزة على صدق مدّعي النبوّة دلالة برهانية ، وذلك بالبيان التالي :

إنّ هذا البرهان يعتمد على أصل مسلّم ، وهو أنّ الله حكيم ، والحكيم لا

__________________

(١). منشور جاويد : ١٠ / ٣٠٢.

٢٦٥

ينقض غرضه ، وبالالتفات إلى هذا الأصل يظهر لنا وبجلاء انّ المعجزة دليل برهاني على صدق دعوى النبوة.

إنّ مدّعي النبوّة الذي يتحلّى بتاريخ مشرق وسابقة نزيهة ، إذ لم يخطو ـ طوال عمره ـ ولو خطوة واحدة على خلاف الأُصول الأخلاقية والطريق القويم ، فإذا ما قام هكذا إنسان ـ مع كلّ تلك الشروط ـ بأمر خارق للعادة حيّر فيه عقول الناس ، فلا ريب انّه سوف يجذب إليه قطاعات المجتمع بدرجة عالية جدّاً قد تصل إلى مائة بالمائة ولا كلام في ذلك.

وأمّا إذا كان مدّعي النبوة كاذباً ومنحرفاً في تصرفاته وأخلاقه ، فلا شكّ حينئذٍ أنّ الحكمة الإلهية تقتضي ـ ومنذ اللحظات الأُولى ـ عدم منح تلك القدرة والطاقة لمثل هكذا إنسان ، لأنّ ذلك من قبيل نقض الغرض المنافي لحكمة بعث الأنبياء.

فكلّما كان مدّعي النبوة ذا تاريخ مظلم وكانت رسالته المدعاة مناقضة للعقل والفطرة ، فحينئذٍ يكون سلوكه الاجتماعي ومحتوى رسالته شاهدين على كذب مدّعاه ، ولا يمكن له والحال هذه أن يجذب إليه عوام الناس فضلاً عن علمائهم ، لأنّه يحمل شهادة بطلان دعوته معه.

وأمّا إذا كان تاريخ حياته مشرقاً وكانت رسالته ساطعة ونيّرة تنسجم مع العقل والفطرة وبالإضافة إلى هذين الأمرين يمتلك نقطة قوّة أُخرى وهي الإتيان بالمعجزة المحيّرة للعقول ، فحينئذٍ فإن كان صادقاً فهذا يكون سبباً لتأمين غرض الرسالة ، وإن لم يكن صادقاً فلا شكّ انّه ينافي الغرض من البعثة ، وحينئذٍ يجب وبمقتضى الحكمة أن لا يزود هذا الإنسان بتلك القدرة منذ اللحظات الأُولى ، وذلك لأنّ هذه القدرة والقوّة ستكون سبباً لتوجّه الناس نحو

٢٦٦

الفرد الكاذب ، ولا ريب انّ التوجّه نحو الإنسان الكاذب يكون مضاداً لهداية الناس وإرشادهم الذي هو غرض البعثة.

وبعبارة أُخرى : انّ العلاقة بين الدليل والمدلول تارة تكون علاقة خاصة مثلاً : انّ العقل يحكم بوجود العلاقة المباشرة بين النظم ودخالة العقل والشعور في ذلك النظم ، وكذلك برهان الإمكان فإنّه يحكم بالملازمة القطعية بين وجود الممكن واستناده إلى الواجب ، ففي هذين الموردين وغيرهما من الموارد تكون العلاقة بين الدليل والمدلول علاقة خاصة ومستقيمة ، وهذه العلاقة غير موجودة في غير ذلك من الأدلّة والنسب.

وتارة تكون العلاقة بين الدليل والمدلول علاقة عامّة بمعنى أنّه يقع عدد من القضايا الكثيرة تحت إطار دليل ما وهذه القضايا تثبت بصورة عامّة وإن كانت كلّ واحدة من هذه القضايا في حدّ ذاتها لها دليل خاص بها ، فعلى سبيل المثال كلّما أثبتنا صدق إنسان بعد تعرضه لاختبارات كثيرة ثمّ إنّ هذا الإنسان أخبر بقضايا مختلفة فإنّنا حينئذٍ نعلم بصدق كلامه في جميع تلك القضايا علماً شخصياً ولكن في نفس الوقت لا مانع من أن يكون لكلّ قضية دليلها الخاص ، فمثلاً لو أخبر عن قضايا بعضها تتعلّق بالحقل الاجتماعي وأُخرى في الأُمور الطبيعية وثالثة بالمسائل الكيمياوية وغير ذلك ، فنحن ولا ريب انطلاقاً من كونه صادقاً نذعن بكلامه ونصدق خبره ، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون لكلّ واحدة من تلك القضايا دليلها الخاص الذي يثبت صدقها عن طريق الحس والتجربة أو العقل.

إنّ مسألة كون الله حكيماً يُعدّ برهاناً كلياً على صدق ما يدّعيه الأنبياء في الأُصول والفروع ، وانّ ما يدّعونه ليس مخالفاً للواقع بشهادة أنّهم قد زوّدوا

٢٦٧

بالمعجزة ، والحكيم لا يمنح المعجزة ـ مطلقاً ـ للإنسان الكاذب ، إذاً نحن بإمكاننا أن نثبت صدق جميع المسائل الشرعية من خلال هذا الطريق ، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون لتلك المسائل والقضايا طريق آخر لإثبات صدقها كالطريق النظري والعلمي.

ولقد أشارت آيات الذكر الحكيم إلى هذا البرهان ، كما أشار سبحانه وتعالى إلى صدق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ). (١)

فالآية تحكي لنا حقيقة جليّة ، وهي انّ النبيّ إذا نسب إلى الله شيئاً على خلاف الواقع (كذباً) فانّه وطبقاً لمفاد الآية الكريمة سيتعرض لأشدّ العقوبات التي تصل إلى حدّ قطع الوتين الذي هو كناية عن الموت والقتل ، لما ذا؟ وما هي الميزة التي يمتاز بها النبي عن الآخرين بحيث يتعامل معه الله بهذه الصرامة ، إذ نجد الآلاف من الناس الذين يكذبون على الله سبحانه ولكنّهم لم يتعرضوا لما تعرض له الرسول من التهديد حيث إنّهم يبقون على قيد الحياة لسنين طويلة رغم كذبهم؟

الجواب : هو انّ جميع شروط انجذاب الناس نحو الرسول متوفرة في شخص الرسول فبالإضافة إلى سوابقه اللامعة وتاريخه النيّر انّه يمتلك معجزة خالدة توفر الأرضية اللازمة لانجذاب الناس نحوه ، وفي هذه الصورة لا بدّ أن يكون صادقاً في قوله ، وإلّا فانّ مقتضى الإرادة الحكيمة لله سبحانه سلب هذه القدرة منه لكي لا تكون وسيلة لإضلال الناس وانحرافهم عن جادة الصواب.

__________________

(١). الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.

٢٦٨

وعلى هذا الأساس فالآية لا تتحدث عن كلّ إنسان يكذب على الله سبحانه لكي تثبت من خلال هذا الطريق نبوة كلّ مدّعي النبوة ، بل تتحدّث عن أمثال النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي توفّرت فيه جميع عوامل الجذب ، فإنّ هكذا إنسان ـ لو فرضنا جدلاً ـ حينما يكذب على الله سبحانه ، فإنّه سيواجه الغضب والسخط الإلهي.

إنّ القرآن الكريم حينما يتحدّث عن معاجز الأنبياء نجده يصفها بالكلمات التالية «البيّنة» و «الآية» والبيّنة لغة تعني وضوح الشيء ، و «الآية» بمعنى علامة الحقيقة والواقع ، وهذا إنّما يتمّ في صورة ما إذا كانت العلاقة بين المعجزة ودعوى النبوة علاقة منطقية وحقيقية لا مجازية وصورية. وعلى هذا الأساس لا مناص من القول : إنّ علاقة ورابطة معجزات الأنبياء بما يدّعونه علاقة ورابطة منطقية.

الجواب الثاني : وهاهنا جواب آخر عن هذا الإشكال نذكره من خلال التقرير التالي : إنّ الأنبياء يدّعون انّهم تُنزّل عليهم ملائكة الوحي وانّهم يرونهم ويسمعون نداء الغيب ، وحسب الاصطلاح انّهم يدركون إدراكاً خاصاً يطلق عليه عنوان الوحي ، وهذا الإدراك ليس من سنخ الإدراكات الحسيّة والعقلية للإنسان حيث يدّعي الأنبياء أنّهم زوّدوا بسلسلة من الإدراكات الخاصة بهم فقط والتي لم تمنح لغيرهم مكّنتهم من مشاهدة الصور الغيبية وسماع أصوات ما وراء الطبيعة.

وحينئذٍ يرتفع صوت المعترضين عالياً بالاحتجاج عليهم بما يلي :

إذا كنتم تدّعون انّكم تملكون إدراكاً غيبياً وانّ ذلك الأمر خاص بكم ولا يشارككم فيه غيركم ، فمن أين لنا أن نعلم أنّكم صادقون فيما تدّعون؟ وما دمتم تقولون إنّ الآخرين محرومون من إدراك هذه الأُمور الغيبية وغير الطبيعية ، إذاً يجب عليكم ولإثبات صدق مدّعاكم أن تأتوا بأُمور خارقة للعادة يمكن لنا أن نراها

٢٦٩

بشرط أن لا تكون من قبيل الوحي ورؤية الملائكة التي لا يمكن للآخرين إدراكها ، فأتوا بآية نراها لنشهد بصدقكم ولنطّلع على الغيب من خلال مشاهدة هذه المعاجز والأُمور الخارقة للعادة. وبعبارة أُخرى : نعلم بوجود المشابه من خلال مشابهه. من هذا المنطلق نجد أنّ الأنبياء قد زوّدوا ومنذ الوهلة الأُولى لمراحل البعثة بالمعجزة لكي يتسنّى لهم إثبات مدّعاهم من خلال ذلك الطريق.

إنّ الذين أذعنوا بصدق النبي من خلال هذا الطريق لا ريب أنّهم سيذعنون وبصورة قهرية بجميع القضايا التي تقع في إطار العقل النظري والعقل العملي التي يسمعونها من النبي. وبعبارة أُخرى : من خلال اليقين بصدق الرسول يذعنون لتمام الشريعة مثل ذلك ، كالصحفي الذي ينقل العشرات من التقارير ونحن عندنا يقين بأنّه إنسان نزيه بعيد عن الكذب والافتراء ، فإنّنا ومن خلال هذا اليقين الإجمالي يحصل لنا العلم بجميع ما ينقله من التقارير والأخبار. وبالطبع انّ هذا اليقين الإجمالي بصدق كلام النبي لا يمنع أن يكون لكلامه في أُصول العقيدة وإطار العقل النظري دليل وبرهان خاص يثبت ذلك ، ولذلك نجد القرآن الكريم يستعمل البرهان والاستدلال بصورة كثيرة لإثبات المعارف والمفاهيم الإسلامية ويعتمد منهج العقل في المسائل التي تتعلّق بالمبدإ والمعاد والقيادة وغير ذلك ، نشير هنا إلى نماذج من ذلك :

١. في مجال إثبات وجود الخالق يقول سبحانه :

(... أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...). (١)

ويقول أيضاً : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ...). (٢)

__________________

(١). إبراهيم : ١٠.

(٢). الأنبياء : ٢٢.

٢٧٠

ثمّ إنّه يستدلّ على وجود الله بأنّ إنكار وجود الخالق يستلزم الخُلف والدور حيث يقول سبحانه :

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ). (١)

٢. وفي مجال إبطال نظرية ألوهية المسيح يقول تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ...). (٢)

٣. ولإثبات لزوم وجود القيامة يقول سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (٣)

ومن المعلوم أنّ في كلّ آية من الآيات المذكورة قد ورد برهان عقلي دقيق لإثبات ما ورد في نفس الآية من ادّعاء ، ومن الواضح جداً انّ هذه البراهين العقلية الدقيقة والفلسفية لا يمكن أن يدركها إلّا بعض أصحاب الاختصاص ، ولكن يبقى السؤال عن تكليف بقية طبقات المجتمع بالنسبة إلى محتوى الشريعة فما هو تكليفهم يا ترى؟

الجواب : كما ذكرنا سابقاً انّ تكليف عموم الناس هو الإذعان واليقين بصدق دعوى صاحب الشريعة وفي ظل هذا اليقين الإجمالي يحصل اليقين التفصيلي بتمام محتويات الشريعة.

لقد اتّضح وبصورة جليّة من خلال هذين البيانين (الجوابين) العلاقة المنطقية بين المعجزة وبين صدق مدّعي النبوة. (٤)

__________________

(١). الطور : ٣٥.

(٢). المائدة : ٧٥.

(٣). المؤمنون : ١١٥.

(٤). منشور جاويد : ١٠ / ٣٠١ ـ ٣٠٨.

٢٧١

٤٨

المعجزة وقانون النظم

سؤال : قد يتصوّر البعض انّ الإتيان بالمعجزة على خلاف قانون النظم في عالم الخلق، وذلك لأنّ أصل النظم يبتني على أساس كون كلّ موجود ممكن يخضع في وجوده إلى سلسلة من الأسباب والعلل المنظمة من قبل الله سبحانه ، والحال أنّ المعجزة تبتني على تجاوز كلّ هذه الأسباب والعلل والظهور إلى حيّز الوجود بلا توسط تلك الأسباب والعلل الطبيعية ، وحينئذٍ يكون أصل الإعجاز منافياً لأصل النظم ولا ينسجم معه ، وبما أنّ أحد الطرق العقلية لإثبات الخالق هو برهان النظم ، فتكون النتيجة حينئذٍ أنّ المعجزة بالرغم من أنّها تثبت صدق نبوّة الأنبياء ، ولكنّها توجّه لطمة قوية إلى إثبات وجود الخالق ، كيف يمكن التخلّص من هذه الإشكالية؟

الجواب : تتّضح الإجابة عن هذه الإشكالية وبصورة جليّة من خلال ملاحظة الجواب السابق الذي ذكرناه حيث أثبتنا هناك انّ ظاهرة المعجزة ليست من الظواهر الخارجة عن قانون العلّية وأثبتنا أيضاً أنّ جميع الأُمور الخارقة للعادة تابعة لأسباب وعلل وعوامل خاصة بها ، سواء فسّرنا تلك الأسباب بالعوامل الطبيعية غير المعروفة ، أو فسّرناها بالإرادة والنفس القوية للأنبياء ، أو

٢٧٢

فسرناها بالعوامل الغيبية غير المادية ، فعلى كلّ حال انّ هذه العوامل تُعدّ من ضمن مجموعة نظام الخلق وانّها كالعوامل الطبيعية من حيث النسبة والقياس لمعلولاتها.

وبعبارة أُخرى : انّ الأُمور الخارقة للعادة لا تخدش الحكم والقانون الكلّي ولا تخصّص القاعدة العقلية (بأنّ لكلّ معلول علّة) وأنّها لا تخطو ولو خطوة واحدة على خلاف قانون النظم ، غاية ما في الأمر انّ المعجزة والأُمور الخارقة للعادة توسع من مساحة العلل في عالم الوجود ، حيث إنّ السبب الذي دعا إلى ذلك التصوّر المذكور في متن السؤال هو حصر قانون العلّية بالعلل المادية المعروفة ، إلّا أنّ معاجز الأنبياء ردّت على ذلك التصوّر وأحكمت قانون العلّية ، إلّا أنّها وسّعت نطاق العلل بصورة أكبر حيث أخرجته عن الحدود المادية الضيّقة.

نعم لو كان الأنبياء حينما يأتون بالمعجزة يخلقون حالة من الفوضى واللانظام وينقضون قانون العليّة ، ففي هذه الصورة وبلا ريب يرد الإشكال المذكور وتُعدّ حينئذٍ المعجزات مخالفة لقانون العلّية وقانون النظم ، ولكن كما ذكرنا انّ مثل هذا التصوّر في خصوص معاجز الأنبياء والأُمور الخارقة للعادة لا يعدو كونه توهّماً ليس إلّا ، وانّ منشأ هذا التوهّم هو التفكير المادي الضيق الذي يحصر عالم الوجود في إطار المادة المحدودة فقط.

ثمّ إنّ معاجز الأنبياء لا أنّها لا تنافي إثبات وجود الخالق فقط ، بل أنّها ـ وبطريقة ما ـ تثبّت وتحكّم ذلك ، وفي الواقع أنّها نافذة على عالم الغيب ، وذلك لأنّ معنى الإعجاز هو أنّ هذا العالم يخضع لإرادة عقل كبير مهيمن ومحيط بجميع الأُمور بحيث متى شاء العدول من الطريقة الكلية السائدة يعدل

٢٧٣

بسبب وجود مصالح وأغراض خاصة تقتضي ذلك العدول ، والحال إذا قلنا : إنّ القدرة الحاكمة على هذا العالم هي سلطة القوانين المادية الصلبة التي لا تقبل الانعطاف الفيزياوي وانّ عالم الوجود يسير في قبضة تلك العلاقات المادية والطبيعية ، فلا ينبغي أبداً أن يتغيّر طبقاً لإرادة الإنسان ورغبته. (١)

__________________

(١). منشور جاويد : ١٠ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

٢٧٤

٤٩

فلسفة أُمّيّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

سؤال : ما المراد من كون النبي أُمّيّاً؟ وما هي فلسفة كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّيّاً؟

الجواب : لقد ورد مصطلح «الأُمّيّ» وبالأشكال التالية : «أُمّيّ» «أُمّيّون» و «أُمّيّين» ست مرات (١) في القرآن الكريم ، وكان المراد في جميعها معنى واحداً فقط ، وذلك المعنى هو الإنسان أو الناس الذين يبقون على الحالة والوضع التي ولدوا عليها ، والمقصود من البقاء على الحالة والكيفية السابقة هو أنّهم بالنسبة إلى صفة القراءة والكتابة لم تتغير حالتهم عمّا ولدوا عليه ، فكما أنّهم كانوا في الأيام الأُولى لولادتهم غير قادرين على القراءة والكتابة ، فكذلك لم يحدث أيُّ تحول في حياتهم من هذه الجهة ، وقد أُطلق في اللغة العربية على مثل هذه الحالة (عدم التحوّل والتغيّر) مصطلح «الأُميّة» وعلى الشخص الذي يتّصف بهذه الحالة مصطلح «الأُمّيّ».

ونحن إذا راجعنا القرآن الكريم نجد أنّه يصفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصف «الأُمّيّ» ويوضح أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى حين نزول الوحي عليه كان أُمّيّاً ، حيث يقول سبحانه :

__________________

(١). انظر الأعراف : ١٥٧ ـ ١٥٨ ؛ البقرة : ٧٨ ؛ وآل عمران : ٢٠ ـ ٧٥ ؛ الجمعة : ٢.

٢٧٥

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (١)

ونحن إذا أمعنّا النظر في الآية المباركة نجد أنّه سبحانه يصف النبي الأكرم بخصال عشر(٢) ، القسم الأعظم منها يدلّ على صدق دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه الصفات هي :

١. رسول ، ٢. نبي ، ٣. أُمّي ، ٤. مكتوب اسمه في التوراة والإنجيل ، ٥. منعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف ، ٦. وينهى عن المنكر ، ٧. ويحل لهم الطيّبات ، ٨. ويحرّم عليهم الخبائث ، ٩. ويضع عنهم إصرهم ، ١٠. ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم.

وهذه الخصال العشر جميعها باستثناء الأُولى والثانية ـ تدلّ على صحّة وصدق نبوّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن يطالع القرآن الكريم لا يجد أيّ آية تدلّ على حقّانية النبي الأكرم كهذه الآية التي جمعت فيها كلّ تلك الصفات والأدلّة ، وكأنّ الآية تريد أن تعرف العالم على أدلّة وبراهين نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول لهم : إنّ دليل نبوّته يتمثل في :

١. انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنسان أُمّيّ لم يقرأ ولم يكتب ، وقد جاء والحال هذه بكتاب

__________________

(١). الأعراف : ١٥٢.

(٢). لقد أوصل الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب : ٤ / ٣٠٩ تلك الصفات الموجودة في الآية إلى تسع صفات والحال أنّنا إذا اعتبرنا «الإصر» و «الأغلال» صفتين متغايرتين فحينئذٍ يكون عدد الصفات عشر صفات.

٢٧٦

يعجز الجميع عن مواجهته ومعارضته ولا يشكّ أحد في عظمة تعاليم وقوانين ومفاهيم ذلك الكتاب ، ولا شكّ أنّه وبحساب الاحتمالات والمحاسبات العقلية يستحيل على إنسان لم يقرأ ولم يكتب وقد عاش في مجتمع جاهلي ومحيط متخلّف أن يأتي ـ وبدون الاستعانة باليد الغيبة ـ بمثل هكذا كتاب عظيم في كلّ جوانبه.

٢. انّ هذا النبي قد ذكرت خصائصه وصفاته في الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل ، وأنّها ما زالت عند أتباعها من اليهود والنصارى وانّه قد بشّر به كلّ من النبي موسى وعيسى عليهما‌السلام ، حيث قال سبحانه :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (١)

والشاهد على أنّ المقصود من لفظ «الأُميّ» هو الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب الآية التالية :

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). (٢)

إنّ مجيء جملة «لا يعلمون» بعد كلمة «أُمّيّون» وهذا يعني أنّ قول : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) جملة تفسيرية لقوله : (أُمِّيُّونَ) بمعنى أنّ طائفة من اليهود فاقدة للثقافة وغير قادرة على القراءة والكتابة يجهلون واقع كتابهم الذي أُنزل

__________________

(١). الأعراف : ١٥٨.

(٢). البقرة : ٧٨.

٢٧٧

على نبيّهم وهو التوراة ، وكذلك يجهلون محتوى ذلك الكتاب ولا يميزون بين التوراة الحقيقية وبين التوراة المحرّفة ولكونهم «أُمّيّين» تبقى معرفتهم مجرد أُمنية (١) لا غير وفي الآية التالية يقول سبحانه :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). (٢)

فالإمعان في هاتين الآيتين لا يدع مجالاً للشك والترديد في أنّ معنى الأُمّيّ في الآية ليس هو العاجز عن القراءة والكتابة واللغة السامية حيث إنّ القرآن الكريم يقسّم اليهود إلى طائفتين :

١. الطائفة الأُولى هي التي لا تقرأ ولا تكتب ولا تعرف عن التوراة شيئاً.

٢. وأمّا الطائفة الثانية فهي الطائفة التي تجيد القراءة والكتابة ولكنّها تستغل ذلك لتحقيق مآربها وأهدافها السيّئة والمشئومة حيث تسعى لنشر التوراة المحرّفة بين الناس وبصورة واسعة جدّاً لكي يتسنّى لهم من خلال هذا الطريق جمع أكبر مقدار ممكن من الثروة والمال ، ولو كانت الطائفة الأُولى تُجيد القراءة والكتابة لما وقعت لقمة سائغة وفريسة سهلة لهذه الطائفة الماكرة والمخادعة ولأمكنها تمييز الصحيح من الخطأ والحق من الباطل.

فلسفة أُميّة النبي

لقد وقف المجتمع الجاهلي والأُميّ موقف المتحيّر والمتعجّب أمام

__________________

(١). انّ المراد من الأماني هنا هي الخيالات والتوهّمات الواهية التي يحملها اليهود من قبيل كونهم شعب الله المختار.

(٢). البقرة : ٧٩.

٢٧٨

المعجزة الخالدة والآية العظمى للرسول الأكرم «القرآن الكريم» ، لأنّهم لم يكونوا يصدقون أنّ الله سبحانه وتعالى سيوحي إلى إنسان منهم بذلك الكتاب العظيم ، وتلك الرسالة الباهرة التي يرشدهم فيها الرسول إلى الهدى ويحذرهم من طريق الضلال والانحراف ، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية المباركة التالية :

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...). (١)

ولذلك سعى المجتمع الجاهلي لتوجيه تلك المعجزة الخالدة «القرآن الكريم» بصورة يفصلها عن عالم الغيب وعالم التعليم والهداية الإلهية ولقد ذكروا في هذا المجال العديد من التفسيرات والتحليلات الواهية النابعة من وهمهم وخيالهم الواهي.

وقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج من تلك الخيالات الواهية والأفكار الساذجة في عدد من الآيات نشير إلى بعضها قال تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً). (٢)

وقال تعالى أيضاً حاكياً تلك الخيالات الباطلة : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). (٣)

ففي هاتين الآيتين إشارة إلى نوعين من التهم التي أُلصقت بالنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي :

__________________

(١). يونس : ٢.

(٢). الفرقان : ٤.

(٣). الفرقان : ٥.

٢٧٩

١. انّ هذا الكتاب (القرآن) لم يكن من لدنه سبحانه وانّما هو من اختراعات النبي وتنظيمه ونسبته إلى الله ، وقد أعانه على ذلك العمل قوم آخرون (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).

٢. إنّ هذا الكتاب (القرآن) إنّما هو في الواقع من إملاءات أصحاب الكتب السماوية السابقة حيث كان أحبار اليهود وقساوسة النصارى ـ حسب هذه التهمة ـ يملون على النبي أفكارهم بكرة وأصيلاً ، وبالنتيجة فإنّ هذا الكتاب لا يمثل عملية الوحي والبعث من قبل الله للنبي الأكرم.

إنّ هذه الآيات وغيرها من الآيات الأُخرى المشابهة لها تحكي لنا سعي مشركي مكة وجهودهم الحثيثة في تصوير القرآن بأنّه نتاج عقل الرسول وانّه مترشح من ذهنيته وخيالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسعي لإقناع الآخرين بتلك التهم الواهية التي ألصقوها بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن تلك التهم أنّه استعان في تنظيم القرآن بالكهنة و ...

أو انّ القرآن مأخوذ من العهدين وغيرهما من الكتب.

ولقد تصدى القرآن الكريم للردّ على تلك التهم الواهية والأكاذيب الباطلة وبيّن زيفها وركاكتها بصورة إجمالية.

حيث قال سبحانه : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). (١)

إلّا أن القرآن وفي سورة العنكبوت قد تصدّى للردّ على هذه الأفكار السقيمة بصورة مفصّلة وبضرس قاطع حيث خاطب الله النبي الأكرم بقوله سبحانه : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ

__________________

(١). الفرقان : ٦.

٢٨٠